قراءات عن مكان أداء الشهادة طبقاً للقانون السعودي

أداء الشهادة يكون بمجلس الحكم عند القاضي، هذا هو الأصل المتقرر المأخوذ من قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } يعني : لإقامة الشهادة وأدائها عند الحاكم.

قال الجصاص : ( الحاكم لا يحضر عند الشاهدين ليشهدا عنده، وإنما الشهود عليهم الحضور عند الحاكم)( ).
وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام : ( المادة ( 6871 ) – ( لا تعتبر الشهادة التي تقع في خارج مجلس المحاكمة ) . والشرط العائد للمكان في الشهادة هو كونها في مجلس القاضي فلذلك لا تعتبر الشهادة التي تقع في خارج مجلس المحاكمة ) ( ) .

وقال ابن العربي : ( قال علماؤنا : قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } دليل على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم , وهذا أمر انبنى عليه الشرع , وعمل به في كل زمن , وفهمته كل أمة , ومن أمثال العرب : ” في بيته يؤتى الحكم ” ) ( ) .

وجاء في شرح المحلي على المنهاج : ( ( وإذا لم يكن في القضية إلا اثنان ) بأن لم يتحمل سواهما أو مات غيرهما أو جن أو فسق أو غاب , ( لزمهما الأداء ) إذا دعيا له قال تعالى { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } ) ( ).
وجاء في الإنصاف : ( فوائد : … الثانية يختص الأداء بمجلس الحكم ) ( ) .

وما قرره الفقهاء هنا هو ما مشى عليه المنظم ، فقد جاء في نظام الإجراءات الجزائية : (
المادة 165:
للمحكمة أن تستدعي أي شاهد ترى حاجة لسماع أقواله، أو ترى حاجة لإعادة سؤاله• كما أن لها أن تسمع من أي شخص يحضر من تلقاء نفسه إذا وجدت أن في ذلك فائدة لكشف الحقيقة•

المادة 166:
مع مراعاة ما تقرر شرعاً في الشهادة بالحدود، يجب على كل شخص دعي لأداء الشهادة بأمر من القاضي الحضور في الموعد والمكان المحددين•.

المادة 167:
تُؤَدَّى الشهادة في مجلس القضاء، وتُسمع شهادة الشهود كل على حدة، ويجوز عند الاقتضاء تفريق الشهود ومواجهة بعضهم ببعض• وعلى المحكمة أن تمنع توجيه أي سؤال فيه محاولة للتأثير على الشاهد، أو الإيحاء إليه، كما تمنع توجيه أي سؤال مخل بالآداب العامة إذا لم يكن متعلقاً بوقائع يتوقف عليها الفصل في الدعوى• وعلى المحكمة أن تحمي الشهود من كل محاولة ترمي إلى إرهابهم أو التشويش عليهم عند تأدية الشهادة•) .

لكن إذا قام بالشاهد عذر يمنعه من المجيء إلى مجلس الحاكم ؛ كخوف أو مرض فهل ينتقل إليه القاضي ؟ .
أما في فقه فقهاءنا فإن النصوص التي أوردناها آنفا تدل على أن القاضي لا ينطلق إلى بيت أحدٍ ليسمع منه ، فإن تسلط على الشاهد عذرٌ من الأعذار المذكورة آنفا كان له نقل شهادته إلى القاضي عبر شهودٍ يرتضيهم ، وهو المعروف فقهاً بالشهادة على الشهادة .
أما المنظم فقد جنح إلى إلزام القاضي بالانتقال إلى محل الشاهد ليسمع منه في القضايا المدنية ( الحقوقية) فقد جاء في نظام المرافعات الشرعية : ( إذا كان للشاهد عذر يمنعه عن الحضور لأداء شهادته ، فينتقل القاضي لسماعها ، أو تندب المحكمة أحد قضاتها لذلك ، وإذا كان الشاهد يقيم خارج نطاق اختصاص المحكمة فتستخلف المحكمة في سماع شهادته محكمة محل إقامته ) ( ).

وأما في الجنايات – وهي ما نحن فيه – فقد جعل المنظم للمحكمة الحق في أن تختار الانتقال لسماع شهادة أو معاينة موقع الجريمة ، أو أن تختار عدم الانتقال جاء في نظام الإجراءات الجزائية : ( للمحكمة إذا رأت مقتضى للانتقال إلى المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة، أو إلى أي مكان آخر لإجراء معاينة، أو لسماع شاهد لا يستطيع الحضور ، أو للتحقق من أي أمر من الأمور أن تقوم بذلك وتمكن الخصوم من الحضور معها في هذا الانتقال، ولها أن تكلف قاضياً بذلك•وتسري على إجراءات هذا القاضي القواعد التي تسري على إجراءات المحاكمة•) ( ) .
ولا يمكن جعل ما ورد في نظام المرافعات لازماً في القضايا الجنائية , لما ورد في المادة لحادية والعشرين بعد المائتين من نظام الإجراءات الجزائية ونصها: (تطبق الأحكام الواردة في نظام المرافعات الشرعية فيما لم يرد له حكم في هذا النظام وفيما لا يتعارض مع طبيعة الدعاوي الجزائية) وثانيهما :حرص المنظم على حق الخصم المشهود عليه في سماع الشهادة ضده ولو كانت خارج المحكمة كما سيرد تفصيله لاحقاً.

هذا ما نص عليه المنظم – حتماً في المرافعات وجوازاً في الإجراءات -! والمخرج الذي قرره الفقهاء في مثل هذا الظرف هو الانتقال إلى مبدأ الشهادة على الشهادة – على خلاف في الحقوق التي تقبل فيها – .
قال ابن قدامة : ( الشهادة على الشهادة جائزة بإجماع العلماء وبه قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي قال أبو عبيد : أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال ؛ ولأن الحاجة داعية إليها ، فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة على الوقف وما يتأخر إثباته عند الحاكم ثم يموت شهوده ، وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة ، فوجب أن تقبل كشهادة الأصل ) ( ) .
وقال أيضاً : ( ولها أربعة شروط ; أحدها : أن تتعذر شهادة الأصل ; لموت , أو غيبة , أو مرض , أو حبس , أو خوف من سلطان أو غيره . وبهذا قال مالك , وأبو حنيفة , والشافعي . وحكي عن أبي يوسف , ومحمد , جوازها مع القدرة على شهادة الأصل , قياساً على الرواية وأخبار الديانات وروي عن الشعبي , أنها لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل ; لأنهما إذا كانا حيين , رجي حضورهما , فكانا كالحاضرين . وعن أحمد مثل هذا , إلا أن القاضي تأوله على الموت , وما في معناه من الغيبة البعيدة ونحوها . ويمكن تأويل قول الشعبي على هذا , فيزول هذا الخلاف ) ( ).

وغير خافٍ ما في انتقال القاضي إلى محل الشاهد من تضيع لحقوق أرباب الدعاوى الأخرى والمراجعين .
كما أنَّ خروج القاضي إلى شهود أحد المتخاصمين فيه إخلال بمبدأ المساواة بين الخصمين ، فخروج ناظر الدعوى بعينه ظاهره ميلٌ لذوي الشهود ، وفيه تهمة للقاضي بكونه يسعى لإثبات قول من يشهد معه الشهود .

علاوة على ما في ذلك من خرم لهيبة القاضي . خاصة إذا علم أنه لم يتقرر الانتقال كحل وحيد لظرف العذر .

وأيضاً فإن تشريع انتقال القاضي كحل في المسألة المحالة – شهادات رجال الأمن – استناداً للنصوص المنظمة لا يدفع الضرر المراد دفعه ؛ فالمنظم في نظام الإجراءات الجزائية نص على أن القاضي ينتقل إلى الشاهد مع تمكين الخصم من الحضور معه إلى محل الشاهد ، جاء في المادة 170 : ( للمحكمة إذا رأت مقتضى للانتقال إلى المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة، أو إلى أي مكان آخر لإجراء معاينة، أو لسماع شاهد لا يستطيع الحضور ، أو للتحقق من أي أمر من الأمور أن تقوم بذلك وتمكن الخصوم من الحضور معها في هذا الانتقال ) .

وهل يمكن الاعتماد في أداء الشهادة على المحاضر المعدة من قبل رجال الضبط أو على أداء الشهادة كتابة ؟ .
نص الحنفية والشافعية في وجه والحنابلة على أنه لا مدخل للكتابة في باب الشهادات ؛ لأن الشاهد لا بد من نطقه بالشهادة ؛ ولإمكان التزوير ؛ ولأن الخطوط تتشابه فلا يمكن القطع بأنه خط فلان .
جاء في حاشية ابن عابدين : ( ( ومنه القضاء بخط شهود أموات ) ؛ لأن الشاهد لابد من نطقه بالشهادة ، فالحكم بالخط حكم بلا شهادة فهو باطل ) ( ).
وجاء في مغني المحتاج : ( ( ولو ) ( رأى ) قاض أو شاهد ( ورقة فيها حكمه أو شهادته ) على إنسان بشيء ( أو شهد شاهدان أنك حكمت أو شهدت بهذا ) ( لم يعمل ) القاضي ( به ) أي بمضمون خطه ( ولم يشهد ) أي الشاهد بمضمون خطه ( حتى يتذكر ) كل منهما أنه حكم أو شهد به على التفصيل لإمكان التزوير وتشابه الخطوط في الحالة الأولى , وأما الثانية فلأن القاعدة إذا أمكن اليقين لا يعتمد الظن , ولا يكفي تذكر أصل القضية . تنبيه : أفهم قوله لم يعمل به جواز العمل به لغيره , وهو كذلك في الحالة الثانية , فإذا شهد غيره عنه بأن فلانا حكم بكذا اعتمدوه , والفرق أن جهله بفعل نفسه لما كان بعيدا قدح في صدق الشهود وأفهم العمل به عند التذكر , وهو ظاهر ( وفيهما ) أي العمل والشهادة ( وجه في ورقة مصونة ) من سجل ويحضر ( عندهما ) أي القاضي والشاهد أنه يجوز الاعتماد عليه إذا وثق بخطه ولم يداخله ريبة لبعد التحريف في مثل ذلك , والأصح الأول لاحتماله ) ( ) .
وجاء في كشاف القناع : ( لا يجوز ) للقاضي الحكم ( برؤية خط الشاهد ) احتياطاً للحكم . ( ولو رأى الحاكم حكمه بخطه تحت ختمه ولم يذكر أنه حَكَمَ به أو رأى الشاهدُ شهادته بخطه ولم يذكر الشهادة لم يجز للحاكم إنفاذ الحكم بما وجده ) بخطه تحت حكمه ( ولا للشاهد الشهادة بما رأى خطه به ) على الصحيح احتياطاً ) ( ) .
إذا تحرر هذا مع استحضار ما سيأتي في المقدمة السادسة – واقع شهادات رجال الأمن في المحاكم – أيقنا أنه لا يمكن الاكتفاء بالمحاضر المعدة من قبل رجال الضبط. أو القول بإجازة أداء رجال الأمن لشهاداتهم كتابة ، زد على ذلك:
أن شهادة رجل الأمن إن كانت مكتوبة بخط اليد ، فإن القاضي – غالباً – لا يعرف شخص العسكري الشاهد حتى وإن ذُيل الخطاب أو المحضر باسمه ، فهو مجهول العين والحال عنده . هذه واحدة .
والثانية : أن القاضي أيضاً لا يعرف – غالباً – خط رجل الأمن الذي كتبه وذيله بتوقيعه حتى يميزه من غيره ويعتمد عليه .
وإن كانت الشهادة مكتوبة بالحاسوب فيرد عليها أيضاً ما يرد على الشهادة المكتوبة بخط اليد ، فرجل الأمن غالباً مجهول العين والحال عند القاضي ، وهو لا يعرف توقيعه المذيل بالشهادة ليميزه من غيره .
قال ابن القيم : ( قال محمد بن عبد الحكم : لا يقضى في دهرنا بالشهادة على الخط , لأن الناس قد أحدثوا ضروباً من الفجور , وقد قال مالك في الناس : تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور . وقد روى لي عبد الله بن نافع عن مالك قال : كان من أمر الناس القديم : إجازة الخواتيم , حتى إن القاضي ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه , فيعمل به , حتى اتهم الناس , فصار لا يقبل إلا بشاهدين ) ( ).

خلاصة هذه المقدمة : أن القاضي يُؤتى ولا يأتي ، وأن ما سنه المنظم من إلزام القاضي بالانتقال لسماع شهادة الشاهد الذي قام به عذر خاص بالقضايا المدنية ( الحقوقية) بشرط تحقق العذر في الشاهد ، مع إمكان الأخذ بمبدأ الشهادة على الشهادة التي قررها علماء الإسلام ، وأما في القضايا الجنائية فالأمر متروك لاجتهاد المحكمة في تقدير ضرورة الانتقال ،ومشروط بحصول العذر للشاهد في العجز عن الحضور ، والأجدر الأخذ بمبدأ الشهادة على الشهادة التي قررها أهل العلم في مثل هذا الظرف ، ولا يمكن الاكتفاء بأداء الشهادة كتابة لما قرره أهل العلم ولواقع الحال( ) .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت