عنوان المقال: مدى الاهتمام بأداة التفاوض الجماعي على ضوء التشريع الدولي والتشريع الداخلي العربي.

مقدمة:

إن الحديث عن أداة التفاوض الجماعي سواء في ظل المتغيرات الاقتصادية التي تفرضها العولمة، أو في ظل التنافسية الاقتصادية بين مختلف المؤسسات الاقتصادية، يجعلنا نقر بأن التفاوض الجماعي أصبح يمثل ضرورة حتمية لا يمكن الاستغناء عنها من أجل تحديث وتطوير مختلف تشريعات العمل الدولية منها والداخلية (الغربية والعربية) لتكون أكثر واقعية، وأكثر تماسا بكل التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية…الخ، ومن هنا نجد أن أداة التفاوض الجماعي لطالما كانت تتسم بالمرونة وتتميز بسرعة التجاوب مع كل التغيرات التي تحدث من حولها، الأمر الذي مكنها من صفة القابلية والتأقلم داخل تشريعات العمل، كونها جاءت عن طريق أسلوب التفاوض والتشاور بين مختلف الإنتاج، ولأنها وفي الأخير ستلعب دورًا أساسيا في تحقيق السلم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية.

إن التفاوض الجماعي هو جزء لا يتجزأ من المنظومة القانونية للعمل، وهذا نتيجة لما يحتويه من آليات ينظمها قانون العمل الدولي والداخلي (الغربي والعربي) تجيز لطرفي علاقة العمل باستخدامه من أجل تنظيم شروط وظروف عملهم، فالتفاوض الجماعي يقوم على مبدأ التكافؤ الذي يجمع بين المصالح المتناقضة، سواء المصالح الاقتصادية لأرباب العمل أو المصالح الاجتماعية لفئة العمال.

فالتفاوض الجماعي، ومن خلال الوظائف التي يقوم بها تجعل منه أداة أو وسيلة لها أهميتها في تكملة كل النقائص التي تعتري النصوص التشريعية المنظمة لعلاقات العمل المختلفة، فهو يكاد يقدم لنا تلك الآليات التي تستعمل في عملية التفاوض والتشاور والحوار بين جل الشركاء الاجتماعيين بغية تنظيم علاقاتهم الاجتماعية والمهنية بعيدا عن كل تدخل من طرف المشرع الذي يكتفي فقط بوضع مجموعة من القواعد الآمرة التي تضمن تحقيق الحد الأدنى لأجل احترام النظام العام الاجتماعي، أما المسائل الأخرى فإذا كانت عامة يتصدى لها أطراف الإنتاج من خلال تنظيمها بموجب نصوص الاتفاقية، أما إذا أهملها المشرع، ففي هذه الحالة يتدخل التفاوض الجماعي من أجل تنظيمها شريطة إدراجها في الاتفاقات والاتفاقيات الجماعية للعمل.

والملاحظ في هذا المقام أن أهم الأسس والمبادئ التي قام عليها أسلوب التفاوض الجماعي، قد تم التطرق إليها من خلال التشريعات الدولية التي أبدت اهتماما كبيرا بنظام التفاوض الجماعي، وهذا من خلال الاتفاقيات الدولية والعربية، وكذا من خلال التشريعات الداخلية العربية، والتي منها على سبيل المثال: التشريع المصري، التشريع الأردني، التشريع الفلسطيني، التشريع الجزائري…الخ.

المبحث الأول: مواطن الاهتمام بأداة التفاوض الجماعي في ظل المعاهدات والاتفاقيات الدولية.

لا يزال يشكل التفاوض الجماعي الأداة الناجعة والمطلوبة من أجل تسوية المنازعات في مختلف المجالات، فهو بالتالي يمثل لنا الإطار الأساسي بغية تنظيم مختلف شروط العمل وظروفه، وهذا سواء تعلق الأمر بضبط مختلف العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والمهنية الفردية منها أو الجماعية، أو بهدف تحقيق وضمان السلم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية(1)، ولن يتأت لنا ذلك، إلا من خلال الرجوع إلى المصادر الأساسية لتنظيم التفاوض الجماعي في ظل مبادئ منظمة العمل الدولية والعربية.

المطلب الأول: مواطن الاهتمام بأداة التفاوض الجماعي في إطار منظمة العمل الدولية.

يمثل إعلان فيلادلفيا(2) الذي صدر خلال الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر العمل الدولي المنعقد بتاريخ: 10 ماي 1944 البداية الأولى للاهتمام بالتفاوض الجماعي، حيث تم من خلاله الاعتراف بالحق في التفاوض الجماعي بين أصحاب العمل والعمال، وبالتالي فقد ظهر اهتمام منظمة العمل الدولية(3) بموضوع التفاوض الجماعي خلال أربعينيات القرن الماضي من خلال إعلان فيلادلفيا، وكذا ما صدر بعد هذا الإعلان من اتفاقيات دولية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

1- الاتفاقية الدولية رقم (11) المتعلقة بحق العمال الزراعيين في التجمع والاتحاد: وقد صدرت هذه الاتفاقية في 25 أكتوبر 1921، ودخلت حيز النفاذ ابتداء من تاريخ: 11 ماي 1923، وهي تمثل بحق إحدى الاتفاقيات الدولية التي صدرت عن منظمة العمل الدولية(4)، والتي حاولت من خلال نص المادة الأولى منها أن تشير بطريقة غير مباشرة إلى مسألة التفاوض الجماعي، وهذا بقولها: ” تتعهد كل دولة عضو في منظمة العمل الدولية تصدق هذه الاتفاقية بأن تكفل لكل من يشتغلون بالزراعة نفس حقوق التجمع والاتحاد المكفولة لعمال الصناعة، وبأن تلغى أي أحكام قانونية أو غيرها تقيد هذه الحقوق بالنسبة لمن يشتغلون بالزراعة”.

ما يفهم من نص المادة الأولى من الاتفاقية الدولية رقم (11) المتعلقة بحق التجمع (الزراعة)، بأنه يحق للعمال الزراعيين مثلهم مثل العمال الصناعيين القيام بتشكيل تجمعات أو اتحادات عمالية زراعية تدافع عن كامل حقوقهم، وتبادر إلى استخدام الحوار والنقاش القائم على مبدأ التفاوض الجماعي في علاقتها مع أرباب العمل، وهذا بغية تحقيق مصالح الطرفين على حد سواء.

2- الاتفاقية الدولية رقم (87) المتعلقة بالحرية النقابية وحماية حق التنظيم(5): ونجد أن هذه الاتفاقية قد صدرت في تاريخ: 09 جوان 1948، حيث تم المصادقة عليها في الدورة الواحدة والثلاثين للندوة الدولية للعمل، ودخلت حيز النفاذ ابتداء من تاريخ: 04 جويلية 1950.

هذا، وقد تضمنت هذه الاتفاقية الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية مجموعة من الضمانات التي تكرس لنا ممارسة الحق في التفاوض الجماعي، وسعت إلى تجسيده من خلال إتباع جملة من الآليات، وكلها تتمثل في:

يمكن للعمال ولأصحاب العمل، وبدون أي تمييز أن يبادروا ودون ترخيص مسبق إلى تكوين وتشكيل منظمات واتحادات يختارونها بأنفسهم، ويكون لهم حق الانضمام إليها، لكن شريطة التقيد بكل اللوائح التي تحكم مثل هذه المنظمات (المادة 02 من الاتفاقية الدولية رقم 87).

يحق لكل من منظمات العمال، وكذا منظمات أصحاب العمل القيام بوضع دساتيرها ولوائحها الإدارية بنفسها، وهذا دون تدخل من أي جهة كانت، كما أنه لها كامل الحرية في اختيار وانتخاب ممثليها، وفي تنظيم ادارتها ونشاطها، وفي وضع وإعداد برامج عملها التي تتماشى والأهداف التي وجدت من أجلها (المادة 03 الفقرة 01 من الاتفاقية الدولية رقم 87).

يمنع منعا باتا على السلطات العامة لأي دولة من الدول المصادقة على الاتفاقية الدولية رقم (87) المتعلقة بالحرية النقابية وحماية حق التنظيم التدخل في أي شأن من الشؤون التي تقيد حق منظمات العمال ومنظمات أصحاب العمل في تشكيل منظماتها (المادة 03 الفقرة 02 من الاتفاقية الدولية رقم 87).

لا يجوز في أي حال من الأحوال أن تقوم السلطات الإدارية لأي دولة من الدول المصادقة على الاتفاقية الدولية رقم (87) المتعلقة بالحرية النقابية وحماية حق التنظيم أن تقوم بحل منظمات العمال أو منظمات أصحاب العمل، او توقف نشاطها (المادة 04 من الاتفاقية الدولية رقم 87).

يحق لكل من منظمات العمال ومنظمات أصحاب العمل أن يمارسوا حقهم الذي يكفل لهم إمكانية تكوين اتحادات واتحادات عامة يمكنهم الانضمام إليها (المادة 05 من الاتفاقية الدولية رقم 87).

يحق كذلك لكل من المنظمات أو الاتحادات أو الاتحادات العامة أن تبادر إلى ممارسة حقها في الانضمام إلى المنظمات الدولية للعمال أو المنظمات الدولية لأصحاب العمل (المادة 05 من الاتفاقية الدولية رقم 87).

تلزم كل من منظمات العمال أو منظمات أصحاب العمل باحترام قانون البلد الموجودة فيه، وهذا بخصوص ممارستهم لحقوقهم المنصوص عليها في الاتفاقية الدولية رقم (87) المتعلقة بالحرية النقابية وحماية حق التنظيم (المادة 08 من الاتفاقية الدولية رقم 87).

تتعهد كل دولة من الدول العضو في منظمة العمل الدولية، والتي صادقت على الاتفاقية الدولية رقم (87) أن تتخذ كل التدابير اللازمة والمناسبة لضمان ممارسة العمال وأصحاب العمل حقهم النقابي بكل حرية تامة (المادة 11 من الاتفاقية الدولية رقم 87).

3- الاتفاقية رقم (98) المتعلقة بحق التنظيم والمفاوضة الجماعية: لقد صدرت الاتفاقية رقم (98) المتعلقة بشأن تطبيق مبادئ حق التنظيم والمفاوضة الجماعية(6) في 08 جوان 1949، حيث تم المصادقة عليها من خلال الدورة الثانية والثلاثين للندوة الدولية للعمل، ودخلت حيز النفاذ ابتداء من تاريخ: 18 جويلية 1951.

هذا، وقد حاولت هذه الاتفاقية أن تؤكد لنا على الحماية التي يحظى بها كافة العمال ضد أي عمل ينطوي على التمييز والتفرقة بسبب انتمائهم النقابي، وخصوصا إذا كان تشغيل أي عامل من العمال مقرونا أو مشروطا بعدم انضمامه لأي تنظيم نقابي، أو إلزامه بالتخلي عن عضويته من النقابة إذا كان قد انخرط فيها في وقت سابق هذا من جهة، ومن جهة أخرى تكفل كذلك الحماية للعمال ضد أي تسريح أو إساءة تتخذ في حقهم بأي وسيلة كانت، وهذا بسبب انضمامهم إلى النقابة أو مشاركتهم في الأنشطة النقابية خارج ساعات العمل، وأيضا لمشاركتهم فيها أثناء ساعات العمل، وبموافقة صاحب العمل.

كما نجد أن هذه الاتفاقية، قد أشارت إلى حماية أخرى تتمتع بها كل من منظمات العمال ومنظمات أصحاب العمل، وهذا ضد أي عمل من الأعمال التي تنطوي على شكل من أشكال التدخل الذي تقوم به منظمات العمال إزاء منظمات أصحاب العمل أو العكس، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بتكوين هذه المنظمات أو تسييرها أو إدارتها، وسواء تم الأمر بطريقة مباشرة أو من خلال وكلاء أو أعضاء هذه المنظمات ومنظمات العمال ومنظمات أصحاب العمل.

وفي سياق الحديث عن أعمال التدخل التي تتم بين منظمات العمال ومنظمات أصحاب العمل، نجد أن المادة الثانية في فقرتها الثانية من الاتفاقية الدولية رقم (98)، قد أشارت وبوجه خاص إلى تحديد المقصود بأعمال التدخل، والتي تتمثل على وجه التحديد في تشجيع إقامة منظمات العمال تكون خاضعة لسيطرة أصحاب العمل، أو أن يتم دعم منظمات العمال بكل الوسائل المالية أو غير المالية، وهذا بهدف وضعها تحت سيطرة أصحاب العمل أو منظمات أصحاب العمل.

أما المادة 04 من الاتفاقية الدولية رقم (98)، فقد أشارت لنا عن جملة التدابير التي تتخذ عند الاقتضاء، وتكون مناسبة للظروف الوطنية التي تشجع وتعزز التطوير والاستخدام الكاملين لإجراءات التفاوض الإرادي الذي يتم بين أصحاب العمل أو منظماتهم ومنظمات العمال، وهذا بهدف تنظيم أحكام وشروط الاستخدام الأمثل للاتفاقات الجماعية، كما واصلت كل من المادة 05 و06 الحديث عن مجال المفاوضة الجماعية، وهذا من خلال تحديد دور التشريع الوطني في هذا المجال المتعلق بآلية التفاوض الجماعي داخل العمل(7).

المطلب الثاني: مواطن الاهتمام بأداة التفاوض الجماعي من خلال منظمة العمل العربية.

لقد دأبت وسعت منظمة العمل العربية على غرار منظمة العمل الدولية إلى الاهتمام بتعزيز آلية التفاوض الجماعي، وهذا من خلال دعوة الدول الأعضاء وحثهم على خلق وإحداث آليات الحوار والتشاور والنقاش، وتضمينها ضمن تشريعاتها الوطنية الداخلية بغية تعزيز الحقوق الأساسية للعمال، وتثمين أواصر العلاقات المهنية، بالإضافة إلى إتباع وتطبيق مبدأ التشاركية بين الشركاء الاجتماعيين من أجل إدارة وتسوية كل الخلافات والنزاعات التي تحدث في الوطن العربي(8)، وكذا مواكبة كل التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها مجال الشغل، ولهذا سنحاول أن نستعرض جزء من الاتفاقيات التي صدرت عن منظمة العمل العربية(9)، والتي كان لها اهتمام بآلية التفاوض الجماعي من خلال الآتي:

1- الاتفاقية العربية رقم (01) لسنة 1966 المعدلة بالاتفاقية رقم (06) المتعلقة بمستويات العمل العربية لسنة 1976(10): هذا، وقد نصت هذه الاتفاقية على أنه من حق العمال القيام بتكوين نقابات فيما بينهم تدافع عن حقوقهم وترعى مصالحهم، ويكون لها دور في تحسين حالتهم المادية والاجتماعية، وتعمل على الإسهام في زيادة الكفاية الإنتاجية (المادة 76 من الاتفاقية).

أما المادة (77) من نفس الاتفاقية، فقد أكدت لنا على إجراءات تكوين النقابة، والتي يجب أن تقتصر على إيداع أوراق تشكيلها أو تكوينها لدى الجهات المختصة، ولا يجوز في أي حال من الأحوال أن يكون لهذه الجهات أي اعتراض على إجراءات تكوين التنظيمات النقابية إلا ما ينص عليه القانون، وما ينطق به القضاء من أحكام قضائية في هذا الشأن.

كما أن المادة (78) من نفس الاتفاقية حاولت أن تتكلم عن الضمانات والقواعد التي يجب أن يتضمنها تشريع كل دولة عضو في هذه الاتفاقية، وهذا بغية تكريس الحماية اللازمة ضد أي عمل أو إجراء يمكن أن يمس بحرية العمال في تكوين النقابات والانضمام إليها، وفي ممارسة مختلف أوجه نشاطها.

ومن جهة أخرى، فإنه يحق لنقابات العمال أن تكون فيما بينها اتحادات إقليمية أو فرعية يكون من حق هذه الأخيرة الانخراط والاشتراك في الاتحادات الدولية في المسائل المتعلقة بالعمل، وتخضع هذه الاتحادات سواء من حيث الإنشاء أو الحل إلى نفس الإجراءات التي تخضع لها النقابات.

في الأخير، وحسب ما جاء في نص المادة (85) من الاتفاقية العربية رقم (01) المعدلة بموجب الاتفاقية رقم (06)، فإنه يحق لأصحاب الأعمال أو منظماتهم، وكذا نقابات العمال المختصة القيام بعقد اجتماعات المفاوضة الجماعية التي يبتغى من ورائها الحوار والتشاور حول شروط العمل، وتنظيمه من أجل استقرار علاقات العمل.

2- الاتفاقية العربية رقم (11) لعام 1979 بشأن المفاوضة الجماعية: صدرت الاتفاقية العربية رقم (11) لعام 1979 بشأن التفاوض الجماعي، وهذا لتؤكد لنا أن المفاوضة الجماعية تمثل الوسيلة الفعالة من أجل تنظيم علاقات العمل بناء على أسس عادلة تتماشى ومقتضيات التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وأنه وبناء على المفاوضة الجماعية تلتقي إرادة الطرفين لكي تنظم شروط وظروف العمل، وتسعى جاهدة إلى تحديد الحقوق والمزايا لكافة الطبقة العمالية بما يحقق السلم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، وكذا من أجل تحسين مستويات العمل، ورفع مستوى معيشة اليد العاملة، والكفاءة الإنتاجية داخل المؤسسة.

وطبقا لنص المادة الأولى من الاتفاقية العربية رقم (11) لعام 1979 بشأن المفاوضة الجماعية، فإنه يحق لكل منظمات العمال وأصحاب الأعمال أو منظماتهم ممارسة المفاوضة الجماعية بجميع أشكالها القانونية، وهذا في كافة قطاعات النشاط الاقتصادي العامة منها أو الخاصة(11)، وبدون تدخل من أي جهة كانت.

كما أنه يجب على كل دولة عضو في هذه الاتفاقية أن تضمن داخل تشريعها الوطني الداخلي الأطر القانونية التي تحكم آلية المفاوضة الجماعية، وتحدد وتبين الأجهزة والإجراءات المتعلقة بها، وهذا دون التعدي على الحرية المكفولة للمفاوضة الجماعية بمقتضى الاتفاقية العربية رقم (11) لعام 1979 (المادة الثانية من الاتفاقية).

أما بخصوص انعقاد المفاوضة الجماعية، نجد أن المادة الثالثة من الاتفاقية العربية رقم (11) لعام 1979، قد مكنت كل طرف من أطراف التفاوض الجماعي أن له الحق في إمكانية تعيين من يمثلهم، وهذا دون الاعتراض على التمثيل من أي طرف كان، بالإضافة إلى انه يحق لكل طرف الاستعانة بمن يشاء من المستشارين من مختلف التخصصات.

وتطالب كل من المادة الرابعة والخامسة من نفس الاتفاقية أن يعمل أصحاب الأعمال ومنظماتهم على تقديم كافة المعلومات والبيانات التي يطلبها ممثلي العمال بغية مباشرة المفاوضة الجماعية هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب على الجهات الرسمية أن تؤمن لمنظمات العمال وأصحاب الأعمال أو منظماتهم كافة الإحصاءات والبيانات الاقتصادية والاجتماعية والفنية بغية تيسير إجراء المفاوضة الجماعية وفق أسس سليمة ونزيهة، إلا أن المادة لم تعالج حالة عدم تنفيذ أصحاب الأعمال ومنظماتهم لهذا الالتزام(12) المفروض عليهم طبقا لنص المادة الرابعة من الاتفاقية العربية رقم (11) لسنة 1979.

هذا وتجري المفاوضة الجماعية على عدة مستويات وبصورة مباشرة، فعلى مستوى المنشأة يجب أن تباشر المفاوضة الجماعية بين نقابة عمال المنشأة أو النقابة العامة في حالة عدم وجودها، وصاحب العمل أو إدارة المنشأة، أما على مستوى النشاط الاقتصادي تتم المفاوضة الجماعية بين النقابة العامة النوعية ومنظمة أصحاب الأعمال، وتتم على المستوى الوطني بين الاتحاد العام للنقابات واتحاد أصحاب الأعمال المختص.

كما أكدت لنا المادة السابعة من هذه الاتفاقية على الدور الذي يمكن أن تلعبه الدولة في تدعيم المفاوضة الجماعية، وهذا من خلال القيام بتشجيع أجهزة الثقافة العمالية في سبيل دعم وتكوين القيادات المتخصصة القائمة بعملية التفاوض الجماعي، مع ضرورة العمل على تحسين وتنمية قدرات مديري المشروعات ومسؤولي العلاقات الصناعية من أجل تنظيم برامج لتشجيع المفاوضة الجماعية، والعمل على إبرام اتفاقيات العمل الجماعية.

ونجد أن الاتفاقية، ومن خلال نص المادة الثامنة منها تعطي الحق لكل دولة من الدول الأعضاء بضرورة إنشاء أجهزة التوفيق والتحكيم يحتكم إليها الطرفين بناء على اتفاق يحدث بينهما، وهذا من أجل تسوية ما قد ينشأ من خلافات تنجم بسبب فشل المفاوضة الجماعية، كما يجب على دولة عضو من أعضاء الاتفاقية أن تعمل على وضع تشريع وطني داخلي ينظم لنا شكل أجهزة التوفيق والتحكيم(13).

المبحث الثاني: مواطن الاهتمام بأداة التفاوض الجماعي على ضوء التشريع الداخلي العربي.

بالرجوع إلى عينة من قوانين العمل الداخلية العربية، وجدنا ذلك التباين الواضح والشاسع فيما يتعلق بمسألة التفصيل في أداة المفاوضة الجماعية، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن جانبا من تشريعات العمل لبعض الدول العربية، قد تناولت المفاوضة الجماعية كنظام قائم بذاته، ومنفصل تماما عن الاتفاقيات الجماعية، ويتولى إعطاء تعريف عام ودقيق للمفاوضة الجماعية، أما الجانب الثاني فيحاول قدر الإمكان التركيز على جانبها الإلزامي الذي يقع على عاتق صاحب العمل، وهذا دون الخوض في إعطاء تعريف لها، أما الجانب الثالث وليس الأخير فيدمجها في خضم الاتفاقيات الجماعية، وتصبح حسب رأي هذا التشريع كل اتفاقية جماعية هي مفوضة جماعية(14).

المطلب الأول: الاهتمام بأداة المفاوضة الجماعية في ظل التشريع المصري.

لقد قام المشرع المصري بناء على الباب الأول من الكتاب الأول من قانون العمل الصادر سنة 2017 بإعطاء تعريف للمفاوضة الجماعية، وهذا طبقا لنص المادة الأولى الفقرة 16 التي نصت على ما يلي: ” المفاوضة الجماعية هي الحوار الذي يجري بين صاحب عمل، أو منظمة أصحاب أعمال، أو أكثر من جهة، ومنظمة نقابية عمالية، أو أكثر من جهة أخرى بغرض التوافق لتحقيق مصالح الطرفين”.

أما المادة 163 التي جاءت في متن الفصل الثاني من الكتاب الثالث من قانون العمل المصري الصادر سنة 2017، فقد تكلمت لنا عن أهداف المفاوضة الجماعية، حصرتها في ثلاثة أهداف هي:

تهدف المفاوضة الجماعية إلى تحسين شروط وظروف العمل، وكذا أحكام الشغل.
تهدف المفاوضة الجماعية إلى خلق التعاون بين طرفي علاقة العمل من أجل تحقيق التنمية الاجتماعية لعمال المنشأة.
تهدف المفاوضة الجماعية إلى تسوية المنازعات الجماعية بين العمال وأصحاب الأعمال.

كما قام قانون العمل المصري لسنة 2017 بتحديد المستويات التي يمكن أن تتم فيها المفاوضة الجماعية، وهي المنشأة أو فروعها، أو المهنة، أو الصناعة، أو على المستوى الإقليمي، أو على المستوى القومي، وفي هذا الصدد يلتزم طرفا المفاوضة الجماعية بتقديم كل ما يطلب منهما من بيانات ومعلومات ومستندات تتعلق بموضوع النزاع بغية السير في إجراءات المفاوضة الجماعية، وهذا من أجل التسوية الودية لنزاع العمل الجماعي المثار.

وفي حالة ما إذا رفض أحد طرفي النزاع البدء في إجراءات المفاوضة الجماعية توجب في هذه الحالة على الطرف الآخر أن يطلب من الجهة الإدارية المختصة تحريك إجراءات التفاوض بدعوة إما منظمة أصحاب الأعمال أو المنظمة النقابية العمالية المعنية، مع ضرورة القيام بإقناع الطرف الرافض للعدول عن موقفه اتجاه إجراء المفاوضة الجماعية(15).

أما إذا أسفرت عملية المفاوضة الجماعية عن حدوث اتفاق بين الطرفين، فإنه يتم تدوين اتفاقهما في اتفاقية عمل جماعية وفي الحال، وهذا طبقا للشروط والقواعد المحددة في قانون العمل المصري لسنة 2017.

وطبقا للمادة 167 من قانون العمل المصري لسنة 2017، نجدها أنها ألزمت صاحب العمل بعدم اتخاذ أي إجراءات أو إصدار أي قرارات من شأنها المساس بالموضوعات محل التفاوض الجماعي، إلا في حالات الضرورة القصوى والمستعجلة، لكن شريطة أن يكون الإجراء أو القرار في هذه الحالة تم اتخاذه بصفة مؤقتة.

هذا ويحظر على العمال أثناء مرحلة التفاوض الجماعي الدخول في الإضراب، أو القيام بإعلانه سواء من طرف المنظمات النقابية أو من طرف المفوض العمالي.

المطلب الثاني: الاهتمام بأداة المفاوضة الجماعية في ظل التشريع الفلسطيني.

طبقا لقانون العمل الفلسطيني رقم (07) الصادر سنة 2000، وحسب نص المادة (49) منه التي عرفت لنا المفاوضة الجماعية بأنها: ” الحوار الذي يجري بين أي من نقابات العمال أو ممثلين عن العمال، وبين صاحب العمل أو أصحاب العمل أو ممثليهم، بهدف حسم النزاع الجماعي أو تحسين شروط وظروف العمل أو رفع الكفاءة الإنتاجية”.

وبناء على هذا التعريف الذي جاءت به المادة (49) من قانون العمل الفلسطيني رقم (07) لعام 2000 يتبين لنا أن المفاوضة الجماعية تأخذ في الحسبان النقاط التالية:

إن أطراف المفاوضة الجماعية هما: نقابات العمال أو ممثليهم، وصاحب العمل أو أصحاب العمل أو ممثليهم.
تجرى المفاوضات الجماعية من أجل تحسين ظروف وشروط العمل أو رفع الكفاءة الإنتاجية.
يجب أن تجرى المفاوضات الجماعية بناء على الإرادة الحرة والسليمة للطرفين، ودون تدخل من أي طرف كان.
يجب أن يغلب طرفي المفاوضة الجماعية المصلحة الحقيقية المبتغاة من وراء عقد اتفاقية العمل الجماعية.

أما المادة (50) من نفس القانون، فقد أشارت إلى أن المفاوضة الجماعية تعبر عن موازين القوى بين طرفي الإنتاج، فلا يستطيع أي طرف من أطراف المفاوضة الجماعية أن يملي جميع شروطه على الطرف الآخر، ولا يمكن لاتفاقيات العمل الجماعية أن تأتي نتيجة الضغوط الآنية والوقتية المستعجلة.

هذا ويحق لكل طرف من طرفي المفاوضة الجماعية أن يقوم بتسمية ممثليه كتابة، ودون أن يكون لأحدهما حق الاعتراض على هذا التمثيل، كما يمكن لأحد طرفي المفاوضة الجماعية وبناء على طلبه أن يطلب من الجهات الرسمية تقديم المعلومات والبيانات المطلوبة بغية تسهيل عملية إجراء المفاوضة الجماعية(16).

وفي الأخير، وحسب المادة (53) من نفس القانون، نجد أن المفاوضة الجماعية تتم على عدة مستويات يمكن تحديدها على الشكل الأتي:

على مستوى المنشأة: حيث تجري المفاوضات الجماعية بناء على المستوى بين صاحب العمل أو إدارة المنشأة، وبين ممثلي العمال في المنشأة.
على مستوى نشاط اقتصادي معين: وفيه تتم المفاوضة الجماعية بين ممثلي أصحاب العمل في هذا النشاط الاقتصادي، وكذا النقابة العمالية ذات الصلة بهذا النشاط.
على المستوى الوطني: وهنا يفترض أن تجري المفاوضة الجماعية بين اتحاد أصحاب العمل، وبين اتحاد نقابات العمال.

الخاتمة:

في الأخير نكاد نجزم أن المفاوضة الجماعية، قد حظيت باهتمام كبير سواء على مستوى التشريع الدولي أو التشريع الداخلي العربي، وسر الاهتمام هذا يرجع حسب وجهة نظرنا إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه المفاوضة الجماعية في سبيل استقرار علاقات العمل داخل مختلف دول العالم الغربية منها والعربية، فما كان على منظمة العمل الدولية سوى الاهتمام بأداة التفاوض الجماعي وإبراز أهميتها في تنظيم مختلف علاقات العمل، وقد تجلى لنا ذلك من خلال الوقوف على العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية، والتي اهتمت بتنظيم أسس وقواعد ومبادئ المفاوضة الجماعية، وجعلت منها آلية للحوار والنقاش والتفاوض الودي والسلمي من أجل حل مختلف النزاعات التي يمكن أن تثار بين العمال وأصحاب العمل داخل المنشأة أو المؤسسة أو الشركة.

وفي نفس الدرب حاولت منظمة العمل الدولية أن تخطوا نفس خطوات منظمة العمل الدولية، فقامت بالاهتمام بالمفاوضة الجماعية رغبة منها في الارتقاء بمستويات العمل العربية، والوصول بها إلى أعلى المستويات المقررة في منظمة العمل الدولية، إلا أن تكفلها بتنظيم المفاوضة الجماعية جاء نوعا ما متأخر، ويرجع السبب في ذلك إلى عدة عوامل واعتبارات تتعلق أساسا بمسألة تأخر نشأة منظمة العمل العربية، لكن في الأخير قامت المنظمة بإصدار الاتفاقية رقم (98) المتعلقة بحق التنظيم والمفاوضة الجماعية.

أما على مستوى التشريع الداخلي العربي، فقد وقع اختيارنا على التشريع المصري من خلال قانون العمل المصري لسنة 2017، والذي تكلم في مواده من 163 إلى 167 عن كل ما يتعلق بالمفاوضة الجماعية، وإبراز مدى أهميتها في حل النزاعات التي تثار بشأن العمل بطرق ودية، وكذا من أجل تحقيق الاستقرار وتحسين ظروف وشروط العمل داخل المنشأة أو المؤسسة الإنتاجية، والذي ينعكس بالإيجاب على رفع الكفاءة الإنتاجية، كما كان لنا كذلك دراسة أخرى من خلال اختيار التشريع الفلسطيني كنموذج ثان في هذا الموضوع، والذي استطعنا من خلاله الوقوف على كل المواد التي جاء بها قانون العمل الفلسطيني رقم (07) لسنة 2000، والتي لها صلة مباشرة بأداة التفاوض الجماعي.

الهوامش والمراجع:

(1)- أنظر: مخلوف كمال، مبدأ السلم الاجتماعي في تشريع العمل الجزائري بين آلية التفاوض كأساس لتكريس المبدأ والإضراب كوسيلة ضغط، رسالة لنيل شهادة دكتوراه في العلوم تخصص: قانون، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة مولود معمري بتيزي وزو، الجزائر، ثم مناقشتها بتاريخ: 29/09/2014، ص، ص: 9، 10.

(2)- إعلان فيلاديفيا يمثل بداية الاهتمام بالتفاوض الجماعي، حيث تم الاعتراف بموجبه بالحق في التفاوض الجماعي بين أصحاب العمل والعمال.

(3)- أنظر: بلعبدون عواد، دور التفاوض الجماعي في دعم السلم الاجتماعي في الجزائر، رسالة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الاجتماعي، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة وهران، الجزائر، السنة الجامعية: 2013-2014، ص: 08.

(4)- تأسست منظمة العمل الدولية عام 1919، وهيكلها ثلاثي الأطراف، حيث يتكون مجلس إدارتها من ممثلين للحكومات ومنظمات العمال وأصحاب العمل، وهي تنظم مؤتمرا للعمل مرة كل سنة، وقد لعبت دورا كبيرا في إقرار معايير عمل دولية في مجال العمل، كما ساهمت في تكريس وتعزيز صيغة الحوار والتشاور الثلاثي بين أطراف الإنتاج.

(5)- حصلت الاتفاقية الدولية رقم (87) المتعلقة بالحرية النقابية وحماية حق التنظيم على 134 تصديقا إلى غاية 31 ديسمبر سنة 2001، الندوة الدولية للعمل، الدورة 89 لعام 2001، المكتب الدولي للعمل، التقرير الثالث، الجزء الثاني، ص، ص: 100، 101.

(6)- أنظر: مرشد الثقافة العمالية، المفاوضة الجماعية، دار المستقبل العربي، القاهرة، مصر، سنة 1989، ص، ص: 96، 97.

(7)- لقد قامت الجزائر بالمصادقة على هذه الاتفاقية الدولية اعتبارا من تاريخ: 19 أكتوبر 1962، ولتفاصيل أكثر أنظر: الموقع الرسمي لمنظمة العمل الدولية الآتي:

https://www.crin.org/…/international-labour-organization-ilo-arabi.

(8)- أنظر: عبد الرزاق حسين يس، الوسيط في شرح أحكام قوانين العمل والتأمينات الاجتماعية، الكتاب الأول، قانون العمل، المجلد الأول، النظرية العامة في قانون العمل، ط1، مطابع البيان التجارية، دبي، الإمارات العربية المتحدة، 1991، ص- ص: 349- 351.

(9)- صادقت الجزائر على الميثاق العربي للعمل ودستور منظمة العمل العربية بمقتضى الأمر رقم 69- 84 المؤرخ في 21 أكتوبر 1969، الجريدة الرسمية، العدد 97، المؤرخة في 18 نوفمبر 1969.

(10)- أنظر: يوسف إلياس، علاقات العمل الجماعية في الدول العربية، مكتب العمل العربي، 1996، ص: 96.

(11)- أنظر: عبد الباسط عبد المحسن، النظام القانوني للمفاوضة الجماعية ” دراسة مقارنة”، دار النهضة العربية، القاهرة، مصر، 2000، ص، ص: 17، 18.

(12)- لقد عالج المشرع الفرنسي هذه المسألة، واعتبر أن عدم تقديم المعلومات من طرف أصحاب العمل ومنظماتهم يعتبر في حد ذاته إعاقة للمفاوضة الجماعية، وحدد لذلك عقوبة جزائية، بالإضافة إلى المسؤولية المدنية، غير أنه قصر هذا الالتزام على المفاوضة الجماعية على مستوى المؤسسة فقط.

(13)- أنظر: مخلوف كمال، المرجع السابق، ص: 34.

(14)- أنظر: مخلوف كمال، المرجع السابق، ص: 12.

(15)- أنظر: أحمد حسن البرعي، الوسيط في شرح التشريعات الاجتماعية، الكتاب الأول، النقابات العمالية، دار النهضة العربية، القاهرة، مصر، 2006، ص: 124.

(16)- أنظر: الدليل الإرشادي حول قانون العمل الفلسطيني، مركز تطوير المؤسسات الأهلية الفلسطينية، المكتب الرئيسي، رام الله، فلسطين، 2015، ص: 25.

عبد العزيز خنفوسي وعيسى معلاوي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت