المضمون القانوني للبراءة :

عند وقوع الجريمة يبيح القانون للسلطات المختصة اتخاذ بعض الإجراءات الجبرية تتميز بالخطورة، كالقبض والتفتيش أو التوقيف، وحرمان المتهم من حريته. إلا أن مضمون قرينة البراءة يتطلب في الوقت ذاته، ضرورة ان ينظم المشرع تلك الإجراءات بما يتفق مع افتراض براءة المتهم .اذ ان قرينة البراءة تهدف بصفة أساسية إلى حماية الحرية الشخصية للمتهم، وذلك بافتراض براءته مما نسب اليه من اتهام، ومن ثم يكون واجباً على السلطات التي تمارس الإجراءات الجنائية باسم المجتمع، ان تعامله على هذا الأساس، بحيث لا يخضع لمعاملة مهينة أو حاطة من الكرامة اثناء التحقيق معه، ومحاكمته. أي انه يتعين الا يتعرض لإجراءات جنائية، تماثل تلك التي يخضع لها المحكوم عليه. وعلى ذلك فإن قرينة البراءة تفرض على هذه السلطات التزاماً بضرورة عد المتهم بريئاً، ومعاملته في مراحل الدعوى الجنائية جميعها على هذا الأساس حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات. هذا الالتزام بحماية حرية المتهم يمثل الجانب الشخصي لقرينة البراءة في ظل الدعوى الجنائية(1). ومن جانب آخر يترتب على افتراض براءة المتهم، عدم تجشمه عبء إثبات براءته. فإذا كان مضمون قرينة البراءة هو افتراض البراءة في المتهم، مهما كانت قوة الشكوك التي تحوم حوله، ومهما كان وزن الأدلة التي تحيط به، فإن ذلك معناه، ان هذه القرينة هي التي تحكم توزيع الإثبات في المواد الجنائية، فالمتهم بفعل ذلك لا يكون ملزماًَ بإثبات براءته، لأن ذلك اصل ثابت فيه، ومن يدعي غير هذا الأصل، يقع عليه عبء إثباته. ومن ثم يقع على عاتق الادعاء العام – بعده ممثلاً لسلطة الاتهام – تقديم الأدلة على توافر أركان الجريمة جميعها ونسبتها إلى فاعلها، أي إثبات المسؤولية الجنائية للمتهم في عناصرها جميعاً، وعدم مطالبة المتهم بإثبات براءته. فإذا لم تتمكن سلطة الاتهام من إثبات الإدانة، أو ساد الشك والغموض على صحة الأدلة أو ثبوتها، كان تأويل ذلك وتفسيره لصالح المتهم، وهذا إبقاء له على أصله الذي كان عليه قبل الاتهام، بعده أمراً يقينياً(2).ومن جانب ثالث تكفل قرينة البراءة للمتهم كذلك، الا يحكم بإدانته الا إذا كان اقتناع المحكمة بهذه الإدانة قد وصل إلى درجة الجزم واليقين. وعلى ذلك لا يكفي مجرد رجحان أو تفوق الاحتمالات، كما هو الشأن في المواد المدنية. فمادامت البراءة ثابتة يقيناً، فإن اليقين لا يرتفع الا بيقين مثله، وعلى ذلك إذا لم يكن من شأن الأدلة المتوافرة ان تفضي إلى إقناع المحكمة على وجه يقيني بالإدانة، فحينئذ يتعين على هذه الأخيرة ان تقضي ببراءة المتهم، وأي شك يثور لديها يتعين تفسيره لصالحه ومن ثم تعد قرينة البراءة سياجاً يحمي المتهم من خطر الاقتناع الضعيف أو الانفعالي أو المبتسر(3).

__________________

1- انظر في معنى ذلك، محمد محي الدين عوض، الاثبات بين الازدواج والوحدة، مطبوعات جامعة القاهرة، 1974، هامش رقم (1)، ص26.

2- انظر في هذا المعنى/ محمد محدة، ضمانات المتهم اثناء التحقيق، ج3، المرجع السابق، ص240.

3- السيد محمد حسن شريف، النظرية العامة للأثبات الجنائي، المرجع السابق، ص457.

المضمون الاجتماعي للبراءة :

ويقصد به ذلك التصور المتداول لدى المجتمع، والذي يستقر في وجدان الرأي العام، فعلى وفق هذا التصور، البراءة ليست هي حالة الشخص الذي لم يصدر ضده حكم بالإدانة – فحسب – بل هي ايضا حالة الشخص الشريف الذي لم يرتكب أعمالاً أو تصرفات تتنافى مع القيم والأخلاق السائدة في المجتمع، وان لم تقع تحت أي نص تجريمي، فيقال – مثلا – “فلان يتسم بالبراءة ومن غير المتصور ان يرتكب مثل هذه الأفعال”، هذا المضمون يمكن تسميته بالجانب الشعبي أو الاجتماعي لأصل البراءة. هذا التصور للبراءة أوسع نطاقاً من المعنى الاصطلاحي المقصود بجانبيه الشخصي والموضوعي، فليس كل شخص بريئاً في المفهوم القانوني يعد كذلك في المفهوم الاجتماعي، أي في نظر غالبية أفراد المجتمع، اذ يسود لديهم الاعتقاد الشائع بأنه “لا يوجد دخان بدون نار”(1). غير انه بطبيعة الحال، لا يمكن الاستناد إلى هذا المفهوم العام معياراً للبراءة، وذلك لأنه مفهوم غامض، ويصعب وضع ضوابط له. إلا أن أهمية هذا الجانب تبرز في خطورة نشر وسائل الإعلام الأخبار المتعلقة بالاتهام والتحقيق، إذ يبدو المتهم كما لو كان هو الفاعل الحقيقي للجريمة المتهم بها(2). مما يدفعنا إلى القول بأن هذا المضمون يثير جانباً آخر بالغ الأثر في حماية المتهم، وهو ذو طبيعة نفسية، اذ بمقتضى البراءة الأصلية للمتهم، يجب ان يتمتع بحقوقه وحرياته كاملةً غير منقوص منها بسبب اتجاه الشبهات حوله، والتي يجب ألا تقل بحال من الأحوال عن حالته قبل الاتهام، مما يسمح به بأن يكون في حالته النفسية الطبيعية. ولا يكون الأمر كذلك الا إذا التزمت الدولة بالجانب الشخصي من هذا المضمون المتعلق بمعاملة المتهم على أساس البراءة، وانصرف الأفراد عن الجانب الاجتماعي من هذا المضمون، والعمل بغير ذلك. قد يفضي بالمتهم إلى أقوال أو تصرفات تنافي الحقيقة أو في الأقل ضد مصلحته لأنه قد يكون في حينها تحت وطأة الإكراه المادي أو المعنوي سواء من قبل الدولة أو الأفراد(3).مما تقدم أتضح لنا مضمون قرينة البراءة في إطار المحاكمة الجنائية بشكل خاص، ودورها في إطار الدعوى الجنائية عموماً، فهل لقرينة البراءة أي دور يذكر في إطار الشرعية الجنائية؟

__________________

1-Essad (M. j ): “La Piesomption D’innocence”، Rabat، 1971، No.133، P.91.

مشار اليه لدى/ السيد محمد حسن شريف، المرجع السابق، ص446.

2- المرجع السابق، ص446.

3- الإكراه المادي: هو الذي يعدم الإرادة تماماً، كما لو امسك المحقق بيد المتهم وأرغمه على ان يبصم أو يوقع على محضر التحقيق. والإكراه المعنوي: هو الإكراه الذي يفسد الإرادة رهبةً، مع بقاء أصلها، كالتهديد بالقتل أو الإيذاء لمجرد كونه متهماً من قبل بعض الأفراد. انظر تفصيلاً في أنواع الإكراه وأثره.

محمد سعود المعيني، الإكراه وأثره في التصرفات الشرعية، ط1، مطبعة الزهراء، الموصل، 1985، ص166 وما بعدها.

المؤلف : رائد احمد محمد
الكتاب أو المصدر : البراءة في القانون الجنائي

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .