بحث بعنوان لا قضاء إلا ببينة أو إقرار طبقاً للقانون السعودي

القانون الشرعي المرتب أنه لا قضاء إلا ببينة أو إقرار ، حتى وإن غلب على الظن صدق المدعي( )، وسواء في ذلك حقوق الله تعالى أو حقوق الآدميين ، ففي الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي  قال : ” إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو مما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار “( ) .

ولهذا فإن مدار حكم الحاكم في الشريعة على الظاهر من كلام الخصمين لا حظ له في الباطن ; لأنه لا يبلغه علمه , فلا ينفذ فيه حكمه ; وإنما الذي يَحْكُمُ في الظاهر والباطن هو الله  ، وهذا رسول الله  المصطفى يتبرأ من الباطن , ويتنصل من تعدي حكمه إليه , فكيف بغيره من الخلق ( ) .

قال الشاطبي : ( أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً ، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً أيضاً ، فإن سيد البشر  مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم ، وإن علم بواطن أحوالهم ، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه ، ولا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال : “خوفا أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه” ، فالعلة أمر آخر لا ما زعمت ، فإذا عدم ما علل به ، فلا حرج.لأنا نقول : هذا من أدل الدليل على ما تقرر؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن يحفظ ترتيب الظواهر ، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر ، وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سدّ هذا الباب جملة ، ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن “البينة على المدعي واليمين على من أنكر” ، ولم يستثن من ذلك أحد ، حتى إن رسول الله  احتاج إلى البينة في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه، فقال: “من يشهد لي؟”، حتى شهد له خزيمة بن ثابت، فجعلها الله شهادتين ، فما ظنك بآحاد الآمة ؟ فلو ادعى أكفر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) ( ).

وأصل هذا القانون في حقوق الله تعالى: ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ذكر المتلاعنان عند رسول الله  فقال عاصم بن عدي  في ذلك قولاً ، ثم انصرف ، فأتاه رجل من قومه فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلاً ، فقال عاصم : ما ابتليت بهذا الأمر إلا لقولي ، فذهب به إلى رسول الله  فأخبره بالذي وجد عليه امرأته وكان ذلك الرجل مصفراً قليل اللحم سبط الشعر ، وكان الذي وجد عند أهله آدم خدلاً كثير اللحم جعداً قططاً ، فقال رسول الله  : ” اللهم بين ” فوضعت شبيهاً بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها ، فلاعن رسول الله  بينهما ، فقال رجل لابن عباس في المجلس : هي التي قال رسول الله  : ” لو رجمت أحداً بغير بينة لرجمت هذه ” ؟ . فقال ابن عباس : لا ، تلك امرأة كانت تظهر السوء في الإسلام ( ) .

قال العيني الحنفي : (قوله : قال النبي : ” لو رجمت أحداً بغير بينة رجمت هذه ” أراد به امرأة عويمر ، يعني إنما لاعن بينها وبين زوجها ولم يرجمها بالشبه ؛ لأن الرجم لا يكون إلا ببينة( )).
وقال ابن بطال المالكي : ( وأما قوله : ” لو كنت راجماً بغير بينة ” ، في المرأة التي كانت تعلن بالسوء ، أي لو كنت متعدياً حق الله فيها إلى ما قام من الدلالة عليها لرجمت هذه ، لبيان الدلائل على فسقها ؛ ولكن ليس لأحد أن يرجم بغير بينة فيتعدى حدود الله ، والله قد نص أن لا يتعدى حدوده لما أراد تعالى من ستر عباده ) ( ) .

وقال في موطن آخر : ( قال المهلب : هذا الحديث أصل في أنه لا يجوز أن يحد أحد بغير بينة وإن اتهم بالفاحشة ، ألا ترى أنه  قد وسم ما في بطن المرأة الملاعنة بالمكروه وبغيره ، فجاءت به على النعت المكروه بالشبه للمتهم بها ، فلم يقم عليها الحد بالدليل الواضح إذ كان ذلك خلاف ما شرع الله ، فلا يجوز أن تتعدى حدود الله ، ولا يستباح دم ولا مال إلا بيقين لا شك فيه ، وهذه رحمة من الله تعالى بعباده ، وإرادة الستر عليهم والرفق بهم ليتوبوا ) ( ) .

وقال النووي : ( ” لو رجمت أحداً بغير بينة رجمت هذه ” وفسرها بن عباس بأنها امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء ، وفي رواية : ” أنها امرأة أعلنت ” معنى الحديث : أنه اشتهر وشاع عنها الفاحشة ؛ ولكن لم يثبت ببينة ولا اعتراف ، ففيه أنه لا يقام الحد بمجرد الشياع والقرائن بل لابد من بينة أو اعتراف ) ( ) .

وقال الشوكاني : ( استدل المصنف رحمه الله بقوله  : ” لو كنت راجماً أحداً بغير بينه لرجمتها ” على أنه لا يجب الحد بالتهم ، ولا شك أن إقامة الحد إضرار بمن لا يجوز الإضرار به ، وهو قبيح عقلاً وشرعاً فلا يجوز منه إلا ما أجازه الشارع كالحدود والقصاص وما أشبه ذلك بعد حصول اليقين ؛ لأن مجرد الحدس والتهمة والشك مظنة للخطأ والغلط وما كان كذلك فلا يستباح به تأليم المسلم وإضراره بلا خلاف ) ( ).

وأصله في حقوق الآدميين : ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبى  قال : ” لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه “( ) .

قال الطحاوي في شرح معاني الآثار عند هذا الحديث : ( فمنع رسول الله  أن يُعطى أحد بدعواه دماً أو مالاً ولم يوجب للمدعي فيه بدعواه إلا اليمين ) ( ).

وقال القرطبي : (هذا الحديث أصل من أصول الأحكام ، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام ، يقتضى ألا يُحكم لأحد بدعواه وإن كان فاضلاً شريفًا – في حقٍّ من الحقوق – وإن كان محتقرًا يسيرًا – حتَّى يستند المدَّعي إلى ما يقوي دعواه ، وإلا فالدَّعاوي متكافئة ، والأصل : براءة الذمم من الحقوق ، فلا بدَّ مما يدلّ على تعلُّق الحق بالذمَّة ، وتترجَّحُ به الدعوى ) ( ).

وقال الشافعي بعد أن ساق حديث أم سلمة وما في معناه : ( ففي كل هذا دلالة بينة أن رسول الله  إذا لم يقض إلا بالظاهر فالحكام بعده أولى أن لا يقضوا إلا على الظاهر , ولا يعلم السرائر إلا الله  والظنون محرم على الناس , ومن حكم بالظن لم يكن ذلك له ) ( ).
وقال ابن القيم عقب حديث أم سلمة : ( فهذا الحديث نص في أن أحداً لا يعطى بمجرد دعواه ) ( ).
وقال الصنعاني : (الحديث دال على أنه لا يقبل قول أحد فيما يدعيه لمجرد دعواه ؛ بل يحتاج إلى البينة أو تصديق المدعى عليه ، فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك . وإلى هذا ذهب سلف الأمة وخلفها ) ( ) .

ومن البينة التهمة القوية :
سئل ابن تيمية رحمة الله تعالى : ( مسألة : فيما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته ; فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال , وطمعت الفساق . وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها , أو يتحقق أنه لا يفي بالمقصود في ذلك ؟ وإن أقدم وسأل أو أمسك المتهمين وعاقبهم خاف الله تعالى في إقدامه على أمر مشكوك فيه ؟ وهو يسأل ضابطاً في هذه الصورة , وفي أمر قاطع الطريق ؟ )
فأجاب رحمه الله تعالى جواباً مطولاً أنقله بطوله لنفاسته : (أما التهم في السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه , وذلك أن الناس في التهم ثلاثة أصناف :
صنف : معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم . فهذا لا يحبس , ولا يضرب ; بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء ; بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم .
والثاني : من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور . فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله . وقد قيل : يحبس شهراً . وقيل : يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر . والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره ” أن النبي  حبس في تهمة ” وقد نص على ذلك الأئمة , وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما , وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله , فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره , ثم إذا سأل عنه ووجد باراً أطلق . وإن وجد فاجراً كان من : الصنف الثالث :
وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك , أو عرف بأسباب السرقة : مثل أن يكون معروفاً بالقمار . والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال , وليس له مال , ونحو ذلك فهذا لوث في التهمة ; ولهذا قالت طائفة من العلماء إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالي والقاضي – كما قال أشهب صاحب مالك وغيره – حتى يقر بالمال . وقالت طائفة : يضربه الوالي ; دون القاضي , كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد , كما ذكره القاضيان الماوردي والقاضي أبو يعلى في كتابيهما في الأحكام السلطانية , وهو قول طائفة من المالكية , كما ذكره الطرسوسي وغيره . ثم المتولي له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف , فيكون تعزيراً وتقريراً . وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق ; بل قد أنزل على نبيه في قصة كانت تهمة في سرقة قوله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما , واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً , ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً , يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا , ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا } إلى آخر الآيات , وكان سبب ذلك أن قوما يقال لهم بنو أبيرق سرقوا لبعض الأنصار طعاما ودرعين , فجاء صاحب المال يشتكي إلى رسول الله  فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل ; فكأن النبي  ظن صدق المزكين فلام صاحب المال : فأنزل الله هذه الآية , ولم يقل النبي  لصاحب المال : أقم البينة ; ولا حلف المتهمين ; لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر , وظهرت الريبة عليهم . وهكذا حكم النبي  بالقسامة في الدماء إذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين ; فإن هذه الأمور من الحدود في المصالح العامة ; ليست من الحقوق الخاصة , فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية , ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة ; واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة , فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث اليمين . وقول النبي  : { لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ; ولكن اليمين على المدعى عليه } هذا فيما لا يمكن من المدعي حجة غير الدعوى فإنه لا يعطى بها شيئا , ولكن يحلف المدعى عليه . فأما إذا أقام شاهدا بالمال فإن النبي  قد حكم في المال بشاهد ويمين وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث , كمالك , والشافعي , وأحمد وغيرهم , وإذا كان في دعوى الدم لوث فقد قال النبي  للمدعين : { أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم } ؟ . كذلك أمر ” قطاع الطريق ” وأمر ” اللصوص ” وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة ; فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء , ولا يزجرهم أن يحلف كل منهم ; ولهذا اتفق الفقهاء على أن قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتماً , وقتله حد لله ; وليس قتله مفوضا إلى أولياء المقتول . قالوا : لأن هذا لم يقتله لغرض خاص معه ; إنما قتله لأجل المال , فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره , فقتله مصلحة عامة . فعلى الإمام أن يقيم ذلك . وكذلك ” السارق ” ليس غرضه في مال معين , وإنما غرضه أخذ مال هذا ومال هذا , كذلك كان قطعه حقا واجبا لله ليس لرب المال ; بل رب المال يأخذ ماله , وتقطع يد السارق , حتى لو قال صاحب المال : أنا أعطيه مالي لم يسقط عنه القطع , كما قال صفوان للنبي  : أنا أهبه ردائي , فقال النبي  : { فهلا فعلت قبل أن تأتي به }…

ومما يشبه هذا من ظهر عنده مال يجب عليه إحضاره كالمدين إذا ظهر أنه غيب ماله وأصر على الحبس , وكمن عنده أمانة ولم يردها إلى مستحقها ظهر كذبه . فإنه لا يحلف ; لكن يضرب حتى يحضر المال الذي يجب إحضاره , أو يعرف مكانه , كما قال النبي  للزبير بن العوام عام خيبر في عم حيي بن أخطب , وكان النبي صالحهم على أن له الذهب والفضة ; فقال لهذا الرجل : { أين كنز حيي بن أخطب ؟ فقال : يا محمد , أذهبته النفقات , والحروب , فقال : المال كثير , والعهد أحدث من هذا ثم قال : دونك هذا فمسه بشيء من العذاب , فدلهم عليه في خربة هناك } فهذا لما قال أذهبته النفقات والحروب والعادة تكذبه في ذلك لم يلتفت إليه بل أمر بعقوبته حتى دلهم على المال ; فكذلك من أخذ من أموال الناس وادعى ذهابها دعوى تكذبه فيها العادة كان هذا حكمه ) ( ).

إذا تقرر هذا الأصل : وهو أن قانون الشريعة جارٍ على أنه لا يحكم لأحدٍ مهما بلغت منزلته وعرف صدقه وظهرت عدالته إلا ببينة أو إقرار ، وأنه يستوي في ذلك سائر الدعاوى أو المدعين في الحق العام أو الخاص. ندلف حينئذٍ إلى المقدمة الثانية .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت