التدليس:

التدليس باعتباره عيبًا يشوب الرضاء، ليس له دوره المهم في الفكر القانوني المعاصر فحسب، بل إنه له أهميته أيضًا في الفقه الإسلامي، بل لعل أهميته في هذا الفقه الحنيف تفوق ما يتسم به منها في القانون المعاصر. وقد حرص المشروع على أن يتمشى مع الفقه الإسلامي في التوسع في الاعتداد بالكذب أو الكتمان، باعتباره تدليسًا من شأنه أن يُبطل العقد، وجعله بمثابة الحيل التدليسية، كلما جاء بمخالفة واجب خاص متميز في الصدق والمصارحة يفرضه القانون أو الاتفاق أو طبيعة المعاملة أو الثقة التي يكون من حق أحد الطرفين أن يضعها في الآخر على نحو ما تمليه ظروف التعاقد.

ويعرض المشروع في المادة (151) للهيكل العام لنظام التدليس، فيقرر في الفقرة الأولى، أن قوام التدليس هو الحيلة التي توجه للمتعاقد بقصد تغريره وجعله يعتقد أمرًا يخالف الواقع والحقيقة وذلك بغية دفعه إلى ارتضاء التعاقد. فلا بد لقيام التدليس، من التجاء المدلس إلى حيلة من الحيل، وأن يكون ذلك منه بقصد أن يضلل المتعاقد ويخدعه، ليجعله يرتضى العقد. فالتدليس يقوم على قصد مزدوج من المدلس: قصد في الخديعة والتضليل، وقصد في دفع المضلل المخدوع إلى التعاقد.

وقد حرص المشروع على أن يتجنب اشتراط أن تبلغ الحيل قدرًا من الجسامة بحيث تدفع المتعاقد التي التعاقد، كما فعل القانون المصري والقوانين العربية الأخرى التي استوحته، ومن بينها قانون التجارة الكويتي، فالعبرة ليست بمدى ما تتسم به الحيلة من جسامة، وإنما بأثرها على المتعاقد بالنسبة إلى تضليله وجره بذلك إلى التعاقد، فالمعيار هنا هو معيار شخصي قوامه المتعاقد ذاته من حيث ما إذا كانت الحيلة أفلحت في تضليله أم لم تفلح، وليس معيارًا ماديًا يقوم على قدر ما تتسم به الحيلة في ذاتها من جسامة.

على أن الأمر لا يصل، بطبيعة الحال، إلى مستوى الحيلة، إلا إذا انطوى على قدر معقول من الخداع والغش. فإن لم يكن كذلك، فإنه لا يعتبر حيلة أصلاً، ولا يصلح بالتالي تدليسًا من شأنه أن يصلح أساسًا لإبطال العقد، حتى لو ثبت أن المتعاقد قد انخدع به بالفعل، فمن ينخدع بالبسيط من الأمور هو في العادة من المفرطين في السذاجة، ولا يدخل في دور نظام التدليس بأن يحمي أمثال هؤلاء، وإنما قد يمكن له أن يجدوا الحماية في نظام الحجر للغفلة، كما قد يمكن لهم أن يجدوا تلك الحماية في نظام الاستغلال.

ويلزم لإعمال التدليس أن يكون هو الذي دفع المتعاقد إلى ارتضاء العقد، بحيث أنه ما كان ليرتضيه من غيره، شأن التدليس في ذلك شأن الغلط وغيره من كافة عيوب الرضاء الأخرى. على أن كون التدليس هو الدافع إلى التعاقد، وإن كان يتضمن ما يدل على تعييب الرضاء، إلا أنه لا يكفي بمجرده وذاته لجعل العقد قابلاً للإبطال، وإنما يلزم إلى جانبه أن يكون التدليس متصلاً بالمتعاقد الآخر على النحو الذي تحدده المادتان (153 و154) من المشروع.

وقد حرص المشروع على أن يبين أثر التدليس الذي تتوافر فيه شروط إعماله، على نحو جلي واضح، دفعًا لما ثار من شك حوله في بعض النواحي، ويتركز هذا الأثر في دمغ العقد بالقابلية للإبطال لمصلحة من دُلس عليه، إذا أثبت أنه ما كان ليرتضي العقد، على نحو ما ارتضاه عليه، بغير التدليس، فالحق في طلب إبطال العقد لا يقتصر على الحالة التي يثبت فيها المتعاقد أن التدليس هو الذي جره إلى قبول التعاقد في ذاته، وإنما يثبت أيضًا حتى لو اقتصر دور التدليس على جعله يقبل في التعاقد شروطًا أشد وقرًا مما كان ليقبله لو لم يغرر به، وهو ما جرى الفقه على تسميته بالتدليس العارض، تمييزًا له عن التدليس الأول، الذي أُطلق عليه التدليس الأصلي، ذلك لأن العقد كل لا يتجزأ فتعيب الرضاء في شأن أمر جوهري من أموره، يتمثل تعييبًا في ارتضائه كله. وإذا كان من شأن التدليس، عندما تتوافر له شروط إعماله، أن ينهض سببًا لإبطال العقد، فإن هذا الأثر يثبت له، إلى جانب ما قد يترتب عليه من مسؤولية المدلس، باعتبار أنه يتمثل خطأ موجبًا لمسؤوليته التقصيرية عن تعويض الضرر المترتب عنه. وبذلك يرى المدلَس عليه نفسه وقد انفتح أمامه طريقان له أن يختار من بينهما ما يراه لمصلحته أوفق: فإما أن يطلب إبطال العقد. وإما أن يبقى عليه، ويكتفي بدعوى المسؤولية التقصيرية وما تؤدي به إلى تعويض ما ناله من ضرر.

وإذا كان الأصل في الحيلة، التي هي أساس التدليس، أن تقوم على أفعال مادية (وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالتغرير الفعلي) فإن المشروع قد حرص في المادة (152) على أن يجعل في مقامها الكذب والكتمان، كلما جاءا إخلالاً بواجب خاص في الصدق والمصارحة يفرضه القانون أو الاتفاق أو طبيعة المعاملة أو الثقة الخاصة التي يكون من شأن ظروف الحال أن يجعل للمدلس عليه الحق في أن يضعها فيمن غشه وغرر به (وهذا هو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالتغرير القولي)، وقد استوحى المشروع في هذا التوسع الهام في نظام التدليس الفقه الإسلامي، فضلاً عما وصلت إليه أحكام القضاء في البلاد المختلفة.

وغني عن البيان أن الكذب في ذاته، ومجردًا عن أي اعتبار آخر، لا ينهض دعامة كافية للتدليس المبطل العقد، برغم ما فيه من قُبح، وبرغم أن ديننا وأخلاقياتنا تأباه وتمقته وتحرمه، فقد تفشي الكذب اليوم، حتى وصل بنا إلى حد إلقاء الواجب علينا في أن نتحرز نحن منه. فإن لم نفعل كنا مقصرين في حق أنفسنا، وما كان لنا أن نلجأ إلى القانون ليحمينا، إنما الكذب الذي يتدنى إلى مرتبة التدليس هو ذاك الذي يأتي بمخالفة واجب خاص يملي على الشخص الإحجام عنه، غير مجرد الواجب الديني أو الأخلاقي، وهذا الواجب قد يأتي من القانون، أو من الاتفاق كما هو الحال فيما يطلق عليه في الفقه الإسلامي (بيوع الأمانة) أو من طبيعة المعاملة ذاتها التي تقتضي الالتزام الصارم بالصدق والمصارحة، كما هو الحال على الأخص في شأن البيانات التي يقدمها المؤمن له في عقد التأمين، أو حتى من الثقة التي يكون من شأن ظروف الحال وما ينبغي أن يقوم عليه التعاقد من اعتبارات حسن النية، أن تجعل للمتعاقد المدلس عليه حقًا في أن يضعها فيمن خدعه وغرر به.

وتملي المادة (153) شرطًا أساسيًا لإعمال التدليس، يتمثل في وجوب أن يكون التدليس الموجه إلى المتعاقد، والذي دفعه بالفعل إلى التعاقد متصلاً بالمتعاقد الآخر، وهو يُعتبر كذلك بداهة إذا كان المتعاقد الآخر هو الذي لجأ بذات نفسه إلى الحيلة، أو لجأ إليها نائبه. وهو الأمر الذي وقف عنده القانون المصري وغيره من القوانين العربية التي استوحته ومن بينها قانون التجارة الكويتي، وقد توسع المشروع في هذا المجال، فاعتبر التدليس أيضًا متصلاً بالمتعاقد الآخر، إذا كان قد صدر من أحد أتباعه، والمقصود بالتابع هنا أي شخص تكون له صلة بالمتعاقد من شأنها أن تجعله يعمل لخدمته ولحسابه، ولم لم يكن تابعًا بالمعنى الدقيق لهذا الاصطلاح، كالولد أو الزوج الذي يلجأ إلى الاحتيال على شخص لكي يدفعه إلى التعاقد مع أبيه أو زوجه.

واعتبر المشروع أيضًا التدليس متصلاً بالمتعاقد، إذا كان قد صدر ممن كلفه، الوساطة في إبرام الصفقة، فما دام هو قد لجأ إليه، طالبًا وساطته، فمن العدل والمصلحة أن يتحمل نتيجة ما يلجأ إليه من الخديعة والغش. واعتبر المشروع التدليس متصلاً بالمتعاقد الآخر، في النهاية، إذا كان قد صدر ممن يبرم التعاقد لمصلحته، وهو حكم عادل تقتضي الملاءمة تقنينه، بعد أن ذاع وانتشر نظام الاشتراط لمصلحة الغير، وهو من بعد حكم استوحاه المشروع من أحكام القضاء.

فإذا وقع التدليس من الغير، فلا يعتبر متصلاً بالمتعاقد الآخر، وبالتالي مخولاً طلب الإبطال، إلا إذا كان هذا قد علم، عند إبرام العقد، بصدوره أو كان في استطاعته حينئذ أن يعلم به. والغاية التي يتوخاها المشروع من تطلُب أن يكون التدليس بالمتعاقد الآخر، هي العمل على تقرير الأمن والاستقرار للتعامل، عن طريق عدم تعريض هذا المتعاقد للإبطال، إلا إذا أمكن أن يُعزى إليه ما يبرر تحمله نتيجة.

وارتأى المشروع بالمادة (154) أن يستثني عقود التبرع من شرط اتصال التدليس بالمتعاقد الآخر مكتفيًا، لإمكان إبطالها، أن يجيء رضاء المتعاقد بها نتيجة التدليس، ودون اعتبار بعد ذلك لمن وُجهت منه الحيلة، ولما إذا كان المتعاقد الآخر قد علم بها أم لم يعلم وقد حدا به إلى تقرير هذا الحكم رغبته في أن يجيء التبرع، في جميع الحالات، عن إرادة بعيدة عن الغش والاحتيال والخديعة. ويعرض المشروع، في المادة (155) لحالة التدليس المتبادل وهي تلك التي يلجأ فيها كل من طرفي العقد إلى التدليس على الآخر، في صدد شأن من شؤون التعاقد، ويجره بذلك إلى ارتضائه، مقررًا حرمان أي منهما من حق طلب إبطال العقد، فكل منهما قد دنسته حيلته وغشه، فليس له أن يتأذى من غش غريمه، إذا كان قد صدر منه نحوه ما يماثله.

وقد استوحى المشروع هذا الحكم من أعمال لجنة تنقيح القانون المدني الفرنسي المادة (16) من مشروع النصوص المتعلقة بالمصادر الإرادية للالتزامات (أعمال اللجنة لسنة 1948/ 1949 ص 706).

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .