عرض حول عقوبة الإعدام بين النص التشريعي و الواقع القضائي

عقوبة الإعدام بين النص التشريعي و الواقع القضائي

د. الحبيب بيهي
أستاذ بكلية الحقوق و محام
بهيئة الرباط

تمهيد :
شكل الحق في الحياة عبر العصور، نورا في مشكاة القيم الإنسانية و قبسا في محرابها، ضمنته التعاليم السماوية، وكرسته المبادئ الفلسفية،و التيارات الفكرية، و أمسى حقا كونيا تصدى لحمايته التشريع الدولي، المتعلق بحقوق الإنسان، من خلال ما تضمنته العديد من العهود و المواثيق الدولية، الهادفة إلى حماية حياة الكائن البشري، في مواجهة جبروت المجرمين، و تعسف السلطة، وظلم الحاكمين.
غير أن الحق في الحياة،ليس حقا مطلقا،فبإمكان الدولة أن تحرم الأفراد من الحياة، دون أن يتعارض عملها مع مبادئ التشريع الدولي، و تشكل عقوبة الإعدام التجسيد الحي لهذه الفكرة.
و في هذا السياق، نجد التشريع الدولي المتعلق بحقوق الإنسان، لا يمنع استخدام عقوبة الموت، كجزاء جنائي، ويكتفي هذا التشريع بالدعوة إلى إلغاء هذه العقوبة أو الحد منها.
وحاصل القول أن عقوبة الإعدام، تظل أمرا مشروعا مباحا في الشرائع التي مازالت تطبقها، علما بأن العديد من الدول قد أقدمت على إلغائها أو عطلت العمل بها.

الإشكالية
إن عقوبة الإعدام، تبدو في ظاهرها منافية للحق في الحياة، فكيف يمكن التوفيق بين هذا الحق،في مواجهة عقوبة تشكل خرقا واضحا له.؟أليس الإعدام في حد ذاته اعتداء على الحياة و هدرا لها.؟ و حينما يتعارض حق الدولة في العقاب (الإعدام)، وحق الأفراد في الحياة، أيهما أجدر و أولى بالحماية؟.
و إذا كان الحكم بالموت يجد سنده في النص التشريعي، الذي يجيزه، فما هو دور القضاء بوجه عام، وقضاء النيابة العامة بوجه خاص، حينما يطلب إليه بلورة التوجه التشريعي في ميدان السياسة العقابية.؟

الطرح:
إن التساؤلات السابقة، تستدعي البحث في مشروعية عقوبة الإعدام، ليس على مستوى النص القانوني الذي يسنده فحسب، بل على مستوى الجدل الفلسفي و الحقوقي، المطالب بشطب هذه العقوبة من سجلات التشريع،لكونها تهدر الحق في الوجود.
فإذا توقفنا عند حدود مشروعية العقوبة من خلال النص الذي يقرها أمكن التمسك بالطرح القائل بأن عقوبة الإعدام، لا تتنافى مع الحق في الحياة، كلما توفرت شروط المحاكمة العادلة.
فهل بالإمكان الدفاع عن هذا الطرح، علما بأن هناك طرح مضاد ووجيه، يدعو إلى إسقاط هذه العقوبة وشطبها، ناهيك عن تنامي الدعوة المضادة للعقوبة، وهي الدعوة التي جعلت العديد من التشريعات المعاصرة،تستجيب لنداء الإلغاء النهائي أو الحد التدريجي.

المنهج:
لمعالجة هذه الإشكالية، والدفاع عن ذلك الطرح، يحسن بنا أن نعرض في محور أول،للإطار التشريعي لعقوبة الإعدام، ليتسنى في محور ثان، ملامسة الواقع القضائي للعقوبة الذي يستعصي أحيانا عن الفهم، و ذلك في غياب الدراسات الميدانية التي تستجلي هذا الواقع ، وتوضح ظروفه و خلفياته.
كل هذا دون أن ننسى الدور الفاعل لقضاء النيابة العامة، في بلورة الواقع القضائي و توجيه مساره.

المحور الأول: الإطار التشريعي لعقوبة الإعدام
ينطوي التنظيم التشريعي لعقوبة الإعدام على بعد دولي، وآخر محلي وطني، وهو ما يدعونا لأن نعالج في فقرة أولى، عقوبة الإعدام في التشريع الدولي، ونعرض في فقرة ثانية لعقوبة الإعدام في التشريع المغربي.
الفقرة الأولى: عقوبة الإعدام في التشريع الدولي:
نقصد بالتشريع الدولي، المواثيق و العهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وكذا التشريعات الوطنية المقارنة و المعاصرة.

أولا :عقوبة الإعدام في العهود و المواثيق الدولية:
تكاد تجمع كل العهود و المواثيق الدولية، المهتمة بحقوق الإنسان، على تثبيت و إقرار الحق في الحياة.
و في هذا السياق، تنص المادة 3 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر في العاشر من نونبر 1948 على أن :”لكل فرد الحق في الحياة و الحرية و سلامة شخصه”.
كما تقضي المادة 6 من العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية و السياسية، الصادر في 16 دجنبر 1966 بأن :
” الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان، وعلى القانون أن يحمي هذا الحق، و لا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفا”.
و تضيف الفقرة الثانية من نفس المادة:
” لا يجوز في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام، الحكم بهذه العقوبة، إلا جزاء على أشد الجرائم خطورة، وفقا للتشريع النافذ وقت ارتكاب الجريمة، وغير المخالف لأحكام هذا العهد، ولاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، ولا يجوز تطبيق هذه العقوبة إلا بمقتضى حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة”.

تؤكد الفقرة الرابعة من نفس المادة بأنه:
” لأي شخص حكم عليه بالإعدام، حق التماس العفو الخاص، أو إبدال العقوبة، و يجوز منح العفو العام أو الخاص، أو إبدال عقوبة الإعدام في جميع الأموال”.

و تقضي الفقرة الخامسة من نفس المادة بأنه:
“لا يجوز الحكم بعقوبة الإعدام، في الجرائم التي يرتكبها أشخاص دون الثامنة عشرة من العمر، ولا تنفيذ هذه العقوبة بالحوامل”.

و تشير الفقرة السادسة من نفس المادة إلى أنه:
” ليس في هذه المادة،حكم يجيز التذرع لتأخير أو منع إلغاء عقوبة الإعدام من قبل أية دولة طرف في هذا العهد”.

ذلك ما أقرته المادة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية، الصادر سنة 1966.
و كان يجب انتظار سنة 1989، ليصدر البرتوكول الاختياري الثاني، الملحق بذات العهد، ليهجر بالدعوة الصريحة لإلغاء عقوبة الإعدام، مع السماح بالاحتفاظ بالعقوبة زمن الحرب، إذا أبدت الدول تحفظا في هذا الصدد.

ومن جهة أخرى، تنص المادة الثانية من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان صراحة، على ضمان الحق في الحياة في مواجهة عقوبة الإعدام.
كما ينص البروتوكول رقم 6 الملحق بالاتفاقية الأوروبية، الصادر سنة 1982 على دعوة الدول إلى إلغاء عقوبة الإعدام زمن السلم.
و يستدعى هذا التوجه التشريعي الدولي الملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى:
إن المواثيق الدولية التي تضمن الحق في الحياة، لا تعارض حق الدول في الإبقاء على العقوبة العظمى، مع تقييدها بقيود، تمنع الشطط و تقي من الإسراف.

الملاحظة الثانية:
يضمن التشريع الدولي الحق في الحياة، ليس فقط في مواجهة عقوبة الإعدام، بل أيضا في مواجهة جميع جرائم القتل،و الإبادة،والتصفية العرقية،والإجهاض، أو القتل بدافع الشفقة،أو الانتحار.

الملاحظة الثالثة:
يحث التشريع الدولي الدول و يدعوها،إلى إلغاء العقوبة العظمى،مع الاعتراف لها بالتحفظ بالنسبة للإبقاء عليها زمن الحرب.

ثانيا: عقوبات الإعدام في التشريعات المقارنة:
اتجهت التشريعات المعاصرة، بشأن عقوبة الإعدام، اتجاهات أربعة 1 .

الاتجاه الأول:
يستجيب هذا الاتجاه لنداء الإلغاء الكلي للعقوبة،وشطبها نهائيا من القوانين العقابية الجاري بها العمل.

الاتجاه الثاني:
لم يلغ هذا الاتجاه عقوبة الإعدام،ولكنه جمد العمل بها،بحيث أن القضاء لا يحكم بما لما له من سلطة تحديد و تفريد الجزاء، ومنح الظروف المخففة.

الاتجاه الثالث:
أبقى هذا الاتجاه على عقوبة الإعدام ضمن تشريعه المعمول به، وظل القضاء يحكم بالعقوبة، مع تجميد للتنفيذ.

الاتجاه الرابع:
حافظ هذا الاتجاه على عقوبة و على الحكم بها.
الفقرة الثانية :الإطار التشريعي لعقوبة الإعدام بالمغرب
بالرجوع إلى نصوص القانون الجنائي المغربي، النافذ مند 17 يونيه 1963،و كذا التعديلات التي أدخلت عليه، يتضح بأن المشرع المغربي، نهج في بداية الاستقلال، سياسة عقابية، تتناسب و الأوضاع السائدة وقتها، متأثرا إلى حد كبير بالتشريع الجنائي الفرنسي.
وهكذا يتضح بأن عدد الجرائم التي تطالها عقوبة الإعدام، لا تتعدى 24 جريمة، يضاف إليها ست جرائم ورد النص عليها ضمن قانون العدل العسكري.

ويتعلق الأمر بالجرائم التالية:
الاعتداء على حياة الملك، أو ولي العهد، أو أحد أفراد الأسرة المالكة( الفصول 163،165،167 من القانون الجنائي).
جريمة خيانة الوطن(الفصلان 181 و182).
التجسس (الفصلان 185 و186).
المس بسلامة الدولة الداخلية أو الخارجية (الفصول 190و201و203).
جريمة الإرهاب ( الفصل 218 (1) إلى 218 (9)).
القتل المشدد ( الفصلان 392 و393).
قتل الأصول عمدا (الفصل 396).
قتل الوليد عمدا (الفصل 397).
التسميم (الفصل 398).
استعمال وسائل التعذيب لتنفيذ جناية (الفصل 399).
الضرب بنية إحداث الموت ( الفصلان 410و411).
اختطاف الأشخاص و تعذيبهم الفصل (438)
تعريض الطفل للموت بنية إحداثه (الفصل 436).
اختطاف القاصر الذي يعقبه موته(الفصل 474).
إضرام النار عمدا إذا تسبب عنه موت (الفصل 588).

يضاف إلى هذه الجرائم، ما أورده قانون العدل العسكري في الفصول 173 و 179 و 141 إلى 186، و هي النصوص التي تجرم و تعاقب بعض تصرفات الجنود زمن الحرب و الملاحظ أن المشرع، منع الأعذار القانونية في بعض هذه الجرائم (كاعتداء على حياة الملك)، و عاقب على المحاولة فيها، واعتبر الجنايات الماسة بأمن الدولة من القضايا المستعجلة، التي لها الأولوية على غيرها في التحقيق و المحاكمة (216).

غير أن المشرع خول القضاء من جهة أخرى، سلطة منح ظروف التخفيف القضائية في غالبية هذه الجرائم، وذلك باستبدال الإعدام بالسجن المؤبد، و السجن المحدد في 30 سنة، وفقا لأحكام الفصل 146، و ذلك في نطاق ما تسمح به مقتضيات المنظمة للظروف القضائية المخففة.
كما أن المشرع، قرر جملة من الأعذار القانونية المخففة أو المعفية من العقوبة، وفقا للفصل 143 من القانون الجنائي.
و إذا كان الإطار التشريعي لعقوبة الإعدام، سواء في بعده الدولي أو المقارن أو الوطني، هو على الحال الذي عرضنا له في هذا المحور الأول، فما هي انعكاسات هذا الإطار التشريعي على الواقع القضائي.
ذلك ما تعرض له في المحور الثاني، و سنتطرق له في موضوع مقبل.

1 لاحظ حول تفاصيل هذه الاتجاهات،الحبيب بيهي:”عقوبة الإعدام بين الحد و الإلغاء “عرض مقدم لمناظرة السياسة الجنائية بالمغرب -واقع وآفاق “منشورات جمعية المعلومات القانونية و القضائية سلسلة الندوات و الأيام الدراسية

عقوبة الإعدام بين النص التشريعي و الواقع القضائي

تتمة

د. الحبيب بيهي
أستاذ بكلية الحقوق و محام
بهيئة الرباط

المحور الثاني : الواقع القضائي لعقوبة الإعدام

ينطوي الواقع القضائي لعقوبة الإعدام، على بعد دولي (فقرة أولى) و آخر وطني (فقرة ثانية).

و في غياب الدراسات الميدانية، التي ترصد هذا الواقع، وتحلل تجلياته و خلفياته، سنكتفي بمعالجة الموضوع على ضوء التقارير التي تنشرها المنظمات الحقوقية المتخصصة.

الفقرة الأولى: الواقع القضائي لعقوبة الإعدام في بعده الدولي.

نعرض على التوالي لهذا الواقع على المستوى العالمي، ثم نعرج على التجربة القضائية في القضاء المقارن في كل من مصر، و الولايات المتحدة الأمريكية.

أولا: الواقع القضائي لعقوبة الإعدام على المستوى العالمي.

ذكرت منظمة العفو الدولية في تقرير لها، بأن 94% من الحالات التي نفذت فيها عقوبة الإعدام، تتركز في أربع دول،هي الصين (أعدمت 1770 شخصا، و أصدرت 3990 حكما بالإعدام) و إيران (أعدمت 94 من بينهم 8 قاصرين) و السعودية (88 أعدموا من بينهم أجانب لم يحضر مترجمون محاكمتهم) و الولايات المتحدة الأمريكية (أعدمت 60 شخصا يعاني عدد كبير منهم، من اضطرابات نفسية، بينما ينتظر ثلاث آلاف آخرين تنفيذ أحكام الإعدام.2

وأكدت المنظمة أن عشرين ألف شخص، محكومين بالإعدام،عن جرائم متنوعة في 68 دولة مازالت تطبق العقوبة، وهؤلاء ينتظرون التنفيذ، في ظروف اعتقال سيئة و أوضح التقرير المذكور أن 2148 شخص، أعدموا خلال سنة 2005، و أن 5186 آخرين،صدرت بحقهم أحكام بالإعدام خلال سنة 2005، بعد انتزاع الاعتراف منهم بالتعذيب، ودون الحصول على أي مؤازرة قانونية.

ثانيا: واقع عقوبة الإعدام في القضاء المقارن.

نستعرض على التوالي التجربة القضائية المصرية،ثم تجربة الولايات المتحدة الأمريكية.

الواقع القضائي لعقوبة الإعدام في مصر.

في تقرير نشرته منظمة العفو الدولية سنة 2002، سجلت هذه المنظمة بأنه في عام 1999 وحده، صدرت أحكام بالإعدام في مصر، ضد ما لا يقل عن 108 من الأشخاص، من بينهم 12 امرأة. 3

و على مدار السنوات الخمس(1996-2001)، صدرت عن المحاكم المصرية، أحكام بالإعدام، ضد ما لا يقال عن 382 شخصا، أي بمعدل 76 حكما في العام، و خلال نفس الفترة، وردت أنباء عن إعدام 114 شخصا على الأقل.

و بالرغم من تناقص استخدام عقوبة الإعدام ، على مستوى العالم فقد تزايد استخدام هذه العقوبة، في مصر على مدى العقد الماضي، فمع مطلع القرن الحادي و العشرين، كان ما يزيد على 111 دولة، أي أكثر من نصف دول العالم، قد ألغت عقوبة الإعدام في القانون، أو الممارسة القضائية، و لم يبق سوى 84 دولة تحتفظ بعقوبة الإعدام.4

و بعكس هذا الاتجاه المتنامي، فمازالت تنفذ في مصر أحكام الإعدام، بعد محاكمات أمام محاكم استثنائية، وبالأخص المحاكم العسكرية، و محاكم أمن الدولة. وسجلت منظمة العفو الدولية، أنه فيما بين 1991 و 2000 أصدرت المحاكم المصرية، ما لا يقل عن 530 حكما بالإعدام، و قد احتلت مصر بذلك، الرتبة 12 على مستوى الترتيب العالمي 5.

وقائع عقوبة الإعدام في قضاء الولايات المتحدة الأمريكية.

في تقرير لمنظمة العفو الدولية،مؤرخ في 24 أبريل 2003 سجلت المنظمة بأن عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة الأمريكية، ما فتئت،تشكل ظلما صارخا و عنصريا، ذلك أن80% من الأشخاص البالغ 840 ممن أعدموا منذ 1977، نفذت فيهم أحكام الإعدام لأنهم من السود الذين ارتكبوا جرائم كان ضحاياها البيض.

و يبلغ عدد الأمريكيين الأفارقة 12% من السكان، وهم يشكلون 40 % من الذين ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام فيهم 6.

ومضت منظمة العفو الدولية قائلة، بأن واحدا على الأقل من كل خمسة أمريكيين أفارقة، أعدموا منذ العام 1977، وربع السود الذين نفذ فيهم حكم الإعدام بسبب قتلهم أشخاصا بيضا، حوكموا أمام هيئة محلفين جميع أعضائها من البيض.

و تبين القضايا،وجود نمط من أعضاء النيابة العامة الذين يطردون المحلفين المنتمين إلى الأقليات،خلال عملية اختيار هيئة المحلفين.

و تشير الأبحاث حول مواقف المحلفين في قضايا عقوبة الإعدام، إلى أن النزاعات العنصرية يمكن أن تشوب مداولات المحلفين، وأن المزيج العرقي للمحلفين يمكن أن يلعب دورا في النتيجة التي تتمخض عنها المحاكمات المتعلقة بعقوبة الإعدام.

و من السمات المميزة للقضاء الأمريكي في عقوبة الإعدام، عدد الأخطاء المرتكبة في مرحلة الإدانة و إصدار الأحكام، والتي تكتشف في مرحلة الاستئناف.7

و أكدت منظمة العفو الدولية في تقريرها، بأن اللجوء المستمر للولايات المتحدة الأمريكية إلى القتل القضائي، يفضح زيف ادعاءاتها بأنها مناصر عالمي لحقوق الإنسان.
و يظل الحكم الصادر عن المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية، في عام 1987 في قضية ما كلسيكي، عقبة في وجه الطعون ضد أحكام الإعدام، المبنية على أسباب التمييز العنصري.

ففي عام 2001 أشارت المحكمة الاتحادية في ولاية أوهايو إلى أن الخلفيات العنصرية، المتعلقة بالذين ينتظرون تنفيذ أحكام الإعدام في الولاية تثير قلقا شديدا،لكن المحكمة أعربت عن عجزها عن تصحيح الوضع، بسبب الاجتهاد القضائي الصادر عن المحكمة العليا في قضية ماكلسيكي، وهو الاجتهاد الذي يمنع الطعن لأسباب عنصرية.

الفقرة الثانية : الواقع القضائي لعقوبة الإعدام في المغرب.

نفحص الواقع القضائي لعقوبة الإعدام في المغرب على مستويين،

الأول: على مستوى قضاء الحكم، والثاني على مستوى قضاء النيابة العامة.

أولا: على مستوى القضاء الحاكم.

يتبين من الإطار التشريعي لعقوبة الإعدام، الذي عرضنا له في المحور الأول، بأن المشرع المغربي، مازال يحتفظ بعقوبة الإعدام،لكنه يوسع في ذات الوقت من مجال الظروف القضائية المخففة، و الأعذار القانونية، إلى درجة أدخلت الكثير من المرونة على قسوة العقوبة، وخولت القضاء الدور الأساسي في مجال عقوبة الإعدام، بحيث يمكن القول بأن الحكم بهذه العقوبة، موكول في أغلب الحالات لتقدير القضاة، بما لهم من سلطة تفريد الجزاء و تحديده.

هذه السياسة العقابية المرنة، التي سلكها المشرع المغربي في التعامل مع هذه العقوبة، هي التي تفسر العدد المنخفض لحالات الحكم بالإعدام، يضاف إلى ذلك، التنفيذ المحدود للأحكام الصادرة بهذا الشأن، ناهيك عن المفعول المخفف لنظام العفو.

وتدل الإحصائيات الرسمية، على أن هناك ميلا واضحا نحو الحد من عقوبة الإعدام، سواء فيما يخص عدد الأحكام الصادرة، أو العدد المنفذ منها، حيث يقتصر التنفيذ على بعض الجرائم التي تكتسي نوعا من الخطورة.

و تأسيسا على ذلك، يمكن القول بأن المغرب ينهج، سياسة الحل الوسط، وهو الحل الذي يحتفظ بالعقوبة، مع الحد من حالات الحكم و التنفيذ.

وهكذا، وخلال الفترة الممتدة ما بين 1982 و2007 (25 سنة) لم ينفذ سوى حكمين، أولهما سنة 1982 وآخرهما سنة 1993، وانخفض مجموع الأحكام الصادرة بالإعدام، خلال الفترة المذكورة،إلى 70 حالة خلال سنة 2004، وذلك بالنظر إلى الاستفادة من نظام العفو.

ويرى الملاحظون، أن المغرب يسير في اتجاه إلغاء عقوبة الإعدام، لأنه جمد العمل بها قبل أكثر من 14 سنة.

و في هذا السياق، يقول “ميشال طوب”، الكاتب التنفيذي للتحالف الدولي لمناهضة عقوبة الإعدام”إن المغرب من أكثر الدول السائرة في اتجاه إلغاء عقوبة الإعدام، فعمليا لم تنفذ العقوبة منذ 14 سنة، كما أن الساحة الحقوقية،و السياسية و الثقافية المغربية، تشهد حركة نشيطة من أجل إلغاء العقوبة، وأضاف المتحدث، على هامش ندوة صحفية بمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي الثالث لمناهضة عقوبة الإعدام، في باريس في فبراير 2007، بأنه متفائل، فيما يتعلق بإلغاء العقوبة في المغرب، فالعاهل المغربي لم يعط أوامره لتطبيق العقوبة، منذ وصوله إلى الحكم سنة 1999 بالرغم من صدور عدد من أحكام الإعدام،خاصة بعد التفجيرات الانتحارية بالدار البيضاء في عام 2003.

وتجدر الإشارة إلى أن هيئة الإنصاف و المصالحة، قد أوصت بإلغاء عقوبة الإعدام.

ثانيا : دور النيابة العامة بالنسبة لعقوبة الإعدام.

إن انطلاق الدعوى العمومية، و البذور الأولى للقضية، تبدأ مع البحث التمهيدي الذي يجريه ضباط الشرطة القضائية تحت إشراف النيابة العامة.

ولا يهمنا في هذا المجال، التعرض لدور الضابطة القضائية و لا الحكم لهذا الدور أو عليه، حسبنا أن نؤكد أهمية عمل الضابطة القضائية بالنسبة لما ستتخذه النيابة العامة، وما لهذا العمل من تأثير في تكوين عقيدة القضاة.

إن البحث التمهيدي، يشكل الفاتحة للخصومة الجنائية، و يطبعها بطابع يتعذر أن يزول في المراحل اللاحقة، و ما يهمنا هو أن تخرج الدعوى نظيفة صافية من بين أيدي المكلفين بالبحث التمهيدي و التحقيق الإعدادي.

ثم يأتي دور النيابة العامة،لتخلع على القضية اللباس الذي يناسبها، و تصبها في القالب التشريعي الذي يجرمها و يعاقبها، في ظل تكييف الوقائع و إسناد التهمة إلى المتهم، على ضوء ما تجمع ضده من أدلة، وقرائن تفند قرينة البراءة وتدحضحها.

ويثور التساؤل حول مهمة النيابة العامة، باعتبارها خصما شريفا،فهل يستطيع ممثلها، أن يخلع لباس الاتهام،ليرتدي ثوب القاضي،ويقدم جميع الأدلة في أمانة بشقيها: ثبوتا و نفيا، و أن يحافظ على الدليل أيا كانت قيمته، فكم من أدلة وأشياء وجدت على مسرح الجريمة، فغضوا الطرف عنها،وكان لها لو طرحت أمام العدالة قيمة قيمة كبرى في كشف الحقيقة.

و إذ يهمنا الحديث عن الجرائم المعاقبة بالإعدام، فالأجدر أن يتولى تحريك الدعوى العمومية فيها ممثلون للنيابة العامة، نالوا نصيبا و افرا من الثقافة القانونية، والخبرة الميدانية، إذ أن المتابعة و التحري، له فنه و دراسته، وله عمله و خبرته.

إن قراءة ملف القضية، وتفحص محاضره، ووثائقها فن صعب المراس.

كما أن الإشراف على البحث و التحقيق، وممارسة الدعوى العمومية أمام الفضاء، يشكل فنا مدروسا، وموهوبا، قبل أن يكون مجرد إجراءات و مواجهات، وجب أن يعلو فيها صوت الحقيقية، قبل البحث عن حبال الاتهام.

إن التصريحات التي تباشر تحت إشراف النيابة العامة، تشكل فنا في المقال الأول، وهو فن يفترض التوفر على الحنكة و التجربة و تقدير الظروف الاجتماعية و النفسية.

و تأتي بعد ذلك المرحلة الثالثة، في دور ممثل النيابة العامة، حين تنتصب قامته في محراب العدالة، والجدير بالذكر، أنه لا يشترط في تعاليم النيابة العامة أن يتولى المرافعة أمام القضاة، من قام بالإشراف على البحث التمهيدي، أو التحقيق الإعدادي، إذ بالإمكان أن يأتي ممثل النيابة العامة آخر،غريب عن نبض الحقيقة، عن خلجات المتهم و انفعالات الشهود،هذا الغريب يبدأ في التعرف عليها، يعرف الجريمة و المجرم فقط، من خلال الأوراق يقرأها، و يقوم بعد ذلك بإعداد مرافعته، باحثا عن أكثر العبارات رنينا و بلاغة.

و تبدأ المحاكمة، يظهر ممثل النيابة العامة فيها كعنصر مكمل للمحكمة، مكانه في القمة، ومكان الدفاع في السفح، يبدو و كأنه إلى جانب الجريمة، ومن هنا قيل بأن الله وحده القادر على أن يكون محاميا عاما.”Seul Dieu pourrait être avocat général”

و حاصل القول، أن النيابة العامة هي التي تصف الأفعال بالوصف الإجرامي الذي يعاقب بالإعدام، و هي التي توجه التهمة، و تباشر الدعوى و المتابعة، وترافع فيها و تطالب برأس المتهم، و هي في الختام، التي تتولى تنفيذ العقوبة.

و تأسيس على ذلك، يمكن القول بأن النيابة العامة، هي التي تتولى تفعيل النصوص التشريعية المعاقبة للجرائم بوجه عام، و تحدد عقوبة الإعدام بوجه خاص، وهي التي تسهم إلى حد بعيد في بلورة كل من التوجه التشريعي، والواقع القضائي.

ونأتي إلى الخلاصة، والخلاصة ليست تلخيصا، وإنما هي عبرة تعتبر، ونتيجة تستنتج، و ثمرة تنفع.

و العبرة التي نعتبرها، والنتيجة التي تنتهي إليها من خلال هذا العرض، هي أن التطور سائر نحو إلغاء هذه العقوبة، ناهيك أن ثلثي دول العالم، قد ألغتها، أو عطلت العمل بها، لكونها تتنافى مع الحق في الحياة، على المستوى الإنساني و الحقوقي.

مع ذلك،فهي في الشرائع التي مازال تعتمدها، تعتبر عقوبة عادلة و مشروعة، لا تجافي الحق في الوجود لأن هذا الحق، حسب هذه الشرائع حق نسبي غير مطلق، و أن الحقيقة المطلقة ليست في دنيا البشر، وليست من سماتهم، بل هي صفة من صفات الخالق وحده فهو الذي يعلم السر و ما يخفى.

————————————

2- لا حظ جريدة [العلم] المغربية العدد 6886 الثلاثاء 7 نوفمبر 2007

3 – لا حظ التقرير 2002/017/12 MED وتاريخ 13 يونيه2002 حول عقوبة الإعدام

4- لاحظ بالنسبة لعقوبة الإعدام في العالم العربي الحبيب بيهي:” عقوبة الإعدام بين الإبقاء و الإلغاء”.عرض مقدم لندوة السياسة الجنائية في العالم العربي- منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية و القضائية – العدد 5 الرباط 2006 ص 59.

5- لاحظ جريدة مغربية العدد 6886 الثلاثاء 27 نونبر 2007.

6- التقرير رقم 2003/057/51 AMR و تاريخ 24 أبريل 2003 بعنوان” الولايات المتحدة الأمريكية-الإعدام عن طريق التمييز استمرار ذوو العرق في قضايا عقوبة الإعدام.

7منذ عام 1973 تم الإفراج عن 124 سجينا في الولايات المتحدة الأمريكية كانوا ينتظرون تنفيذ عقوبة الإعدام، بعد ظهور أدلة تثبت براءتهم، وكانت هناك ست حالات كهذه سنة 2004 و حالتان سنة 2005، و حالة سنة 2006 و حالة أخرى سنة 2007-وكان بعض السجناء على وشك تنفيذ حكم الإعدام فيهم، بعد أن أمضوا سنوات طويلة في انتظار التنفيذ، ولا تقتصر مشكلة الإعدام المحتمل للأبرياء على الولايات المتحدة الأمريكية، ففي عام 2006 أفرجت تنزانيا عن محكوم بالإعدام تبينت براءته- للمزيد من الإيضاح راجع موقع “الكرامة لحقوق الإنسان” و تقرريها المنجز في 2-2-2007.

—————————————

اعادة نشر بواسطة محاماة نت