الغلط:

تعرضت المادة (147) لشروط أعمال الغلط وأثره، وهي تتطلب لإعمال الغلط أن يكون هو الذي دفع المتعاقد إلى التعاقد، بحيث أنه لولا وقوعه فيه لما ارتضى العقد، فالمعيار هنا شخصي يتعلق بالمتعاقد ذاته وأثر الغلط عليه، فإذا تبين أن المتعاقد، حال ارتضائه العقد، وقع في غلط وإن هذا الغلط هو الذي دفعه إلى الرضاء به، بحيث أنه ما كان ليرتضيه بغيره، تهيأ الغلط لأن ينتج أثره في دمغ العقد بالقابلية لإبطاله، دون اعتداد بعد ذلك للأمر الذي ينصب الغلط عليه. أما إذا ظهر أن وقوع المتعاقد في الغلط ليس هو الذي دفعه إلى التعاقد فلا يكون لغلطه تأثير على صحة العقد، ولو كان قد انصب على مادة الشيء محل التعاقد ذاتها، التي هي من بعد الركيزة الأولى للغلط المؤثر في ظل النظرية القديمة. فالعبرة ليست بموضوع الغلط، وإنما بأثره على صاحبه بالنسبة إلى ارتضائه العقد، والمشروع في ذلك يحذو حذو القانون المصري وقوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي.

على أن المادة (147) كأصل عام، لا تكتفي لإعمال أثر الغلط في العقد، بأن يكون هو الدافع إلى التعاقد، فالمشروع لا ينظر إلى الغلط من زاوية المتعاقد الغالط وحده، وإنما ينظر إليه أيضًا من زاوية المتعاقد الآخر، الذي من شأن دمغ العقد بالقابلية للإبطال نتيجة الغلط أن يتهدده بالخطر، اعتبارًا بأنه يخل بأمن تعاقده واستقراره ويجعله قابلاً للزوال وفق مشيئة غريمه، وهي من بعد نظرة لم تفت الفكر القانوني المعاصر فقهًا وقضاءً وتشريعًا، ولذلك فإن المشروع يتطلب لإعمال أثر الغلط أن يكون المتعاقد الآخر قد وقع بدوره في نفس الغلط، أو علم بوقوع غريمه فيه، أو كان من السهل عليه أن يتبين عنه ذلك.

فوقوع المتعاقدين كليهما في نفس الغلط ينهض بذاته دليلاً على أن أيًا منهما معذور في غلطه، فيغفر له الوقوع فيه، ويكون لصاحب المصلحة منهما أن يتمسك بإبطال العقد، على أن المشروع حرص هنا على أن يستثني الحالة التي يقع فيها أحد المتعاقدين في الغلط، فيؤثر في الآخر تأثيرًا يتعذر عليه تداركه، ويجره إلى الوقوع معه فيه، كما إذا تملكه اعتقاد معين، فنقله إلى غريمه، فصدقه عنه. ففي مثل هذه الحالة لا يكون الغلط مغتفرًا إلا لمن نشأ اعتقاده بتأثير من الآخر، أما ذاك الذي جر غريمه إلى الغلط فلا يعتبر غلطه مغتفرًا له إذ هو وحده في الأصل الذي وقع في الغلط، وهذا التحفظ من المشروع يدرأ عن فكرة الغلط المشترك عيبًا كبيرًا وُصِمَتْ به وهو عيب برز على وجه الخصوص، في حالة ارتضاء المتعاقد العقد نتيجة باعث شخصي له، قائم على اعتقاد كاذب، عندما يُخطر به المتعاقد الآخر فيصدقه عنه. فالأخذ هنا بفكرة الغلط المشترك على إطلاقها من شأنه أن يمنح الغالط الأصلي حق طلب إبطال العقد، في حين أنه هو الذي جر غريمه معه في الغلط، وجعله يشاركه فيه.

أما في الحالتين الأخيرتين – حالة علم المتعاقد الآخر بوقوع غريمه في الغلط، وحالة إمكانه العلم بالغلط فتقرير وقوع العقد قابلاً للإبطال له ما يبرره على نحو أظهر وأوضح، فالمتعاقد الآخر هنا يعتبر مخطئًا، حيث أنه لم يؤدِ ما يفرضه عليه الحرص والشرف ونزاهة التعامل من واجب يتمثل في تبصير صاحبه.

على أن المشروع، إذ يتطلب، لإعمال الغلط، أن يكون متصلاً بالمتعاقد الآخر، فهو لا يفعل ذلك إلا في المعاوضات دون التبرعات وقد حدا به إلى ذلك حرصه على أن يجيء التبرع من صاحبه عن إرادة خالصة من كل ما يشوبها، فحسب المتبرع لإبطال تبرعه، أن يكون رضاؤه به قد جاء نتيجة وقوعه في الغلط دون اعتبار بعد ذلك لموقف المتبرع له من غلطه، وهذا هو ما يقرره المشروع في الفقرة الثانية من المادة (148)، وهو حكم استحدثه المشروع، تمشيًا مع طبية التبرع.

وتواجه المادة (148) أثر الغلط في القانون وتقضي بأن حكمه كحكم الغلط في الواقع بالنسبة إلى تعييب الرضاء، وبالتالي إلى وقوع العقد قابلاً للإبطال، فكل منهما يؤدي إلى صدور الرضاء من صاحبه على غير بينة من حقيقة ما يرتضيه.

وإذا كان الفكر القانوني قد تردد حينًا من الزمن في هذا الخصوص فإن تردده هذا يرجع إلى الاعتقاد بأن من شأن إعمال الغلط في القانون أن يؤدي إلى الإخلال بقاعدة عدم جواز العذر بجهل القانون، وهو اعتقاد بعيد عن أن يكون صحيحًا. وقد فطن الفكر القانوني في مجموعة اليوم لهذه الحقيقة، الأمر الذي أدى بالفقه والقضاء إلى إعطاء الغلط في القانون نفس حكم الغلط في الواقع بالنسبة إلى تعييب الرضاء ووقوع العقد بالتالي قابلاً للإبطال، وذلك حتى في البلاد التي لم يقنن فيها هذا الحكم بنص خاص، كما هو الشأن في فرنسا، وفي مصر تحت ظل قانونها المدني القديم، وفي الكويت في ظل قانون التجارة الحالي.

ويتمثل الغلط وهمًا كاذبًا يقع فيه المتعاقد من تلقاء نفسه، دون أن يجره إليه المتعاقد الآخر، أو في الأقل، دون أن يجره إليه بما كان يتوجب عليه التحرز منه، وفقًا لمألوف التعامل، فغلطه إذن يُعزى إليه قبل كل شيء، فإن أراد أن يتمسك به، بغية الوصول إلى إبطال العقد وجب ألا يكون ذلك منه على نحو يتجافى مع ما يوجبه عليه حسن النية وشرف التعامل، وإلا كان متعنتًا ومتعسفًا فيما يطلب من حماية القانون، ولزم رفض دعواه وهو حكم جاء به المشروع في المادة (149) واستوحاه من القانون المصري (المادة 124) مع إجراء تعديلات وإضافات جوهرية إليه.

ومن أبرز الحالات التي يظهر فيها التعنت من الغالط أن يصر على إبطال العقد والخلاص كلية من أي تعامل مع غريمه، إذا أظهر هذا الأخير استعداده أن يجري التعامل معه على نحو يتمشى مع حقيقة ما اعتقده الغالط عند إبرام العقد، أي على نحو يرتفع عنه فيه أثر الغلط، وذلك حتى لو كان من شأنه أن يحمل الغالط بالقليل مما لا يبهظه من تضحية.

ويعرض المشروع في المادة (150) للغلط المادي، المتمثل في أخطاء الحساب أو زلات القلم، ويقضي بأنه لا يؤثر في صحة العقد، ذلك لأن الخطأ المادي بمجرده وذاته لا يتمثل عيبًا في الرضاء، فهو لا يعدو أن يكون مظهرًا غير صحيح لرضاء هو في ذاته سليم، ومن ثم فهو لا يؤثر بداهةً في صحة العقد وإنما يلزمه تصحيحه.

على أن الخطأ المادي الذي لا يكون له تأثير على العقد هو ذاك الذي يجيء كمظهر لرضاء قد تم بالفعل من المتعاقدين. أما إذا وقع أحد المتعاقدين في غلط مادي في حسابات أجراها، أو زل منه القلم في التعبير عن إرادته، وجاء رضاء الطرف الآخر متأثرًا بغلطه المادي هذا، فقد يكون من شأن ذلك أن يؤثر في حكم العلاقة بينهما على وجه ما يقضي به القانون، وهذا ما أراد المشروع أن يتحفظ في شأنه بقوله إن الذي لا يؤثر في صحة العقد هو مجرد الخطأ في الحساب أو مجرد زلات القلم.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .