بحث قانوني موسع عن جرائم القتل في المغرب .

جرائم القتل في القانون الجنائي المغربي

تحت إشراف:
ذ. محمد أحداف

إعداد الطالب:
ح. محمد

السنة الجامعية
2005-2006

مقدمة

إن في مقدمة ما يحرص عليه تنظيم التعايش الاجتماعي هو صيانة سلامة الفرد لأنه أحد الخلايا المكونة لجسم المجتمع ولا وجود لأي مجتمع بدون توفير الحماية البدنية للفرد، وبذلك فإن جرائم لاعتداء على الأشخاص تعتبر من اخطر الظواهر الاجتماعية التي تهدد تماسك المجتمع وتحد من قدراته وتقف عائقا في طريق تقدمه ونمائه والجريمة كظاهرة متأصلة منذ القدم لا يخلو منها أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية وهي لا تعدوا من أن تكون ردة فعل لعدة عوامل اجتماعية ونفسية وبيئية وتربوية واقتصادية وثقافية وغيرها وتتنوع من حيث طبيعتها وأشكالها وأساليبها من مجتمع لأخر تبعا لتنوع الظروف والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والبيئية إذن فمسألة ثبات الجريمة نفسها في الزمان والمكان أمر لا ينطوي على حقيقة علمية بل إن ما يعتبر جريمة الآن قد لا يعتبر كذلك غدا أو حتى في المكان فما يعتبر جريمة في المغرب قد يكون مباحا في بلد أخر والعكس صحيح كتعاطي المخدرات في مجموعة من الدول الغربية وإباحة الشدود الجنسي وصناعة الجنس والبغاء المنظمة قانونيا وإباحة قتل الشفقة في بعض الدول كالولايات المتحدة الأمريكية والأمثلة كثيرة إلى درجة يصعب معها أن توضع لها لائحة حصرية .

القتل من أقدم الجرائم ،عرفها الإنسان مند أن عرف الحياة على هذه الأرض ويقص علينا القرآن قصة أول جريمة قتل في تاريخ البشرية وهي التي قتل فيها قابيل إبن آدم عليه السلام أخاه هابيل ظلما وعدوانا .ومما لا جدال فيه هو خطورة جريمة القتل وتهديدها للكيان الفردي والاجتماعي معا ولذلك كانت عقوبتها صارمة على مر العصور والشرائع السماوية بحيث أنها اعتبرت التعدي على النفس من أخطر الجرائم لأن الإسلام أعلى من شأن الإنسان بقوله تعالى :{ولقد كرمنا بني أدم }، وعلى قدر ما أعلى من شأنه فقد اشتد في العقوبة على من يعتدي على حياة غيره بغير حق وهذه العقوبة هي الإعدام في شريعة موسى حكى القرآن على التوراة :{ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس}.

وفي التشريعات الوضعية القديمة كانت عقوبة الإعدام مرتبطة بالنتيجة الإجرامية لجرائم القتل بصرف النظر عن توافر أو عدم التوافر القصد الجنائي وعن الظروف الشخصية والعينية لارتكاب الجريمة والمثل على ذلك قانون حمورابي الأشوري الذي كان يقرر الإعدام في حالات متعددة يحدث فيها الموت بدون قصد كالموت الناتج عن ضرب امرأة حامل أو عن انهدام البناء نتيجة عيب فيه.
أما التشريعات الحديثة فإنها تهتم إلى حد بعيد بتلك الظروف لأن الجانب الشخصي أصبح له دور حاسم في تقرير وتدرج المسؤولية الجنائية ولذلك نجد فعل القتل قد تفرغ إلى عدة جرائم تتراوح عقوباتها بين الحبس والسجن المؤبد والإعدام .

وفي الأخير يجب التنويه بأن الفقهاء المسلمين كانوا أول من عني بالدراسة الفقهية لهذه الجريمة ففرعوا جرائم القتل إلى القتل غيلة والقتل العمد والقتل شبه العمد والقتل الخطأ وزاد أبو حنيفة نوعا خاصا هو القتل بالتسبب وعينوا لكل نوع من هذه الأنواع الخمسة العقوبة الخاصة به. والقانون الجنائي المغربي قسم جريمة القتل إلى جريمة القتل العمد وهو الذي يحصل باستخدام وسائل القتل مع وجود سبق إصرار على ارتكاب هذه الجريمة وإلى جريمة القتل الخطأ وهو الذي يحصل دون أن يكون لدى القاتل سبق إصرار على ارتكاب هذه الجريمة ولم يكن يهدف إلى إيذاء القتل ثم جرائم الإيذاء وهي الجرائم التي تفضي إلى الموت دون أن يقصد المجرم نتيجتها ولقد وردت الأحكام المختلفة لهذه الأنواع الثلاثة من القتل في الكتب الفقهية كما تعرض في نصوص متفرقة للعقاب عن الموت الناتج عن أفعال إجرامية مثل حالات الموت الناشئ عن وسائل الإيذاء والعنف أو الحرمان من التغذية أو العناية أو عن الإجهاض أو عن الإحراق العمدي أو التخريب أو وضع المتفجرات.

ومما لا جدال فيه أن حساسية الموضوع واستفحال ظاهرة الإجرام في المغرب يؤدي بنا إلى الميول والاهتمام بإنجاز بحيث شامل ودقيق للجريمة وأنواعها مع استثناء للجرائم المعاقب عنها بموجب قانون العدل العسكري.وسوف يكون تقسيمنا كالتالي :

القتل العمد ( الفصل الأول )
القتل الخطأ (الفصل الثاني )
الضرب والجرح المفضي للموت (الفصل الثالث)

جرائم القتل في القانون الجنائي المغربي

الفصل الأول جريمة القتل العمد

القتل العمد من أخطر جرائم الاعتداء على الأشخاص لأنه يستهدف إزهاق روح إنسان.ويكاد يجمع علماء وأنثروبولوجيا و الإجرام على أن القتل ظاهرة من أقدم الظواهر في سلوك الإنسان الأول في المجتمعات البدائية .
وهي في مقدمة القيم التي تسعى مختلف التشريعات السماوية والوضعية لحمايتها وصيانتها على مر العصور هذه الحماية التي تظهر في قسوة العقوبة المرصودة للعقاب الذي يرتكبها عمدا والتي لا تختلف فيها مبدئيا وهي الإعدام ذلك أن الشريعة السماوية عاقبت القاتل عمدا بالقتل عملا بقوله تعالى :{ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ، وقوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ، أما بالنسبة للقانون الجنائي فتختلف ظروف ارتكاب القتل العمد من حالة إلى أخرى فقد يرتكب في صورته العادية وقد يقترن بظرف من ظروف التشديد أو بعذر من الأعذار المخفقة.

المبحث الأول: أركان جريمة القتل العمد.

تنص المادة 392 من ق.ج على ما يلي : ” كل من تسبب عمدا في قتل غيره يعد قاتلا ويعاقب بالسجن المؤبد …” يستفاد مما تقدم بأن للقتل العمد ركنين وهما :
أولا: الركن المادي: وقد عبر عنه المشرع ب ” التسبب في قتل شخص للغير ” وهذا الركن في الحقيقة لا يختص بجريمة القتل العمد وحدها وإنما يتطلب توافره في جميع صور القتل عمدا كانت أم نتيجة خطأ فقط.
ثانيا: الركن المعنوي: ومفاده أن يكون إتيان الركن المادي – أي التسبب في قتل الغير – جاء عن قصد ونية إجرامية وهذا الركن يميز بواسطته بين القتل العمد والقتل نتيجة إهمال أو خطأ عموما .

المطلب الأول: الركن المادي لجريمة القتل:

يتطلب السلوك الإجرامي لجريمة القتل العمد ارتكاب الجاني فعلا ماديا وإيجابيا يكون هو السبب في إزهاق روح الضحية ، ولا يهم شكل أو وسيلة العنف المادي المجرم هنا وهذا يعني ضرورة توفر ثلاثة عناصر تقليدية في الركن المادي للجريمة بصفة عامة، وتتمثل في فعل الاعتداء على الحياة يؤدي إلى نتيجة إجرامية هي وفاة المجني عليه، وقيام العلاقة السببية بين الفعل الإجرامي.

الفقرة الأولى: النشاط الإجرامي.

إن المشرع في أي نظام جنائي لا يعاقب على النوايا المضمرة مهما كانت خبيثة وخسيسة لئيمة ذلك أن النية الإجرامية لا تشكل لوحدها وبذاتها خطورة على الحياة العامة مادامت في ضمير صاحبها بل حتى ولو افتضحت هذه النية شفويا أو كتابيا أو بأية وسيلة أخرى وتأكدت لدى القاضي بثبوتها فإن صاحبها لا يمكن أن يتابع بجريمة القتل العمد أو بالشروع فيه مادامت في ضمير الشخص ولم تخرج إلى حيز الوجود لأن قانون العقوبات لا يريد بل وليس من حقه أن يتعمق في سبر أغوار النفس الإنسانية لأنها ليست محل عمله .
وترتيبا لذلك فالقتل يتطلب سلوكا إراديا ملموسا في العالم الخارجي من شأنه إحداث الموت فإذا تحققت النتيجة ( الوفاة) كانت جريمة القتل تامة وإن لم تتحقق لأسباب خارجة عن إرادة الجاني كانت الجريمة محاولة أو شروعا . والمشرع المغربي كما يستفاد من نص المادة 392 ق .ج لم يضع تحديدا لفعل الاعتداء ولم يعتد بشكله فكل سلوك يصلح في نظره ليكون فعلا في الركن المادي للقتل ما دام قد أدى إلى إزهاق روح إنسان آخر وكل ما يهم في الفعل أن يكون صالحا لإحداث الوفاة حيث لا تهم الوسيلة المستخدمة لإحداث القتل لقيام الجريمة فمثلا من يلطم شخصا على وجهه فيموت لا يصح أن نسأله عن جريمة القتل إن أنكر ذلك يسأل عن ضرب أفضى إلى الموت ، ولو أن هذا الفعل لا يؤدي عادة إلى إزهاق الروح، كما أن استعمال سلاح أبيض أو ناري أو حارق أو آلة الإطلاق غاز خانق أو تسليط جراثيم فتاكة على دم المجني عليه أو إلقاءه من مكان عال بقصد قتله … الخ تعتبر كلها أفعالا مكونة للركن المادي في القتل العمد لأنها كلها تؤدي إلى إزهاق الروح عادة .

كما يمكن أن يكون النشاط إيجابيا أو سلبيا أي ( الامتناع) ولقد سوى المشرع المغربي بينهما من حيث ترتيب المسؤولية الجنائية للعقاب ، غالبا ما يتخذ فعل الاعتداء صورة إيجابية تتمثل في حركة عضلية تدفعها إلى وجود إرادة شخص معين ونحو ذلك : ضرب المجني عليه بعصا غليظة على الرأس أو طعنه بخنجر في صدره أو إطلاقه رصاصة عليه أو صعقة بتيار كهربائي أو حقنة بمادة سامة أو خنقه أو إغراقه ،وقد يكون الفعل سلبيا يتخذ صورة ترك أو امتناع عن إتيان فعل إيجابي يوجب القانون على الشخص أن يأتيه ونحو ذلك الممرضة التي تمتنع عن إعطاء المريض الدواء الذي وصفه له الطبيب فيموت أو امتناع المولدة عن ربط الحبل السري للولد فيموت ،فكل من يمتنع من هؤلاء عن التدخل لانقاد المجني عليه بنية قتله يسأل عن قتل العمدي.
إذن فالعبرة من نص المادة 392ق.ج بمعاقبة كل من تسبب في قتل الغير هي بتحقق الرابطة السببية بين فعل الاعتداء والنتيجة لا يهم بعد ذلك أن يكون الفعل قد ارتكبه الجاني بنفسه مباشرة أو بصورة غير مباشرة . فالذي يطلق أفعى أو كلب شرسا أو إنسان غير مسؤول كالمجنون أو الحدث غير المسؤول على أخر بنية أن يقتله يعاقب كقاتل متعمد ويعتبر قاتلا أيضا من اتخذ من الضجة نفسه وسيلة القتل فمن يرغم شخصا بالإكراه على قتل نفسه أو يوحي إليه بأن السلك الكهربائي غير صاعق ولا خطير فيمسكه فيموت يعتبر مرتكبا لجريمة القتل العمد.

ومتى كان نشاط الجاني كاف عادة لأحداث الموت فإنه يعتبر قرينة على وجود نية القتل ما لم يثبت المتهم العكس أما إذا كانت وسيلة الاعتداء على الضحية غير كافية عادة لأحداث الوفاة وترتب عنها مع ذلك الموت فإن على النيابة العامة لإثبات وجود نية القتل لدى الجاني وإلا كانت الجريمة مجرد ضرب أو جرح أو عنف أفضى إلى موت حيث تطبق عليه المادة 403من ق.ج.

الفقرة الثانية :النتيجة الإجرامية

تتمثل النتيجة الإجرامية التي تتم بوقوعها جريمة القتل في وفاة المجني عليه .
والوفاة كعنصر في الركن المادي في القتل لازم لقيام الجريمة لا تغني عنها أي نتيجة أخرى مهما كانت بليغة ويجب أن يكون المجني عليه الذي أزهقت روحه إنسانا إذ لووجه النشاط الذي أدى إلى القتل –بنوعيه-إلى حيوان فلا يمكن أن تقوم الجريمة حتى لو كان يظن الجاني أنه يقتل إنسانا وليس حيوانا.
وإذا كانت النتيجة الإجرامية في القتل لا تحقق قانونا إلا بتوقف حياة المجني عليه توقفا تاما ونهائيا فإن تحديد الأعراض التي يستنتج منها توقف الحياة تماما أمر يدخل في صميم اختصاص الطب الشرعي.

ولا يشترط حصول الوفاة عقب السلوك الإجرامي مباشرة وإنما قد يتحقق ذلك إثر النشاط وقد يتراخى تحقيقه زمنا،وفي حالة وقوع هذه النتيجة فعلا فإنه ليس ثمة ما يمنع من اعتبار الواقعة قتلا عمدا مادامت العلاقة السببية بين النشاط والنتيجة قائمة ومادام قصد القاتل ثابتا.وإذا لم تقع الوفاة وثبت توافر القصد الجنائي عدت الواقعة محاولة قتل إذا أوقفت الجريمة أو خاب أثرها لسبب لا دخل لإرادة الفاعل فيه ،فإذا أطلق المتهم عيارا ناريا على المجني عليه بقصد قتله فأصابه في غير مقتل أو لم يصبه على الإطلاق اقتصرت مسؤوليته على الشروع في القتل ،وكذلك الأمر بالنسبة لمن يطعن غريمه بسكين قاصدا قتله ولكن يتم إسعافه بالعلاج أما إذا تخلفت الوفاة راجعا إلى إرادة الجاني بحيث أوقف نشاطه أو خيب أثر فعله بإرادته متى كان ذلك ممكنا فإن المتهم لا يسأل حتى عن مجرد المحاولة على اعتبار أن عدم تحقق النتيجة راجع إلى إرادته مما يعد عدولا اختياريا ينتفي معه وجود الشروع قانونا طبقا للفصل 114ق.ج.وغني عن البيان أنه إذا انتفى القصد الجنائي لدى المتهم ووقعت الوفاة فإن الجريمة توصف بكونها ضربا أفضى إلى الموت .وإذا كانت الوفاة يجري إثباتها عادة بالخبرة الطبية فإن من الجائز تقريرها بكافة الوسائل ومن بينها القرائن البسيطة .

كما لا يلزم تقديم شهادة بالوفاة أو التحقق من هوية القتيل تماما وإنما يصح رفع الدعوة الجنائية من أجل القتل رغم عدم العثور على جثة القتيل التي قد يفلح الجاني أو غيره في إخفائها عن أعين السلطات بأي وسيلة من الوسائل .
وطبقا للقواعد العامة فإن عبأ إثبات وفاة المجني عليه يقع على عاتق النيابة العامة باعتبار الوفاة عنصرا في الركن المادي في جريمة القتل.

الفقرة الثالثة:العلاقة السببية.

لا ينتفي صدور نشاط مؤذ من الجاني وموت الضحية لقيام الركن المادي لجريمة القتل بل يجب أن يتوفر إلى جانب ذلك وجود علاقة سببية بين ذلك النشاط وبين موت الضحية.
ويقصد بالعلاقة السببية ارتباط النتيجة الإجرامية وهي موت الضحية بنشاط الجاني ارتباط المعلول بعلته بحيث يكون ذلك النشاط هو الذي نشأ عنه موت الضحية وفقا للضوابط التي يسري عليها الوجود في هذا الكون.
والعلاقة السببية قد تكون واضحة لا يثور الجدل بشأنها كما في الحالات التي يستعمل فيها الجاني الوسائل المميتة عادة ويترتب عنها الموت فورا كقتل الضحية عن طريق الخنق أو الإغراق أو الصعق الكهربائي أو بالطعنات أو الضربات النافدة إلى القلب أو المخ…الخ، ولكنه في بعض الأحيان قد تكون هذه العلاقة غير ظاهرة إما بسبب اشتراك أسباب أجنبية مع نشاط الجاني في موت الضحية هذه الأسباب التي قد تكون سابقة على فعل الاعتداء أو لاحقة له مثل :التداوي أو الخطأ فيه، وإما بسبب طبيعة نشاط الجاني نفسه كما إذا كان هذا النشاط مجرد امتناع أو اقتصر على التأثير المعنوي على نفس الضحية أو كانت الوسيلة المستعملة في الاعتداء غير كافية لإحداث الموت حسب العادي من الأحوال ولم يثبت في نفس الوقت وجود أسباب أجنبية ساعدت على الوفاة.

والتساؤل الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو:
هل تقطع هذه العوامل الأجنبية عن فعل الجاني رابطة السببية بين فعله وحدوث النتيجة الجرمية(الوفاة) بعد أن تداخلت بينهما وأسهمت بدورها في أحداث النتيجة الضارة ؟ أم أن الجاني يظل مسؤولا عن النتيجة الحاصلة رغم تدخل هذه العوامل؟ وهل ثمة من ضابط أو معيار يمكن الاستعانة بت للقول بتوافر رابطة السببية أو عدم توافرها ؟
إن المشكل هنا يرتبط بحالة تعدد الأسباب وليس بحالة تسلسل النتائج لجرمية حيث تكون النتيجة الجرمية واحدة لم تتعدد ولم تتعاقب ، والأسباب أو العوامل هي التي تعددت وتداخلت في إحداث هذه النتيجة.
ولقد كانت دراسة السببية ولا سيما في حالة تعددها مبحثا لاجتهادات فقهية هامة وتتلخص الاتجاهات الفقهية السائدة في هذا الخصوص في ثلاث اتجاهات :
اتجاه (نظرية) السببية المباشرة-اتجاه السببية المناسبة أو الملائمة-اتجاه تعادل الأسباب.
+ اتجاه السببية المباشرة: مقتضى هذا الاتجاه ألا يسأل الجاني عن النتيجة التي حصلت إلى إذا كانت متصلة اتصالا مباشرا بفعله .
فالسببية على هذا النحو تتطلب نوعا من الاتصال المادي بين الفعل والنتيجة فهي لا تعترف إلا بالارتباط المباشر والمحقق بينهما .
ويبدو هذا الاتجاه من أكثر الاتجاهات تضييقا لنطاق السببية ومراعاة للمتهم وقد أخد عليه أنه يؤذي إلى إفلات الجاني أحيانا من عواقب أعماله إذا ما تداخلت إلى جانبها عوامل أخرى ولو بقسط يسير أو بصورة مألوفة.
+ تجاه السببية المناسبة أو الملائمة : هذا الاتجاه يرسم للسببية نطاق أوسع من سابقه وتنسب هذه النظرية في المقام الأول إلى الفقيهين الألمانيين”humelui-vonkries” وبمقتضاها أن الفعل الصادر عن الجاني لا يعتبر سببا لوقوع نتيجة جرمية معينة إلا إذا تبين أن هذا الفعل صالح الأحداث تلك النتيجة وفقا للمجرى العادي للأمور ويعتبر فعل الجاني سببا مناسبا أو ملائما للنتيجة التي حصلت إذا كان كافي بذاته لحصولها مادامت ظروف الحال تنبؤ بأنه قد توقعها وبصرف النظر عن العوامل الأجنبية والتي تكون قد توسطت بين فعله والنتيجة النهائية ومن تم فإن السببية الملائمة لا تكتفي بوجود رابطة طبيعية بين السلوك والنتيجة وإنما تتطلب في السلوك مواصفات خاصة وهي أن يملك الإمكانيات الموضوعية لتحقق النتيجة بحيث تبدو هذه متوقعة وفقا للمجرى العادي للأمور.
فالعبرة في هذا الاتجاه إذن هي بكون النتيجة ممكنة وعادية مع مراعاة الأمور و العوامل التي حدثت فإن تداخل في مجرى الحوادث عامل شاد أو استثنائي-انقطعت رابطة السببية كما كان موت المصاب قد حصل نتيجة إحراق المستشفى الذي نقل إليها .
وتعد هذه النظرية من أكثر النظريات شيوعا سواء في الفقه أو القضاء في تحديد السببية لكن يؤخذ عليها مع ذلك كونها لا تخلو من التحكم فاعتبار النتيجة متوقعة أم شاذة مع مراعاة الظروف التي حدثت فيها مسألة تقديرية يختلف فيها تقدير الناس ولا يصح أن تبنى أحكام القانون الجنائي على أسس تحكمية.
+ اتجاه تعادل الأسباب: تقوم هذه النظرية على أساس المساواة بين جميع العوامل التي ساهمت في أحداث النتيجة الإجرامية ذلك أن هذه النتيجة ما كانت لتحدث لو تخلف عامل واحد من هذه العوامل ،إذ فكل عامل من هذه العوامل سواء كان يتوقعه الجاني أم لم يكن يتوقعه وسواء كان حدوثه وفقا للمجري العادي للأمور أم كان شذوذا في مجراها العادي وتطبيقا لهذه النظرية فالجاني مسؤول عن فعله حتى ولو ساهمت معه في أحداث النتيجة عوامل أخرى طبيعية كضعف المجني عليه الصحي وإصابته بمرض سابق كان مازال يعاني منه أو من أثاره أو غير طبيعية كالخطأ الجسيم للطبيب المعالج أو إهمال المجني عليه الجسيم في علاج نفسه ذلك بأن فعل الجاني هو الذي حرك هذه العوامل الأخرى وأوجد ظروفها بحيث لولاه لما كانت صالحة لإحداث النتيجة .

بل إن العوامل الشادة وفقا لهذه النظرية لا تنقص من مسؤولية الجاني،فانقلاب السيارة التي أقلت المجني عليه وهو في طريقه إلى المستشفى لا تنفي مسؤولية الفاعل عن الجريمة ذلك أنه لو لم يقع منه الاعتداء لما ركب المجني عليه السيارة أو لما ذهب إلى المستشفى وبالتالي فإن النتيجة ما كانت لتحدث.

غير أن هذه النظرية وإن كانت تقوم على أساس منطقي إلا أن عيبها هو أنها لا تقوم على أساس عادل لأنه حقا أن النتيجة التي حدثت هي محصلة عوامل متعددة وحقا أن تخلف عامل واحد من هذه العوامل كان يمكن أن يؤدي إلى عدم حدوثها وحقا أن فعل الجاني كان هو السبب المحرك للعوامل الأخرى، ولكن دلك لا ينفي أنه يوجد من بين هذه العوامل عامل أقوى في تأثيره من الأخر، ويوجد من بين هذه العوامل عوامل طبيعية وأخرى غير طبيعية وعوامل متوقعة واخرى غير متوقعة لذلك فإذا أقمنا المساواة بين هذه العوامل جميعها فقد خرجنا على مبدأ العدالة وبالتالي أخذنا الجاني بأكثر مما يستحق وربما كان هذا السبب لقلة أنصار هذه النظرية في الفقه وإعراض القضاء عنها .

ومهما يكن هناك من آراء فقهية حول الأخذ بالسبب المباشر أو السبب الملائم والمناسب أو تعادل الأسباب وتكافئها فإننا نميل إلى القول بعدم تقييد القاضي بأي معيار من المعايير الموضوعية المجردة وانه ينبغي ترك أمر استخلاص العلاقة السببية لقاضي الموضوع يبحث فيها كل قضية حسب وقائعها وملابساتها وعليه أنه يبين الوقائع التي استنبط منها وجود أو انتقاء العلاقة السببية حتى يتأتى لقاضي النقض أن يراقب سلامة الاستنتاج الذي انتهى إليه قاضي الموضوع من الوقائع الثابتة أمامه .
وبعبارة أخرى فإن قاضي الموضوع يتثبت من الوقائع المكونة للعلاقة السببية وله أن يستعين في ذلك بكل الوسائل القانونية المفيدة وفي مقدمتها الخبرة الطبية ويرجع إلى سلطته التقديرية وإلى اقتناعه الوجداني الفاصل في ثبوت أو عدم ثبوت تلك الوقائع ولا جدال في هذا كما أنه لا جدال في ضرورة ذكر ما ثبت لديه من وقائع في الحكم لأن ذلك يدخل في التعليل الواجب الأحكام .

كما جاء في قرار المجلس الأعلى ” وحيث إن القرار المطعون فيه الذي أدان العارض بجناية الضرب والجرح العمريين المؤديين إلى الموت دون نية إحداثه وعاقبه من أجل ذلك بخمس سنوات حبسا، اقتصر في حيثياته المتعلقة بالدعوى العمومية على تعليل وجه اقتناع المحكمة بحضوره واقعة المضاربة ومشاركته فيها، دون أن يبرز ثبوت العلاقة السببية التي هي عنصر من عناصر الجريمة وأن الضرب الواقع على المجني عليه كان هو السبب المباشر في موته فجاء بذلك ناقص التعليل ومنعدم الأساس القانوني مما يتعين معه نقضه وإبطاله” .

لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو ما مدى رقابة قاضي النقض على أحكام القاضي؟
من المسلم به أن الحكم يكون معيبا وبالتالي معرضا للنقض إذا لم تذكر فيه الوقائع التي استخلص منها قاضي الموضوع العلاقة السببية وكذلك إذا كان الاستنتاج غير سليم كما إذا كانت العلاقة السببية التي قررها تتعارض أو تتناقض مع وقائع أثبتها الحكم نفسه – لكن إذا اقتصر قاضي الموضوع على ذكر بعض الوقائع واعتبرها كافية لإثبات العلاقة السببية أو لنفيها بينما يرى قاضي النقض عدم كفايتها هل يحق له أن يتدخل وينقض الحكم ؟
نعم يحق له التدخل لأن ذلك يعتبر نقصا في التعليل وقاضي النقض يحق له رقابة تعليل الأحكام وأساسها القانوني ( م 586 – فقرة أخيرة من المسطرة ) بالإضافة إلى أن علاقة السببية مصطلح قانوني يراقب قاضي النقض قاضي الموضوع في سلامة تطبيقه .

ويبدو أن المجلس الأعلى يسير في هذا الاتجاه وإن نص في بعض قراراته على أن البث في العلاقة السببية يرجع إلى قاضي الموضوع بما له من السلطة المطلقة في تقدير الوقائع.
كما جاء في قرار المجلس الأعلى” يكون ناقص التعليل وغر مبني على أساس قانوني الحكم القاضي بإدانة المتهمين من أجل محاولة القتل عمدا والمشاركة فيها من غير أن يبين أن محاولة هذه الجناية التي شرع في تنفيذها بإخراج طلقة نارية صوب الضحية لم يحصل الأثر المتوفى منها إلا لظروف خارجة عن إرادة مرتكبها .
وأيضا في قرار آخر عدد 1067 الذي جاء فيه ما يفيد :” إن عدم كفاية وسائل الإثبات لا يمكن أن يفضي إلى النقض ما دام أن عرض أدوات الإثبات غير مقرر تحت طائلة البطلان وأنه لا يشكل إجراءا جوهريا. إن كان الحكم لم يبرز الظروف المشددة للسرقة فإن العقوبة المحكوم بها تبقى مع ذلك مبررة بما ثبت ثبوتا كافيا من قتل الضحية عمدا ومع سبق الإصرار من أجل إعداد وتسهيل اقتراف السرقة.

لا تقبل أمام المجلس الوسيلة التي لا تخرج عن كونها مجادلة في حجج الإثبات التي حظيت بقبول قضاة الموضوع في مادة لم يحدد فيها القانون وسائل إثبات معينة .

المطلب الثاني: الركن المعنوي:

الركن الثاني في جريمة القتل العمد هو القصد الجنائي ومعناه أن تتجه إرادة الجاني إلى إتيان النشاط الصادر منه (إيجابيا كان أم سلبيا) وإلى النتيجة الإجرامية المقصودة من ذلك النشاط التي هي إزهاق روح المجني عليه. فجناية القتل العمد لا تقدم قانونا ولا يعاقب عليها إلا إذا ارتكبت عن قصد وعمد(الفصل 133ق.ج.). إذن فالقصد الجنائي هو قوام الركن المعنوي في جريمة القتل العمد وبانتفائه تنتفي الجريمة بهذا الوصف، فبواسطته يمكن التمييز بين حالات القتل العمد (الفصل 392ق.ج.) والقتل الخطأ (الفصل 432ق.ج.) والإيذاء المفضي إلى الموت (الفصل 403ق.ج.) حيث أن الفعل الذي يفضي إلى إزهاق الروح يتأثر بمدى اتجاه إرادة الفاعل إلى إحداث النتيجة أم لا .

الفقرة الأولى :عناصر القصد الجنائي.

لقد جاء في قرار المجلس الأعلى على أنه “يجب على الحكم في حالة الإدانة من أجل القتل عمدا، أن يثبت أنا المعتدي قد فكر بالفعل في هذه النتيجة وأنه قام بالعمل المنسوب له من أجل الحصول عليها” و أقضية القضاء تشترط لقيام ركن معنوي في القتل العمد ضرورة توافق قصد عام لدى الجاني الذي يتمثل في توجيه لإرادته إلى القيام باعتداء على إنسان حي ،مع العلم بحقيقة ما يقوم به وقصد خاص وهو استهدافه من ذلك الاعتداء إزهاق روح المعتدي عليه وإلا ما قامت جريمة القتل العمد بينما يرى البعض الأخر أن القصد الجنائي في هذه الجريمة هو القصد الجنائي بمفهومه المتطلب في كافة الجرائم مهما كانت والذي يقوم على عنصرين أولهما :هو العلم بجميع الوقائع والظروف التي أحاطت بارتكاب الجريمة أي أن يكون الجاني محيطا إحاطة تامة بحقيقة الواقعة المجرمة واقعيا وقانونيا وهذا يقتضي علمه بأنه يوجه فعل الاعتداء إلى إنسان حي وأن هذا الفعل يشكل خطورة على حياة المجني عليه وأن من شأنه إحداث الوفاة وثانيهما:الإرادة أي أن يهدف الجاني إماتة الشخص يمنع القانون قتله ولابد أن تكون إرادة الإنسان حرة حتى تترتب المسؤولية الجنائية فإذا لم تكن حرة كما لو ارتكب القتل قوة قاهرة كالإكراه أو تحت تأثير تنويم المغناطيسي أو نائم ،أو كما انقلبت الأم على وليدها النائم إلى جانبها فخنقته. الإرادة الحرة ينتفي وبالتالي لا يتحقق ركن المسؤولية المعنوي

الفقرة الثانية : الحالات التي لا ينتفي فيها القصد الجاني في جريمة القتل العمد .
متى توفرت نية القتل لدى الجاني فلا يؤثر قيام الجريمة وقوع خطأ في شخص المجني عليه ،سواء كان هذا الخطأ ناشئ عن خطأ في الشخص من وقع عليه الفعل أو عن خطأ في توجيه الفعل ،فإن جميع العناصر القانونية للجريمة تكون متوفرة في الحالتين كما لو وقع الفعل على ذات المقصود ذلك أن القصد من تجريم فالمشرع للقتل هو حماية النفس الإنسانية عموما ،كمن يصطاد في غابة فيرى شبحا بين الأشجار فيعتقد أنه غزال أو حيوان فيطلق عليه النار ،فإذا به إنسان لم يراه.
هناك حالات أخرى لا ينتفي فيها القصد العمد نجملها فيما يلي:
+ إذا كان الباعث لدى الجاني بريئا ونبيلا بحد ذاته كالقتل بدافع الشفقة أو الرحمة l’enthouasie. ذلك أن الباعث على إزهاق الروح حتى ولو كان كما سبق فإنه يتساوى مع الباعث الخسيس وإن كان القاضي يأخذ ذلك بعين الاعتبار عند تقدير العقوبة.
+ حالة اتجاه نية الفاعل تتجه إلى ارتكاب القتل ،لكن دون تحديد لشخص معين أي دون أن يستهدف بعدوانه ضحية معينة ونحو ذلك :الشخص الذي يلقى قنبلة على تجمع لخصومه السياسيين بقصد قتل أي منهم .فالقصد الجنائي يتحقق عنده إذا ثم القضاء على أي من هؤلاء الخصوم ويعد بالتالي قاتلا عمدا.

+ القصد الجنائي لدى الفاعل لا يؤثر فيه قتل الجاني لمجني عليه غير ذلك الذي كان يقصده ابتداء إما نتيجة غلط في شخصيته -أي شخصية المجني عليه-كما لو قتل شخص اعتقده عدوه في حين لم يكن هذا القتيل سوى مجرد شبيه لهذا العدو وأما عن خطأ ونحو ذلك أن يرمي شخص عدوا له بقنبلة حارقة فيخطئه وتصيب غيره وتقتله نية القتل عند الجاني لا تعتبر منتفية قانونا ولو أنها انتفت واقعيا في كل حالة فرض القانون قيامها بنص من النصوص ونحو ذلك أن يصدر فعل القتل جاني تعاطي باختياره لمواد أفقدته الإدراك كالخمر أو المخدرات بمختلف أنواعها مثلما ما نص عليه الفصل (137من ق.ج.) “السكر وحالات الانفعال أو الاندفاع العاطفي أو الناشئ عن تعاطي المواد المخدرة عمدا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعدم المسؤولية أو ينقصها”.
لكن ما الحكم لو أن الجاني توقع حصول الموت كنتيجة ممكنة ومحتملة لفعله الذي قام به فاستمر في نشاطه غير عابئ به فهل يعتبر مرتكبا لجريمة قتل عمد لتوفر القصد الجنائي لديه أم لا ؟

إن الجواب عن هذا السـؤال يقـودنا للحديث عن القصد الاحتمالي في جريمة القتل .
القصد الجنائي يفترض أن يقدم الجاني عن فعله وهو يريد تحقيق النتيجة الإجرامية منه فإذا حدثت هذه النتيجة فإن مسؤولية الجاني تكون تامة بلا خلاف أما إذا لم يرد الجاني تحقيق النتيجة ورغم ذلك حدثت فإنه لا يسأل مسؤولية عمدية
ولكن بين وجود الإرادة وعدمها توجد درجات من الاحتمال أو إمكان توقع النتيجة فهل يسأل الجاني في هده الأحوال مسؤولية عمدية إذا أحدثت النتيجة وفي هذا الصدد يمكن التمييز بين ثلاث صور للقصد الاحتمالي.
الصورة الأولى : إذا توقع الفاعل أن الموت أمر محقق ولازم لفعله ومع ذلك يقدم عليه فإنه يسأل مسؤولية القتل العمد وليس عن جريمة القتل الخطأ أو الإيذاء المفضي للموت وذلك لأن الركن المعنوي قائم لديه في هذه الصورة ولو أنه لم يرد النتيجة وهذا بإجماع الفقه على اعتبار أن من كان متأكدا مسبقا من أن نشاطه لابد وأن تترتب عنه النتيجة وبالكيفية التي انتهت إليها ومع ذلك اقدم عليه فيعامل وجوبا مثله من أراد النتيجة بالفعل ونحو ذلك أن يقوم الجاني بإغراق سفينة أو قلب قطار لأي هدف كان ويترتب عن ذلك موت عدة أشخاص فالجاني في حالة إغراقه للسفينة أو نسفه للسكة الحديدية بغرض قلب القطار قد لا يكون هدفه قتل أحد من الركاب ولكن هذا القتل لازم لفعله بحسب المجرى العادي الأمور .
الصورة الثانية : إذا توقع الجاني حصول وفاة ومع ذلك يقبل هذا الاحتمال ويمضي في فعله مخاطرا وغير مكترث لما سيحدث ونحو ذلك أن يضرب شخص آخر على رأسه بفأس أو آلة حادة أو بعصا غليظة فيموت المجني عليه في حين نتيجة لذلك فالجاني في هذه الصورة أراد الضرب فقط ولكن هذا الضرب أفضى إلى الموت وهذا الموت أمر لا شك في أن يكون الجاني قد توقعه لما استعمل في الضرب تلك الوسائل الخطيرة ولكنه لم يبالي إذا تساوى لديه حدوث النتيجة من عدمها .
وحكم هذه الصورة اختلف في شأنه الفقهاء فمنهم من يرى بأن الجاني يسأل كقاتل عمدا ما دام قد أتى الفعل رغم أنه كان قد توقع النتيجة ومع ذلك لم يبالي بالعواقب فيكون من ناحية خطورته الإجرامية مساويا لمن يستهدف مباشرة حدوث النتيجة ولذلك يعتبر أنه قد تعمد في إحداثها في حين يرى فريق آخر أن القصد الاحتمالي في هذه الحالة لا يمكن مساواته بالقصد الذي ينبغي أن يتوفر في القتل العمد وإنما يسأل –الجاني- فقط عن جريمة ضرب أو جرح أو إيذاء أفضى إلى الموت .
الصورة الثالثة : إذا توقع الفاعل النتيجة كاحتمال ممكن وقوعه إلا أنه يعتمد على مهاراته في تفاديها أو منع حدوثها فإن القصد الجنائي لديه منتف أصلا ونحو ذلك أن يضع أحد لاعبي السيرك كأسا يحتوي على شمعة مستعملة على رأسه أو ماشاكل ذلك كهدف أو مرمى ويقوم زميل له برمي هذا الهدف بسهم أو ببارود أو أحجار الخ … ويحصل ذلك أثناء رشق الهدف أن يخطئ الراشق أو الهداف الهدف (الشمعة المستعملة فيقتل الضحية فاللاعب في هذا المثال لما كان يرشق الهدف كان يتوقع ولا شك أن يخطئه ويصيب زميله إلا أنه مع ذلك جازف وخاطر في إتيانه اللعبة اعتمادا على ما لديه من المهارة والتجربة إلا أن المؤكد هو أنه لو كان يعتقد بأنه سيزهق روح زميله لما قام بالرشق أبدا والفقه المتفق على أن الفاعل لا يسأل إلا عن جريمة قتل خطأ في هذه الحالة لا نعدم القصد الجنائي لديه

المبحث الثاني:عناصر العقاب على القتل العمد.

عقب المشرع المغربي على جريمة القتل العمد في صورتها البسيطة في السجن المؤبد ومن الواضح أن هذه العقوبة ذات حد واحد مما يقيد من السلطة التقديرية للقاضي في مجال تطبيقها بحيث لا يبقى أمامه إذا ما أراد النزول عن هذا الحد إلا إعمال مقتضى الفصل 164.ح.م الذي يقرر الظروف القضائية المختلفة إذا كان يوجد في ملابسات ارتكاب الجريمة أو في درجة إجرام المتهم ما يبرر ذلك وفي حالة تمتع الجاني بهذه الظروف فإن للقاضي النزول بعقوبة السجن المؤبد إلى عقوبة السجن من عشر إلى ثلاثين سنة (ف. 147 /2)

ولما كان القتل العمد جريمة جنائية كان ثمة عقوبات إضافية تطبق على مرتكبها إما بصفة وجوبية أو اختيارية ،هذا ويلاحظ أن جرائم القتل العمد لا تثير لدى الرأي العام درجة واحدة من الاستهجان، فإذا كان بعضها مما يهتز له الشعور العام بقوة ويبدي بشأنه مزيدا من السخط والتقزز واعتبارا لما صاحب الجريمة من ملابسات تفصح عن مدى استفحال الجريمة لدى الفاعل أو بالنظر إلى الصفة الوحشية للوسائل المستعملة في التنفيذ مثله فإن بعضها الأخر في ظروف ينم تحليلها عن خضوع الفاعل لقوى معينة دفعته إلى الجريمة دفعا مما يستدعي التخفيف من مسؤوليته .
وأمام هذا الاختلاف البين في الحالات المعروضة لا يجد المشرع الوضعي بدا من تنويع الجزاءات المستحقة وفق ما يقتضيه مبدأ تفريد العقاب .

وهكذا وتطبيقا لهذا المبدأ فقد نص المشرع المغربي في حالات محددة من القتل العمد على بعض الأعذار القانونية المخففة يترتب عن توافر شروط تطبيقها تقرير عقوبة أخف من السجن المؤبد المقرر في الفصل 392 م ق ج كما نص في حالات أخرى على بعض الظروف المشددة ترفع بها العقوبة من السجن المؤبد إلى الإعدام.
وسنعرض في هذا المبحث للظروف المشددة في القتل العمد (مطلب أول) ثم للإعذار القانونية المخفقة (مطلب ثاني ) .

المطلب الأول : الظروف المشددة في القتل العمد.

قد تقترن جريمة القتل العمد بإحدى ظروف التشديد فتشدد تبعا لذلك العقوبة فتكون هي الإعدام وليس السجن المؤبد. وترجع أسباب هذا التشديد إما إلى اقتران القتل العمد بجناية (ف392 ق ج)أو ارتباط القتل بجناية أو جنحة (ق 392 ق ج). وقد يرجع هذا التشديد إلى نفسـية الجـاني وقصده ونعني به سبق الإصـرار (ق 393 ف ج) وقد يرجع هذا التشديد إلى نفسية الجاني وقصده ونعني به سبق الإصرار (ف 393 ق ج ) وقد يتعلق بكيفية تنفيذ القتل ويندرج في هذا النوع الترصد ( ف 393 ق .ج) والتسميم (ف 393 ق ج) كما قد يرجع هذا التشديد إلى صفة المجني عليه : قتل الأصول (ف 396 ق ج ) وقتل الأطفال الذين يقل سنهم عن الثانية عشرة بالضرب أو الجرح أو العنف أو الإيذاء أو يتعمد حرمانهم من التغذية أو العناية ( ف.416) .

الفقرة الأولى : اقتران القتل بجناية . concomitance du meurte avec un crime.

عاقب المشرع بالسجن المؤبد القاتل عمدا (م 392 ق.ج ) إلا أنه شدد عليه العقوبة في نفس الفصول إذا أقرنه بجناية حيث قال ” لكن يعاقب بالإعدام في الحالتين الآتيتين:
إذا سبقته أو صحبته أو أعقبته جناية أخرى … ” وهذا مماثل لنص المادة 304 الفرنسية والمادة 234 المصرية.
وحالة اقتران القتل العمد بجناية والتي قرر لها المشرع عقوبة الإعدام – تشكل في الحقيقة استثناء من الأحكام العامة في تعدد الجرائم والتي يقضي الجاني في هذه الحالة بالعقوبة المقررة للجناية الأشد ( ف 120ق ج ) وعلة تشديد هذا الظرف تبدو جلية فالشخص الذي لا يتورع عن ارتكاب جريمتين خطيرتين خلال فترة زمنية محدودة يكشف بذلك عن شخصية إجرامية خطيرة لا تبالي بارتكاب أشد الجرائم خطورة خلال وقت قصير .

ولكي تشدد عقوبة جريمة القتل العمد في هذه الحالة ينبغي أن يقترن القتل العمد المرتكب من طرف الجاني بجناية الاقتران معناه المصاحبة الزمنية (الاقتران الزمني) بين ارتكاب الجاني للقتل العمد وارتكابه لجناية أخرى سواء قبل إنجاز القتل أو أثناءه أو بعده.

وتقتضي المصاحبة الزمنية توفر رابطة زمنية بين جريمة القتل العمد والجناية الأخرى التي اقترنت بها وتطلب هذه الرابطة الزمنية يتفق وعلة تغليظ العقاب في هذه الحالة لأن إقدام الجاني على اقتراف جريمتين في فترة قصيرة من الزمن إنما يدل على انحراف واضح في السلوك وخطورة مؤكدة على سلامة التعايش الاجتماعي.لم يحدد القانون طول الفترة الزمنية لذلك فإن تقديرها متروك لقاضي الموضوع غير أن المنطق يقتضينا القول بأنه كلما كان تقارب في الزمن بين القتل والجناية فإن الاقتران يكون أوضح وكلما بعد الزمن بينهما كان هناك شكوك حول

عرافة الفاعل في الإجرام الخطير وقامت قرينة بسيطة على العكس
ومادام النص يشترط اقتران القتل العمد بجناية أخرى فلا بد أن ترتكب جناية القتل العمد مستوفية لأركانها وعناصرها القانونية ثم أن يقترن هذا القتل بجناية أخرى وهذا هو مناط التشديد وأن تكون هذه الجناية مستقلة عن القتل العمد في جميع أركانها فلو ارتكبت جناية خطف قاصر المنصوص عليها في الفصل 471 ثم قتل عمدا شددت عقوبته إلى الإعدام لأن خطف قاصر يصبح بالنسبة للقتل سببا مشددا .

ولكن إذا كان الفعل نفسه يقع تحت نصين فإن الجناية المقارنة لا تعتبر مستقلة ولذلك لا تشدد عقوبة القتل فلو أطلق الجاني النار على شخص وهو ينوي قتله فأخطأه وأصاب شخصا بجواره فقتله فإن الفاعل يكون هنا في حالة اجتماع جرائم معنوية لا في حالة اقتراف جناية بقتل عمد .
والقانون استعمل عبارة ” جناية أخرى ” دون أن يحدد نوع هذه الجناية فيستوي أن تتعلق هذه الجناية بجرائم الاعتداء على الأشخاص (كمحاولة القتل مثلا أو الإيذاء العمدي المفضي إلى عاهة دائمة…) أو بالجرائم الماسة بالأموال (كالسرقة المشددة مثلا ف.507 وما بعدها أو بجرائم المساس بأمن الدولة أو الإخلال بالثقة العامة ،كتزوير المحررات الرسمية من قبل الموظف العمومي ومن في حكمه …)

ويثور في هذا الصدد تساؤل عن الحل الواجب في ما إذا كانت عقوبة الجنائية التي اقترنت بالقتل العمد قد خففت إلى عقوبة جنحية فهل نعتبر في هذه الحالة الجرمية التي خفف عقابها جناية أم جنحة فقط في تطبيق الفصل 392ق.ج ؟
والجواب أنه إذا كان التخفيف لظرف من الظروف القضائية المخففة المتروكة لرأي القاضي فإن طبيعة الجريمة لا تتبدل وبالتالي تظل هذه الجناية جناية ولو خففت عقوبتها (الفصل 112)و لذلك تظل سببا مشددا للقتل العمد ولكن إذا كان التخفيف ناشئا عن عذر معف أو عذر مخفض فإن طبيعة الجناية تتبدل فلا تعود جريمة معاقبة أو تصبح جنحة.ولذلك لا تظل معتبرة ظرفا مشددا وهذا الرأي مستنتج أيضا من نص الفصل 112 ومن هذه الأعذار القانونية المخففة عذر الاستفزاز وحداثة السن وأما فقدان الإدراك والإرادة وقت الفعل فعذر معف من المسؤولية (الفصل 76)ولكن ضعفهما يوجب المسؤولية الناقصة (الفصل 78). وتتحقق مسؤولية القاتل الذي اقترن قتله بجناية إذا كان مساهما في القتل ومشاركا في الجناية أو كان مشاركا في القتل ومساهما في الجناية فليس مهما إذن أن يكون هو الذي باشر القتل العمد بل المهم أن تتحقق مسؤوليته في مساهمته بأي وصف كان .
والخلاصة أن الذي يرتكب جناية من الجنايات هو مجرم لا يخلو من نظر فإذا ارتكب جناية قتل عمد فإنه يعطي الدليل على شدة خطره لذلك رأى الشارع أن يخلص المجتمع منه نهائيا .

الفقرة الثانية: ارتباط القتل العمد بجناية أو جنحة. Corrélation du meurtre avec un crime ou un délit

نص المشرع على سبب التشديد هذا في الفقرة الأخيرة من ف.392 ق.ج. والتي تقضي بأنه : “…إذا كان الغرض منه –أي من القتل العمد –إعداد جناية أو جنحة أو تسهيل ارتكابها أو إتمام تنفيذها أو تسهيل فرار الفاعلين أو شركائهم أو تخليصهم من العقوبة ”
وهذا النص يشابه المادة 234 والمادة 304 الفرنسية ولكن يضيف لفظ الجناية في حين أنها لا تتحدثان إلا عن الجنحة.وقد يبدو أن النص المغربي تفادى بذلك نقصا ولكن إذا أمعنا النظر في حالة الارتباط لوجدنا أن الذي يرتكب جناية ولو لم تكن مقترنة بالقتل العمد يعاقب بالإعدام فإذا ارتبطت به كان الوضع القانوني متحققا أيضا. ويفترض التشديد في هذه الحالة أيضا تعدد الجرائم مع وجود رابطة سببية بينهما .أن الجاني لا يرتكب القتل لذاته وإنما يفارقه تحقيقا لغرض إجرامي أخر كأن يقتل الجاني المجني عليه في السرقة ليتمكن من الفرار بالمسروقات أو يقضي على من يشاهده يرتكب السرقة كي يتخلص من شاهد إثبات ضده.وأساس التشديد في هذه الحالة هو اعتبار المشرع أن الجاني الذي لا لايقف إجرامه عند جناية القتل بل يتركب إلى جوارها جريمة أخرى إنما يدل على نفسية خطرة ينبغي أن يهدد بالإعدام حتى يرتدع فإن لم يرتدع فلا مفر التخلص منه كما ترجع علة التشديد إلى دناءة الغاية التي من أجلها ارتكب جناية القتل العمد :إن القتل المرتبط بجناية أو جنحة أي المرتكب تمهيدا لها أو تسهيلا لفرار أحد المساهمين فيها أو الحيلولة بينهم وبين العقاب لا يكون مقصودا لذاته وإنما باعتباره وسيلة لارتكاب جريمة أو الخلاص من عقوبتها وفي ذلك ولاشك استخفاف بأرواح العباد واستهتار بالقيم المختلفة التي يتعرض لها الجاني بفعله.

يستفاد من نص الفقرة الأخيرة من ف:392 ق.ج أن ظرف ارتباط القتل العمد بجناية أو جنحة يتطلب أن يكون موضوع القتل أو الهدف منه حسب المشرع هو إعداد جناية أو جنحة أو تسهيل ارتكابها أو إتمام تنفيذها أو تسهيل فرار الفاعلين أو شركائهم أو تخليصهم من العقوبة وبعبارة أخرى يشترط أن يكون القتل هو الوسيلة لتحقيق أحد هذه الأهداف وليس العكس .

ويمكن تلخيص هذه الشروط في ما يلي :
– أن يتم ارتكاب جناية القتل العمد بأركانها وعناصرها كاملة كما سبق عرضها في مبحث سابق .
– أن يستهدف الجاني بهذا القتل تحقيق إحدى الغايات المنصوص عليها قانونا على سبيل الحصر وهي اتباعا:
+الإعداد والتحضير لارتكاب جناية أو جنحة أيا كنت.
+ تسهيل ارتكاب جناية أو جنحة : ويكون باتخاذ الأسباب التي تضع الفاعل في ظروف ملائمة تجعل ارتكاب ميسورا ولكنه لم يدخل بعد في مباشرة التنفيذ وهكذا يبدو واضحا أن التسهيل قريب جدا من الأعداد لأنهما مرحلتان سابقتان لتنفيذ الجريمة الثانية كمن يقتل حارس مرآب للسيارات بقصد تسهيل سرقة السيارات.
وفي هذا المعنى جاء قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 21 نونبر 1968 ” إن كان الحكم لم يبرز الظروف المشددة للسرقة فإن العقوبة المحكوم بها تبقى مع ذلك مبررة بما تبث ثبوتا كافيا من قتل الضحية عمدا مع سبق الإصرار من أج إعداد وتسهيل اقتراف السرقة ”
+إتمام تنفيذ الجناية أو الجنحة: يعني أن الفعل باشر تنفيذ الجناية أو الجنحة و لكنه تعثر فلم يار بدا من القتل والمثال على ذلك أن يشرع الجاني في سرقة متجر ليلا فيداهمه صاحبه أو أي شخص أخر فيقتله ويتم السرقة.
+تسهيل قرار الفاعلين أو شركائهم أو تخليصهم من المسؤولية الجنائية : وتفترض هذه الصورة أن الجناة ألقوا تنفيذ الجناية أو الجنحة فلو ارتكب شخص أو أشخاص جريمة أخلاقية وحضـروا له المجنـي عليه بعد أن علم بمكان اختطافه وكان مسلحا فلم يتمكن الجناة من الفرار فقام واحد منهم أو شخص لا علاقة له بالجريمة الأخلاقية وقتله فإنه يعاقب عقوبة مشددة لأنه ينوي تسهيل فرار الجناة .
أما تخليصهم من العقوبة فيكون على الأغلب بطمس معالم الجريمة كقتل الشاهد أو إحراق الفتاة التي اعتدي على عفافها ابن القاتل مثلا حتى لا يكشف الطبيب الشرعي أدلة الجناية.
وعموما فإن ظرف الارتباط لا يتحقق إلا إذا اتخذ الجاني القتل وسيلة لتحقيق إحدى هذه الغايات فإذا لم يقم هذا الارتباط الذهني-بين القتل والجريمة الأخرى-في ذهن الجاني فلا يتحقق هذا الظرف المشدد فلو ارتكب الجاني مثلا الجناية أو الجنحة ثم اقترف القتل بعد ذلك فلا يقوم ظرف الارتباط لأن القتل هنا ليس وسيلة وإنما هدف بحد ذاته وإن كان يمكن تحقق ظرف تشديد أخر إذا توافرت عناصره وشروطه كظرف الاقتران مثلا إذا كانت الجريمة الأخرى المقترنة بالقتل تكون جناية في نظر القانون.
وعلى هذا يكون هذا الظرف المشدد سببا شخصيا لأنه متعلق بهدف الفاعل وعلمه لذلك لا تشدد عقوبة الشركاء الذين ساهموا وشاركوا في القتل إذا لم يكونوا بأنه كان ينوي من القتل الوصول إلى ارتكاب الجناية أو الجنحة حتى ولو ارتكبت بحضورهم أو بمساهمتهم .

الفقرة الثالثة : سبق الإصرار Préméditation

شدد المشروع عقوبة القتل العمد إذا كان مرفوقا بظرف سبق الإصرار (م393 ق.ج) وعرف هذا الأخير في المادة 394 ق.ج فقال :” سبق الإصرار هو العزم المصمم عليه قبل وقوع الجريمة على الاعتداء على شخص معين أو على أي شخص قد يوجد أو يصادف حتى ولو كان هذا العزم معلق على ظرف أو شر ط :” وهذا التعريف يقابل تعريف المادة 231 من قانون العقوبات المصرية.
ومن خلال التعريف السابق يظهر الفرق الجلي بين القتل العمد البسيط وبين القتل العمل المقترن بسبق الإصرار ، هو أن القاتل العمد يرتكب جريمة فور تقريره ارتكابها كان يكون في ساعة غيظ فيثور من خبر مؤلم أو من تصرف يؤذيه فيهاجم ضحيته ويقتله أما القتل مع الإصرار فإن القاتل يفكر وأعصابه هادئة ويستقر رأيه بعد تردد أو بدوم تردد ويزن النتائج ويتخذ قراره بالقتل ويبدأ بإعداد العدة له ثم ينفذه فعلا فالأول ضعيف الإرادة مندفع أما الثاني فذو عزيمة لا تلين وإجرام متأصل من نفسه، ولذلك كان خطره أشد على المجتمع فعاقبه الشارع بالإعدام ليتلخص منه نهائيا ويرد على إصراره بعقوبة جريمته .

وكما يتضح من خلال المادة 394 أنه لكي يتوافر هذا الظرف يلزم تحقق عنصرين أولهما نفسي – في الجاني – والآخر زمني وينصرف إلى المدة التي يتخذ فيها العزم والتصميم على الجريمة واقترانها بالفعل.
والمقصود بالعنصر النفسي أن الجاني فكر في مشروعه الإجرامي بهدوء أعصاب و روية وقدر العواقب التي تنجم عن إتيانه لهذا المشروع ورضاه بتحمل نتائج فعلته لينتهي بعد هذا التفكير والتقدير للعواقب والرضا بتحمل النتائج إلى العزم على تنفيذ مشروعه الإجرامي المتمثل في إزهاق روح الضحية.

أما بالنسبة للعنصر الزمني فهو مرور فترة ما من الزمن بين التصميم والتنفيذ وهذه المدة هي الدليل على رسوخ التصميم في نفس القاتل وبدونها لا يمكن الحكم مطلقا بوجود الإصرار، لقد اكتفى المشرع باستعمال عبارة” العزم المصمم عليه قبل وقوع الجريمة”، ومن هنا فإنه لا أهمية لطول هذه المدة أو قصرها وقد ترك حل موضوع الإصرار للقاضي الذي ينظر في الدعوى واعتمد على حسن إحاطته بالوقائع ليستخلص منها وجود الإصرار أو عدمه والمهم أن يتحقق القاضي أن هذا الشخص قد فكر بهدوء، وروية حين اتخذ قراره ومرت فترة من الوقت على هذا القرار وكانت كافية لخلاصه من الهياج الذي ينتاب القاتل العمد الذي لا يستطيع أن يتروى فيما هو مقدم عليه ،وفي هذا المعنى جاء في قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 14 يونيو 1988 ” سبق الإصرار كعنصر قانوني تستخلص المحكمة توافره أو عدم توافره من وقائع النازلة التي تستقل بتقديرها تبعا لسلطتها في التقدير التي لا تخضع لرقابة المجلس الأعلى ” .

وفي الأخير يجب الإشارة إلى أن سبق الإصرار ظرف ذاتي أو شخصي ومن تم فلا يسري إلا على من توفر فيه من الجناة –مساهمين كانوا أم شركاء – عملا بالفقرة الثانية من المادة 130 ق ج والتي جاء فيها ” لا تؤثر الظروف الشخصية التي ينتج عنها تشديد أو تخفيف أو إعفاء من العقوبة إلا بالنسبة لمن تتوافر فيه ” وعليه فلو توافر ظرف الإصرار عند أحد الجناة في القتل دون غيره من المساهمين أو المشاركين فإنه يعاقب وحده بالإعدام أما الباقون فتطبق في حقهم عقوبة السجن المؤبد هذا ما لم يتوافر لأحد المساهمين أو المشاركين شخصي العزم المصمم عليه على ارتكاب القتل حين تطبق في حقه عقوبة الإعدام بدوره حتى ولو نفذ واقعة القتل على أحدهم فقط .

الفقرة الرابعة: الترصد.

عرف الفصل 395 ق.ح الترصد بقوله :” الترصد هو التربص فترة طويلة أو قصيرة في مكان واحد أو أمكنة مختلفة بشخص قصد قتله أو ارتكاب العنف ضده”
لقد شدد المشرع العقاب في حالة الترصد لكونه وسيلة تسهل للجاني تنفيذ جريمته غيلة وغدرا وفي غفلة من المجني عليه حيث يفاجئه فيفتك به ويغتاله بغثة دون أن تتاح له فرصة الدفاع عن نفسه فما يدل على خطورة شخصية الجاني ودناءة فعله فهو يتخير الظروف الملائمة لتنفيذ جريمته ويجبن عن مواجهة غريمه ويفضل طعنه من الخلف في نذالة وجبن .
وبناءا على التعريف السابق فإن الترصد يقوم على عنصرين هما : عنصر مكاني وعنصر زمني .
-عنصر مكاني : وهو يتحقق قانون يتربص الجاني بهدف القضاء على المجني عليه في مكان واحد أو عدة أمكنة . وذلك أنه قد يفلت –أي المجني عليه- من الجاني المتربص به بالمكان الأول فينتقل هذا الأخير لمكان آخر بقصد الإجهاز على المعني عليه وهكذا ….

والمكان ورد في النص مطلقا ولذلك يستوي فيه أن يكون ظاهرا كالطريق العام أو السوق أو غير ظاهر كالاختباء وراء الشجرة أو حائط المهم هو أن يقبع الجاني في أي مكان كان انفرد هذا الأخير وتعدد بقصد إزهاق روح المجني عليه لكي يتحقق ظرف الترصد .
فإذا كان الوضع العادي للمترصد هو الاختباء والتستر إلا أن ذلك ليس أمرا لازما. ولذلك يعتبر الجاني مترصدا إذا وقف في طريق الضحية مخفيا سلاحه ورآه هذا الأخير من بعيد ولكن دون أن يبدو ومنه ما ينبئ عن التهيؤ للعدوان ولما اقترب منه باغته بسلاحه وقتله .
وعنصر زمني: ويعني انقضاء فترة من الزمن والجاني ينتظر أن تسمح له الفرصة بقتل الضحية وهذه الفترة لم يحددها المشرع بزمن محدد . حيث المهم هو أن تمر مدة قد تطول كما قد تقصر والجاني ينتظر الفرصة كمرور المجني عليه أو خروجه من داره أو من إدارة أو مغادرته لحقل … الخ لينفذ مشروعه الإجرامي.
وعموما فإن الترصد واقعة مادية يستقل قاضي الموضوع بتقديرها واستخلاص عناصرها في ضوء كل قضية على حدة، وفق ظروفها وملابساتها.
بيد أن تكييف الوقائع وما إن كانت تشكل ترصدا أم لا تخضع لرقابة المجلس الأعلى الذي يتحقق من توافر عناصر الترصد القانونية.
مقارنة بين الترصد وسبق الإصرار.
إن الترصد بطبيعته يعتبر من الظروف العينية فهو يتعلق بماديات الجريمة وكيفية تنفيذها ويستخلص من الوضعية المكانية للجاني-المتربص- أثناء تهيئة لتنفيذ الاعتداء وبالتالي فهو يسري على جميع المساهمين والمشاركين ولو كانوا يجهلونه (الفصل 103 ق .ج) وهو في هذا يختلف عن سبق الإصرار الذي يعد ظرفا شخصيا لا شأن له بكيفية تنفيذ الجريمة.
وترتيبا لذلك فإن الترصد يعد ظرفا ماديا تتحقق به المحاولة حيث يهدف مباشرة إلى ارتكاب الجريمة في حين لا تتصور المحاولة في نطاق ظرف سبق الإصرار لأنه عمل ذهني صرف لا وجود له في العالم الخارجي.
وفي الحياة التطبيقية لا يكاد يتحقق الترصد دون أن يتضمن عناصر سبق الإصرار لأن التربص يكون عادة بعد فترة من تقرير الاعتداء فيتحقق بذلك سبق الإصرار ومع ذلك فإنه قد يحدث أن يوجد الترصد دون سبق الإصرار .
وبصفة عامة فإن الترصد يتحقق وحده دون سبق الإصرار في جميع الحالات التي تقصر فيها فترة التربص الذي يقوم بها الجاني فور تقريره للاعتداء إذ في هذه الحالات لا تكفي الفترة القصيرة الفاصلة بين تقرير الاعتداء وبين تنفيذه
إضافة إلى هذا الارتباط الغالب بين الظرفين في الوقائع العملية يجتمعان كذلك في كونهما ظرفين للتشديد ف جرائم الاعتداء على الأشخاص عموما أي في القتل العمد وفي جرائم الضرب والجرح والعنف والإيذاء العمديين.

الفقرة الخامسة : قتل الأصول .

نص المشرع على جريمة قتل الأصول في الفصل 396 من القانون الجنائي بقوله :” من قتل عمدا أحد أصوله يعاقب بالإعدام “.
ويلاحظ في البداية أن بعض القوانين تعاقب قاتل فروعه بنفس العقوبة كالقانون السوري والقانون اللبناني وبعض القوانين لا تنص على اعتبار قتل الأصول أو الفروع من الظروف المشددة لجريمة القتل العمد كالقانون المصري .
إن معاملة الأصول وعلى الأخص الأبوين بالإحسان من الأحكام التي اتفقت الشرائع السماوية والأنظمة الاجتماعية على الأخذ بها وفي القرآن الكريم أكثر من الآيات تفرض معاملة الأبوين بالمعروف قال تعالى :{ وقضى ربك ألا تعبد إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهر هما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغير } .
إن الوالدين هما اللذان يبدأن بالإحسان مع الولد بالعناية به والسهر على تربيته، ومعيشته فوجب أن يقابلهما بنفس المعاملة بعد كبره والاستقلال بنفسه وإذا حاد عن هذا السلوك الواجب عليه. وتجاوز ذلك إلى تعمد قتلهما وإزهاق روحهما فلا جدال أنه يعتبر عاقا وجاحدا لما أسدياه إليه من معروف واستحق عقوبة الإعدام لأن من تنكر لأبويه وداس بتصرفه الأحمق عاطفة الأبوة والأمومة لا ينتظر منه خير للمجتمع ويكشف سلوكه هذا عن تحجر مشاعره فكأنه ذلك المجرم الذي تطلق عليه المدرسة الوضيعة اسم ” المجرم الطبيعي” لا يرجى له علاج ولا سبيل لوقاية المجتمع من خطره إلا إعدامه.
والمقصود بالأصول في القانون المغربي الأب والجد وإن علا والأم والجدة وإن علت ويشترط في هذه القرابة أن تكون شرعية من جهة الأب، أما من جهة الأم فيكفي فيها القرابة الطبيعية وقد جاءت المادة 146 مؤكدة لذلك بحيث سوت بين الأمومة الشرعية للأم بأمومتها الطبيعية خلاف للأب وهكذا فإن من يقتل أمه غير الشرعية الطبيعية يعاقب بالإعدام في حين أن من قتل أباه غير الشرعي بالتبني مثلا- أو أحد أصوله يعاقب بالسجن المؤبد وليس بالإعدام وطبقا للقواعد العامة وللرأي السائد في الفقه بالنسبة للجهل بظروف التشديد فإن الولد لا يتعارض لتشديد العقوبة إلا إذا كان عالما بظرف التشديد أي علاقة النسب فإذا كان يجهل أن الضحية من أصوله عوقب على القتل العمد لا غير لا يؤخذ بجناية قتل الأصول . وإذا أراد قتل الغير وأخطأ الهدف فقتل أحد أصوله خضع لعقوبة القتل العمد فقط لأنه لم تكن لديه نية إزهاق روح أحد أصوله ووجود هذه النية ضروري للمؤاخذة بجناية قتل الأصول .

إن ظرف التشديد في قتل أحد الأصول ظرف شخصي لأنه يتعلق بعلاقة النسب التي تربط القاتل بالقتيل ولا علاقة له بالواقائع المادية للجريمة وبناءا على ذلك طبقا للمادة 130 لا يسري هذا الظرف إلا على من توفر فيه أي الذي تربطه بعلاقة الأبوة دون باقي المساهمين والمشاركين معه في الجريمة.
وإذا ارتكب القتل أجنبي وشاركه الابن في هذا القتل هل يعاقب الابن بالمادة 396؟ إن الابن في هذه الحالة يعاقب بالمشاركة في القتل العمد لا غير لأن المادة 396 تغلظ العقوبة بالنسبة ل ” من قتل أحد أصوله ” والمشارك غير القاتل .

المطلب الثاني: الأعذار المخففة لعقوبة القتل العمد.

نص المشرع المغربي على حالات معينة تخفض فيها عقوبة القتل العمد العادية المنصوص عليها في المادة 392 وذلك لبعض الاعتبارات التي استجاب لها أهم هذه الحالات:
+ قتل الأم لوليدها (م 397)
+ القتل المرتكب نتيجة استفزاز ناشئ عن اعتداء بالضرب أو العنف الجسيم(م 416)
+ قتل الزوج لزوجته وشريكها عند مفاجأتهما متلبسين بالخيانة الزوجية (418م) .
+ القتل المرتكب نهارا لدفع تسلق أو كسر سور الحائط أو مدخل منزل أو بيت مسكون أو أحد ملحقاتهما (417م )
وسنعرض للحالات الثلاث الأولى نظرا لأهميتها وخصوصياتها.

الفقرة الأولى : قتل الأم لوليدها.

تقضي المادة 397 ق.ج في فقرتها الثانية بأن : ” …. إلا أن الأم سواء كانت فاعله أصلية أو مشاركة في قتل وليدها تعاقب بالسجن من خمس سنوات إلى عشر ولا يطبق هذا النص على مشاركيها ولا على المساهمين معها”.
اقتبس القانون المغربي هذا العذر المخفف من القانون الفرنسي الذي خص الأم بالتخفيف في حالة قتل وليدها اعتبارا للدفع الذي يكون عادة التستر على عرضها الذي دنسته بالحمل من سفاح فالأصل أن يتعلق القتل بالوليد غير الشرعي أما الولد الشرعي فمن غير المألوف أن تقدم الأم على قتل لأن عاطفة الأمومة أقوى من أي وازع إجرامي.
وإذا كان المشرع المغربي لم يصرح بذلك فإن تشريعات جنائية أخرى نصت على ذلك صراحة كالقانون الجنائي السوري الذي نص في المادة 537 على أنه : ” تعاقب بالاعتقال المؤقت الوالدة التي تقدم اتقاء العار على قتل وليدها الذي حبلت به سفاحا ولا تنقض العقوبة عن خمس سنوات إذا وقع الفعل عمدا”.

وقد تطورت النصوص التشريعية التي تعاقب على قتل الوليد –أو الطفل المولود حديثا – تطورا مهما فهي لم تكن في بادئ الأمر عملا تحرمه الأعراف أو تعاقب عليه الشرائح حيث كان الأطفال في المجتمعات البدائية القديمة يقتلون كما يقتل الشيوخ والعجزة تخلصا من أعبائهم وبعامل الفاقة والعوز الاقتصادي.
وقد عرف العرب في الجاهلية وأد البنات حتى جاء الإسلام فحرم هذه العادة السيئة الشنيعة وقد جاء القرآن الكريم مؤكدا لذلك :{ لا تقتلوا أولا دكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياكم وإن قتلهم كان خطئا كبيرا “.

شروط قيام هذا العذر:
المشرع المغربي خفف العقوبة على الأم فقط في حالة قتلها لطفلها الوليد دون غيرها كالجدة أو الأب … الخ ، ومن ثم وجب أن تقوم علاقة الأمومة الطبيعية بين الطفل والوليد والقاتلة وهذه العلاقة وحدها تكفي للتخفيف ولا حاجة إلا اشتراط أن يكون الوليد نتيجة علاقة زوجية شرعية ، وإن كان هذا نادرا الحدوث على المستوى الواقعي إذا أن عاطفة الأم أقوي من أن تقدم على فعل مشين كهذا.

لكن ما هي الفترة التي يعتبر فيها القتيل “وليدا” ؟
لم تحدد المادة 397 الوقت الذي تبتدئ فيه مرحلة الوليد والوقت الذي تنتهي فيه.
فبالنسبة لوقت ابتدائها فالرأي السائد في الفقه يقول بانتهاء مرحلة ” الجنين” الذي تحميه النصوص المتعلقة بالإجهاض ببدء عوارض المخاض واستعداد الجنين للانفصال عن جسم أمه، وبناءا على ذلك فإن نص المادة 397 يطبق على الأم إذا قتلت الوليد بعد أن أحسست بعوارض المخاض ولو لم يغادر رحمها بعد.

أما بالنسبة لوقت انتهاء مرحلة ” الوليد” فإن المشرع لم يحددها أيضا وترك الأمر لاجتهاد المحكمة فالمقصود بالوليد إذن الطفل الحديث الولادة الذي لم يمضي زمن طويل على ولادته حيث إذا مر زمن طويل فإن الأم تفقد التمتع بالعذر المخفف لأن الوليد بعد أن يمارس الحياة المستقلة عن جسم الأم فإنه يصبح طفلا.
وعلى العموم فإن مثل هذا التحديد – تحديد الفترة التي تمتد فيها مرحلة الوليد ينطوي على أهمية بالغة اعتبار الدقة وخطورة النتائج المترتبة عن ذلك ، ذلك أن العذر المخفف في حال قتل الأم لوليدها أو تطبيق الظرف المشدد بالنسبة لقتل ” الطفل ” حيث تطبق عقوبة الإعدام في هذه الحالة (م 410 ق .ج).
ويعتبر عذر التخفيف المنصوص عليه في ( م 397 ق ج) هو عذر خاص بالأم وبالتالي فهو عذر شخصي لا تستفيد منه إلا الأم دون باقي المساهمين أو المشاركين معها في قتل الوليد (م 130) ق 2.

الفقرة الثانية : القتل المرتكب نتيجة استفزاز ناشئ عن اعتداء بالضرب أو العنف .

قرر المشرع هذا العذر في المادة 416 ق ج الذي جاء فيها ” يتوفر عذر مخفف للعقوبة إذا كان القتل أو الجرح أو الضرب قد ارتكب نتيجة استفزاز ناشئ عن اعتداء بالضرب أو العنف الجسيم على شخص ما .
انطلاقا من هذا النص يتضح لنا أن علة التخفيف في حالة الاستفزاز تكمن في تلك الحالة التي يكون فيها الجاني تحت تأثير انفعال يفقده السيطرة العادية على نفسه فيندفع لارتكاب الجريمة تحت تأثير ذلك الأفعال وحتى يتوافر العذر المخفف للعقوبة لا بد من تحقيق نوعين من الشروط تتعلق بالاعتداء وشروط تتعلق برد الفعل .

أولا : الشروط المتطلبة في الاعتداء .

– أن يوجه الاعتداء ضد الجاني أو ضد شخص غيره .
لم يشترط القانون أن يكون الاعتداء موجها ضد شخص الجاني فقط، وإنما يستوي أن يكون الاعتداء موجه ضد شخص الجاني أو ضد أي شخص آخر، ذلك أن الإنسان كما يمكن أن يستفز من اعتداء موجه ضد شخصه. فيمكن أيضا أن يستفزه اعتداء موجه إلى شخص آخر حتى ولو لم تكن تربطه به أي علاقة إذ بلغ هذا الاعتداء درجة من الجسامة لم يكن لها مبرر . كما لو كان ضحية الضرب أو العنف طفلا صغيرا أو شيخا مسنا أو ذا عاهة.

– أن يكون الاعتداء بوسيلة معينة هي الضرب أو العنف الجسيم
لكي يقوم عذر الاستفزاز يتعين أن يصدر من المستفز ضرب أو عنف ” جسيم ” ضد الجاني القاتل أو ضد شخص آخر.
والضرب يعني المساس الجسد وقد يكون ذلك باليد أو الرجل أو بعصا أو غير ذلك ومن باب أولى يتحقق الاعتداء بالجرح، أما العنف فيتسع لصور عديدة من السلوك التي تمس جسد الإنسان كتقيده أو جبسه في مكان معين أو محاولة إجباره على سلوك لا يريد أن يأتيه وقد حاول القضاء الفرنسي تفسير الضرب والعنف تفسيرا واسعا حتى يشمل كل أنواع الإيذاء والتهديد و محاولة التعدي على الشرف والعرض ذلك أنه في الحياة العملية كثيرا ما تعرض وقائع وتصرفات بعيدة عن الضرب والجرح ومع ذلك تحدث من الغضب والهيجان في نفس من توجه إليه مالا يحدث الضرب أو العنف كأعمال التحرش المرفقة بعبارات التحقير والإهانة التي يقوم بها المستفز أمام العموم . ولكن ما هو معيار الجسامة في هذه الحالة؟ يعتقد بعض الفقه أن هذه المسألة تحددها محكمة الموضوع أخذة في اعتبارها كافة الملابسات والظروف التي وقع فيها الحادث سواء منها الموضوعية التي تتعلق بهذا الضرب أو العنف الذي تعرض له الشخص والاعتبارات المختلفة التي كان فيها الجاني أثناء ارتكابه لجريمة وفقا لمعيار الشخص المتوسط في مثل ظروف الفاعل .

-أن يكون الضرب أو العنف الجسيم غير مشروع.
وهذا واضح في تسمية المشرع “…. استفزاز ناشئ عند اعتداء بالضرب أو العنف الجسيم إذا كان الضرب أو العنف مشروعا لما سمي ( اعتداء) كأن يكون الضرب أو العنف تنفيذا العقوبة محكوم بها على الشخص أو أن يكون العنف صادر من رجل سلطة في حدود سلطته المسموح له بها قانونا ففي هذه الحالات لا يتوفى العذر المخفف إذا وقعت الجريمة .

ثانيا : الشروط المتطلبة في رد الفعل :

-أن يوجه رد الفعل ضد المعتدي .
حتى يتحقق العذر المخفف للعقوبة في حالة الاستفزاز يجب أن يقع رد الفعل على المستفز نفسه لا غيره حتى ولو كان هذا الأخير تربطه بالمعتدي قرابة أو صلات وثيقة كأن يكون ابنه أو زوجه أو شقيقه.

-أن يقع رد الفعل عقب أعمال الاستفزاز مباشرة
هذا العنصر وإذا لم ينص عليه القانون صراحة ، ولكن تقتضيه طبيعة الاستفزاز من جهة كما يستفاد من جهة ثانية من عبارة ” استفزاز ناشئ عن اعتداء بالضرب أو العنف” التي تقيد ضرورة توافر العلاقة السببية بين الاعتداء وبين رد الفعل وهذه العلاقة السببية تتحقق إذا قام الجاني برد الفعل الفوري ضد الاعتداء أما إذا تراخى رد الفعل إلى أن اختفى الانفعال وحالة الانفعال فإن العلاقة السببية تنعدم .

فالمشرع إذا كان قد خول الجاني المستفز هذا العذر فذلك مراعاة منه للحالة النفسية والعصبية التي يكون عليها هذا الأخير بعد تعرضه للاعتداء أما إذا مرت فترة من الزمن على ذلك بحيث استقرت حالته بعد ذلك وهدأت فلا يتوافر له هذا العذر ولا يستفيد منه وعموما فإن قاضي الموضوع هو الذي يستقل بالتثبت في حدوث رد الفعل داخل مرحلة الانفعال أم انتهائها مع ضرورة تبيانه في حكمه الوقائع التي استخلص منها هذه النتيجة أو تلك حتى لو يكون حكمه قاصر ناقص التعليل .
إن هذا العذر المخفف في حالة الاستفزاز يعتبر ظرفا شخصيا لكنه يقوم على الانفعال الذي تحدثه أعمال الاستفزاز في نفس الجاني وبالتالي لا يستفيد منه إلا من توفر فيه من المساهمين أو الشركاء ( م : 130 ف ق 2 من ق ج ) .

الفقرة الثالثة : قتل الزوج لزوجته وشريكها عند مفاجأتهما متلبسين

الخيانة الزوجية
تنص المادة 418 من القانون الجنائي على أنه ” يتوفر عذر مخفف للعقوبة في جرائم القتل أو الجرح أو الضرب إذا ارتكبها الزوج ضد زوجته وشريكهما عند مفاجأتهما متلبسين بجريمة الخيانة الزوجية ” . أساس هذا العذر هو الاستفزاز الناتج عن الاعتداء على عرض الزواج وشرفه وقد قصره القانون على الزوج دون الزوجة اقتباسا من القانون الفرنسي وعلة ذلك أن هول المفاجأة يكون أشد على الزوج من غيره. فالزوجة تتأثر ولا شك بمفاجأة زوجها متلبسا بالخيانة الزوجية وكذلك الأب بالنسبة لابنته والأخ بالنسبة لأخته ، ومع ذلك فإن القانون لم يمنعهم العذر المخفف إذا ارتكبوا جريمة قتل ( مالم يكن أحدهم رب أسرة فيعذر جرائم الضرب والجرح دون نية القتل) و ( 420) ق ج لأنه اعتبر وقع مفاجأة عليهم لا يفقدهم السيطرة على ضبط أعصابهم بخلاف الزوج فإن انفعاله يكون أكثر حدة وتأثير.

شروط توافق هذا العذر
يتمتع الفاعل –الزوج- بعذر مخفف في هذه الحالة إلا إذا توافرت شروط ثلاثة: صفة الجاني : والذي يتعين أن يكون زوجا للمرأة الزانية المجني عليها والشرط الثاني مفاجأة الزوجة متلبسة بالزنا والشرط الثالث أن يرتكب القتل في الحال أي أثناء مفاجأة)
أولا صفة الجاني :
قصر المشرع هذا العذر على الزوج وحده فلا يستفيد غيره من الأشخاص مهما كانت درجة قرابته بالزانية إخوة كانوا أم أبناء أم أباء .
ولا يمنح القانون الزوجة هذا العذر إذا فاجأت زوجها متلبسا بالزنا وقتلته هو أو شريكته وقد يبدو وضع بهذا الشكل منتقدا لأن الحكمة من التخفيف متوافرة هنا أيضا لتوافر ظرف الاستفزاز لدى الزوجة في هذه الحالة، وينبغي في هذه الحالة أن تكون العلاقة الزوجية قائمة أثناء ارتكاب الجريمة وفقا لما جاء في مدونة الأسرة الجديدة .

ثانيا : مفاجأة الزوج لزوجته متلبسة بالزنا
هذا الشرط هو أساس علة التخفيف فمفاجأة الزوج لزوجته متلبسة بالزنا هي التي تولد لديه الاستفزاز الذي يفقده السيطرة على نفسه ويجعله يندفع إلى فعله وحيثما انتهى عنصر المفاجأة بالنسبة للزوج فلا يستفيد هذا الأخير من العذر وتتحقق المفاجأة في صورتها الكاملة إذا كان الزوج واثقا من إخلاص زوجته ثم وجدها متلبسة بالزنا أو كان لديه شك أو شبهات في سلوكها ثم ضبطها .
ويحب أن يشاهد الزوج ماله التلبس بنفسه ولا يكفي أن يخبره الغير لذلك الاستفزاز الذي يبرر قيام العذر لا يتوفر في هذه الحالة ويتحقق التلبس حيث لا يكون مجال الشك في الزنا.

ثالثا: ارتكاب جريمة القتل أثناء ( فورا) المفاجأة)

مؤدى هذا الشرط ان يتزامن عنصر المفاجأة وما يترتب عليه من استفزاز مع ارتكاب القتل وهذا التعاصر الزمني هو الذي يتفق مع حكم تخفيف حيث يعتبر القتل حينئذ رد فعل للثورة التي اجتاحت نفسية الزوج من هول المفاجأة على أن اشتراط ارتكاب القتل في الحال لا يعني حتما أن يتم القتل في نفس لحظة المفاجأة وإنما يظل الشرط متوافرا ولو مضى بين المفاجأة والقتل بعض الوقت الذي استغرقه حصول الجاني على سلاح ينفذ به فعله .

أما إذا مرت فترة الزمن على مشاهدته زوجته متلبسة بالزنا استرجع خلالها كامل هدوؤه فلا محل لتخفيف فإذا اعمد الزوج بعد ذلك إلى ارتكاب القتل فإن فعله هذا يعد على حد القول بعض الفقه انتقاما هادئا وليس اندفاعا تحت تأثير الثورة النفسية .

الفقرة الرابعة : عقوبة القتل العمد المقترن بالعذر القانوني المخفف .

إذا توافرت شروط العذر القانوني فإن العقوبات تحفظ طبقا للمادة 423 من ق ج إلى الحبس من سنة إلى 5 سنوات في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام عندما يقترن قتل العمد بطرف من ظروف التشديد أو السجن المؤبد ( إذا كان القتل العمد عاديا) هذا مع مراعاة مقتضيات المادة 422 ق ج التي استثنت ظرف قتل الأصول الذي لا يستفيد فيه الجاني مطلقا من أي عذر قانوني مخفف للعقوبة .

وبالنسبة لقتل الأم لوليدها ، فهي وإن كانت تستفيد من العذر القانوني المخفف إلا أن العقوبة في هذه الحالة تبقى عقوبة جناية ( السجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات)وليس عقوبة جنحية (الفقرة الثانية من المادة 397 ق ج) وطبقا للمادة 112 ق ج فإن نوع الجريمة لا يتغير إذا حكم بعقوبة متعلقة بنوع آخر من أنواع الجرائم لسبب تخفيف أو لحالة العود.
وبناءا على هذا النص فإن قيام العذر المخفف إذا كان يخفض العقوبة فإنه بالمقابل لا يغير من وصف الجريمة فتبقى جريمة القتل بوصفها القانوني الأصلي ” جناية” تخضع لأحكام المطبقة على الجنايات في حين تخضع العقوبة المخففة وهي عقوبة جنحية لأحكام المطبقة على العقوبات الجنحية