الماء والنزاعات المسلحة
إن الماء مصدر للحياة والنعم ورمز للخصوبة والطهارة، غير أنه يحمل أيضا المخاوف ويُنذر بالأخطار، ويُثير الأطماع والنزاعات.

وقد حوّلته وظائفه العديدة والضرورية جميعاً إلى مورد حيوي حاول الإنسان أن يُنظم استعماله وإدارته على الدوام. ولكن، على عكس القانون المنطبق زمن السلم، كما تشهد على ذلك أعراف وعادات أعرق المجتمعات وكذلك النصوص القانونية الداخلية والدولية المعتمدة في الأزمنة الحديثة، فإن قانون النزاعات المسلحة لم يخصص للماء – صراحة ومؤخرا – سوى بعض أحكام نادرة(2).

ولا يُمثل ذلك عتاباً بقدر ما يُمثل إثبات حالة ربما يُمكن شرحها على أساس أن الماء ضروري ولا غنى عنه في جميع الأحوال. وإذا صرفنا النظر عن عواقب الكوارث الطبيعية التي يمكن للماء أن يكون فيها مَصْدر أو مَحَلَّ تهديد، فإن بعض الأنشطة التي يباشرها الإنسان قد تسبب آثاراً وخيمة العاقبة وضارة للبيئة ووسائل معيشة السكان التي يمثل الماء عنصرها الأساسي، ونكتفي في هذا الصدد بالتذكير بالآثار التي تنجم عن التلوث أو النزاعات المسلحة.

ونعلم للأسف من تجربة الحروب المعاصرة أن السكان المدنيين والممتلكات المدنية يتعرضون لأخطار العمليات العسكرية، وأن العطش قد يكون في بعض الحالات أكثر فتكا من السلاح. ويَكْمُن حل هذه المشكلة في احترام القواعد المقبولة عالمياً.

ولذلك سنركز في الجزء الأول من مقالنا على أحكام القانون الإنساني المنطبقة على حماية الماء في زمن الحرب، دون الخوض في الجزء الثاني من مقالنا في بعض الاعتبارات التي تتعلق بحق الشروع في الحرب (الماء مصدر للنزاعات) أو التي تتعلق بالحالات التي تنشب فيها النزاعات بسبب المياه (4)، وسنتناول بالبحث بعض الجوانب العملية مع التنويه بدور اللجنة الدولية للصليب الأحمر والعناصر الأخرى للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وسندلي في الجزء الثالث من مقالنا ببعض الملاحظات الإجمالية.

أولا – حماية الماء في القانون الدولي الإنساني
من المعروف أن القانون الدولي الإنساني يحمي فئات معنية من الأشخاص والممتلكات، ولا يتضمن أي تنظيم محدد بشأن الماء، لأن الماء يخضع للقانون المطبق في زمن السلم. ولكن الآثار المترتبة على الأعمال العدائية قد تمتد إلى الماء أيضاً، بل يجب أن تنطبق عليه بعض قواعد القانون الإنساني التي تشمل حالات حظر محددة (ألف).

وعلاوة على ذلك، يعتبر الماء وفقا لأحكام صريحة كعنصر لا غنى عنه لتلبية الحاجات الأولية للأشخاص المحميين (باء). وأخيرا، يتعين التذكير في هذا الصدد بدور منظمات الدفاع المدني، كما قرره البروتوكول الأول لسنة 1977 (جيم).

(أ) حالات الحظر المتعلقة بتسيير الأعمال العدائية
علاوة على الحماية العامة التي تتمتع بها الأعيان ذات الطابع المدني، من الضروري أن نذكر بأن الماء يتمتع كعنصر لا يمكن فصله عن البيئة بكل معايير الحماية التي تنطبق عليه، حتى بصورة غير مباشرة (5). ودون إطالة الكلام عن هذا الجانب، ينبغي بالأحرى تأكيد أربع حالات أساسية للحظر تتعلق مباشرة بموضوعنا، وهي حظر استعمال السم كوسيلة للحرب، وحظر تدمير ممتلكات العدو، وحظر تدمير المواد التي لا غنى علنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، وحظر مهاجمة المنشآت التي تحوي قوى خطرة.

(1)حظر استعمال السم
تقرر هذه القاعدة العرفيةَ لائحةُ لاهاي (Réglement de La Haye) التي تنص في المادة 23 (أ) على أنه يحظر “استعمال السـم أو الأسلحة المسمومة). وقد سبـق لقانـون ليبر (Code Lieber) الذي نشر سنة 1863 وخصص لجيوش الولايات المتحدة أن اعتبر أن الضرورة العسكرية “لا تجيز بأي حال من الأحوال استعمال السم أو تخريب أي منطقة بشكل منظم” (6).

ويتضمن إعلان بروكسل لسنة 1874 ومدونة أكسفورد التي اعتمدها معهد القانون الدولي في سنة 1880 القاعدة ذاتها (7). وحتى إذا لم يشر النص إلى الماء مباشرة، فإن الحظر يمتد إلى هذا العنصر الحيوي، خاصة أن الحظر عام ولا يقتصر على الأسلحة وحدها (8).

(2) حظر تدمير ممتلكات العدو
يمكن أن يكون الماء جزءا من الملكية العامة أو الملكية الخاصة. وتقر لائحة لاهاي قاعدة راسخة إذ تحظر في مادتها 23 (ز) “تدمير أو مصادرة ممتلكات العدو، ما لم تحتم ضرورات الحرب أعمال التدمير أو المصادرة”. وقد تأكد هذا المبدأ من جديد في ميثاق محكمة نورمبرغ العسكرية الدولية واتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 (9).

وتعتبر الاتفاقية الأخيرة “تدمير الممتلكات والاستيلاء عليها على نحو لا تبرره ضرورات حربية وعلى نطاق كبير بطريقة غير مشروعة وتعسفية”(10). انتهاكا جسيماً، أي جريمة حرب. وثمة أحكام أخرى تؤيد هذه القاعدة، مثل حظر مصادرة الملكية الخاصة (11) وحظر السلب (12). وينطبق ذلك على أراضي الدول المعادية والأراضي المحتلة.

(3) حظر تدمير المواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة
إن ما تضمنته الأحكام المعتمدة سنة 1977 يُعْتبرُ على قدر كبير من الأهمية. وتتعلق هذه الأحكام الجديدة بالمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، ونذكر خاصة على سبيل البيان “المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها ومنشآت الري” (13).

والضرورة العسكرية وحدها هي التي تجيز لأي طرف في النزاع تدمير الممتلكات التي لا غنى عنها، شرط أن تقع في الجزء الخاضع لسيطرته (14) من الأراضي الوطنية. أما الصيغة التي اعتمدت لتحديد الأفعال التي يمكن أن تضر بهذه الممتلكات، فإنها ذكرت على نحو شامل لكل الحالات (“يحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل” الممتلكات). ونشير في هذا المضمار من بين جملة أمور، إلى تلوث خزانات المياه بالعوامل الكيميائية أو غيرها (15).

وقد استعملت الصيغة ذاتها في المادة 14 من البروتوكول الثاني التي تسرد كمثال للممتلكات التي لا غنى عنها “مرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري”. ولا ترفع حصانة الممتلكات التي لا غنى عنها إلا عندما تستخدم لتموين أفراد القوات المسلحة وحدهم أو لدعم عمل عسكري مباشرة. وحتى في مثل هذه الحالة، فإنه يتعين على المتحاربين الامتناع عن مباشرة أي أعمال من شأنها تجويع السكان أو حرمانهم من المياه التي لا غنى عتها ( 16) . ويحظر أيضاً أن تكون الممتلكات التي لا غنى عنها عرضة للأعمال الانتقامية (17). ومما يؤسف له أن هذا الحظر لا يرد في البروتوكول الثاني المتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية.

(4) حظر مهاجمة المنشآت التي تحوي قوى خطرة
نظراً للآثار الخطيرة للغاية التي قد تصيب حياة السكان وممتلكاتهم من جراء مهاجمة “المنشآت التي تحوي قوى خطرة”، فإن بروتوكولي سنة 1977 يحظران هذه المهاجمة، حتى لو تعلق الأمر بأهداف عسكرية (18). ولم يرد فيهما سوى ثلاثة أنواع من المنشآت، أي السدود والجسور والمحطات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية.

وقد أوضحت التجربة المكتسبة من النزاعات المسلحة أن هذه المنشآت تمثل أهدافا مفضلة قد يقرر تدميرها مصير المعركة، وحتى الحرب. ولما كان محررو البروتوكول الأول على وعى بالمخاطر التي تلازم هذا التدمير وتتجاوز إلى حد بعيد الأهداف العسكرية المشروعة محل الهجوم، فإنهم عززوا الحماية الخاصة الوارد ذكرها أعلاه بشروط إضافية أهمها ما يأتي:

لا تخضع حتى الأهداف العسكرية التي تقع في المنشآت المعنية أو على مقربة منها لأي هجوم “إذا كان من شأن مثل هذا الهجوم أن يتسبب في انطلاق قوى خطرة (…) ترتب خسائر فادحة بين السكان المدنيين” (19).

ولا ترفع الحصانة المنصوص عليها لحماية فئتي المنشآت من الهجوم (السدود والجسور والمحطات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية من جهة، والأهداف العسكرية التي تقع في هذه المنشآت أو على مقربة منها من جهة أخرى) إلا إذا استخدمت إحدى هذه المنشآت “دعما للعمليات العسكرية على نحو منتظم وهام ومباشر”، وكان الهجوم “السبيل الوحيد المستطاع لإنهاء ذلك الدعم” (20).

وتلزم الفقرة الثالثة من المادة ذاتها المتحاربين باتخاذ الاحتياطات الضرورية لكي يتمتع السكان المدنيون والأفراد المدنيون بالحماية التي يكفلها لهم القانون الدولي. ولم يرد أي حكم بشأن الاحتياطات الواجب اتخاذها لحماية الممتلكات المدنية، لكن بإمكاننا أن نستنتج أن الجملة الثانية من الفقرة تشملها أيضاً.

ويحظر أن تتعرض المنشآت والأهداف العسكرية المذكورة للأعمال الانتقامية (21)، ويخفف من شدة الحظر العام لإقامة أهداف عسكرية على مقربة من هذه المنشآت قبول إقامة منشآت دفاعية وذات أسلحة دفاعية لحماية هذه المنشآت بالذات (22)ز وترك الباب مفتوحاً أمام الأطراف لإبرام اتفاقات خاصة من شأنها “توفير حماية إضافية للأعيان التي تحوي قوى خطرة” وتيسير التعرف عليها وفقاً للعلامة الموضحة في البرتوكول الأول (الملحق الأول، المادة 17 (23). وفي ما يخص الزجر، فإن ” شن هجوم على الأشغال الهندسية أو المنشآت التي تحوي قرى خطرة عن معرفة بأن مثل هذا الهجوم يسبب خسائر بالغة في الأرواح، أو إصابات للأشخاص المدنيين، أو أضراراً للأعيان المدنية، كما جاء في الفقرة الثانية “أ” ثالثا من المادة 57″ يشكل انتهاكا جسيماً (24).

ويمكن الاستدلال من هذا الحكم خاصة أنه يشمل الأفراد المدنيين والممتلكات المدنية، ويتمشى بالتالي مع ملاحظتنا السابقة بصدد الإغفال الملحوظ في الفقرة الثالثة من المادة 56.

إن احترام هذه القواعد المنطبقة على تسيير الأعمال العدائية من شأنه أن يضمن حماية ناجحة لموارد المياه ومنشآتها، التي لا غنى عنها لمعيشة السكان كافة. وتقع التزامات أخرى على عاتق أطراف النزاع في مضمار حماية الضحايا، من بينها الالتزام بتوفير الماء.

ب – الماء عنصر لا غنى عنه لضمان حياة الأشخاص المحميين
يستهدف القانون الإنساني ضمان الحد الأدنى من الظروف الملائمة لحياة عادية للأشخاص الذين يفترض أن يحميهم. وتمثل المعاملة الإنسانية أساساً لهذه الحياة العادية، التي تصبح حقيقة ملموسة في حالة تلبية الاحتياجات الأولية للإنسان.

ونعني بالاحتياجات الأولية الماء. ويجب أن نلاحظ عموماً أنه لا يمكن التفكير في إغاثة الجرحى والمرضى ورعايتهم دون ماء. فأفراد الخدمات الطبية بحاجة إلى الماء لمزاولة عملهم. وينطبق ذلك أيضاً على المعدات والمنشآت الطبية، وكذلك على الاحتياجات الصحية والرعاية الطبية في كل مكان يتواجد فيه أشخاص محميون. ويتضح ذلك جلياً حتى أنه لم يكن من الضروري النص على قواعد محددة في هذا الشأن. وعلى العكس، كان لابد من ذكر حكم صريح في بعض الأحوال، كما تشير إلى ذلك بعض أحكام الاتفاقيتين الثالثة والرابعة (25).

فالمادة 20 (2) من الاتفاقية الثالثة تنص على أنه يتعين “على الدولة الحاجزة أن تزود أسرى الحرب الذين يتم إجلاؤهم بكميات كافية من ماء الشرب والطعام وبالملابس والرعاية الطبية اللازمة”. والالتزام نفسه منصوص عليه في المادة 46 (3) من الاتفاقية ذاتها في حالة نقل أسرى الحرب، وفي المادة 127 (2) من الاتفاقية الرابعة في حالة نقل المعتقلين . وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن ماء الشرب هو أيضاً موضع فقرة منفصلة من مادة مشتركة بين الاتفاقيتين، ومخصصة لتغذية أسرى الحرب والمعتقلين المدنيين (26).

جيم – دور منظمات الدفاع المدني
ينبغي الإشارة بوجه خاص إلى أن إحدى المهمات الإنسانية للدفاع المدني الذي حدد نظامه بموجب الأحكام الجديدة للبروتوكول الأول لسنة 1977 تتمثل في ضمان “الإصلاحات العاجلة للمرافق العامة التي لا غنى عنها”. ويجب أن نضيف إلى ذلك بعض المهمات الأخرى المنصوص عليها تلبية لمصلحة السكان المدنيين، مثل مكافحة الحرائق، وتوفير المؤن في حالات الطوارئ، والحفاظ على الأعيان اللازمة للبقاء على قيد الحياة.

وحتى إذا كان أفراد الدفاع المدني لا يمارسون عملهم سوى في الأراضي الوطنية سواء كانت محتلة أم لا، فإن هذه الأحكام تدعم الحماية الممنوحة للأعيان المدنية، ومن شأن تطبيقها تطبيقاً أميناً أن يسهم إسهاماً قيماً في المساعدة المقدمة للسكان المدنيين. ولذلك، يجب تأكيد واحترام دول الدفاع المدني في الحفاظ على مخزون المياه ونظم تموينها الأخرى (27).

إن هذا التركيز المقتضب بالقواعد ذات الصلة يدل على أن حماية الماء في زمن النزاع المسلح هي جزء من القانون الإنساني (28)، وأن هذا القانون في أحدث مرحلة من مراحل تقنينه أخذ بعين الاعتبار تأثير الحروب المعاصرة على المنشآت المائية ومخزونات مياه الشرب. والضرار التي تلحق بالماء نتيجة للأعمال العدائية من المحتمل أن تهدد في الواقع حيوانات ونباتات أي منطقة، وتقضي على كل علامة للحياة، وتجبر سكاناً بأكملهم على النزوح عن ديارهم. وخير شهود على ذلك في أكثر من مضمار هم المسؤولون عن العمل الإنساني، الذين يطلب إليهم القيام بأعمال بالغة الأهمية في هذا المجال.

ثانيا: دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر والعناصر الأخرى للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر
تتمسك اللجنة الدولية للصليب الأحمر باتباع نظام للأولويات يستند إلى المصلحة المباشرة للأشخاص المحميين، في إطار تأدية مهماتها الإنسانية لمصلحة ضحايا النزاعات المسلحة على أساس أحكام القانون الدولي الإنساني . وكل عمل يهدف إلى حماية الماء أو أي نوع آخر من الأعيان المدنية ما هو في النهاية إلا وسيلة تسمح بمساعدة الضحايا.

وإذا احترم المتحاربون المنشآت المائية والشبكات المدنية للإمداد بالمياه كما ينص القانون الإنساني على ذلك، فإن اللجنة الدولية تكرس جهودها للمهمات العديدة الأخرى التي يتعين عليها إنجازها في زمن الحرب.

وعلى العكس، فإن تدمير هذه المنشآت والشبكات يتطلب ردوداً وحلولاً فورية، لأن من شأن أي تأخير في إصلاح الأعيان المتضررة أو أي عرقلة لأشغال الإصلاح أن يسبب عواقب مأساوية للسكان ووسائل بقائهم على قيد الحياة. وقد كشفت بعض النزاعات الحديثة أو الراهنة خطورة المشكلات المترتبة على الأضرار التي تلحق بمخزون المياه ونظم الإمداد. وحيال جسامة هذه المشكلات، يمكن لنا أن نحلل عمل اللجنة الدولية على أنه عمل علاجي ووقائي في آن واحد.

(أ) العمل العلاجي
يجب التشديد هنا على أمرين، هما توزيع الماء وإصلاح نظم الإمداد.

(1) توزيع الماء
إذا اقتصرنا على ذكر مثل واحد على هذا النوع من العمل، فإنه ينبغي أن نشير إلى أن اللجنة الدولية شرعت فور بداية حرب الخليج الثانية في توفير الماء والمواد الغذائية والأدوية لعشرات الآلاف من المواطنين الأجانب الفارين من العراق والكويت. واستطاعت مخيمات العبور التي أنشئت في الأردن بمساعدة الهلال الأحمر الأردني ن توفير شروط صحية مرضية(29).

وفي العراق، تطلب الأمر مساعدة الأهالي، بل كذلك المرافق المحلية لإعادة توزيع المياه الصالحة للشرب. وبناء على ذلك، تم إعداد برنامج لتوزيع الماء الصالح للشرب في أكياس من البلاستيك يستوعب كل منها لتراً من الماء، لتلبية حاجات المستشفيات ومراكز الصحة. وفي بعض المراكز العمرانية الواقعة في جنوب وشمال العراق، سمحت شاحنات صهريجية بإمداد سكان الأحياء المحرومة بمياه الشرب (30). ويتميز توزيع المياه طبقا لهذا العمل بالسرعة والفعالية، غير أنه لا يمكن أن يحل محل النظم التقليدية لتوزيع المياه عن طريق الشبكات، التي هي أكثر نجاحاً ولو أن إصلاحها يتطلب وقتاً أطول في أغلب الأحيان.

(2) إصلاح نظم معالجة وتوزيع مياه الشرب
في حالات النزاعات المسلحة، غالباً ما تتضرر محطات توليد الطاقة، مما قد يؤدي إلى تعطيل نظام الإمداد وتوزيع الماء أو نظام صرف المياه المستعملة. وفضلا عن الحرمان المترتب على ذلك، تزداد مخاطر انتشار الأوبئة، وتصبح أشغال الإصلاح أكثر تكلفة وأطول أمداً، بل مستحيلة. والضرورة العاجلة التي تفرضها مثل هذه الظروف تحتم على اللجنة الدولية بذل أقصى جهودها لضمان حد أدنى من الحماية للأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، وحفظ أو ضمان الشروط الصحية الدنيا.

ولهذا الغرض، تستعين اللجنة الدولية بالمهندسين والمختصين بالصحة العامة الذين تتمثل واجباتهم الرئيسية في إصلاح المنشآت المتضررة من جهة، وإعداد البرامج والخطط الضرورية لحل المشكلات الناجمة عن الضرورة العاجلة من جهة أخرى (31).

وإذا استشهدنا من جديد بالأعمال التي اضطلعت بها اللجنة الدولية في العراق منذ شهر مارس/آذار 1991، فإننا نلاحظ أنها وضعت برنامجاً لتطهير المياه يستند إلى إعادة تشغيل منشآت معالجة وتوزيع المياه في كل أنحاء العراق، بالإضافة إلى توزيع المياه السابق ذكره ولهذا الغرض، تسلمت مرافق المياه العراقية المعدات الضرورية للصيانة والمواد الكيميائية اللازمة لمعالجة المياه وبعض قطع الغيار. وبفضل ذلك البرنامج، تم تجنيب مخاطر أوبئة مثل الكوليرا والتيفوس (32). وفي سنة 1994، نفذت اللجنة الدولية برنامجاً استهدف تزويد مرافق المياه العراقية بقطع للغيار لكي تتمكن من صيانة أو إصلاح نحو مائة وحدة متوسطة الحجم لمعالجة المياه (50 م3 في الساعة علاوة على عدة محطات أخرى متوسطة الحجم أيضاً (100 ألف م3 في اليوم) (33).

وفي اليمن، ألحق النزاع الداخلي الذي اندلع في سنة 1994 أضراراً بمحطة “بئر ناصر” لضخ المياه، والتي كانت تؤمن المياه لمدينة عدن. ولولا توفر المياه في آبار عدن لكانت العواقب وخيمة على سكان المدينة.

وقد تمكنت فرق مهندسي اللجنة الدولية بمساعدة السلطات المحلية من تحسين استغلال الآبار الواقعة في الميادين العامة والمساجد، وتركيب المولدات والمضخات، وإصلاح واستبدال أنابيب المياه والخزانات المتضررة. وبعد نهاية النزاع، أعدت اللجنة الدولية على الفور نظاماً لتوزيع المياه عن طريق الشاحنات الصهريجية. وقد انتفع بذلك النظام كل السكان، وبالدرجة الأولى النازحون والمعتقلون ونزلاء المستشفيات. وعلاوة على ذلك، نجح المهندسون اليمنيون في إصلاح محطتي “بئر ناصر” و”لحج” لضخ المياه، بمساعدة اللجنة الدولية التي قدمت لهم مساندة لوجستية ومعدات ومساعدات تقنية (34).

ومن المحتمل أن تمتد عواقب أي نزاع مسلح إلى ما بعد فترة الأعمال العدائية النشطة، كما تبين لنا ذلك من المثلين الآنف ذكرهما، ومن المحتمل بالتالي أن تجد اللجنة الدولية نفسها مضطرة إلى تمديد أنشطتها لتسهيل شروط الوصول إلى المياه الصالحة للشرب. وإزاء أهمية حجم الطلب والمشكلات القائمة، تستعين اللجنة الدولية بالإضافة إلى فرقها بعدد من العاملين المؤهلين الذين تختارهم من بين العاملين في الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر أيضاً. وعلى كل حال، فإن دور عناصر الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر في حماية نظم الإمداد بالمياه (35) يجب ألا يقتصر على العمل العلاجي.

باء – العمل الوقائي
على الرغم من أن المثلين الآنف ذكرهما أو بعض الحالات المشابهة الأخرى تتضمن جوانب وقائية أيضا، فإنه يبدو لنا من المهم التشديد على مسألتين بوجه خاص.

(1) المساعي الواجب القيام بها لدى أطراف النزاع
لما كانت اللجنة الدولية تسهر على تطبيق القانون الدولي الإنساني بأمانة (36)، فإنه يتعين عليها أن تقوم بكل المساعي الضرورية لضمان احترام قواعد هذا القانون. وإذا كانت مساعيها سرية من حيث المبدأ، إلا أنها قد تكون علنية تبعاً لشروط معينة (37)، وينطبق ذلك على الانتهاكات التي تعود بالضرر على الأشخاص المحميين أو الأعيان المحمية.

وفي هذا الصدد، فإن أي تعدٍ متعمد على المنشآت المائية ومستودعات مياه الشرب المخصصة للاستعمال المدني يجب أن يكون محل مساع ملائمة بغية وقف الانتهاكات وتجنب تكرارها واتخاذ التدابير الضرورية لردع مرتكبيها. ويجب أن تذكر النداءات العلنية التي تصدرها اللجنة الدولية بمبادئ القانون الساري عند الاقتضاء.

(2) تعبئة الرأي العام واستقطابه
إن الجهود التي تبذل في فترة النزاع المسلح لا تستبعد، كما سبق توضيحه، المبادرات التي تقوم في زمن السلم لشرح القانون القائم على نحو أفضل واستقطاب الرأي العام والمسؤولين عن اتخاذ القرارات بشأن ظروف معيشة السكان. ودون إثارة المخاوف دون داع، يجب أن تسهم الدروس المستفادة من مختلف حالات النزاع في توجيه العمل الإنساني على نحو أفضل والمساعدة على حل المشكلات بصورة فعالة.

وهذا ما ورد في بعض استنتاجات ندوة نظمتها اللجنة الدولية في مدينة مونترو بسويسراً سنة 1994 عن المياه والنزاعات المسلحة (38)، وشارك فيها نحو خمسين خبيراً مختصاً من بعض منظمات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية ورجال القانون والمهندسين الصحيين والعلماء وأعضاء الجمعيات الوطنية والاتحاد الدولية لهذه الجمعيات والصحفيين المختصين.

ففي ختام أعمال الندوة، قرر المشاركون فيها العمل على تحقيق بعض الأهداف، لا سيما:
– ضمان حماية أفضل (من الناحيتين المادية والقانونية) لنظم الإمداد بالمياه، وكذلك للمهندسين الصحيين؛
– تعزيز التعاون في هذا المجال بين اللجنة الدولية والجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر واتحادها ومنظمات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص؛
– تحسين التنسيق والتعاون في مجال تبادل المعلومات والمعارف والخبرات المناسبة؛
– التماس مساعدة القطاع الخاص لإصلاح شبكات الإمداد بالمياه عند تضررها بالأعمال العدائية أو بعدها؛

– اتخاذ التدابير الوقائية الضرورية في زمن السلم لتفادي أو حصر الآثار الضارة من جراء النقص في المياه في زمن الحرب وتوسيع نطاق العمليات الطبية العاجلة في زمن الحرب لكي تشمل لأنشطة الصحة العامة؛

– السهر على أوسع نطاق ممكن على نشر القواعد الدولية التي تحمي مخازن ومنشآت الإمداد بالمياه، والإلمام بها، عن طريق الأعلام والتربية في كل مستويات المجتمع.

وليس بإمكان أي منظمة أن تحقق هذه الأهداف وحدها، بل يتطلب الأمر توحيد جهود الجميع، وعلى الأخص العمل المتفق عليه بين جميع عناصر الحركة. وإذا كان التدخل العاجل في فترة نشوب نزاع مسلح أو وقوع كوارث طبيعية يحظى بالأولوية، إلا أنه ينبغي للحركة أن تهتم أيضاً بالحالات الأخرى التي تتزعزع فيها الأوضاع. وفضلا عن ذلك، من المحتمل أن يجابه السكان والمنظمات الإنسانية المشكلات ذاتها في هاتين الحالتين الملحتين، علما بأن الحاجة إلى الماء والصحة العامة تتمتع بالأولوية في كلتا الحالتين.

ولذلك، تدعو الضرورة إلى إعداد برامج ملائمة، واختيار وتدريب عاملين مؤهلين، لكي يمكن تجاوز العمل الطارئ البسيط، حيث أن الصحة العامة محكوم عليها بالشلل دون مياه صالحة للشرب، كما أن أكثر خطط الرعاية الطبية تطوراً مكتوب لها الفشل دون الصحة العامة. ويجب أيضا توضيح أن الأنشطة التي تخططها أو تنفذها عناصر الحركة سواء منفردة أو مجتمعة لمواجهة الصعوبات الآنف ذكرها لا تقتصر عليها وحدها على الإطلاق، بل يجب أن يمتد التعاون أيضاً إلى الأوساط المتخصصة الخارجية لإعداد أعمال مشتركة عند الضرورة. ويتطلب هذا التعاون حداً أدنى من التماسك والتنسيق (39).

ثالثاً – ملاحظات ختامية
(1) من المحتمل أثناء النزاعات المسلحة أن تكون المياه هدفاً للحرب، أو تستعمل كوسيلة للحرب. وفي كلتا الحالتين، ومادام الأمر يتعلق بعين مدني لا غنى عنه فضلا عن ذلك لبقاء السكان على قيد الحياة، فإن الحرب التي تشن على المياه أو بواسطة المياه لا يمكن التوفيق بينها وبين مبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني التي سبق التذكير بها. ولذلك، يجب التذكير بقوة بأهمية الأحكام ذات الصلة، وبالالتزام بتنفيذها عملياً.

(2) إن التهديد الذي تتعرض له البيئة هو بعينه التهديد الذي تتعرض له المياه. ولما كان المجتمع الدولي قد اعترف باختصاص اللجنة الدولية للصليب الأحمر بحماية البيئة إبان النزاعات المسلحة، فإن المياه التي تمثل مورداً حيوياً في كل الأحوال يجب أن تنتفع من هذا الاعتراف أيضا، وينبغي التشديد على ضرورة حماية المياه في حد ذاتها من الآثار الملوثة والمخربة التي تحدثها النزاعات المسلحة.

(3) يتعلق الجزء الأكبر من أحكام القانون الإنساني ذات الصلة بحالات النزاعات المسلحة الدولية، ولم تطور بعد بما فيه الكفاية القواعد المنطبقة على النزاعات الداخلية، بل إن بعض الحالات الأخرى التي تنشب فيها أعمال العنف المسلح الداخلي تفلت من نطاق تطبيق القانون الدولي الإنساني. بيد أن التوترات المرتبطة بالمياه والتعديات التي تلحق بموارد المياه ومنشآتها هي أكثر شيوعاً في بعض الأحيان في حالات النزاعات والاضطرابات الداخلية.

(4) في مختلف الحالات التي يندلع فيها أعمال العنف المسلح (النزاعات والتوترات والاضطرابات)، يتعين على اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تفي بمهامها (طبقا للاتفاقيات أو النظام الأساسي حسب الحال)، مما يسمح لها بأن تتواجد في ميدان العمل وتتصرف دون إبطاء وتتدارك المصاعب، وتنفذ برامج تطهير المياه أو تشارك فيها على هذا الأساس.

وتحضها طبيعة النزاعات الناشبة اليوم على زيادة مبادراتها وإيجاد الحلول المناسبة في حدود إمكاناتها. وعلى هذا الأساس، فإن عمل اللجنة الدولية لا غنى عنه لمساعدة السكان المتضررين من جراء أعمال العنف المسلح، والدوائر المعنية بإصلاح المنشآت المائية المتضررة، وتقديم الخبرة التقنية عند الضرورة، لأن بقاء هؤلاء السكان وتشغيل نظامهم الإنتاجي يتوقفان على الماء.

(5) مهما كانت غايات وأولويات العمل الرامي إلى حماية المياه، فإنه يجب على المعنيين الرئيسيين القيام بمبادرات تستند إلى تبادل المعلومات والتشاور والتنسيق، لأنه لا غنى عن هذه العوامل في نظرنا لإعداد خطط العمل التي تفرضها الحالات الطارئة من جهة، وإيجاد حلول للوقاية من جهة أخرى. وإذا شددنا على دور اللجنة الدولية وغيرها من عناصر الحركة، فإن السبب في ذلك يرجع إلى مهمات كل منها، والي المبادئ التي توجه عملها. بيد أن العواقب العديدة والمعقدة لما للنزاعات المسلحة من آثار على المياه تستدعي جهوداً تكميلية أخرى.