كل مجتمع كبير كان أو صغير يقوم على ثقافة تجمع أفراده وتغذي عقولهم وتكون بمثابة هوية لهم. قد تكون ثقافة هادفة وقد تكون ثقافة هادمة؛ أي قد تكون للمجتمع هوية صالحة أو هوية فاسدة يدرك المجتمع قيمتها وفائدتها الإيجابية أو السلبية وقت الحصاد.

وبعض المجتمعات – تحت القيادة الفطنة ونتيجة لثقافتها المنفتحة – تتوقع الكوارث قبل حدوثها فينشدوا التغيير والتجديد الدائم تفاديا للكوارث المدمرة.

والبعض الآخر – نتيجة للثقافة المنغلقة – يغط فى النوم ولا يدرك الكارثة إلى بعد وقوعها، فيأتي الإنقاذ بطيئا وصعبا وقد يستغرق سنين وسنين من المعناة مع ثقافة المجتمع الراسخة. وثقافات المجتمعات تختلف بين كونها ثقافة عدل وإحترام وأمانة، ونتيجتها المتوقعة هي الإبداع والإبتكار والتجديد كمنهج لضمان إستمرارية نجاح المجتمع، وبين ثقافة الظلم والإستعباد وقول الزور، وتأتي النتيجة المتوقعة فى صورة الإرهاب الفكري والإجتماعي والكراهية المتبادلة بين الأفراد الغير متساويين فكريا أو عقائديا أو إجتماعيا.

إذا نظرنا لمجتمعنا العربي عامة والمصري خاصة، بدأ من الأسرة الصغيرة إلى مجتمع المدرسة إلى عالم المال والأعمال ومنها إلى المنتديات والديوانيات والتجمعات، ستجده مجتمع يغط فى ثقافة الإرهاب الفكري والكراهية. فإذا درست أي جزء من المجتمعات المصرية المختلفة ستجد ثقافة الإرهاب الفكري قوام أساسي لهذا المجتمع وحتما ستجد فى كل جزء إجتماعي عنصر من عناصر الظلم أو الإستعباد أو قول الزور.

الإرهاب الفكري والإجتماعي الذى نتبناه جميعا نمارسه يوميا مع أزواجنا وصغارنا وموظفينا وزملائنا وأقراننا وأصدقاءنا. الأرهاب الفكري الذى كمموا به أفواهنا منذ الصغر، فخفنا الصفع على الوجه من الأباء والضرب بالعصا من المعلميين، والنبذ والطرد من المسئولين والسجن والتعذيب من الجلادين وأخيرا رهبنا الأكثر تأثيرا وهو الأقرع الذى يقرع من حاول أن يجادل بالحق.

وخرج علينا حراس الإرهاب بخطابهم الديني لضمان إخراس جميع الأصوات، فأصبح الصمت مقاومتنا والخزي هويتنا. ونتيجة الإرهاب الفكري ضد الإبداع والتجديد الذى أدي إلى الصمت الرهيب على الظلم والفساد، ظهرت الكراهية كحصاد منطقي لهذه الثقافة.

فأصبحت الكراهية هي سمة من سمات مجتمعنا مرسومة على الوجوه العابسة للمارة فى الشوارع، نكره من يقول الحق، نكره من يفعل الخير، نكره من يقدم فكرا جديدا أو منهاجا مختلفا، نكره من يعيش بكرامة ونحقد عليه، ، نكره المثقفين والمفكرين ونكفرهم، يكره المسلمون الأقباط ويحقد الأقباط على المسلمين.

صور الكراهية المنتشرة فى تعاملاتنا و وأقوالنا أكبر دليل على عدم إتساع أفقنا الفكري لأننا لم نعتاد أن يكون لنا أفق فكري من الأساس. لا نعرف كيف نطلق العنان لأفكارنا لنعبر عما بداخلنا من ثورة إنسانية تقود إلى النجاح. الكراهية والإهانة والقذف تنتظر كل من حاول أن يطرح رأي مخالف للثقافة الفاسدة التي نغوص فى أعماقها.

ونتيجة لهذه الثقافة الإرهابية أصبح المجتمع المصري يرتع فى كارثة إنسانية وبشرية، وإذا لم نحرك ساكنا ستنهار المؤسسة بمن فيها. فإذا لم يتحرك المثقفون والمفكرون والمبدعون والخبراء لإحداث التغيير ووضع إستراتيجيات التعديل، حتما ستأتي ثورة الهمج والبلطجية والتي ستكون أسوء من الثورة الفرنسية التي قاموا فيها بقطع رأس كل من شكوا أنه نعم بحياة كريمة: مثل خدم الأرستقراط؛ فحتي الخدم لم يسلموا من قطع الرأس لأنهم نعموا بأكل الجاتوه من مخلفات مخدوميهم بينما الشعب كان يأكل التراب من الجوع.

نحن فى أيامنا هذه نعيش داخل إطار الكارثة بكل مقوماتها فلا تدفسوا الرؤوس فى التراب وتدعوا أن مصر بخير ومنورة بأهلها! فسماء مصر يعلوها سحابة سوداء من عوادم السيارات الغير صالحة للإستعمال الآدمي، ويستطيع أي إنسان يحلق فى سماء مصر أن يري السماء الملوثة التي يستنشق هواءها الصغار قبل الكبار، أهذا ما نرضاه لأولادنا!

أنستطيع أن نطالب بسماء أطهر؟ المواطن المصري البسيط إذا مرض لا يجد رعاية آدمية تشعره إنه إنسان له كرامة مصانة، وإذا نال شبه الرعاية جاءه التسمم والكبد الوبائي وإنتقلت له الأمراض نتيجة الفساد الطبي، أهذا ما نرضاه للأجيال القادمة! أنستطيع أن نطالب بحقنا فى العيش بكرامة؟ التعليم عقيم ومتخلف لا يفرخ إلى حاملي شهادات لا تنفع ولا تضر ليجلسوا بجانب سالفيهم على دكك الإحتياطي فى إنتظار الدور، أهذا هو المستقبل الذي ننشده لأولادنا! أنستطيع أن نطالب بمنهاج علمي عملي يضع الجامعات المصرية على قائمة أفضل جامعات العالم؟

العنوسة التي أصبحت كارثة تتحطم على أبوابها نفسية وكرامة وأخلاق الفتاة المصرية، وعزوف الشباب عن الزواج بسبب الفقر واليأس الذى سبب لهم أيضا العجز الجنسي، أهذا ما نحلم به لأولادنا؛ بنات “عوانس” وفتيان “عواجز”! أنستطيع أن نطالب بأبسط الحقوق السيكولوجية لشبابنا؟ المصري أصبح بلا كرامة فى الدول العربية وتعمل غالبية العمالة المصرية بأسلوب “الخراج” ولا حقوق لهم عند سيدهم العربي، فكيف يكون لمن لا كرامة له أي حقوق! أهذا هو حالنا بعد أن كنا نصدر للإخوة العرب المعلمين والعلماء، أصبحنا نصدر لهم العتالين والخدم ليساقوا مثل الغنم! أنستطيع أن نطالب برد إعتبارنا كمصريين بعيدا عن شعارات النفاق القومية؟ السجون المصرية التي إمتلأت بالمظلومين وأصحاب الحقوق الضائعة،

الا تخافون أن يأتي الدور على أولادكم وأزواجكم ويكون مصيرهم خلف القضبان! أنستطيع أن نطالب بالعدل فى أمورنا أم أن الضرب على القفا فى إنتظارنا؟ الغذاء أصبح خطر على الصحة من مسرطنات وحمي قلاعية وماء فاسد ونيل ملوث وأصبحت مصر على لائحة الدول الخطر السفر إليها نتيجة لتفشي الأمراض! أهذا هو المجتمع الصالح الذى تحلمون به لأولدكم!! أنستطيع أن نصرخ بأن العقل السليم فى الجسم السليم؟ أين الشعب، أين الرجال، أين النخوة…

للأسف، البرامج التلفازية لاهية من مسابقات جمال فاني، إلى فتاوي مفصلة على المقاس، إلى رقصات وحلقات هابطة، إلى دعاة يتكلمون فى الهيافة، إلى مبارايات حمراء يقف فيها هذا المصري المقهور مهللا بقبعة حمراء مثل الأراجوز مقلدا للغربي، ولكن الفرق بينه وبين الغربي أن الغربي يعيش بكرامة فلا يهمه أن يكون أراجوزا فى تشجيعه للعبة ما، أما نحن فنقلد فى التفاهة فقط فأصبحنا أراجوزات على كل المستويات.

لابد من فك الأغلال والقيود عن العقلية المصرية. علينا التخلص من الإرهاب الفكري والإجتماعي لتعلو الأصوات المثقفة ويستعيد المجتمع المصري كرامته وهيبته العربية والعالمية. إطلاق الحرية للفكر والإبداع والتجديد هو المخرج الوحيد. التغيير هو المطلوب، التغير من أسفل إلى أعلي وليس العكس؛ القاعدة فاسدة ولن تنصلح القمة بلا إصلاح للقاعدة. نعم لكل تغيير سلبياته ولكن لن تكون أبدا سلبياته فى حجم الغيبوبة المدمرة التي لا نفيق منها أبدا. أعطوا الفرصة للمثقفين والمبدعين ليقدموا ما عندهم، لقد وصلنا إلى حائط سد فلنعطي الفرصة للعقول الجديدة لتخرجنا إلى النور. لا ترهبوا المبدعين والمفكرين، حاوروهم وناقشوهم، فقد تجدوا عندهم ضالتكم المنشودة.