دراسة وبحث قانوني عن حماية برامج الحاسب بتشريعات حقوق المؤلف

المقدمة

إن عصر ثورة المعلومات التي يشهدها عالمنا اليوم يعتمد إعتماداً أساسياً على الحاسب بما له من قدرات هائلة للتخزين والاسترجاع وطرح الحلول لأعقد المشكلات. فالحاسب (Computer)، جهاز إلكتروني، يستطيع ترجمة أوامر مكتوبة بتسلسل منطقي لتنفيذ عمليات إدخال بيانات Data LAN put، أو إخراج معلومات Information Out Put، أو إجراء عمليات حسابية أو منطقية، وهو يقوم بالكتابة على أجهزة الإخراج Output Devices، أو التخزين. وهو يتكون من مجموعة من المكونات المادية Hard ware، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام رئيسية، هي وحدة التشغيل ووحدات الإخراج ووحدات التخزين. وتوجد إلى جانب المكونات المادية مكونات منطقية (البرامج) وهي الأوامر المرتبطة منطقياً والموجهة إلى الحاسب بعد ترجمتها إلى اللغة الوحيدة التي يفهمها وهي لغة الأرقام الثنائية Binary Code.

إن الاستخدامات المبتكرة والمميزة للحاسب لا يرجع الفضل فيها لجهاز الحاسب ذاته – للمقومات المادية -، بل يعود إلى عبقرية العاملين في مجال البرامج، فالبرامج من الحاسب بمثابة الروح من الجسد، فبدون البرامج يكون الحاسب قطعة من الحديد عديمة الفائدة.

إن الأموال الطائلة التي تتطلبها عملية إعداد وإنتاج البرامج وبالمقابل كثرة الاعتداءات على هذه البرامج عن طريق النسخ مما يفقد صاحب البرنامج إمكانية استعادة ما أنفقه من مبالغ في سبيل إعداد وإنتاج البرنامج في ظل إمكانية بند السرية التعاقدي، التي درج منتجو البرامج على وضعه في عقود نقل البرامج، في توفير حماية فعالة لبرامج الحاسب، كون هذا البند لا يكون حجة إلا بين المتعاقدين وأما الغير فلا يكون هذا البند حجة عليه، ولا يشكل مانعاً قا نونياً له في استخدام البرنامج ونسخه.

كل الأمور السابقة دفعت إلى البحث عن الفرع القانوني من فروع الملكية الفكرية الأقدر على توفير حماية فعالة لبرامج الحاسب. فالاتجاه الغالب هو أن تشريعات حقوق المؤلف بما تمتاز من مرونة تسمح بكفالة حماية فعالة لمبدعي الفكر أياً كانت صورة التعبير، فهذه التشريعات أكثر مقدرة على توفير حماية مثلى لبرامج الحاسب، وقد حظي هذا الاتجاه بتأييد غالبية التشريعات الوطنية وكذا أحدث الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بالملكية الفكرية، وهي اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (Trips). أما الاتجاه الثاني، الذي يرى في تشريعات براءة الاختراع الوسيلة الفعالة لتوفير الحماية المطلوبة لبرامج الحاسب، فلم يلق التأييد الذي حظي به الاتجاه الأول.

خطة البحث:

دراستنا هذه التي تخصصها للحماية التشريعية لحقوق مؤلف برامج الحاسب، سنتناول فيها مسألتين: الأولى الطبيعة القانونية لبرامج الحاسب، والثانية مضمون الحماية القانونية لبرامج الحاسب بتشريعات حقوق المؤلف.

أولاً: الطبيعة القانونية لبرامج الحاسب
على الرغم من إجماع الفقه(1) على أن برامج الحاسب تعد عملاً ذهنياً في المقامم الأول، إلا أنه قد انقسم إلى اتجاهين رئيسيين في تحديد الفرع القانوني من فروع الملكية الفكرية الذي يتم حماية هذه البرامج بقواعده، فهناك من يرى بأن ذلك الفرع القانوني هو قانون براءة الاختراع، وهناك من يرى أن حماية البرامج تدخل في نطاق قانون حقوق المؤلف.

أ. حماية برامج الحاسب بقانون براءة الاختراع:
ذهب بعض الفقه(2) إلى القول بأن برامج الحاسب تعد من قبيل المبتكرات التي يتمتع صاحبها بحق ملكية الاختراع. وهذا يعني أنه متى توافرت الشروط القانونية الواجب توافرها في الاختراع في هذا البرنامج، منح صاحب البرنامج براءة اختراع، وبالتالي يكون له حق استئثاري على البرنامج.

إن إعطاء تقييم صحيح للرأي السابق يقتضي منا تناول الشروط الواجب توافرها لمنع براءة الاختراع، وكذا مفهوم الحق الاستئثاري الذي تخوله براءة الاختراع لصاحبها، ومدى تطابق ذلك مع طبيعة برامج الحاسب. وهذا ما سنتناوله فيما يلي:

شروط منح البراءة:
تستلزم قوانين براءة الاختراع لمنح براءة الاختراع توافر شروط أربعة وهي:
وجود الابتكار والجدة وقابلية الاختراع للاستغلال التجاري وأخيراً أن لا يكون ممنوعاً. ونكتفي بتناول الشروط الثلاثة الأولى.

الشرط الأول: أن يكون هناك ابتكار
لمنح المخترع براءة اختراع يجب أن يكون العمل الذي قام به متضمناً فكرة أصلية مستنداً إلى نظرية علمية، أي إيجاد شيء لم يكن موجوداً من قبل(3)، أما إذا كان ما قام به طالب البراءة هو عبارة عن تحسين لشيء موجود من قبل بالاقتباس منه أو بالإضافة إليه، فإن ذلك لا يعد اختراعاً بل من قبيل التحسينات التي لا ترقى إلى مستوى الفكرة الابتكارية، وبالتالي لا تصلح أن تكون موضوعاً لبراءة الاختراع. فالمراد في وجود الابتكار الذي يصلح لمنح صاحبه براءة اختراع، هو وجود التفنن وإنشاء الجديد(4).

إن طبيعة البرامج تتنافى مع شرط الابتكار، كون البرامج أنواع شتى منها البرامج الأصلية ومنها البرامج المجمعة ومنها البرامج المؤلفة ومنها البرامج المفسرة والشارحة…. الخ وبالتالي فإن غالبية البرامج لم تأت بوضع شيء لم يكن موجوداً من قبل، بل إنها إضافات أو تعديلات أو اقتباسات لبرامج أخرى أو مستندة في الأساس على برامج قائمة وإذا تم حماية البرامج وفقاً للرأي السابق بقانون حق براءة الاختراع فهذا يعني أن غالبية البرامج ستكون دون حماية لعدم توافر شرط الابتكار فيها، ولهذا فإن قانون براءة الاختراع ليس القانون الذي يمكن أن يوفر الحماية القانونية لأصحاب برامج الحاسب.

الشرط الثاني: أن يكون الابتكار جديداً
يستلزم في الابتكار أن يتوافر فيه عنصر الجدة، ويقصد بالجدة ألا يكون أحد قد سبق المخترع في التعريف بالاختراع(5) أو بمعنى آخر عدم علم الغير بسر الاختراع قبل طلب البراءة عنه(6)، فإذا شاع سره بعد وضعه وقبل طلب البراءة فلا يمكن منح البراءة لعدم توفر الجدة.

وقد اختلفت التشريعات العربية بشأن الجدة فبعض التشريعات(7) استلزمت الجدة المطلقة، أي أن لا يكون الاختراع معروفاً خلال العصور السابقة، أما البعض الآخر(8) من التشريعات، فتطلبت الجدة النسبية من حيث الزمان، أي أن لا يكون الاختراع معروفاً خلال الخمسين سنة السابقة. أما من حيث المكان فلقد استلزمت غالبية التشريعات(9) الجدة المطلقة، أي أن لا يكون الاختراع معروفاً داخل البلاد وخارجها.

إن فحص عنصر الجدة في برامج الحاسب يعتبر من الصعوبات العملية، ومرجع ذلك هو التطور الكبير في مجال البرامج إلى درجة تكون معها التفرقة بين ما هو موجود فعلاً وما هو جديد أمراً عسيراً(10)، فإذا كانت الاختراعات العادية قد تصل المدة التي يستغرقها فحصها والتأكد من مدى توافر عنصر الجدة والابتكار أكثر من ست سنوات لمراجعة كل الوثائق المتعلقة بالاختراعات المماثلة، فكيف يمكن تصور هذا الأمر بالنسبة لبرامج الحاسب المتسمة بالتطور السريع، وحتماً ستكون أمام شبه استحالة في مجاراة هذا التطور، الأمر الذي يترتب عليه استحالة الوصول إلى حقيقة توافر عنصر الجدة من عدمه.

الشرط الثالث: قابلية الاختراع للاستغلال الصناعي
يتوجب حتى يكون الابتكار الجديد اختراعاً أن يتوافر فيه الصفة الصناعية للاختراع، فلا يمكن منح براءة اختراع عن مجرد ابتكار الآراء النظرية، كون هذه الآراء النظرية المجردة لا تؤدي إلى نتائج ملموسة صناعياً، أما إذا تضمن طلب الحصول على البراءة تطبيقاً صناعياً لتلك الأفكار النظرية، في هذه الحالة يمنح صاحب الطلب براءة اختراع على التطبيق الصناعي وليس على الفكرة النظرية ذاتها.

وأن هذا الشرط هو الآخر نادر توافره في برامج الحاسب وهذا ما أكده إحصاء المنظمة العلمية للملكية الفكرية (أومبي، ويبو) حيث أشار هذا الإحصاء إلى أن واحد في المائة فقط من برامج الحاسب يمكن أن ينطبق عليها شرط الاستغلال الصناعي(11).

حق الاستئثار في البراءة

لصاحب البراءة حق استئثار على البراءة الممنوحة له فتكون له الأولوية في استغلالها صناعياً، كما يكون له حق استغلالها بطريق غير مباشر وذلك بالتنازل عنها للغير أو بالترخيص باستغلالها، فالعقود الواردة على البراءة وفقاً للقائلين بخضوع البرامج لقانون براءة الاختراع، بوصفها محلاً لحق استئثار تسمح بنقل هذا الحق أو بعض السلطات التي يخولها لصاحبه من خلال عقود التنازل أو الترخيص بالاستغلال وبالتالي قيام خبير البرامج بنقل كافة السلطات التي يخولها له حق ملكية الاختراع إلى متلقي البرنامج، وهذا يعني تنازله منذ لحظة التعاقد عن كافة حقوقه في استغلال البرنامج، وفي الوقت نفسه، وفقاً لما يقتضيه الترخيص أو التنازل في مجال البراءة – فإن المتنازل إليه أو المرخص له يلتزم باستغلال البراءة(13) وهذا الأمر يختلف عما جرى عليه في مجال التعاقد على برامج الحاسب، حيث لا يلتزم العميل باستغلال البرامج بل باستعمالها.

ونخلص مما تقدم أن طبيعة حق الاستئثار لصاحب البرنامج تختلف عنه بحق الاختراع وأن هذا الاختلاف إضافة إلى عدم توافر شروط الابتكاروالجدة والقابلية للاستغلال الصناعي يقف حائلاً بين البرامج وبين القول بحمايتها بتشريع براءة الاختراع. ولهذا ليس بالغريب عدم تجاوب المشرع مع أنصار هذا الرأي واستبعاد غالبية التشريعات الحديثة حماية برامج الحاسب بقانون براءة الاختراع بل إخضاعها للحماية المقررة للمصنفات الأدبية والفنية وفقاً لقانون حقوق المؤلف.

حماية برامج الحاسب بقانون حقوق المؤلف:

يرى غالبية الفقه(13) أن برامج الحاسب من المبتكرات الذهنية التي يتم حمايتها عن طريق تشريعات حقوق المؤلف، كون الحماية عبر هذه التشريعات لا تعترضها أية عقبات قانونية، بخلاف الحماية عن طريق قانون براءة الاختراع.

وقد أيدت غالبية التشريعات هذا الرأي منها، الأمريكي والياباني والإنجليزي والفرنسي والإيطالي والألماني والكندي والهندي(14) والمصري في المادة 2 من القانون رقم 38 لسنة 92م والمعدل بالقانون رقم 29 لسنة 1994م، والأردني في المادة 3/8 من قانون حماية المؤلف رقم 22 لسنة 1992م، والتونسي في المادة 1 من قانون الملكية الأدبية والفنية رقم 36 لسنة 1994م، والسعودي في المادة 3/10 من نظام حماية حقوق المؤلف، والقطري في المادة 2/10 من قانون حماية المصنفات الفكرية وحقوق المؤلف، رقم 25 لسنة 1995م، البحريني في المادة 2/ي من قانون حماية حقوق المؤلف رقم 10 لسنة 1993م.

أما المشرع اليمني فلم يذكر في المادة 2 من قانون الحق الفكري رقم 19 لسنة 1994م، برنامج الحاسب من ضمن المصنفات التي تتمتع بالحماية القانوينة، إلا أن هذا الوضع سيتغير عند انضمام اليمن إلى المنظمة العالمية للتجارة (جات) وبالتالي التزام اليمن بالاتفاقيات الخاصة بهذه المنظمة وبالتحديد بهذا الخصوص اتفاقية الجوانب التجارية المتصلة بحقوق الملكية الفكرية (TRIBS) والتي اعتبرت برامج الحاسب من المصنفات الأدبية(15).

والأقلية من هذه التشريعات قد تبنت وضع تعريف لهذه البرامج، حيث عرف المشرع الأمريكي البرامج في المادة 10/أ من القانون الصادر عام 1980م بشأن حقوق المؤلف المتعلقة ببرامج الحاسب، حيث عرف البرامج بأنها: “مجموعة من التعليمات الموجهة للاستعمال المباشر وغير المباشر داخل حاسب إلكتروني بغرض التوصل إلى نتائج معينة(16).

كما عرف المشرع الياباني في المادة 2/1 من قانون حقوق المؤلف لسنة 1984م البرامج بأنها: “البرامج المسجلة على اسطوانة، قادرة بمجرد إدخالها أو وضعها داخل الحاسب الإلكتروني أو أي جهاز حسابي آخر على نسخ كل المعلومات”(17).

وفي فرنسا لم يورد المشرع تعريفاً لبرامج الحاسب، بل جاء هذا التعريف في إحدى القرارات الوزارية والذي جاء فيه بأن البرامج هي: “مجموعة الخطوات والإجراءات – بالإضافة إلى الوثائق المتعلقة بها – التي تهدف إلى تشغيل نظام متكامل لأنظمة معالجة المعلومات وتوظيفها وفقاً للغرض الذي تم من أجله وضع النظام المشتمل على البرامج”(18).

ويعتبر القانون البحريني لسنة 1993م بشأن حماية حقوق المؤلف القانون العربي الوحيد الذي وضع تعريفاً لبرامج الحاسب في المادة 2/ي والتي عرفت البرامج بأنها: “مجموعة العبارات والتعليمات المعبر عنها بأية لغة، أو رمز، أو إشارة والمعدة للاستعمال في الحاسب الآلي بطريق مباشر، أو غير مباشر، بهدف التوصل إلى نتائج محددة”(19).

لم تتناول غالبية التشريعات تعريفاً محدداً لبرامج الحاسب، بهدف تجنب التدخل المباشر في وضع عملية تكنولوجية يصعب السيطرة على مصطلحاتها ومضمونها في نصوص تشريعية محددة، إضافة إلى أن هذه البرامج في تطور مستمر يستعصى معه وضع تعريف جامع لها، كما أن هذا التطور يجعل من التعريف المحدد لبرامج الحاسب قيداً على استيعاب التطورات الفنية المتلاحقة في ميدان برامج الحاسب، حيث سيجعل البرامج غير المعروفة وقت وضع النص التشريعي الخاص بالتعريف بعيداً عن الحماية القانونية نظراً لعدم تطابق المعايير الواردة في التعريف عليها. ولهذا ترك المشرع في غالبية البلدان أمر تحديد المقصود ببرامج الحاسب المحمية قانوناً للقضاء، الذي يقدره على ضوء المعطيات الفنية(20) وقت رفع الدعوى.

ولم يلق موقف غالبية التشريعات التجنب من وضع تعريف محدد لبرامج الحاسب، الاستحسان من قبل بعض رجال القانون وبعض العاملين في ميدان الحاسب الإنجليزي والذين عبروا عن استيائهم بسبب عدم وجود تعريف محدداً لبرامج الحاسب في القانون الإنجليزي الصادر في 29/6/1990م بشأن إساءة استخدام الحاسب والذي يعد أحدث التشريعات المتعلقة ببرامج الحاسب(22).

وفي تقديرنا أن خلو التشريع من تعريف محدد لبرامج الحاسب لا يعد عيباً تشريعياً، بل على العكس موقفاً صائباً يحسب للمشرع، لما سبق قوله، إضافة إلى ذلك فالمشرع في موقفه هذا سارع إلى نفس النهج الذي سار عليه بالنسبة لأنواع المصنفات الأدبية والفنية، حيث نجده لم يورد تعريفاً محدداً للمصنفات الأدبية التي أدخلها في نطاق الحماية القانونية، كالقصص والروايات والموسيقى… الخ بل ترك تحديد المقصود بهذه المصنفات للقاضي الذي عليه استنباط هذا التعريف من الواقع العملي في ضوء المعطيات الفنية، كالدراسات الأدبية بالنسبة للقصة والدراسات الموسيقية بالنسبة للمصنفات الموسيقية….ألخ.

إن تبني غالبية الفقه والتشريع فكرة حماية برامج الحاسب عن طريق تشريعات حقوق المؤلف نظراً لأن هذه البرامج هي نتاج لتفكير أصحابها وبالتالي تعتبر من المصنفات الأدبية التي يقرر لها القانون الحماية بموجب تشريعات حقوق المؤلف، فالطبيعة الابتكارية لهذه البرامج تتفق مع الطبيعة الابتكارية التي تطلبها قوانين حماية حقوق المؤلف في المصنفات الأدبية و العلمية.

ويقصد بالابتكار الذي تقوم عليه حماية قانون حقوق المؤلف للمصنف، ذلك المجهود الذهني الذي يبذله المؤلف، والذي يسفر عن خلق فكرة تتميز بطابع شخصي خاص، تبدو فيه بصمة شخصيته واضحة عن المصنف، سواء تمثل ذلك المجهود في موضوع المصنف، أو في أسلوب عرض الفكرة التي انطوى عليها ذلك المصنف، أو في الطريقة التي عالج بها الموضوع ترتيباً وتنظيماً(23). فلا تمتد الحماية للفكرة المجردة بذاتها وإنما لوسيلة التعبير عنها، فلا احتكار للفكرة(24) والتعبير المقصود هنا هو الإخراج المادي الذي تتجسم فيه الفكرة وتبرز إلى حيز الوجود الخارجي كأمر ملموس يدرك بالحواس أي أن تكون شخصية المؤلف واضحة على المصنف، إما من خلال طريقة العرض أو بما قام به من تحليل.

إن الطابع الابتكاري في برنامج الحاسب يكمن في الأسلوب المميز الذي يعالج به خبير البرمجة المشكلة المطروحة أمامه، وفي الاختيار والمزج للعناصر المكونة للبرنامج، وأن هذا الأسلوب المتميز يعد ثمرة جهد فكري شخصي لخبير البرمجة وينفرد به، فالخبير كالمترجم لأن كليهما يختار بين عدة وسائل مختلفة للتعبير عن فكرة وهذا الاختيار هو الذي تتجسد فيه شخصية خبير البرمجة إزاء برنامجه(25) ولا يقف التشابه بين دور خبير البرمجة والمترجم عند اختيار الأسلوب والصياغة بل يمتد ليشمل الحكم القانوني أيضاً، فالخبير شأنه شأن المترجم لا تمتد إليه الحماية القانونية إلا إذا قدم ما يدل على وجود حد أدنى من الابتكار في عمله.

إن عنصر الابتكار للبرنامج، كما هو عليه الحال في المصنفات الأدبية والفنية، قد يوجد في مرحلة إعداد خريطة تدفق المعلومات أو في إحدى عناصر البرنامج اللاحقة لها، أو في عملية الصياغة النهائية(26).

وخلاصة القول أن تشريعات حقوق المؤلف هي المظلة الواقية لحماية برامج الحاسب لتشابه الطبيعة الخاصة لبرامج الحاسب مع شروط الابتكار الذي تتطلبه هذه التشريعات وبالتالي فإن الصعوبات التي تكتنف الحماية بتشريعات براءة الاختراع والمتمثلة في عدم توافر شروط منح براءة الاختراع على النحو السابق ذكره، فإنها لا وجود لها في تشريعات حقوق المؤلف، وإن انتفاء هذه الصعوبات يجعل من هذه التشريعات محققة لمصالح خبراء البرمجة بشكل كبير مقارنة بتشريعات براءة الاختراع.

ثانياً: مضمون حقوق مؤلف برنامج الحاسب
خلصنا في التو إلى أن الطبيعة الخاصة لبرامج الحاسب تتفق مع طبيعة الابتكار الذي يتطلبه قانون حقوق المؤلف وبالتالي فإن الحماية الممثلة لهذه البرامج لا يمكن تحقيقها إلا بقانون حقوق المؤلف، وبمقتضى ذلك يكون خبير البرمجة مؤلفاً، ويتمتع بالحقوق التي يمنحها قانون حقوق المؤلف والتي تنقسم إلى حقوق أدبية (معنوية) وحقوق مالية (مادية).

الحق الأدبي لمؤلف برنامج الحاسب:
لا يخفى على أحد أهمية الحق الأدبي لمؤلفه لما يكابده المؤلف في إعداد مصنفه حتى يخرج إلى الناس فكرة إبداعية تسهل استيعابها والاستفادة منها، ولهذا فإن الحق الأدبي هو أساس حماية الشخصية الفكرية للمؤلف(27)، نظراً لارتباطه الوثيق بالمؤلف، لذا فإن الحق الأدبي للمؤلف يعرف بأنه: “مجموعة الامتيازات التي يمنحها القانون للمؤلف والتي لا تقوم بالمال لأنها ترتبط بشخصيته وحرية تفكير(28) وهذه الامتيازات تخول للمؤلف الصلاحيات الكاملة على مصنفه، باعتباره نابعاً منه، وانعكاس لشخصيته، وهذه الامتيازات قاصر على المؤلف، ومانعة للغير، فلا يجوز للغير ممارستها، وهذه الامتيازات القاصرة على المؤلف دعمت بضمانات كافية حيث تعتبر غير قابلة للحجز عليها ولا يسقط حق المطالبة بها أو بحمايتها بالتقادم وإنها حقوق مطلقة في مواجهة الكافة من الأشخاص.

إن المميزات التي منحها القانون للمؤلف والتي تشكل في مجموعها مضمون الحق الأدبي لمؤلف البرامج هي الحق في تقرير النشر والحق في نسبة المصنف إليه، والحق في الاحترام والحق في السحب.

فلمؤلف برنامج الحاسب الحق في تقرير نشر برنامجه، ويتمثل هذا الحق في مصلحة مؤلف البرنامج بالاحتفاظ بحق التحكم في نشر برنامجه، ومن المتعارف عليه في المصنفات بوجه عام، أن المصنف يظل من الأسرار الخاصة بالمؤلف إلى أن يختار إفشاء هذا السر، وكذلك فإن الفقه والتشريع يجمعان على أن حق تقرير النشر يتمتع به المؤلف وحده وذلك عندما يقرر إخراج فكرته وابتكاره من أعماق شخصيته إلى عالم الوجود، لأن الأمر هنا يتعلق بالسمعة العلمية أو الأدبية أو الفنية للمؤلف، وحتى قرر صلاحية عمله الإبداعي للنشر فله أن يحدد الوقت المناسب للنشر، كما له أن يختار طريقة النشر التي يراها مناسبة(29).

كما يتمتع مؤلف البرنامج بحق نسبة برنامجه إليه، أي التصريح بأن البرنامج هو نتاج جهده الذهني وأنه خالقه، ولهذا سمي هذا الحق (بحق الأبوة). ويكون هذا التصريح إما بنشر البرنامج حاملاً اسم مؤلفه من الوهلة الأولى للنشر، وأما بعد نشر البرنامج بفترة من الزمن كما لو نشر البرنامج باسم مستعار أو باسم رمزي، وبعدها يقوم بالتصحيح بالإعلان عن الاسم الحقيقي.

والبرنامج كغيره من المصنفات المحمية بقانون حقوق المؤلف يمكن أن يوضعه شخص طبيعي ولكن بتمويل وإشراف من شخص آخر طبيعي كان أم اعتباري، وهذه الحالة كثيرة الانتشار في الواقع العملي، حيث أن إنتاج البرامج في الغالب يتم عبر شركات البرامج التي تستخدم شخص أو عدة أشخاص بغرض وضع البرامج، وأن هذا الوضع آثار التساؤل حول الشخص الذي يتمتع بحق تقرير النشر وحق نسبة البرنامج إليه (حق الأبوة)، هل من قام بوضع البرنامج أم الشخص الذي قام بالتمويل والإشراف؟

وذهب البعض(30) إلى القول بأنه يمكن تكييف البرنامج بأنه مصنف جماعي، فالوضع الغالب هو تعود المشتركين في إعداد وعمل البرنامج تحت إدارة وإشراف شخص آخر طبيعي أو اعتباري، بغرض تحقيق هدف محدد.

إن الرأي السابق يساوي بين البرنامج الذي يتم تأليفه من قبل خبير برمجة واحد من البرنامج الذي يتم تأليفه من عدد معين من خبراء البرمجة، وهو في اعتقادنا غير موفق، إن مفهوم المصنف الجماعي ومن التسمية يتبين أن تأليفه يتم من عدد معين من الأشخاص، أما إذا قام شخص واحد بإعداد البرنامج تحت إدارة وتمويل من شخص آخر، فلا يمكن اعتبار ذلك البرنامج بأنه مصنف جماعي، بل يظل مصنفاً منفرداً، وفي هذه الحالة يكون لمؤلف البرنامج كافة الحقوق الأدبية وأما الحقوق المالية فتكون لحق من قام بالتمويل والإشراف ما لم يوجد اتفاق يقضي بغير ذلك.

وقد أخذ بهذا الرأي المشرع التونسي والذي نص في الفصل (المادة) 43 من قانون الملكية الأدبية والفنية لسنة 1994م على أنه ” ترجع ملكية البرامج المعلوماتية المنتجة من قبل أجير أو من جمع من الإجراء بمناسبة أدائهم لمهمتهم إلى المشغل الذي يتمتع بكل الحقوق المخولة للمؤلفين ما لم يوجد شرط مغاير”.

كما يتمتع مؤلف البرنامج بحق أدبي في احترام برنامجه وعدم المساس به والاعتداء عليه حتى لا يتم إلحاق الضرر بالمؤلف أو الإساءة إلى مكانته الشخصية أو الأدبية أو العلمية في المجتمع، فأوصت تشريعات حقوق المؤلف(31) إجراء أي تعديل في المصنف بالحذف أو بالإضافة دون موافقة المؤلف سواء في نفس المصنف أو تسميته ويشمل ذلك المقدمات والشروحات والخواتم والتعليقات. كما لا يجوز للغير أن يقوم بترجمة المصنف دون موافقة المؤلف. وأي فعل من ذلك يعد اعتداء على الحق الأدبي للمؤلف في احترام مصنفه يكون له دفع هذا الاعتداء إذا كان من شأن هذا الاعتداء المساس بسمعة المؤلف وشرفه.

إن الطبيعة الخاصة للبرامج وحاجة العملاء للتبديل والتحوير بغرض الوفاء باحتياجاتهم، دفع البعض إلى المناداة بضرورة تدخل المشرع وإعطاء العميل الحق في إجراء التعديلات الضرورية وعدم اعتبار ذلك اعتداء على الحق الأدبي لمؤلف البرنامج في احترام برنامجه، ويرون أن(32) تدخل المشرع في تقيد حق مؤلف البرامج في احترام مصنفه بإعطاء العميل الحق في التحوير ليس القصد منه إهداء إحدى الحقوق الأدبية لمؤلف البرنامج، بل مجرد توفير نوع من المرونة للعميل في استعمال البرنامج، وتجاوباً مع معطيات الواقع العملي ومتطلباته في ميدان الحاسب.

وبالنظرة إلى غالبية تشريعات حقوق المؤلف العربية نجد أن لا حاجة لتدخل المشرع في حق مؤلف برنامج الحاسب في احترام مصنفه، كون أن المبدأ الأساسي في بعض التشريعات هو عدم جواز قيام الغير بأي تعديل أو تحويل للمصنف، فإن الاستثناء هو جواز ذلك التعديل أو التحوير إذا اقتضت الضرورة ذلك أثناء التنفيذ وهو ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة 19 من قانون الحق الفكري اليمني. أما البعض الآخر من التشريعات فهي وإن كانت قد خطرت إجراء التعديل فإنها لم تعتبر أي تعديل على الحق الأدبي للمؤلف باحترام مصنفه إلا إذا كان من شأن هذا الاعتداء الإساءة لسمعة المؤلف أو شرفه، وهو ما نصت عليه المواد 9/د من القانون الأردني، والمادة 7 من القانون البحريني، والمادة 7/2 أ من نظام حماية حقوق المؤلف السعودي.

والقسم الثالث من التشريعات لم تجز أي تعديل إلا بموافقة مكتوبة وموثقة، وهو ما نصت عليه المواد (11) من القانون القطري والإماراتي والمادة 8/2 من القانون التونسي، كما قضت المادة 45 من نفس القانون بعدم جواز اعتراض المؤلف على تعديل البرنامج من قبل العميل إذا كان هذا التعديل في حدود الحقوق المتنازل بها للعميل ما لم يوجد اتفاق يقضي بخلاف ذلك.

وأخيراً يتمتع مؤلف برنامج الحاسب بحق برنامجه من التداول، وهو حق معترف به للمؤلف متى ظهرت أسباب قوية تدفع المؤلف إلى ضرورة سحب مصنفه من التداول إذا كان بقاء هذا المصنف سوف يؤدي إلى الإساءة إلى سمعته الأدبية أو الشخصية لمؤلفه، وأنه يتوجب في هذه الحالة إلزام المؤلف بدفع تعويض عادل لمن آلت إليه حقوق الاستغلال المالي للمصنف.

والواقع أن تحقق شرط التعويض بالنسبة لبرامج الحاسب والذي يشمل ما لحق العميل من خسارة وما فاته من كسب، سيكون بلا شك تعويضاً مرهقاً لمؤلف البرنامج ومرد ذلك يعود إلى التكاليف الباهظة التي تتطلبها عملية إعداد برامج الحاسب نظراً لطول عمليات الإعداد للبرنامج وصعوبتها وتكلفتها المالية الباهظة، فمثلاً برنامجاً واحداً من برامج ألعاب الفيديو يحمل اسم Pac-man بلغت تكلفة إعداده 3.2 مليون دولار أمريكي(33).

وأن هذا التعويض الذي سيكون باهظاً جداً، إضافة إلى خشية استغلال المنافسين للعميل هذا الحق لمؤلف البرنامج ودفعه إلى المطالبة بسحب برنامجه لمنع العميل من الاستفادة من التفوق التقني الذي تحقق له بفضل هذا البرنامج، دفع البعض إلى المناداة باستبعاد حق سحب البرنامج بهدف استقرر التعامل في ميدان البرامج(34).

والواقع وكما هو متفق عليه بشأن سحب المؤلف لمصنفه من التداول، أن هذا السحب ليس حقاً للمؤلف بل قيداً بشرط وجود أسباب خطيرة تدعوه إلى ذلك، وأن يكون السحب بقرار قضائي وللقاضي سلطة تقديرية في قبول الطلب أو رفضه، فمتى ما أثبت المؤلف جدية أسباب سحب المصنف أجاب القاضي طلبه، أما إذا تبين للقاضي عدم وجود أسباب قوية وخطيرة رفض طلب السحب. ويكون إجابة طلب سحب المصنف مشروط بدفع التعويض العادل.

وتأسيساً على ذلك فإذا وجدت الإمكانية لدى مؤلف البرنامج في دفع التعويض العادل بحسب ما يقرره القاضي وكانت الأسباب الدافعة إلى طلب سحب البرنامج جدية وخطيرة، تكون المبررات التي استند إليها المنادون باستبعاد حق سحب البرنامج قد انتفت. وأما إذا لم تكن أسباب طلب سحب البرنامج جدية وخطيرة فإنه لن يسمح القاضي بهذا السحب، وكذا الحال إذا لم تكن لديه المقدرة المالية على دفع التعويض الذي يحدده القاضي للعميل.

الحق المالي لمؤلف البرنامج:
لمؤلف البرنامج علاوة على حقه الأدبي، على النحو السابق، حق مالي يتمثل فيما له من سلطة الاستئثار باستغلال هذا البرنامج بما يعود عليه من ربح مالي مقابل لجهده الذهني. فالحق المالي لمؤلف البرنامج من الحقوق الاستئثارية، وهذا يعني أنه وحده هو الذي يملك الترخيص بكل استخدام للبرنامج، ولا يجوز لغيره استعمال البرنامج إلا بعد الحصول على موافقة مؤلفه.

ويكون للمؤلف عموماً الحق في استغلال مصنفه عن طريق نقله للجمهور سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة. وحددت المادة 13 من قانون الحق الفكري اليمني الطرق التي يمكن من خلالها استغلال الحق المالي للمؤلف، هي طبع (نسخ) المصنف والأداء العلني للمصنف، وطرحه للتداول ونقل المصنف إلى لغة أو لغات أخرى.

1. طبع (نسخ) البرنامج:
يمكن لمؤلف البرنامج القيام بنقل برنامجه إلى الجمهور بصورة غير مباشرة عن طريق صنع نسخ منه. ومتى قام المؤلف بنسخ برنامجه، فهذا يعني أنه حدد اللحظة المناسبة لنشر برنامجه والكشف فيها عنه، ولذلك يرتبط الحق الأدبي للمؤلف في تقرير نشر مؤلفه بحقه المالي في النسخ كون النسخ هو وسيلة الكشف عن البرنامج.

ويكون نسخ البرامج في أية دعامة كالأقراص الجامدة أو المرنة، أو أشرطة الكاسيت….ألخ وبالعدد الذي يريده المؤلف، بمقابل أو بدون مقابل. ولا يجوز لغيره من الأشخاص القيام بنسخ البرنامج دون موافقته، سواء كان هذا النسخ كلياً للبرنامج أو جزئياً، ولا يقتصر النسخ المحرم قانوناً على البرنامج وحده بل يمتد إلى المستندات الوصفية له باعتبارها تدخل في مفهوم البرنامج المحمي قانوناً، كل ذلك تطبيقاً لقواعد حماية المؤلف بوجه عام.

واستثناء من الأصل العام أجاز المشرع نسخ المصنفات بوجه عام دون الحصول على موافقة المؤلف إذا كان الهدف من النسخ هو تلبية الحاجات الشخصية أو للاستفادة المعرفية والاستخدام في الدراسات والأبحاث (م15/2 حق فكري يمني).

فإذا قام شخص بعمل نسخة واحدة من برنامج قد تم نشره من قبل، وذلك لاستعماله الشخصي أو للاستفادة المعرفية أو لاستخدامه في الدراسات والأبحاث فلا يكون ما قام به اعتداء على حقوق مؤلف البرنامج ولا يجوز لهذا الأخير منعه من ذلك.

أما إذا كان الغرض من النسخ الحصول والقيام بعمل تجاري سواء بصورة مباشرة كما لو قام الناسخ ببيع ما نسخه للغير، أو بصورة غير مباشرة، كما لو كان غرض الناسخ التخلي عن النسخة للغير لتحقيق أغراض دعائية(35).

وينطبق أيضاً النسخ للاستخدام الشخصي أو للاستفادة المعرفية على النسخ بهدف الحفظ، فيكون للعميل عمل نسخه من البرنامج لحفظها لاستخدامها على الحاسب عند صلاحية النسخة الأصلية للاستخدام، وذلك خلال فترة مشروعية استخدام النسخة الأصلية، أما إذا انتهت الفترة المتفق عليها للاستخدام النسخة الأصلية فلا يجوز للعميل استخدام النسخة المحتفظ فيها، كون حقه في استخدامها مقيد بفترة مشروعية استخدامه للنسخة الأصلية.

2. الأداء العلني:
يكون نقل المصنف إلى الجمهور بصورة مباشرة عن طريق الأداء العلني وذلك بقيام المؤلف بعرضه مباشرة على الجمهور، إذا كان المصنف من المصنفات التي يمكن عرضها لبرامج الحاسب فإنه لا يتصور عرضها على الجمهور بشكل علني إذ لا توجد فائدة أو قيمة تعود على الجمهور أو من يتصور شراء حق الأداء العلني من مجرد اطلاع الغير على محتوى البرنامج، فالهدف من تصميم وإنتاج البرامج ليس عرضها على الجمهور، وإنما استخدامها لتحقيق أغراض معينة.

3. طرح البرنامج للتداول:
يكون لمؤلف البرنامج استغلال برنامجه بطرحه للتداول أو توزيعه، وهذا الحق يعتبر في أحيان كثيرة متضمناً في حق الطبع أو النسخ. فعندما يبرم مؤلف البرنامج عقداً يتعلق بنسخ برنامجه، فإنه يملك سلطة تحديد ظروف وشروط توزيع النسخ، وتغطي هذه العقود أمور عدة مثل الكمية والثمن والنطاق الجغرافي للتوزيع المرخص به.

وفي القانون اليمني لا يعد حق التوزيع أو طرح البرنامج للتداول ضمن الحق في نسخ البرنامج كون المادة 13 من القانون قد ذكرت هذا الحق على وجه التحديد وبالتالي يكون لمؤلف البرنامج استخدام هذا الحق كغيره من مؤلفي المصنفات الأدبية والفنية بصورة مستقلة.

4. نقل البرنامج من لغة إلى لغة أخرى:
إن نقل البرنامج من لغة المصدر إلى لغة الهدف، تعد ترجمة للبرنامج من لغة إلى أخرى، فإذا قام به المؤلف لوحده فإنه يكون قد جسد حقه المالي على البرنامج، كما أن حقه الاستئثاري في الترجمة يمكن التنازل عنه للغير مقابل أو بدون مقابل، ولا يجوز للغير القيام بهذه الترجمة دون موافقة مؤلف البرنامج وإلا عدّ مقلداً للبرنامج.

تصرف مؤلف برامج الحاسب بالحق المالي:

تعتبر حقوق مؤلف برنامج الحاسب، كغيره من مؤلفي المصنفات الأدبية والفنية، حقوق ملكية استئثارية لمال معنوي أو حقوقاً شخصية نظراً لأن المصنف (البرنامج) ينبع من شخصية مبدعه، ومن ثم فإن الحقوق المالية يمكن أن يكون التصرف بها من قبيل منح الحق في استخدام المصنف، وبدونه يصبح استخدام الغير للمصنف غير مشروع(36).

فقد منحت غالبية(37) تشريعات حقوق المؤلف الحق في التصرف بالحقوق التي تشكل مضمون حقه المالي، وكأي مؤلف لمصنف أدبي أو فني فإن لمؤلف برنامج الحاسب أن يتصرف في حقوقه المالية الواردة على البرنامج، من خصائص الحق المالي للمؤلف قابليته للتصرف، سواء كان هذا التصرف بمقابل أو بدون مقابل.

الوصف القانوني للعقود الواردة على برنامج الحاسب:

ولما كان الغرض من إنشاء وتصميم البرامج هو تشغيل جهاز الحاسب وبالتالي فإنها تعد ملحقاً ضرورياً من ملحقات جهاز الحاسب، فقد أدى ذلك إلى ان يسود الاعتقاد بأن التصرفات الواردة على برامج الحاسب هي في الأساس عقود بيع، أي خضوع البرامج لنفس النظام القانوني لجهاز الحاسب والذي يتم التعاقد بشأنه من خلال عقود البيع. إلا أن هذا الاعتقاد مجاف للحقيقة، حيث أن الطبيعة الخاصة لبرامج الحاسب والطبيعة الاقتصادية في التعامل على برامج الحاسب والقائمة على أساس اتجاه إرادة المتعاقدين – مؤلف البرنامج والعميل – تدفع بعدم اعتبار كل التصرفات التي ترد على برامج الحاسب بأنها عقود بيع، فهناك من الأحوال ما يمكن معها القول بأن الوصف القانوني لتصرف مؤلف البرنامج بيعاً وفي أحوال أخرى يكون مقاولة وفي أحوال ثالثة لا هذا ولا ذاك بل عقد آخر هو عقد الترخيص باستعمال برامج الحاسب. حيث ذهب الفقه(38) إلى أن عقود البيع لا تتوافق في كثير من الأحيان على التعاملات التي تتم على البرامج مع طبيعة الغاية الاقتصادية من التعامل على هذه البرامج، كون مؤلف البرنامج نادراً ما يقدم على التنازل عن حقوقه المالية، وإنما فقط يتنازل عن الحق في استعمال البرامج، وبالتالي في هذه الحالات لا يمكن اعتبار التصرف هنا من عقود البيع، فإذا لم تكن إرادة مؤلف البرنامج قد اتجهت إلى التصرف بالحق المالي بنقله كلياً أو جزئياً إلى العميل، فإن البحث في القواعد المنظمة للعلاقة بين الطرفين يجب أن ينحصر في مجال الحقوق الشخصية التي تحكمها النظرية العامة للالتزامات.

إن عدم اعتبار بعض التصرفات الواردة على برامج الحاسب بأنها من عقود البيع لا يرجع إلى استحالة التعامل بالبيع على برامج الحاسب، وإنما يرجع إلى عدم ملاءمة تطبيق القواعد القانونية الخاصة بعقد البيع على التصرفات لا يهدف منها مؤلف البرنامج إلى التنازل عن حقه المالي، كما هو الحال في التصرف الذي يقوم بموجبه مؤلف البرنامج بوضع برنامج متخصص بناء على طلب العميل مقابل مبلغ مالي يقوم العميل بدفعه، فالقواعد المنظمة لعقد البيع لا تكون ملائمة لمثل هذا التصرف، وكون هذا النوع من التصرف يتضمن التزاماً على عاتقه بعدم التصرف بالبرنامج، بل يقتصر حقه باستخدام البرنامج على جهاز واحد فقط، وفي المكان المحدد بالعقد، وبالتالي فإن القواعد الملائمة لهذا النوع من التصرف هي القواعد الخاصة بعقد المقاولة.

وعلى ذلك، يكون العقد الوارد على برنامج الحاسب بيعاً إذا كان محل التصرف برنامج من برامج النظام(39) إذا كانت مثبتة على الذاكرة الدائمة في اللوحة الأم. فأما إذا لم تكن مثبتة في الذاكرة الدائمة في اللوحة الأم، فيمكن إضافتها إلى الأجهزة عن طريق كروت خاصة إلى اللوحة أو من خلال نسخها على القرض الأساسي لجهاز الحاسب، وفي هذه الحالة فإن الوصف القانوني للعقد الوارد عليها يختلف بحسب اتجاه إرادة المتعاقدين فإذا اتجهت إرادتهم إلى إعطاء العميل الحق في الاستغلال والتصرف في البرنامج عد هذا العقد بيعاً، أم إذا اتجهت إرادة المتعاقدين إلى تمكين العميل من استعمال البرنامج دون القدرة على استغلاله والتصرف فيه عد هذا العقد ترخيصاً بالاستعمال (إيجار لمال معنوي)(40).

أما البرامج الخاصة، وهي البرامج التي يتم إعدادها من قبل خبير البرمجة وفقاً لاحتياجات عميل معين بناء على اتفاق مع هذا العميل، لتكون صالحة للوفاء بحاجة منشأته، أو ما يطلق عليها ببرامج التفصيل(41) كونها تفصل خصيصاً لعميل معين
لتخدم نشاطه الخاص، فإن الوصف القانوني للعقد الذي يتم بشأنها، يكون عقد مقاولة، حيث يقوم مؤلف البرنامج بإعداد البرنامج المطلوب لخدمة العميل (رب العمل) وباسم المؤلف الخاص مستقلاً عن إرادة أو إشراف من جانب رب العمل مقابل أجر، فهذا العقد يكون مقاولة، وغاية ما في الأمر أن العمل محل عقد المقاولة هنا يكون ذا طبيعة معنوية(42).

أهمية تحديد الوصف القانوني للتصرفات الواردة على برامج الحاسب:

تتمثل الأهمية القانونية لتحديد الوصف القانوني الدقيق للتصرف الوارد على برنامج الحاسب، في تحديد القواعد القانونية التي تنظم العلاقة بين مؤلف البرنامج والعميل وفي تحديد الآثار القانونية المترتبة على هذه العلاقة، وكذا في تحديد حقوق الغير في مواجهة المتعاقدين.

فإذا لم يحدد الثمن في التصرف الوارد على البرنامج، وثم اعتبار الوصف القانوني لهذا التصرف على أنه بيع فإن ذلك يؤدي إلى بطلان هذا العقد، كون الثمن عنصراً جوهرياً في البيع يتوجب تحديده، أما إذا تم اعتبار الوصف القانوني لهذا التصرف على أنه ترخيصاً بالاستعمال (إيجار) فيكون العقد صحيحاً لأن عدم تحديد الأجرة في الإيجار لا يؤدي إلى بطلان العقد، وإنما يتكفل القاضي بتحديدها في حدود أجرة المثل وقت إبرام العقد، ويستطيع القاضي عند تحديدها الاستعانة بكافة الظروف المحيطة بالمتعاقدين عند التعاقد. وكذا الحال إذا اعتبر الوصف القانوني للتصرف بأنه عقد مقاولة، فيكون العقد صحيحاً لأن عدم تحديد المقابل في عقد المقاولة لا يؤدي إلى بطلان العقد، إذ يمكن تحديد الثمن في أي وقت لاحق على إبرام العقد وتحت رقابة القاضي.

كما أن الالتزامات التي يلتزم بها مؤلف برنامج الحاسب في مواجهة العميل تختلف تبعاً لاختلاف الوصف القانوني للتصرف، فعقد البيع يرتب التزام على البائع بضمان العيوب الخفية بينما تختلف صورة التزام المقاول في عقد المقاولة بمثل هذا النوع من الضمان في مواجهة رب العمل.

كذلك أن حقوق الغير في مواجهة المتعاقدين تختلف في البيع عنها في المقاولة، فإذا اعتبر التصرف بيعاً، فإن دائنيه سوف يتمكنون من الحجز على مكونات إنتاج البرنامج تحت يد البائع أو على كامل البرامج إذا لم يكن قد تم إفرازه لحساب المشتري. أما إذا اعتبر التصرف مقاولة، فإن دائني مؤلف البرنامج لن يكون لهم القيام بتوقيع أي إجراء من إجراءات الحجز تحت يده طالما كانت هذه المكونات مملوكة لرب العمل وليس للمقاول مؤلف البرنامج.