الإسلام والدستور

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن مـحمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فـإن الدستور أو القانون الدستوري فـرع من فـروع القانون العام، والدستور لأي دولة كـانت يعبر عن فكر تلك الدولة واتجـاهها الديني والاجتماعي؛ لأن الدستور هو القانون المهيمن، والموجه لقوانين تلك الدولة ونظمها.
وهذه الأهمية للدستور أحد الأسباب التي دفـعتني لهذا البـحث، وبخاصة معالجـته من الناحية الإسلامية ومحاولة توضيح أسس الأحكام الدستورية في الشريعة الإسلامية، ومن ثم دراسة لبعض تطبيقاتها منذ قيام الدولة الإسلامية في عهد الرسول r إلى عصرنا الحاضر.
وما من شك في أن بحث موضوع كهذا من هذه الزاوية من الأهمية بمكان، لأهمية الأحكام الدستورية بين الأحكـام والنظم الأخرى، ولأهمية دراسة الدستور في الإسلام وذلك بتحديد قواعده، مما يسهم في إثراء البحث العلمي في الشريعة الإسلامية في العصر الراهن، سواء من ناحية تبيين ما عليه الشريعة الإسلامية في هذا المجال، أم من ناحية الدراسات المقارنة.
ولذلك كان اختيار موضوع ” الإسلام والدستور ” ([1]) الذي حاولت فيه تبيين وجهة النظر القانونية البحتة للدستور، ثم تبيين وجهة النظر في الإسـلام، بحـيث يجـمع البـحث بين الدراسـة القـانونيـة والشـرعيـة، واستعراض الواقـع الدستوري للدولة الإسلامية على مر عصورها من خلال دراسة بعض الوقائع الدستورية في التاريخ الإسلامي.
والحقيقة أن البحث في الأحكام الدستورية الإسلامية ليس جديدا ومستحدثا، فـالفقهاء المسلمون القدامى بحثوا هذا الموضوع وبينوا تلك الأحكام في مختلف أبواب الفقه وكتب السياسة الشرعية.
وقد تقدمت الدراسات الدستورية والقانونية في هذا الوقت وأصبحت لها أبحاث ودراسات مستقلة مما يتطلب من الباحثين والمفكرين المسلمين المعـاصـرين أن يؤصلوا الدراسـات الدستورية، ويبـينوا وجـهة النظر الإسلامية ويستنبطوا الأحكام للوقائع المستجدة، وإذا نظر الباحث إلى الدراسات الدستورية المعاصرة، يجد أن الذين تعرضوا لهذا الموضوع، منهم من يغلب عليه الطابع القانوني البـحت، ومنهم من يعرض الموضوع بشكل عام دون تفصيل، ومنهم من يبـحث جـزئيات من الموضوع عند دراسة النظام السياسي الإسلامي، مما يجعل سير الباحث في هذا الطريق صعبا وشاقا.
إن أهم مصادر هذا البحث تتركز في كتب السياسة الشرعية، والكتب والدراسات الدستورية والقانونية الوضعية، والكتب المعاصرة التي تبـحث في النظام السياسي، بالإضافـة إلى الوثائق والنصوص المشتملة على بعض القوانين والنظم المطبقة في بعض البلدان.
ومن أهم الصـعوبات التي واجـهتها في هذا البـحث، قلة المراجع الحديثة التي تخدم موضوع البحث، وبخاصة الدراسات التي تبحث في النظام الدستوري الإسلامي بحثا مقارنا مع النظم الوضعية، أو تلك التي تؤصل للنظام الدستوري الإسلامي وتبين أحكامه وقواعده من مصادره ومظانه الأصلية من الكتاب والسنة وما سطره علماء المسلمين الأوائل في هذا المجال.
كما أن حساسية البحث في الموضوع تشكل عائقا أمام الباحث في هذا المجال؛ نظرا لخطورة الموضوعات والمباحث التي تتعلق بهذا الجانب ودقتها.
ولقد حاولت أن أقدم هذا الموضوع بشكل متكامل، جامعا فيه خلاصة ما اطلعت عليه مما كتبه الآخرون، محللا لبعض آرائهم، ولا أزعم أنني أعطيت الموضوع حـقه كاملا، ولعل عذري في ذلك أن الموضوع لا يزال بكرا، ولم يحظ بدراسات علمية شاملة وعميقة، ولكنني حاولت وبجهد المقل أن يكون البحث شاملا، بقدر الاستطاعة وكم تمنيت أني قد توصلت إلى نتائج أكبر مما كان.
والمجال متسع للباحثين فيما بعد لاستكمال البحث في هذا الموضوع، والتوسع فيه، والعناية به بشكل أكبر.
ولقد ابتعدت قدر الإمكان عن العاطفة الشخصية والآراء المسبقة ما استطعت إلى ذلك سبيـلا، واستخـدمت عدة مناهج علمية حسب ما اقتضته طبيعة البحث، فاستخدمت المنهج التاريخي فيما كان له الطابع التاريـخي من البحث، أو نسق من أقوال العلماء، ثم التحليل على أساس تلك القاعدة، أو ذلك النسق، واستخـدمت المنهج المقارن عند الحـاجـة لمقارنة الآراء والحجج مع بعضها.
ولقد تم عزو الآيات القرآنية إلى سورها وتخريج الأحاديث النبوية التي تم الاستشهاد بها في هذا البحث، كما أرجعت الاقتباسات والنقول إلى مراجعها في كل مكان يتم فيه الاقتباس أو النقل، وأثبت أهم المراجع في فهرس مستقل في آخر الكتاب.
وبعد: حسبي أني قدمت ما استطعت من جهد ووقت لإخـراج هذا البحث، سائلا الله جل وعلا أن يتقبل هذا العمل ويجعله خالصا لوجهه، وأحمد الله وأشكره وأثني عليه بما أنعم به من إكمال هذا البحث.
وفي الختام أرجو الله القبول والتوفيق والسداد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،
كتبه توفيق بن عبد العزيز السديري
الباب الأول
تعريفات ضرورية
سيكون الحديث في الباب الأول عن بعض المواضيع الرئيسة التي لا بد منها للتمهيد لموضوع البحث الرئيس، وذلك في ثلاثة فـصول، الفصل الأول منها عن القانون، تعريفه وضرورة وجوده، وتقسيماته وفروعه، ثم يتحدث الفصل الثاني عن فرع من فروع القانون وهو المتعلق بموضوع البـحث الرئيس وهو الدستور، حـيث سيـتناول البـحث تعريفه، وأنواع الدساتير وأساليب نشأتها ونهايتها، ومصادرها، ومقومات الدستور الأساسية، ثم يتحدث الفصل الثالث عن الدولة وذلك لارتباطها الوثيق جدا بموضوع البحث حيث سيتم تعريف الدولة وأركانها، ومقومات الدولة والقانون وضمانات تحقيقها وأنواع الدول.
وما يذكر في هذا الباب من مسائل إنما يوضح ما استقر عليه الفقه القانوني الوضعي المعاصر في هذه المسائل، التي يدخل أغلبها في باب الوسائل؛ ليكون تمهيدا للباب الثاني وهو الباب الذي يبحث الدستور في الإسلام.

الفصل الأول
القانون
المبحث الأول تعريف القانون
التعريف اللغوي :
القانون كلمة يونانيـة الأصل، تلفظ كما هي Kanun وانتقلت من اليونانية إلى اللغات الأخرى وهى تعني العصا المستقيمة، فانتقلت إلى الفارسية بنفس اللفظ (كانون) بمعنى أصل كل شيء وقياسه، ثم عربت عن الفارسية بمعنى الأصل، ودرج استخدامها بمعنى أصل الشيء الذي يسير عليه، أو المنهج الذي يسير بحسبه، أو النظام الذي على أساسه تنتظم مفردات الشيء، وتكون متكررة على وتيرة واحدة بحيث تصبح خاضعة لنظام ثابت، فيقال في معرض الأبحاث الطبيعية قانون الجاذبية، ويقال في معرض الأبحـاث الاقـتصـادية قانون العرض والطلب ([2]) . . وهكذا.
التعريف الاصطلاحي:
لتعريف القانون اصطلاحا ثلاثة تعريفات:
1- تعريف اصطلاحي عام:
وهو القواعد التي تنظم سلوك الأفـراد في المجتمع تنظيما ملزما، ومن يخالفها يعاقب، وذلك كفالة لاحترامها.

2 – تعريف اصطلاحي باعتبار المكان:
وهو مجموعة القواعد القانونية النافذة في بلد ما، فيقال القانون الفرنسي والقانون المصري مثلا…
3 – تعريف اصطلاحي باعتبار الموضوع:
وهو مجموعة القواعد المنظمة لأمر معين وضعت عن طريق السلطة التشريعية فـيقال: قانون الملكية العقارية، وقانون المحـاماة، وقـانون الجامعات ([3]) …
* * *

المبحث الثاني
ضرورة وجود القانون
الاجتماع الإنساني ضروري، ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدني بالطبع، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم ([4]) .
فـالإنسان بدافـع من طبعه لا يستطيع أن يعيش بمفرده ويسعى إلى المحافظة على وجوده من خلال مجتمع من الأفراد يعيش بينهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجعل طبيعته لا تمكنه من العيش بمعزل عن الناس، ولا يمكن أن يقوم وحـده بسد حـاجـاته، بل هو مضطر إلى أن يعيش في جماعة يتفاعل معها وتتفاعل معه، فيتبادل مع هذه الجماعة المنافـع، وبهذا تنشأ بين أفراد هذه الجماعة علائق متعددة، اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وثقافية، وغيرها وهذه العلائق لا يمكن أن تقوم بحال إلا وفق ضوابط تحكمها، حتى لا يختل توازن هذه الجماعة، وهذه الضوابط هي النظم والقوانين، فبدون القانون تصبح الأمور فوضى تسير وفق الأهواء والرغبات الفردية، وحالة عدم وجود القانون حالة لا يمكن أن يتصور دوامها لأن مجرى السنة الكونية يحتم وجود قانون، ولو افترض وجـود حـالة الفوضى فـلا بد أن يكون الحكم للقوة، فـيتـحكم الأقـوياء بالضعفاء، وفق ما يريدون ويشتهون فيكون هناك قانون القوة أو الغابة، بغض النظر عن كون هذا القانون سليما وموافـقا للحق أو بعكس ذلك. ومن هنا يتبين أن القانون ضرورة اجـتماعية لا بد منه؛ ليـحكم نشاط الأفراد، وينظم علاقاتهم.
* * *

المبحث الثالث
تقسيمات القانون
يقسم الفقهاء القانون تقسيمات عدة، نذكرها فيما يلي:
1 – على أساس طبيعة القواعد القانونية:
وحسب هذا الأساس ينقسم القانون إلى قسمين هما:
أ – قانون موضوعي، وهو الذي تتضمن قواعده أحكاما موضوعية تبين الحقوق والواجبات المختلفة، فيقال مثلا: القانون المدني، والقانون التجاري وغيرهما.. حسب الموضوع الذي تتضمنه أحكام كل قانون.
ب – قـانون شكلي أو إجـرائي: وهو الذي تتضمن قـواعده أحكاما إجرائية تبين الأوضاع والإجراءات، التي تتبع لاقتضاء الحقوق التي يقررها القانون الموضوعي، كقانون المرافعات المدنية، وقانون الإجراءات الجنائية مثلا ([5]) .
2 – على أساس القوة الملزمة للقاعدة القانونية:
وحسب هذا الأساس ينقسم القانون إلى قسمين هما:
أ – قواعد آمرة أو ناهية: وهي تشمل مجموعة القواعد التي تحمي المصالح الأساسية في الدولة، ولا يجوز للمتعاقدين الخروج عليها وإلا كان اتفاقهم باطلا.
ب – قـواعد قـانونية مفسرة أو مكملة أو مقررة: وهي مجموعة القواعد التي لا تتصل بالنظام الأساسي في المجـتمع، ويجـوز الاتفاق على عكسها؛ لأنها وضعت لتفسيـر وتكملة إرادة المتعاقدين ([6]) .
ويمكن التفريق بين القواعد الآمرة والقواعد المفسرة من عبارة النص نفسه؛ إذا لم يكن ذلك واضحا من العبارة يعرف من موضوع القاعدة القانونية؛ فالقواعد المتصلة بالنظام العام والآداب تعتبر قواعد آمرة أو ناهية، وماعداها يعتبر قواعد مكملة.
3 – من حيث التدوين وعدمه:
وينقسم القانون من حيث المصدر الذي توجد فيه القاعدة القانونية إلى قسمين هما:
أ – قانون مكتوب، وهو مجموعة القواعد القانونيـة الواردة في نصوص مكتوبة كالتشريع.
ب – قانون غير مكتوب: وهو مجموعة القواعد القانونية التي لم تصدر في نصوص مكتوبة كما هو الحال بالنسبة لقواعد العرف.
4 – على أساس النطاق الإقليمي:
ويبنى هذا التقسيم على أساس الرابطة التي ينظمها؛ فيقال: قانون داخلي، وقانون خارجي، وذلك تبعا للرابطة الاجتماعية التي ينظمها، هل هي داخل الجماعة أو خارجها ([7]) .
5 – على أساس الرابطة التي تحكمها قواعده:
وهذا التقسيم هو التقسيم الرئيس الذي يسير عليه أكثر كتاب القانون، وهو تقسيم تقليدي لا يزال مستقرا ومسلما به في الفقه القانوني الوضعي الحديث، وهذا التقسيم أهم أنواع تقسيمات القانون، وهو الذي درج عليه معظم فقهاء القانون منذ عهد الرومان إلى عصرنا هذا، بالرغم من المحاولات للعدول عنه ([8]) .
وينقسم القانون من حيث طبيعة الرابطة التي تحكمها قواعده إلى قسمين هما:

أ – القانون العام:
وهو مـجموعة من القواعد تنظم الارتباط بين طرفين أحدهما أو كـلاهما ممن يملكون السيادة، أو السلطات العامة، ويتصرفـون بهذه الصفة ( الدولة أو أحد فروعها ) ولهذا وصف بأنه قانون إخضاع ([9]) .
ب – القانون الخاص:
وهو مجموعة من القواعد تنظم الروابط بين طرفين لا يعمل أيهما بوصفه صاحب سيادة أو سلطة على الآخر، كالأفراد والأشخاص المعنوية الخـاصة أو الدولة – أو أحد فروعها – حين تمارس نشاطا يماثل نشاط الأفراد ([10]) كالقواعد التي تنظم ما يعرف بالأحوال الشخصية وكذلك أحكام المعاملات والعقود وغيرها أو كأن تبيع الدولة أرضا تملكها، أو تستأجر منزلا.
* * *

المبحث الرابع
فروع القانون
ينقسم القانون حسب التقسيم الرئيس السابق إلى: قـانون عام، وقانون خاص، ويتفرع من كل قسم منهما عدة فروع نذكرها فيما يلي:
أولا: فروع القانون العام:
يتفرع القانون العـام إلى فـرعين رئيسين يسمى أحـدهما القانون الدولي العام، وهو الذي تكون الدولة طرفـا فـيه، باعتبارها صـاحـبة السلطان، ويكون الطرف الآخر فيه دولة أو دول أخرى، أو هيئات دولية. والفرع الثاني: هو القانون الداخلي، وهو الذي ينظم الروابط الداخليـة العامة التي تكون الدولة طرفا فيها باعتبار سلطتها، وهذا الأخير ينقسم إلى ثلاثة أقـسـام هي: القـانون الدسـتـوري، والقـانون الإداري والمالي، والقانون الجنائي.
وعلى هذا تكون فروع القانون العام أربعة هي:
أ – القانون الدولي العام:
وهو مجموعة الأحكام التي تنظم ارتباط الدولة بالدول الأخرى في أوقـات السلم والحـرب ([11]) فـالمحـتكمون إلى هذا القـانون الدول وليس الأفراد، ومن التعريف يتضح أن القانون الدولي العام ينقسم إلى قـانون سلم وقانون حرب، ولكل واحد منهما موضوعاته الخاصة. فقانون السلم يبحث في المواضيع التالية:
– أشخاص القانون الدولي.
– ممثلو الأشخاص في الجماعات الدولية.
– الأعمال القانونية الدولية، وأهمها المعاهدات، فيعين أركان انعقادها وشروط صحتها وآثارها وأسباب انقضائها.
– المسؤولية الدولية في قيامها وآثارها.
– المنظمات الدولية.
– حقوق الدول وواجباتها وفض المنازعات الدولية سلميا ([12]) .
ويبحث قانون الحرب في الموضوعات التالية:
– العلاقـة بين الدول المتحاربة وواجبات كل دولة إزاء جـيش الأخرى، ورعاياها، والأسرى، ويبين القواعد الخاصة ببدء حالة الحرب ووقفها وانتهائها.
– علاقة الدولة المحاربة بالدول المحايدة ([13]) .
ب – القانون الدستوري:
وهو مجموعة الأحكام التي تحكم شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، وسلطاتها، وطريقة توزيع السلطات، وبيان اختصاصاتها، ومدى ارتباطها ببعضها، ومن حيث التعاون أو الرقـابة، وكذلك بيان حـقوق المواطنين وواجباتهم تجاه الدولة وسلطاتها العامة ([14]) .
ومن هذا يتبين لنا أن القانون الدستوري يبـحث في الموضوعات التالية:
– شكل الدولة، هل هي بسيطة أو مركبة، ملكية أو جمهورية.
– السلطات العامة في الدولة: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
– الأشخاص أو الهيئات التي تتولى السلطات العامة.
– علاقـة هذه السلطات ببعضها، نوع هذه العلاقـة، وهل هناك فـصل مطلق بينهما أو مرن.
– الحـريات الفردية وضماناتها، وهي الحريات الشخصية، والتملك، والمسكن، والرأي، والتعليم، والمساواة أمام القضاء، والوظائف العامة، والتكاليف العامة ([15]) .
جـ – القانون الإداري والمالي:
يفصل بعض الكتـاب ([16]) القـانون الإداري عن القـانون المالي، ولكن أصلهما واحد؛ لأن القانون المالي منبثق أصلا عن القانون الإداري، لذا نجد أكثر الكتاب يعدونهما قسما واحدا، لتقارب النواحي الإدارية والمالية للدولة من بعض.
ويعرف القانون الإداري بأنه مجموعة القواعد التي تبين كيفية أداء السلطة التنفيذية لوظائفها ([17]) .
ويبحث القانون الإداري في المواضيع التالية:
– تحديد أجهزة الدولة الإدارية المختلفة، وطرق تكوين كل منها، وعلاقة بعضها ببعض، وعلاقتها بالسلطات العامة الأخرى.
– كيفية ممارسة الإدارة لنشاطها، والأساليب المتبعة في ذلك.
– صور النشاط الإداري المخـتلفة، وأسس اختلافـها عن صور النشاط العام الأخرى للدولة.
– صلة الإدارة بالعاملين فـيها، والقواعد التي تنظم اخـتيارهم، وتحدد حـقوقهم وواجباتهم، والمزايا الممنوحة لهم، والضمانات التي توفر لهم الحماية.
– تبيين الأموال العامة، والنظام القانوني لها، وكيفية إدارتها والانتفاع بها، والتفريق بينها وبين المال الخاص.
– تنظيم القضاء الإداري بترتيب المحاكم الإدارية، وتحديد اختصاصاتها وقواعد الطعن أمامها بالقـرارات والأعمـال الإداريـة المخـالفـة للقانون ([18]) .
ويعرف القانون المالي، بأنه مجموعة الأحكام التي تنظم حـصول الدولة على دخلها وطرق إنفاقها لهذا الدخل ([19]) .
ويبحث القانون المالي في المواضيع التالية:
– النفقات العامة للدولة، وذلك بتحديد أوجه إنفاق المال العام.
– الإيرادات العامة للدولة من رسوم وضرائب وغيرها.
– القروض العامة وكيفية تحصيلها.
– القواعد التي تتبع في تحـديد الميزانية السنوية للدولة، وفي تنفيذها والرقابة على هذا التنفيذ.
د – القانون الجنائي:
وهو مجموعة الأحكام التي تحدد الجرائم، والعقوبات المقررة عليها، والإجراءات التي تتبع في تعقب المتهم ومحاكمته، وتوقيع العقاب عليه ([20]) .
ويتضح أن القانون الجنائي يشتمل على طائفتين من الأحكام: أحكام موضوعية، وهي التي تبين الجرائم وتحديد العقوبة لكل جريمة، وأحكام إجرائية وهي التي تبين الإجراءات التي يجب اتباعها منذ وقوع الجريمة إلى حين توقيع العقاب على الجاني.
وعلى ذلك فالقانون الجنائي ينقسم إلى فرعين كل منهما مستقل عن الآخر، أحدهما: قانون العقوبات، والثاني: قانون الإجراءات الجنائية.
– فـقـانون العـقوبات: هو مـجـمـوعـة الأحكام التي تحـدد الجـرائم والعقوبات ([21]) وينقسم إلى قسمين، هما:
قسم عام: يشمل القواعد التي تحدد الأحكام العامة للجريمة والعقوبة، فـيبين أنواع الجرائم من جنايات وجنح ومـخـالفات، وأركان الجـريمة، والأحكام التي تحدد العقوبات من حيث أنواعها، وحالات تعددها، ومتى تخفف، ومتى تسقط، ومتى يعفى منها.
قسم خـاص: يشمل الأحكام الخـاصـة بكل جـريمة على حـدة، ويبين أركانها، وصورها المختلفة، والعقوبات التي توقـع على مرتكبيها ([22]) .
– وقانون الإجراءات الجنائية: هو مجموعة الأحكام التي تبين الإجراءات التي يجب اتباعها، منذ أن تحدث الجريمة إلى أن يوقـع العقاب على مرتكبها، من حـيث ضبط المتهم، والقبض عليـه، والتحـقيق معه، ومحاكمته، وتنفيذ العقوبة المحكوم عليه بها ([23]) .
ثانيا: فروع القانون الخاص:
يعتبر القانون المدني أصلا للقانون الخاص، وبالانفصال عنه نشأت فروع أخرى للقانون الخاص، وهذه الفروع إما أن تحكم قواعد موضوعية كالقانون التجاري والبحري والجوي والعمل، أو قواعد إجرائية كقانون أصول المحاكمات المدنية، وقانون المرافعات التجارية والمدنية، وإلى جانب هذه الفروع ظهر فـرع آخـر وهو: القانون الدولي الخـاص؛ حيث تنفرد أحكامه بوظيفة معينة فيما يتعلق بالأمور ذات العنصر الأجنبي؛ وعلى هذا فتكون فروع القانون الخاص خمسة، هي:
أ – القانون المدني:
وهو مجموعة الأحكام التي تنظم الروابط الخاصة بين الأشخاص في المجتمع، إلا ما يتكفل بتنظيمه فرع آخر من فروع القانون الخاص ([24]) وهذا يعني أن القانون المدني يعتبر الأصل في علاقات القانون الخاص، وذلك لأن القانون المدني هو أصل الفروع الأخرى للقانون الخاص، ويعني:
– أنه ينظم ارتباط الأفراد بغض النظر عن طبيعتهم ومهنتهم التي يمتهنونها، وبخـلاف الفروع الأخرى من القانون الخـاص، التي تعنى بطوائف ومهن معينة، أو حالات وأوضاع معينة.
– أن قـواعـده يرجـع إليها في كل مسـألة مسكوت عنها في الفروع الأخرى من فـروع القانون الخـاص، عدا القانون الدولي الخـاص، وهذا الفرع ينظم نوعين من الروابط، هما: الأحوال الشخـصية، والأمور المالية ([25]) .
ب – القانون التجاري:
وهو مـجموعة الأحكام التي تنظم نشاط التـجار في ممارستهم لمهنتهم ([26]) والمعاملات التجارية لا تعدو أن تكون معاملات مالية تشبه ما ينظمه القانون المدني منها، وهي ما كانت في البداية محكومة بقواعد هذا القانون، إلا أنه تبين بعدئذ قصور هذه القواعد عن سد حاجـات التعامل التجاري إلى السرعة والأمان؛ فبدأت النظم الخاصة بالتجارة تظهر تدريجيا، وكمل تنظيمها حتى استوت على سوقها، فشكلت فرعا مستـقـلا عن القـانون المدني، هو القانون التـجـاري، ويلحق بالقانون التـجاري: القانون البـحـري، والقانون الجـوي. فـالقـانون البـحـري هو مجموعة الأحكام التي تنظم النشاط التجـاري البحـري، فهو جـزء من القانون التجـاري، ولكن نظرا لازدياد عدد قـواعده استقل حـتى أنه من الممكن أن يعتبر فرعا مستقلا من فروع القانون الخاص.
والقانون الجوي، أحدث فروع القانون الخاص، وهو مجموعة الأحكام التي تنظم المسائل المتعلقة بالملاحـة الجوية، على غرار تنظيم القانون البـحـري لمسائل الملاحـة البـحـرية، وقـد بدأت قـواعده بعد استعمال الطائرات وسائل نقل، ونظرا لحداثته لا تزال القواعد المكونة له متبعثرة في عدة تشريعات ولم تقنن بعد ([27]) .

جـ – قانون العمل:
وهو مجموعة الأحكام التي تنظم الارتباط بين العمال وأصـحـاب العمل ([28]) وهذا الفرع حديث المنشأ نسبيا، فقد كانت العلاقـة بين العامل ورب العمل تخضع للقانون المدني، وكـان نشوء هذا الفرع رد فـعل من جانب العمال الذين تكونت منهم طبقة اجتماعية جديدة لها وزنها وقوتها، بعد قيام النهضة الصناعية الحديثة؛ للاختلال الحاصل في عقد العمل، الواضح في جور الشروط والقيود التي يفرضها أرباب العمل.
د – قانون المرافعات:
قانون أصول المرافعات المدنية والتجارية كما يسميه فقهاء القانون المصري أو قانون أصول المحاكمات المدنية، كما يسميه فقهاء القانون اللبناني، هو مجموعة الأحكام التي تنظم السلطة القـضائية، وتبين الإجراءات الواجب اتباعها لتطبيق الأحكام الموضوعية في القانون المدني والقانون التجاري ([29]) .
فهو قانون إجرائي يتكفل بأمرين هما:
1 – تنظيم السلطة القضائية، وذلك بتنظيم مجموعتين من القواعد هما:
– قواعد النظام القضائي، وهي التي تبين أنواع المحـاكم وتشكيلها، وشروط تنصيب القضاة، وحقوقهم، وواجباتهم.
– قـواعد الاختصاص، وهي التي تتعلق بتوزيع ولاية القضاء على المحاكم بطبقاتها المختلفة.
2 – بيان الإجراءات التي تتبع لحماية الحقوق واقتضائها ([30]) .

هـ – القانون الدولي الخاص:
وهو مجموعة الأحكام التي تعنى بصفة أساسية، ببيان المحكمـة المخـتصة، وتحـديد القانون الواجب التطبيق فـيمـا يتعلق بالعلاقـات القانونية الخاصة والتي يدخل العنصر الأجنبي طرفـا فيها ([31]) . أي تلك العلاقات التي تدخل ضمن نطاق القانون الخاص، ويكون أحد عناصرها متصلا بدولة أجنبية، فيوضح هذا القانون المحكمة المختصة والقانون الواجب تطبيقه في واقعة ما.
ويضم في نطاق موضوعات القانون الدولي الخاص، موضوعات ثلاثة أخرى وذلك باعتبارها مسائل أولية، قد تسهم في تعيين الاخـتصاص القضائي أو التشريعي، وهذه الموضوعات هي:
– الجنسية وهي علاقة تبعية الفرد للدولة.
– الوطن، وهو علاقة الفرد بالدولة نتيجة إقامته فيها.
– مركز الأجانب، وهو ما يمكن أن يتمتع به الأجانب من حقوق، أو يتحملوه من تكاليف وواجبات في الدولة التي يوجدون على أرضها ([32]) .
ويلاحظ أنه على الرغم من وجود كلمة ” دولي ” في هذا القانون، إلا أنه في الواقـع قانون وطني، فلكل دولة قواعد تطبق في محاكمها في هذا الخصوص، كما تطبق أي قـانون داخلي، وقـد تختلف من دولة لأخـرى، بخلاف القانون الدولي العام، الذي تعتبر قواعده واحدة واجبة الاحترام من جميع الدول على حد سواء ([33]) .
وفي الصفحة التالية شكل يوضح أقسام القانون وفروعه.
· * *

الفصل الثاني
الدستور
المبحث الأول
تعريف الدستور
– التعريف اللغوي:
الدستور كلمة فارسية تعني الدفتر الذي تكتب فيه أسماء الجند، والذي تجمع فيه قوانين الملك، وتطلق أيضا على الوزير، وهي مركبة من كلمة ” دست ” بمعنى قاعدة، وكلمة ” ور” أي صاحب، وانتقلت إلى العربية من التركية بمعنى (قانون، وإذن) ثم تطور استعمالها حتى أصبحت تطلق الآن على القانون الأساسي في الدولة ([34]) .
– التعريف الاصطلاحي:
يعرف الدستور اصطلاحا بأنه مجموعة الأحكام التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وسلطاتها، وطريقة توزيع هذه السلطات، وبيان اختصاصاتها، وبيان حقوق المواطنين وواجباتهم ([35]) .
وينطبق تعريف الدستور هذا على تعريف القانون الدستوري؛ لأن القانون الدستوري هو الأحكام الدستورية المطبقة في بلد ما، والدستور المطبق في بلد ما هو مجموعة الأحكام الدستورية الخاصة بهذا البلد.
ويعتبر الدستور أهم القوانين السارية في الدولة، بل أساس هذه القوانين، ويجب ألا تخالف القوانين حكما أو أحكاما دستورية.
ويجـرى وضع الدسـتـور عادة عن طريق سلطة أعلى من السلطة التشريعيـة، وتسمى السلطة التأسيسية، وتتم إجـراءات تعديل أحكام الدستور بطريقة أشد تعقيدا من الإجـراءات المتبعة لتـعديل الأحكام القانونية الأخرى.
وتطلق كلمة الدستور أحيانا فتنصرف إلى الوثيقة التي تحمل هذه التسمية، أو ما يراد ضمنها، مثل القانون الأساسي للدولة، وهذا هو المعنى الشكلي للدستور، إلا أن هذا التعريف يخرج ما قد يكون دستوريا بطبعه إذا لم يرد في تلك الوثيـقـة، كـالأمـور الدسـتـورية التي يكون العـرف مصدرها.
وظهور المعنى الشكلي للدستور، كان نتيـجـة لانتشار حركة تدوين الدسـاتيـر في العصر الحديث، تلك الحـركة التي بدأت في الولايات المتحـدة الأمريكية ومنها إلى فـرنسا، ثم إلى بقية الدول، حـيث كانت دساتير الولايات المتحدة الأمريكية ثم دستورها سنة 1778م أول الدساتير المكتوبة في التاريخ الحديث، تلاه الدستور الأول للثورة الفرنسية سنة 1971م، وانتشرت بعد ذلك حركة تدوين الدساتير فعمت بلاد العالم ([36]) .
* * *

المبحث الثاني
أنواع الدساتير
يتم تحديد نوع الدستور وفقا للمعيار الذي يرجع إليه عند التحديد، وهناك معياران لتحديد نوع الدستور هما: التدوين، وكيفية التعديل.
من حـيث التدوين وعدمه، يكون للدستور نوعان، دستور مدون، ودستور غير مدون.
ومن حيث كيفية التعديل، يكون للدستور نوعان أيضا هما: الدستور المرن، والدستور الجامد، وفيما يلي توضيح ذلك.
أولا: من حيث التدوين وعدمه:
تنقسم الدساتير من حيث المصدر إلى نوعين، وهما الدساتير المدونة والدساتير غير المدونة أو العرفية، ويرى البعض ([37]) . أن استخدام مصطلح غير المدون أدق، لأنه يشمل المصادر غير التشريعية، سواء تمثلت في العرف أو القضاء.
ومناط هذا التقسيم هو التدوين، والمقصود بالتدوين ليس فـقط تسجيل الحكم في وثيقة مكتوبة، وإنما المقصود به التسجيل في وثيقة رسميـة من سلطة مخـتصة بسنها وهو ما يسمى بالتدوين الفني أو الرسمي ([38]) .
ويعتبر الدستور مدونا إذا كان صادرا في أغلبه في وثيقة أو عدة وثائق رسمية عن طريق المشرع الدستوري، ويعتبر غير مدون إذا كان مسـتمدا في أغلبه عن طريق العـرف أو القضـاء، وليس عن طريق التشريع ([39]) .
والحقيقة أن تقسيم الدساتير إلى مدونة وغير مدونة، هو تقسيم نسبي فلا يوجد دستور في العالم إلا ويشمل أحكاما صدرت عن طريق التشـريـع، وأخـرى صدرت عن المصـادر الأخـرى المتمثلة في العرف والقضاء، ومثال ذلك دستور إنجلترا حيث يعتبر المثال التقليدي للدستور غير المدون، وبالرغم من ذلك فهو يشمل وثائق رسمية لها أهميتها كالعهد الأعظم Magna Charta سنة 1215 م، وملتمس الحقوق سنة 1628م Potition Of Rights وقانون الحقوق Bill Of Rights وقانون توارث العرش Act Of Settlement Act سنة 1701 م وقانون البرلمانParliament Act سنة 1911م ([40]) .
‌‌‌وتؤكد التجارب الدستورية في الدول ذات الدساتير المدونة أنه مهما يكن الدستور المدون للدولة مفصلا، فلا بد أن ينشأ عقب صدوره ظروف وتطورات، تؤدي إلى نشؤ أحكام جديدة تفسره، أو تكمله، أو تعدله، يكون مصدرها العرف أو القضاء. وأغلب دول العالم لها اليوم دساتير مدونة ما عدا بريطانيا، حيث انتشرت حـركة تدوين الدساتير بعد استقلال الولايات المتحدة الأمريكية ووضعها لدساتيرها المدونة.
ثانيا: من حيث كيفية التعديل:
تنقسم الدساتير حسب هذا المعيار إلى دساتير مرنة، وأخرى جامدة، فالدساتير المرنة هي التي يمكن تعديلها بالإجراءات نفسها التي تعدل بها القوانين العادية، والدساتير الجامدة هي التي يتطلب تعديلها إجراءات أشد من الإجراءات التي يعدل بها القانون العادي.
والهدف من جعل الدستور جامدا، هو كفالة نوع من الثبات لأحكامه عن طريق تنظيم يجعل تعديله عسيرا ([41]) .
وكون الدستور جامدا يحمي مواده من العبث والتغيير المستمر، لسبب ولغير سبب.
وتنقسم الدساتير الجـامدة إلى دساتير تحظر التعديل، ودساتير تجيزه بشروط خاصة:
1 – فالدساتير التي تحظر التعديل لا ينص على الحظر فيها صراحة، وإنما يتم اللجوء إلى الحظر الزمني، أو الحظر الموضوعي، ويقصد بالحظر الزمني، حماية الدستور فترة من الزمن – لضمان نفاذ أحكام الدستور كلها أو جزء – تكفي لتثبيتها قبل أن يسمح باقتراح تعديلها، مثال ذلك دستور الاتحاد الأمريكي الصادر سنة 1789م، فقد حظر تعديل بعض أحكامه قبل سنة 1808م.
أما الحظر الموضوعي فيقصد به، حماية أحكام معينة، بحيث لا يمكن تعديلها، ويكون هذا عادة للأحكام الجـوهرية في الدستور، ولا سيما ما يتعلق منها بنظام الحكم المقرر، ومثاله الدستور الفرنسي لسنة 1875م، حيث نصت المادة الثامنة منه، وفقا للفقرة المضافة إليها في 14 أغسطس 1884م، بأنه لا يجوز أن يكون شكل الحكومة الجمهوري محلا للتعديل ([42]) .
2 – أما الدساتير التي تجيز التعديل بشروط خاصة: فـتـختلف هذه الدساتير في كيفية تعديلها، والشروط المعتبرة لذلك، ويرجع هذا الاختلاف لاعتبارين: أحدهما سياسي، والآخر فني، أما الاعتبار السياسي فيتمثل في أن التنظيم المقرر لتعديل الدستور لا بد وأن يرعى جـانب السلطات التي يقوم عليها نظام الحكم، وأما الاعتبار الفني، فيتمثل في أسلوب الصياغة المأخوذ بها عند وضع الدستور، ويظهر جليا أثر هذه الأساليب في ناحيتين هما:
– شرط التماثل في الأوضاع القانونية بين نشأة الدستور وتعديله، مما يؤدي إلى التشدد في إجراء التعديل.
– الاقـتصار على تنظيم الأسس الجـوهرية في الدستور، مما يؤدي إلى التشدد في إجراءات تعديله، بينما إيراد التفصيلات في الدستور ينتج عنه التيسير في تعديله ([43]) .
وتحـسن الإشارة – قـبل خـتم هذا المبـحث – إلى أن بعض الباحـثين القانونيين ([44]1814م، وسنة 1830م، ودستور إيطاليا لسنة 1848م، ودستور الاتحاد السوفيتي لسنة 1918م، ودستور إيرلندا الحرة لسنة 1922م. ) يخلط بين تقسيم الدساتير إلى مدونة وغير مدونة، وتقسيمها إلى مرنة وجامدة، معتبرا أن كل دستور مدون جامدا، وكل دستور غير مدون مرنا، وهذا الخلط غير صحيح، لاخـتلاف هذين التقسيمين من حيث المعيار الذي على أساسه تم التقسيم، فـهذا مرتبط بالمصدر، وذاك مرتبط بكيفية التعديل، ومن خلال تتبع بعض التجارب الدستورية المختلفة، نجد أنه قد يكون الدستور مدونا ومرنا في الوقت نفسه، كما في دستور فرنسا لسنة
وقـد يكون الدستور غير مدون ومستندا إلى العرف، وهو في الوقت نفسـه جامد، ففي المدن اليونانية القديمة وجدت تفرقـة بين القوانين العادية وقوانين أخرى، مثل القوانين الدائمة وقوانين المدينة، وكان يشترط لتعديل الأخيرة شروط خاصة وإجراءات أكثر أهمية، مما يضفي عليها صفة الجمود، وكذا في العهد الملكي في فرنسا وجدت القوانين الأساسية التي لم يكن يكفي لتعديلها موافقة السلطة التشريعية العادية وإنما يلزم لذلك موافقة الهيئة النيابية ([45]) .
ولعل سبب هذا الخلط هو أن دساتيـر العـالم اليوم أصبـحت في الغالب مدونة، فيما عدا الدستور الإنجليزي، وأنها في الوقت نفسه جامدة فـارتبطت لدى القائلين بذلك فكرة التدوين بالجمود، وفي المقابل فكرة عدم التدوين بالمرونة.
* * *

المبحث الثالث
أساليب نشأة الدستور وتطوره في العصر الحديث
يرى بعض ([46]) فقهاء القانون الدستوري أن نشأة الدساتير تنحصر في طرق ثلاثة، هي:
1 – طريق المنحة، كـالدستور الفرنسي لسنة 1814م حينما منح لويس الثامن عشر ذلك الدستور للأمة الفرنسية عقب سقوط نابليون، والدستور الروسي الصادر سنة 1906م، والدستور الياباني الصادر سنة 1889 م.
2 – طريق جمعية وطنية منتخبة من الشعب، تصدر الدستور كما هو الحال في الدستور البلجيكي سنة 1875م، ودستور الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1787م، والدستور الألماني سنة 1919م.
3 – طريق وسط بين الطريقين السابقين، بحيث يكون الدستور نتيجـة تعاقد بين الملك وشعبه، كما حدث ([47]1215م، وإعلان الحقوق سنة 1688م ( . )[48]) في إنجلترا عند صدور العهد الكبير سنة
ويرى آخرون أن نشأة الدساتير محصورة في طريقتين، هما:
1 – الأساليب الملكية، وتنقسم إلى أسلوبي المنحة والتعاقد.
2 – الأساليب الديمقراطيـة، وتنقسم إلى أسلوبين، همـا الجـمـعـية التأسيسية، والاستفتاء التأسيسي.
وقد تضمنت هاتان الطريقتان أربعة أساليب، يضيف إليها البعض ([49]) أسلوبا خامسا، وهو الاستفتاء السياسي.
والحقيقة أن حصر طرق نشأة الدساتير في أساليب معينة أمر غير مسلم به لأنه يمكن أن تتنوع هذه الطرق تبعا لتنوع أنظمة الحكم وأن تتطور بتطورها؛ وأن هذه الطرق التي حددها الفقهاء القانونيون، والتي عرفت حتى الآن، إنما تعكس في نشأتها المراحل الرئيسية التي مرت بها أنظمة الحكم، وهذا ما يرجحه بعض ([50]) فقهاء القانون، وعليه فإنه يمكن تحديد المراحل التي مر بها هذا التطور، وحصرها في ثلاث مراحل، هي:
المرحلة الأولى:
اتسمت بوجود تيارات في الدول الأوربية تطالب بوجود الدستور، فـوجـد الدستـور عن طريق المنحـة من قـبل ملوك الدول الأوربيـة إلى شعوبهم.
المرحلة الثانية:
تميزت بازدياد قوة تلك التيارات بحيث وجدت الدساتير عن طريق مشاركة الشعب في السلطة التأسيسية، وهي الطريقة التي تسمى طريقة التعاقد.
المرحلة الثالثة:
تميزت بتغلب تلك التيارات، وذلك بصدور الدساتير عن طريق سلطة تأسيسية منتخبة من الشعب، وأول ما نشأ من ذلك، أسلوب الجمعية التأسيسية في الولايات المتحدة الأمريكية وذلك عند استقلالها عن إنجلترا سنة 1776م، والدستور الاتحادي الذي وضعه مؤتمر فـلادلفيا سنة 1787م، ثم أخذ هذا الأسلوب في الانتشار حيث لقي إقـبالا كبيرا في فرنسا، إلا أنه ساعد على إقرار الفكرة التي كانت قـائمة وقـتها في فرنسـا والمتضمنة التفريق بين القوانين الدستورية والعادية، عن طريق وجود سلطتين، إحداهما تأسيسية، والأخرى تشريعية، وبعد انتشار مبدأ الديمقراطية لجـأ كثير من الدول لهذا الأسلوب في وضع دسـاتيرها، وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما في دستور ألبانيا لسنة 1946م، ويوغسلافيا لسنة 1946م، وإيطاليا لسنة 1947م ([51]) .
ومما تقدم يتبين أن أساليب نشأة الدساتير تتنوع تبعا للظروف التي يوجد فـيها كل دستور، ولا ينبغي للباحث أن يعالج هذه الأساليب بصورة توحي بأنها قابلة للحصر، وإنما يجدر به أن يردها إلى اتجاهات رئيسة تبرز السلطة التي تولت إنشاء الدساتير على النحو الذي سبق، لأنه يمكن أن تنشأ أساليب أخرى غير هذه الأساليب التي يحددها رجال القانون، وفق ظروف وبيئات معينة تكون لها سمات فكرية وحضارية تختلف كثيرا أو قليـلا عن تلك الملامح الفكرية والحـضارية والتاريخية لهذه الدول التي نشأت فيها الأساليب التي يحددها فقهاء القانون الدستوري، وبالتالي فإنه لن يكون هناك أي حرج على الباحث، في اعتبار هذه الأساليب من أساليب نشأة الدساتير وبالعكس في حالة الالتزام بطرائق معينة لنشأة الدساتير، فـإن الباحث يلزم نفسه بإقـحـام الأساليب غير المحـصورة، بالأساليب المحـصورة، بشكل أو بآخر، وينتج عن ذلك خلط في المفاهيم والأساليب، وعدم اعتبار للظروف التي صاحبت وجود أسلوب أو أساليب معينة، علما بأن هذه الظروف والمتغيرات هي الأساس الذي ينبغي أن يركز عليه الباحث، باعتبارها متغيرات رئيسة لإقرار الفكرة التي يهدف إليها في بحثه.
* * *

المبحث الرابع
أساليب نهاية الدستور
يقصد بنهاية الدستور، إلغاؤه كليا، أو تعديله تعديلا شاملا.
ومن تتبع بعض التجارب الدستورية المختلفة، وجد أنه وإن اختلفت الدساتير من حيث كيفية نهايتها، إلا أنه بشكل عام، يمكن أن ترجع هذه الكيفية إلى أساليب ثلاثة، هي:
1 – الأسلوب العادي:
في ظل الدساتير المرنة، هناك سلطة واحدة تملك تعديل القوانين جميعا بالإجراءات نفسها، أما في حالة الدساتير الجامدة، فإن تعديلها يتطلب إجـراءات أشد من الإجراءات المتبعة لتعديل القانون العادي، ومعظم الدساتير الجامدة لا تنظم سوى الكيفية التي تعدل بها تعديلا جزئيا، بحيث تجيز للسلطة المختصة بإنشاء الدستور تعديل بعض أحكامه ولا تجيز لها إلغاءه، أو تعديله تعديلا شاملا.
والقاعدة المتبعة في القانون الوضعي، أن الأمة بوصفها صاحـبة السلطة التأسيسية الأصلية هي صاحبة الحق فقط في إلغاء دستورها في أي وقت تشاء وأن تضع دستورا جديدا عن طريق جمعية تأسيسية تنتخبها، أو استفتاء تأسيسي أو عن أي طريق دستوري

اعادة نشر بواسطة محاماة نت