أقدم نظام قانوني وضعي في التاريخ

شريعة حمورابي .. أقدم نظام قانوني وضعي في التاريخ !!

لقد ظل هذا القانون العظيم محتفظا بجوهره خمسة عشر قرنا كاملا رغم ما طرأ على أحوال بابل من تغيير ورغم ما ادخل عليه من تفاصيل. وكان تطوره يهدف إلى استبدال العقوبات الدنيوية بما كان فيه من عقوبات دينية كان يهدف إلى استبدال الرحمة بالقسوة والغرامات المالية بالعقوبات البدنية. مثال لك أن محاكمة المتهمين كانت في الأيام الأولى توكل إلى الآلهة. فإذا اتهم رجل بممارسة السحر أو اتهمت امرأة بالزنا طلب إليهما أن يقفزا على نهر الفرات وكانت الآلهة على الدوام في جانب اقدر المتهمين على السباحة فإذا نجت المرأة من الغرق كانت نجاتها برهانا على براءتها وإذا غرق ” الساحر ” آلت أملاكه إلى من اتهمه أما إذا نجا من الغرق فأنه يستولي على أملاك متهمه. وكان القضاة الأولون من الكهنة وظلت الهياكل مقر معظم المحاكم إلى آخر تاريخ البابليين لكن محاكم غير دينية لا تسأل عن أحكامها إلا أمام الحكومة أخذت من أيام حمورابي نفسه تحل محل المراكز القضائية التي كان يرأسها الكهنة.

وقام العقاب في أول الأمر على مبدأ قانون القصاص ” النفس بالنفس والعين بالعين “. فإذا كسر إنسان لرجل شريف سنا أو فقأ له عينا أو هشم له طرفا من أطرافه حل به نفس الأذى الذي سببه لغيره. وإذا انهار بيت وقتل من اشتراه حكم بالموت على مهندسه أو بانيه وإذا تسبب عن سقوطه موت ابن الشاري حكم بالموت على ابن البائع أو الباني وإذا ضرب إنسان بنتاً وماتت لم يحكم بالموت على الضارب بل حكم به على ابنته.

ثم استبدل بهذه العقوبات النوعية شيئا فشيئا غرامات مالية وبدأ ذلك بأن أجيز دفع فدية مالية بدل العقوبة البدنية ثم أصبحت الفدية بعدئذ العقوبة الوحيدة التي يجيزها القانون. فكانت جزاء فقئ عين السوقى ستين شاقلا من الفضة فإذا فقئت عين عبد كان جزاء فقئها ثلاثين. ذلك أن العقوبة لم تكن تختلف باختلاف خطورة الجريمة وحسب بل كانت تختلف أيضا باختلاف مركز الجاني والمجنى عليه. فإذا ارتكب أحد السراة جريمة كانت عاقبته اشد من عقاب السوقى إذا ارتكب الجريمة نفسها أما الجريمة التي ترتكب ضد أحد الاشراف فقد كانت غالية الثمن. واذا ضرب أحد السوقة آخر من طبقته غرم عشرة شواقل أو ما يقرب من خمسين ريالا فإذا ما ضرب شخصا ذا لقب أو ذا مال غرم سبعة اضعاف هذا المبلغ. والى هذه العقوبات الرادعة كانت هناك عقوبات همجية هي بتر الاعضاء والاعدام. فإذا ضرب رجل اباه جوزى بقطع يده. واذا تسبب طبيب أثناء عملية جراحية في موت المريض أو في فقد عين من عينيه قطعت اصابع الطبيب. واذا استبدلت قابلة طفلا بآخر عن علم بفعلتها قطع ثدياها. وكانت جرائم كثيرة يعاقب عليها بالموت منها هتك العرض وخطف الاطفال وقطع الطرق والسطو والفسق بالاهل وتسبب المرأة في قتل زوجها لتتزوج بغيره ودخول كاهنة خمارة أو فتحها اياها وإيواء عبد آبق والجبن في ميدان القتال وسوء استعمال الوظيفة واهمال الزوجة شئون بيتها أو سوء تدبيرها إياها وغش الخمور. بهذه الوسائل التي دامت آلاف السنين استقرت التقاليد والعادات التي ادت إلى حفظ النظام وضبط النفس والتي اضحت فيما بعد عن غير قصد جزءا من الاسس التي قامت عليها الحضارة.

وكانت الدولة تحدد اثمان السلع والاجور والاتعاب داخل نطاق بعض الحدود. فاجر الجراح مثلا كان يقرره القانون وحدّد قانون حمورابي اجور البنائين وضاربي الطوب والخياطين والبنائين بالحجارة والنجارين والبحارة والرعاة والفعلة. وخص قانون الوراثة ابناء الرجل بتركته دون زوجته فجعلهم ورثته الطبيعيين الاقربين فإذا مات رجل عن زوجته كان لها الحق في مهرها وفي هدية عرسها وظلت ربة البيت مادامت على قيد الحياة. ولم يكن حق الميراث محصورا في الابن الاكبر بل كان الابناء كلهم سواسية في الميراث ومن ثم لم تلبث الثروات الكبرى ان تقسمت وتقسمت فامتنع بذلك تركزها في أيدي قلائل. وكان القانون يعد الملكية الفردية للعقار والمنقولات امرا مسلما به لا جدل فيه.

ولم نجد في الوثائق ما يستدل منه على وجود المحامين في بابل الا اذا اعتبرنا من المحامين القسيسيين الذين كانوا يعملون موثقين للعقود والكتبة الذين كانوا يكتبون كل ما يطلب اليهم كتابته من الوصية إلى الارجوزة نظير اجر يتقاضونه. ولم يكن الناس يشجعون على التقاضي فقد كانت اول مادة في القانون تنص في بساطة تكاد تكون غير (قانونية!). على انه (اذا اتهم رجل آخر بجريمة (يعاقب عليها بالاعدام) ثم عجز عن اثباتها حكم على المدعي نفسه بالاعدام). وثمة شواهد دالة على وجود الرشوة وافساد الشهود وكانت في مدينة بابل محكمة استئناف يحكم فيها (قضاة الملك) وكان في وسع المتقاضين ان يرفعوا استئنافا نهائيا إلى الملك نفسه. وليس في شرائع بابل ما يفيد وجود حق للفرد قِبَل الدولة بل كان الفضل في وضع النص على هذا الحق فضل الاوربيين. غير انه اذا لم يوفر القانون للأهلين الحماية السياسية فلا أقل من انه قد وفر لهم في المواد 22 23 24 الحماية الاقتصادية: ” اذا ارتكب رجل جريمة السطو وقبض عليه حكم على ذلك الرجل بالاعدام). فإذا لم يقبض عليه كان على المسروق منه ان يدلي في مواجهة الاله ببيان مفصل عن خسائره وعلى المدينة التي ارتكبت السرقة في داخل حدودها والحاكم الذي ارتكبت في دائرة اختصاصه ان يعوضاه عن كل ما فقده. فإذا ادى السطو إلى خسارة في الارواح دفعت المدينة ودفع الحاكم مينا (300 ريال) إلى ورثة القتيل “. فهل ثمة في هذه الايام مدينة بلغ صلاح الحاكم فيها درجة تجرؤ معها على ان تعرض على من تقع عليه جريمة بسبب اهمالها مثل هذا التعويض وهل ارتقت الشرائع حقا عما كانت عليه ايام حمورابي أو ان كل الذي حدث لها ان تعقدت وتضخمت .

” – مقتبس من كتاب ( قصة الحضارة ) لـ ( ويل ديورانت ) , بتصرف كبير – ”
___________________

– تعليق مختصر جدا ً –

إذن كان الفساد الإداري مستشر ٍ منذ الحضارة البابلية , حتى أن حمورابي جازى من يسيء إستخدام وظيفته بـ ( الإعدام ) ..!

إن قوانين حمورابي .. لو أردت وصفها لقلت :

– قاسية نظرا ً لإعتمادها عقوبة الإعدام في كثير من الجرائم .
– دقيقة نظرا ً لشموليتها لكل تفاصيل الحياة آنذاك .
– حافظة للعدل في زمن إستبدادي و حكم ملكي إقطاعي . و ستكون ظالمة في المجتمعات ذات الشعوب الحضارية .
– متطورة نظرا ً لدقة وصف الجريمة و العقاب .
– ديمقراطية في القوانين التي تجرّم الحاكم .
– حضارية نظرا ً لتاريخها .
– قوية نظرا ً لبقائها .
– غير عادلة بذاتها نظرا ً لأنها تعتمد على أنه بالإمكان أن تزر وازرة وزر أخرى !