الجهة التأسيسية للدستور تعلو السلطتين التشريعية والتنفيذية وهما من خلقها وينبثقان عنها ويلتزمان دوماً بالقيود التي فرضتها

القضية رقم 13 لسنة 15 ق “دستورية ” جلسة 17 / 12 / 1994

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 17 ديسمبر 1994 الموافق 14 رجب 1415 ه
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين : الدكتور/ محمد إبراهيم أبوالعينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف والدكتور/ عبد المجيد فياض وعدلى محمود منصور
وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد أمين السر
أصدرت الحكم الآتى :
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 13 لسنة 15 قضائية “دستورية “
المقامة من
السيد / عبد الكريم أحمد سليم
ضد
1- السيد / مدير بنك فيصل الإسلامى المصرى فرع الإسكندرية
2- السيد / رئيس مجلس الوزراء
” الإجراءات “
بتاريخ السابع من إبريل سنة 1993 أودع المدعى قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة طالباً الحكم بعدم دستورية المادة (18) من القانون رقم 48 لسنة 1977 بإنشاء بنك فيصل الإسلامى .
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها، أصلياً: عدم قبول الدعوى واحتياطياً: رفضها.
وقدم المدعى عليه الأول مذكرة بدفاعه ردد فيها ما طلبته هيئة قضايا الدولة .
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
” المحكمة “
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة .
حيث إن الوقائع -على مايبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- تتحصل في أن شركة كريم للمقاولات والتجارة والتى يرأس المدعى مجلس إدارتها كانت قد أقامت ضد البنك المدعى عليه، الدعوى رقم 460 لسنة 1993 مدنى كلى الإسكندرية ، طالبة استرداد أمانة التحكيم التى سبق أن دفعتها للبنك. وبجلسة 6 مارس سنة 1993، تدخل المدعى بصفته الشخصية منضماً إلى الشركة ، ودفع بعدم دستورية المادة (18) من القانون رقم 48 لسنة 1977 بإنشاء بنك فيصل الإسلامى ، المعدل بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 142 لسنة 1981 في شأن تسوية الأوضاع بين البنوك العاملة في مصر، فقررت محكمة الموضوع تأجيل نظر الدعوى إلى جلسة 10 إبريل سنة 1993 وذلك ليقدم المدعى ما يفيد الطعن بعدم دستورية المادة المشار إليها، فأقام دعواه الماثلة .
وحيث إن قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 ينص في المادة (30) منه، على أنه “يجب أن يتضمن القرار الصادر بالإحالة إلى المحكمة الدستورية العليا أو صحيفة الدعوى المرفوعة إليها وفقاً لحكم المادة السابقة ، بيان النص التشريعى المطعون بعدم دستوريته، والنص الدستورى المدعى بمخالفته، وأوجه المخالفة “.
وحيث أن المدعى عليه الأول دفع بعدم قبول الدعوى الماثلة بمقولة إغفال صحيفتها بيان أوجه مخالفة النص التشريعى المطعون عليه للدستور، وإخلالها بالتالى بنص المادة (30) المشار إليها.
وحيث إن هذا الدفع مردود بأن التعارض بين نصين في دائرة بذاتها، قد يكون منبئاً- من خلال مقابلتهما ببعض- عن نطاق تصادمهما، ودالاً بالتالى على مضمون المخالفة الدستورية التى يكفى لتحديدها وفقاً لقانون المحكمة الدستورية العليا، أن يكون تعيينها ممكناً. متى كان ذلك، وكان المدعى قد نعى على النص المطعون فيه، مخالفته للمادة (68) من الدستور التى تكفل لكل إنسان حق التقاضى من خلال عرض دعواه على قاضيها الطبيعى ، وكان النص محل الطعن إذ حجب عن هذا القاضى ولاية نظر المسائل محل التحكيم، وعهد بها قسراً إلى محكمين يتولون الفصل فيها بعد أن أقصاه عنها، فإنه بذلك يكون محدداً للدائرة التى يناقض فيها حكم المادة (68) من الدستور، وكاشفاً بالتالى عن وجه المخالفة الدستورية التى قيل بإغفال تعيينها.
وحيث إن كلا من هيئة قضايا الدولة والمدعى عليه الأول، قد نفيا توافر المصلحة الشخصية المباشرة للمدعى في الطعن بعدم دستورية نص المادة (18) المشار إليها، ذلك أن شركة كريم للمقاولات والتجارة تقيم نزاعها الموضوعى على أن انقضاء التحكيم تبعاً لفوات المدة المحددة للفصل في المسائل التى اشتمل عليها، يخولها الحق في استرداد الأمانه التى كانت قد دفعتها. ولا كذلك النص المطعون فيه، إذ لا يتعلق بالأحوال التى يكون فيها التحكيم منقضياً، وإنما اختط التحكيم طريقاً لفض المنازعات التى قد تثور بين بنك فيصل الإسلامى وعملائه. هذا فضلاً عن أن المدعى ليس مخاطباً بالنص المطعون فيه، ولم ينله ضررخاص من جراء تطبيقه.
وحيث إن المادة (18) المطعون عليها تنص على أن “يفصل مجلس الإدارة بأغلبية أعضائه بصفته محكماً ارتضاه الطرفان في كل نزاع ينشأ بين أى مساهم في البنك وبين مساهم آخر سواء كان شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً، وذلك بشرط أن يكون النزاع ناشئاً عن صفته كمساهم في البنك، ولا يتقيد مجلس الإدارة في هذا الشأن بقواعد قانون المرافعات المدنية والتجارية عدا ما يتعلق منها بالضمانات والمبادئ الأساسية للتقاضى . أما إذا كان النزاع بين البنك وبين أحد المستثمرين أو المساهمين أو بين البنك والحكومة أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة أو إحدى شركات القطاع العام أو الخاص أو الأفراد، فتفصل فيه نهائياً هيئة من المحكمين معفاة من قواعد الإجراءات، عدا ما يتعلق منها بالضمانات والمبادئ الأساسية للتقاضى .
وفى هذه الحالة تشكل هيئة التحكيم من مٌحكم يختاره كل طرف من طرفى النزاع وذلك خلال ثلاثين يوماً من تاريخ استلام أحد طرفى النزاع طلب إحالة المنازعة إلى التحكيم من الطرف الآخر. ثم يختار الحكمان حكماً مرجحاً خلال الخمسة عشر يوماً التالية لتعيين آخرهما. ويختار الثلاثة أحدهم لرئاسة هيئة التحكيم خلال الأسبوع التالى لاختيار الحكم المرجح. ويعتبر اختيار كل طرف لمحكمه، قبولاً لحكم المحكمين واعتباره نهائياً.
وفى حالة نكول أحد الطرفين عن اختيار مُحَكمه، أو في حالة عدم الاتفاق على اختيار الحكم المرجح أو رئيس هيئة التحكيم في المدد المحدده في الفقرة السابقة ، يعرض الأمر على هيئة الرقابة الشرعية لتختار الحكم أو الحكم المرجح أو الرئيس حسب الأحوال.
وتجتمع هيئة التحكيم في مقر البنك الرئيسى ، وتضع نظام الإجراءات التى تتبعها لنظر النزاع وفى إصدار قرارها. ويجب أن يتضمن هذا القرار بيان طريقة تنفيذه وتحديد الطرف الذى يتحمل بمصاريف التحكيم، ويودع قرار هيئة التحكيم الأمانة العامة لمجلس إدارة البنك.
ويكون حكم التحكيم في جميع الأحوال نهائياً وملزماً للطرفين وقابلاً للتنفيذ، شأنه شأن الأحكام النهائية . وتوضع عليه الصيغة التنفيذية وفقاً للإجراءات المنصوص عليها في باب التحكيم في قانون المرافعات.
وفى جميع الأحوال تخضع قرارات مجلس الإدارة ، وأحكام هيئة التحكيم، الصادرة طبقاً لهذه المادة ، لأحكام الباب الثالث من الكتاب الثانى من قانون المرافعات المدنية والتجارية “.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية ، وذلك بأن يكون الحكم في المسألة الدستورية مؤثراً في الفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة على محكمة الموضوع. ولا يعدوالنص المطعون فيه أن يكون مبلوراً لقاعدة آمرة لا يجوز تجاهلها أو إسقاطها. وبها فرض المشرع وفى الحدود التى بينها التحكيم جبراً على علائق بذواتها، ليكون هذا النوع من التحكيم ملزماً، ومستنداً في مصدره المباشر إلى نص القانون، فلا يستعاض عنه باللجوء إلى القضاء. ولا يغير من طبيعته هذه أو يمسخها، قالة أن بنك فيصل الإسلامى قد درج على أن يبرم مع عملائه عقوداً تحيل إلى التحكيم في شأن المنازعات المتعلقة بتنفيذها، ذلك أن هذه العقود بفرض قيامها إنما تردد القاعدة الآمره إلتزاماً بنصها وامتثالاً لحكمها، فلا تجبها تلك العقود أو تُنحيها، بل يتعين إعمالها دوماً ولو خلا عقد منها.
متى كان ذلك، وكان من المقرر أن للمتدخل انضماماً إلى أحد الخصوم أن يتمسك بالدفوع وأوجه الدفاع التى كان لهذا الخصم أن يبديها، وكان النزاع الموضوعى يدور حول حق شركة كريم للمقاولات في أن تستعيد أمانة التحكيم التى كانت قد دفعتها تأسيساً على ادعائها انقضاء التحكيم بفوات الميعاد المحدد للفصل في المسائل التى اشتمل عليها، وكان حقها في أن ترد إليها أمانتها هذه، يقوم كذلك إذا ما أبطل التحكيم بالصورة التى أفرغها المشرع فيه كأثر للحكم بعدم دستوريته، فإن الفصل في المسألة الدستورية يكون مؤثراً في النزاع الموضوعى ، ومرتبطاً بأبعاده.
وحيث إن البين من المادة (18) المشار إليها، أن فقرتها الأولى تخول مجلس إدارة بنك فيصل الإسلامى وبإعتباره محكماً الفصل فيما قد يثور بين المساهمين فيه من نزاع، وبصفتهم هذه. وذلك خلافا لفقرتها الثانية التى يدورالطعن حولها لتوسلها بالتحكيم أسلوباً وحيداً لفض ما يثور من نزاع بين البنك وعملائه وذلك سواء أكانوا من المستثمرين أو من الجهات الحكومية أو شركات القطاع العام أو الخاص أو الأفراد. متى كان ذلك، وكان لا شأن للمدعى بالفقرة الأولى من المادة (18) الآنف بيانها، فإن مصلحته الشخصية والمباشرة ، تنحصر في الطعن بعدم دستورية فقرتها الثانية دون غيرها.
وحيث إن الأصل في التحكيم هو عرض نزاع معين بين طرفين على مُحَكَّم من الأغيار يُعيَّن باختيارهما أو بتفويض منهما أو على ضوء شروط يحددانها، ليفصل هذا المحكم في ذلك النزاع بقرار يكون نائياً عن شبهة الممالأة ، مجرداً من التحامل، وقاطعاً لدابر الخصومة في جوانبها التى أحالها الطرفان إليه، بعد أن يدلى كل منهما بوجهة نظره تفصيلا من خلال ضمانات التقاضى الرئيسية . ولا يجوز بحال أن يكون التحكيم إجبارياً يذعن إليه أحد الطرفين إنفاذاً لقاعدة قانونية آمرة لايجوز الاتفاق على خلافها، وذلك سواء كان موضوع التحكيم نزاعاً قائماً أو محتملاً، ذلك أن التحكيم مصدره الاتفاق، إذ يحدد طرفاه وفقاً لأحكامه نطاق الحقوق المتنازع عليها بينهما، أو المسائل الخلافيه التى يمكن أن تَعْرِض لهما، وإليه ترتد السلطة الكاملة التى يباشرها المحكمون عند البت فيها. وهما يستمدان من اتفاقهما على التحكيم، التزامهما بالنزول على القرار الصادر فيه، وتنفيذه تنفيذاً كاملاً وفقاً لفحواه. فإذا لم يكن القرار الصادر في نزاع معين بين طرفين، منهيا للخصومة بينهما، أو كان عارياً عن القوة الإلزامية ، أو كان إنفاذه رهن وسائل غير قضائية ، فإن هذا القرار لا يكون عملاً تحكيمياً.
وحيث إن التحكيم بذلك يختلف عن أعمال الخبرة ، ذلك أن قوامها ليس قراراً ملزماً، بل مناطها آراء يجوز أطراحها أو تجزئتها والتعديل فيها. كما يخرج التحكيم كذلك عن مهام التوفيق بين وجهات نظر يعارض بعضها البعض، إذ هو تسوية ودية لا تحوز التوصية الصادرة في شأنها قوة الأمر المقضى ، بل يكون معلقاً إنفاذها على قبول أطرافها، فلا تتقيد بها إلا بشرط انضمامها طواعية إليها. ومن ثم يئول التحكيم إلى وسيلة فنيه لها طبيعة قضائية ، غايتها الفصل في نزاع محدد مبناه علاقة محل اهتمام من أطرافها، وركيزته اتفاق خاص يستمد المحكمون منه سلطاتهم، ولا يتولون مهامهم بالتالى بإسناد من الدولة .
وحيث إنه وإن كان قانون المؤسسات العامة وشركات القطاع العام الصادر بالقانون رقم 60 لسنة 1971 قد نظم صٌوراً بذاتها كان التحكيم فيها إجبارياً، هى تلك التى تقوم بين الدولة -بتنظيماتها المختلفة – وبين وحداتها الاقتصادية ، إلا أن النزاع بين هذه الجهات لا يثور بين أشخاص اعتبارية تتناقض مصالحها أو تتعارض توجهاتها، إذ تعمل جميعها باعتبار أن ثمار نشاطها عائدة – في منتهاها- إلى المرافق العامة التى تقوم الدولة على تسييرها، وتكفل انتظامها وتطويرها لضمان وفائها بالأغراض التى ترمى إلى إشباعها. ولا كذلك الأمر إذا كان أحد الأشخاص الطبيعيين طرفاً في ذلك النزاع، إذ لا يجوز أن يدخل في هذا النوع من التحكيم – وعلى ماكان ينص عليه هذا القانون ذاته – إلا بقبوله.
وحيث إن الطبيعة الرضائية للتحكيم تبلور تطوراً تاريخياً ظل التحكيم على امتداده عملاً إرادياً، فقد كان الأصل في التحكيم أن يكون تاليا لنزاع بين طرفين يلجئان إليه إما لأن المحكم محل ثقتهما، أو لأن السلطة التى يملكها قبلهما كانت توفر لنزاعهما حلاً ملائماً. وكان ينظر إلى المحكم بالتالى باعتباره صديقاً موثوقاً فيه، أو رجلاً حكيماً أو مهيباً. بيد أن هذه الصورة التقليدية – ومع احتفاظها بأهميتها حتى يومنا هذا جاوزها التطور الراهن في العلائق التجارية والصناعية ، لتقوم إلى جانبها صورة مختلفة عنها تستقل بذاتيتها، ذلك أن التحكيم اليوم – في صوره الأكثر شيوعاً- لا يعود إلى اتفاق بين طرفين قام بينهما نزاع حول موضوع محدد، ولكنها تتمثل في شرط بالتحكيم يقبل الطرفان بمقتضاه الركون إليه لمواجهة نزاع محتمل قد يثور بينهما. ولم يعد المحكم في إطار هذا التطور، مجرد شخص تم اختياره لعلائق يرتبط بها مع الطرفين المتنازعين. وإنما غدا التحكيم تنظيماً مهنياً تقوم عليه أحياناً جهة تحكيم دائمة تكون أقدر على تقديم خدماتها إلى رجال الصناعة والتجارة . بل إن نطاق المسائل التى يشملها التحكيم بات متبايناً ومعقداً، ولم يعد مقصورا على تفسير العقود أو الفصل فيما إذا كان تنفيذها متراخياً أو مشوباً بسوء النية أو مخالفاً – من أوجه أخرى – للقانون، وغير ذلك من المسائل الخلافية ذات الطبيعة القانونية البحتة ، بل توخى التحكيم إلى جانبها – وعلى نحو متزايد -إنماء التجارة الدولية عن طريق مواجهة نوع من المسائل التى لا يمكن عرضها على القضاء، أو التى يكون طرحها عليه غير ملائم، كتلك التى تتناول في موضوعها ملء فراغ في عقد غير مكتمل أو تعديل أحكام تضمنها العقد أصلاً لتطويعها على ضوء الظروف الجديدة التى لابستها، وإن ظل الاتفاق دائماً وباعتباره تصرفاً قانونياً وليد الإرادة ناشئاً عنها منبسطاً على أعمال التحكيم، سواء في صورتها التقليدية ، أو في أبعادها الجديدة ، ليكون مدخلاً إليها وطريقا وحيدا لها.
وحيث إن من المقرر أنه سواء كان التحكيم مستمداً من اتفاق بين طرفين أبرماه بعد قيام النزاع بينهما، أم كان ترقبهما لنزاع محتمل قد حملهما على أن يضمنا عقداً من العقود التى إلتزما بتنفيذها، شرطاً يخولهما الإعتصام به، فإن التحكيم لا يستكمل مداه بمجرد الاتفاق عليه. وإنما يتعين التمييز في نطاق التحكيم بين مراحل ثلاث تتصل حلقاتها وتتكامل، بما مؤداه: تضاممها فيما بينها، وعدم جواز فصلها عن بعضها البعض،وإلا كان التحكيم مجاوزاً إرادة الطرفين المتخاصمين متنكباً مقاصدهما. ذلك أن أولى مراحل التحكيم يمثلها الاتفاق عليه، وهى مدار وجوده، وبدونها لا ينشأ أصلاً، ولا يتصور أن يتم مع تخلفها. وليس جائزاً بالتالى أن يقوم المشرع بعمل يناقض طبيعتها، بأن يفرض التحكيم قسراً على أشخاص لا يسعون إليه، ويأبون الدخول فيه. وارتكاز التحكيم على الاتفاق، مؤداه: اتجاه إرادة المحتكمين وانصرافها إلى ولوج هذا الطريق دون سواه، وامتناع إحلال إرادة المشرع محل هذا الاتفاق. فاتفاق التحكيم إذن هو الأصل فيه، والقاعدة التى يرتكز عليها. بيد أن هذا الاتفاق وإن أحاط بالتحكيم في مرحلته الأولى وكان مهيمناً عليها، إلا أن دور الإرادة يتضاءل ويرتد متراجعاً في مرحلته الوسطى ، وهى مرحلة التداعى التى يدخل بها التحكيم في عداد الأعمال القضائية ، والتى يبدو عمل المحكمين من خلالها مؤثراً فيها. ذلك أن بدايتها تتمثل في تكوين هيئة التحكيم عن طريق اختيار أعضائها، ثم قبول المحكمين لمهمتهم وأدائهم لها في إطار من الاستقلال والحيدة ، وعلى ضوء القواعد الموضوعية والإجرائية التى يقررونها إذا أغفل الطرفان المتنازعان بيانها، لتمتد سلطتهم إلى الأمر بالتدابير الوقتية والتحفظية التى يقتضيها النزاع، وبمراعاة أن جوهر ولايتهم يرتبط بضمان الفرص المتكافئة التى يتمكن الطرفان من خلالها من تعديل طلباتهما، وعرض أدلتهما الواقعية والقانونية ، وإبداء دفوعهما، لتصل مهمتهم إلى نهايتها بقرار يصدر عنهم يكون حكماً فاصلاً في الخصومة بتمامها، ولا يحول دونهم وتفسير ما يكون قد وقع في منطوق هذا القرار من غموض، أو تصحيح ما يكون عالقاً به من الأخطاء المادية البحتة .
وحيث إن إصدار هيئة التحكيم لقرارها الفاصل في النزاع على النحو المتقدم، وإن كان منهياً لولايتها مانعاً لها من العودة إلى نظر الموضوع الذى كان معروضاً عليها، إلا أن الطرفين المتنازعين لا يبلغان ما رميا إليه من التحكيم إلا بتنفيذ القرار الصادر فيه. وتلك مهمة لا شأن لإرادة هذين الطرفين بها، بل تتولاها أصلاً الدولة التى يقع التنفيذ في إقليمها. إذ تقوم محاكمها بفرض نوع من الرقابة على ذلك القرار، غايتها بوجه خاص ضمان أن يكون غير مناقض للنظام العام في بلدها، صادراً وفق اتفاق تحكيم لا مطعن على صحته ونفاذه، وبالتطبيق للقواعد التى تضمنها، وفى حدود المسائل الخلافية التى اشتمل عليها. وتلك هى المرحلة الثالثة للتحكيم التى تتمثل في اجتناء الفائدة المقصودة منه، والتى يتعلق بها الهدف من التحكيم ويدور حولها، وبدونها يكون عبثاً.
وحيث إن الشريعة العامة للتحكيم في المواد المدنية والتجارية المعمول بها في جمهورية مصر العربية وفقاً لأحكام قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994، والتى يفصح عنها كذلك ما جاء بمضبطة الجلسة الحادية والخمسين لمجلس الشعب المعقودة في 20 من يناير 1994 إبان دور الانعقاد العادى الرابع للفصل التشريعى السادس قوامها أن التحكيم في المسائل التى يجوز فيها الصلح وليد الاتفاق، سواء أكان تحكيماً داخلياً، أم دولياً، مدنياً، أم تجاريا، وأن المحتكمين يجوز أن يكونوا من اشخاص القانون الخاص أو العام. كذلك يؤكد هذا القانون، أن التراضى على التحكيم والقبول به، هو المدخل إليه، وذلك من جهتين: أولاهما: ما تفيده المادة (22) من هذا القانون ضمناً من انتفاء ولاية هيئة التحكيم وامتناع مضيها في النزاع المعروض عليها، إذا قام الدليل أمامها على انعدام أو سقوط أو بطلان اتفاق التحكيم، أو مجاوزة الموضوع محل بحثها لنطاق المسائل التى اشتمل عليها. ثانيهما: ما تنص عليه المادتان (4، 10) من هذا القانون، من أن التحكيم في تطبيق أحكامه ينصرف إلى التحكيم الذى يتفق عليه طرفا النزاع بإرادتهما الحرة وذلك سواء كانت الجهة التى اتفق الطرفان على توليتها إجراءات التحكيم، منظمة أو مركزاً دائماً أو لم تكن كذلك، وسواء كان اتفاق التحكيم سابقاً على قيام النزاع أم لاحقاً لوجوده، وسواء كان هذا الاتفاق قائماً بذاته، أم ورد في عقد معين. ويعتبر اتفاقاً على التحكيم كل إحالة ترد في العقد إلى وثيقة تتضمن شرط تحكيم إذا كانت الإحالة واضحة في اعتبار هذا الشرط جزءاً من العقد. بل إن المادة (22) من هذا القانون صريحة في نصها على أن شرط التحكيم يعتبر اتفاقاً مستقلا عن شروط العقد الأخرى ، وأن بطلان العقد الذى أدمج هذا الشرط فيه، أو زوال هذا العقد بالفسخ أو الإنهاء، ليس بذى أثر على شرط التحكيم الذى يتضمنه، إذا كان هذا الشرط صحيحاً في ذاته.
وحيث إن الأحكام التى أتى بها قانون التحكيم سالف البيان، لا ينافيها التنظيم المقارن، بل يظاهرها ويقوم إلى جوارها ولا سيما بالنسبة إلى ما كان من صوره دولياً، ومرجعها بوجه خاص إلى القانون النموذجى للتحكيم التجارى الدولى الذى اعتمدته لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولى في 21 يونيو 1985 فقد نص هذا القانون على أن المنازعات الناشئة عن علاقة قانونية محددة بين طرفين، أو التى يمكن أن تتولد عنها، يجوز بناء على اتفاق إحالتها إلى محكمين سواء أكان اتفاق التحكيم في صورة شرط تحكيم وارد في عقد أم في شكل اتفاق من فصل. وتعتبر الإحالة في عقدما إلى وثيقة تشتمل على شرط تحكيم، بمثابة اتفاق تحكيم إذا كان هذا العقد مكتوباً، وكانت الإحالة كاشفة بدلالتها عن أن هذا الشرط جزء من العقد. وانبثاق التحكيم عن الاتفاق باعتباره مصدر وجوده، هو القاعدة التى تبنتها الاتفاقية الأوروبية للتحكيم التجارى الدولى (21 إبريل 1961) وذلك فيما نصت عليه من سريان أحكامها في شأن كل اتفاق يتغيا تسوية نزاع قائم أومحتمل يرتبط بالتجارة الدولية ، ويكون مبرماً بين أشخاص طبيعيين أو اعتباريين يقيمون على وجه الاعتياد وقت هذا الاتفاق بإحدى الدول المتعاقدة أو تتخذ مقراً لها فيها. ويقصد باتفاق التحكيم في تطبيق أحكام هذه الاتفاقية كل شرط بالتحكيم يكون مدرجاً في عقد، وكذلك كل اتفاق قائم بذاته يلجأ الطرفان بمقتضاه إلى التحكيم، على أن يكون كلاهما موقعاً عليه منهما أو متضمناً في رسائلها أو برقياتهما أو غير ذلك من وسائل الاتصال بينهما.
وهذه القاعدة ذاتها هى التى رددتها اتفاقية نيويورك (10 يونيو 1958) التى أقرها مؤتمرالأمم المتحدة لقانون التجارة الدولى في شأن تقيد الدول كل في نطاق إقليمها وفى مجال اعترافها بقرارات المحكمين وتنفيذ ها بالاتفاق الكتابى الذى يتعهد الأطراف فيه بعرض نزاعاتهم ما كان منها قائماً أو محتملاً على التحكيم، وذلك كلما كان موضوعها مما يجوز التحكيم فيه، وبشرط نشوئها عن علاقة قانونية محددة ، ولو لم يكن العقد مصدراً لها.
وأصداء هذه القاعدة تعكسها كذلك، الاتفاقية المبرمة فيما بين الدول الأعضاء في منظمة الدول الأمريكية (30 يناير 1975) بإعلانها صحة كل اتفاق يتعهد بمقتضاه طرفان أو أكثربعرض نزاعاتهم الحالية أو ما يظهر مستقبلاً منها على محكمين، يعينون بالكيفية التى يبينها أطراف النزاع، ما لم يفوضوا في ذلك طرفاً ثالثاً.كذلك تلتزم بالأحكام السالف بيانها، الاتفاقية المبرمة في شأن تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى . ( 17 مارس 1965)
La convention pour le reglement des differends relatifs aux investissement entre Etats et ressortissants d autres Etats.
وحيث إن القوانين الوطنية في عدد من الدول، تقرر كذلك أن الاتفاق مصدر للتحكيم. فقد عقد قانون المرافعات المدنية الفرنسى عدة فصول ضمنها كتابه الرابع منظماً بها شرط التحكيم واتفاق التحكيم، ومحدداً القواعد التى تجمعه ما، ومقرراً بموجبها أن شرط التحكيم هو كل اتفاق يتعهد بمقتضاه الأطراف في عقد بعرض نزاعاتهم التى يمكن أن تتولد عنه، على التحكيم. ويجب أن يكون هذا الشرط مدوناً في العقد الأصلى ، أو في وثيقة يحيل هذا الشرط إليها، وإلا كان باطلاً. ويبطل هذا الشرط كذلك إذا خلا من بيان أشخاص المحكمين أو أغفل تعيينهم بأوصافهم. ويعنى بطلان شرط التحكيم أن يعتبر كما لو كان غير مدون. ويجوز باتفاق مستقل، أن يحيل طرفان نزاعاً قائماً بينهما إلى محكم أو أكثر للفصل فيه، ولو كان عين النزاع منظوراً بالفعل أمام جهة قضاء. وكلما كان الفصل في النزاع موكولاً إلى محكمين وفقاً لاتفاق تحكيم، فإن عرضه على جهة قضاء،يلزمها أن تقرر عدم اختصاصها بنظره. ويكون الأمر كذلك ولو كان هذا النزاع لا يزال غير معروض على المحكمين، مالم يكن اتفاق التحكيم ظاهر البطلان. واذا عارض أحد الطرفين المتنازعين في أصل الولاية التى يباشرها المحكم أو في مداها، كأن لهذا المحكم أن يفصل في صحة إسنادها إليه، وكذلك في نطاقها.
كذلك عدل القانون رقم 59 لسنة 1993 الصادر في رومانيا -بعد زوال التأثير الشيوعى من تنظيماتها القانونية – أحكام الباب السابع من قانون الإجراءات المدنية والتجارية ، متبنيا نظاما للتحكيم يخول الأشخاص الذين يملكون مباشرة كامل حقوقهم، حرية الدخول فيه لتسوية نزاعاتهم المتعلقة بحقوقهم المالية باستثناء تلك المسائل التى لا يجوز التعامل فيها، ومقرراً كذلك أن التحكيم لا يتم إلا بمقتضى اتفاق يدون كتابة ، وأن هذا الاتفاق إما ان يكون تفاهماً قائماً بذاته بين طرفين لمواجهة نزاع شجر بينهما بالفعل Compromise وإما أن يكون متخذاً شكل شرط بالتحكيم Compromissory Clause مندمجاً في عقد نافذ بين الطرفين المتنازعين، ويستقل في صحته عن العقد الذى يتضمنه، على أن يتناول هذا الشرط تخويل المحكمين فض ما قد يثور بينهما مستقبلاً من نزاع يكون ناشئاً عن ذلك العقد أو مرتبطاً به. ويعتبر اتفاق التحكيم مانعاً من مباشرة جهة القضاء لاختصاصها بنظر المسائل التى أحالها ذلك الاتفاق إلى التحكيم. ويكون لأعضاء هيئة التحكيم السلطة الكاملة التى يحددون من خلالها ما يدخل في اختصاصهم من المسائل، وذلك بقرار لا يجوز الطعن فيه إلا وفق الأحكام المنصوص عليها في الماده (364) من هذا القانون.
وحيث إن النصوص القانونية السالف بيانها تؤكد جميعها أن التحكيم وفقاً لأحكامها لايكون إلا عملاً إرادياً، وأن الطرفين المتنازعين إذ يبرمان فيما بينهما اتفاق تحكيم، ويركنان برضائهما إليه لحل خلافاتهما، ماكان منها قائماً عند إبرام هذا الاتفاق أو ما يتولد منها بعده، إنما يتوخيان عرض موضوع محدد من قبلهما على هيئة من المحكمين تتولى بإرادتهما الفصل فيه بما يكفل إنهاء نزاعهم بطريقه ميسرة في إجراءاتها وتكلفتها وزمنها، ليكون التحكيم بذلك نظاماً بديلاً عن القضاء، فلا يجتمعان. يؤيد ذلك أن الآثار التى يرتبها اتفاق التحكيم من نوعين، آثار إيجابية قوامها إنفاذ هذا الاتفاق من خلال عرض المسائل التى يشتمل عليها على محكمين، وأن يبذل الطرفان المتنازعان جهدهما من أجل تعيينهم وتسهيل أدائهم لواجباتهم والامتناع عن عرقلتها. وآثار سلبية جوهرها أن اتفاق التحكيم يعزل جهة القضاء ويمنعها من الفصل في المسائل التى أحيلت إلى المحكمين. بل إن الاتجاه السائد اليوم يخولهم عند إنكار ولايتهم، تقرير الإختصاص بما يدخل في نطاقها la Competence de leur Competence، وإن كان ذلك لا يحول بين جهة القضاء وبين أن تفرض رقابتها – في الحدود التى يبينها القانون – على قراراتهم التى تنتهى بها الخصومة كلها، سواء في مجال الفصل في ادعاء بطلانها، أو بمناسبة عرضها عليها لضمان التقيد بها.
وحيث إنه لا ينال مما تقدم، ما ذهب إليه المدعى عليه الأول من أن النص المطعون فيه ليس تحكيماً إجبارياً، بل هو تحكيم من طبيعة قضائية تولى المشرع تنظيمه عملاً بالسلطة التى يباشرها بمقتضى المادة (167) من الدستور، التى عهدت إليه بتوزيع الولاية القضائية بين الهيئات التى اختصها بمباشرتها دون عزل بعض المنازعات عنها، وبغير إخلال بالقواعد التى أتى بها الباب الثالث من الكتاب الثالث من قانون المرافعات المدنية والتجارية ، والتى حلت محلها الأحكام التى تضمنها قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994.
وحيث إن هذا الزعم مردود بأن ما قصد إليه الدستور بنص المادة (167) منه التى فوض بها المشرع في تحديد الهيئات القضائية وتقرير اختصاصاتها، هو أن يعهد إليه دون غيره، بأمر تنظيم شئون العدالة من خلال توزيع الولاية القضائية بين الهيئات التى يعينها، تحديد لقسط كل منها أولنصيبها فيها، بما يحول دون تنازعها فيما بينها أو إقحام إحداها فيما تتولاه غيرها من المهام، وبما يكفل دوماً عدم عزلها جميعاً عن نظر خصومه بعينها. ولا كذلك التحكيم إذا تم باتفاق بين طرفين، ذلك أن مؤداه: عزل المحاكم جميعها عن نظر المسائل التى يتناولها استثناءً من خضوعها أصلاً لها. وعلى أساس أن المحكمين يستمدون عند الفصل فيها ولايتهم من هذا الاتفاق باعتباره مصدراً لها. كذلك ليس في القواعد التى تضمنها الباب الثالث من الكتاب الثالث من قانون المرافعات قبل إبدالها بقانون التحكيم الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994، ولا فيما قرره هذا القانون من قواعد، ما يدل على أن التحكيم يمكن أن يكون إجبارياً، بل تفصح جميعها عن أن قبول المحتكمين للتحكيم شرط لجوازه باعتباره طريقاً استثنائياً لفض النزاع بين طرفين بغير اتباع طرق التقاضى المعتاده، ودون تقيد بكامل ضماناتها.
وحيث إن سيادة الدستور – بمعنى تَصٌّدره القواعد القانونية جميعها – ليس مناطها عناصر مادية قوامها مضمون الأحكام التى احتواها، والتى تنظم بوجه خاص تبادل السلطة وتوزيعها والرقابة عليها، بما في ذلك العلائق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ، وكيفية مباشرتهما لوظائفهما، ونطاق الحقوق التى يمارسها المواطنون، وكذلك الحريات التى يتمتعون بها، ذلك أن الدستور- محدداً بالمعنى السابق على ضوء القواعد التى انتظمها- هو الدستور منظوراً إليه من زاويه مادية بحتة La Constitution au sens material وهى زاوية لا شأن لها بعلو القواعد الدستورية وإخضاع غيرها من القواعد القانونية لمقتضاها. وإنما تكون للدستور السيادة ، حين تهيمن قواعده على التنظيم القانوني في الدولة لتحتل ذراه. ولا يكون ذلك إلا إذا نظرنا إليه من زاويه شكلية La Constitution au sens formel لا تتقيد بمضمون القواعد التي فصلها، وإنما يكون الاعتبار الأول فيها عائداً أولاً إلى تدوينها، وثانياً إلى صدورها عن الجهة التي إن عقد لها زمام تأسيسها L`organ Constituant والتي تعلو- بحكم موقعها من السلطتين التشريعية والتنفيذية – عليهما معاً، إذ هما من خلقها وينبثقان بالتالي عنها، يلتزمان دوماً بالقيود التي فرضتها، وبمراعاة أن القواعد التي صاغتها هذه الجهة وأفرغتها في الوثيقة الدستورية لا يجوز تعديلها أو إلغاؤها إلا وفق الأشكال والأن ماط الإجرائية التي حددتها، بشرط أن تكون في مجموعها أكثر تعقيداً من تلك التي تنزل عليها السلطة التشريعية إذا عن لها تعديل أو إلغاء القوانين التي أقرتها. ودون ذلك تفقد الوثيقة الدستورية أولويتها التى تمنحها على الإطلاق الموقع الأسمى La Primaute` Absolue والتي لا تنفصم الشرعية الدستورية عنها في مختلف تطبيقاتها، باعتبار أن التدرج في القواعد القانونية يعكس لزوماً ترتيباً تصاعدياً فيما بين الهيئات التى أقرتها أو أصدرتها.
وحيث إن الدستور قد كفل لكل مواطن بنص مادته الثامنة والستين حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي مخولاً إياه بذلك أن يسعى بدعواه إلى قاض يكون بالنظر إلى طبيعتها، وعلى ضوء مختلف العناصر التي لابستها، مهيئاً دون غيره للفصل فيها، وكان الأصل هو اختصاص جهة القضاء العام بنظر المنازعات جميعها إلا ما استثنى منها بنص خاص، وكان من المقرر أن انتفاء اختصاص المحاكم بالفصل في المسائل التى تناولها اتفاق التحكيم، مرده أن هذا الاتفاق يمنعها من نظرها، فلا تكون لها ولاية بشأنها بعد أن حجبها عنها ذلك الاتفاق، وكان النص التشريعي المطعون عليه – بالتحديد السالف بيانه يفرض التحكيم قسراً في العلاقة القانونية القائمة بين طرفين لا يعدو أن يكون أحدهما مصرفاً يقوم وفقاً لقانون إنشائه بجميع الأعمال المصرفية والمالية والتجارية وأعمال الاستثمار، وثانيهما من يتعاملون معه من الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين، وكان هذا النوع من التحكيم منافياً للأصل فيه باعتبار أن التحكيم لا يتولد إلا عن الإرادة الحرة ولا يتصور إجراؤه تسلطاً أو إكراهاً، فإن شأن التحكيم المقرر بالنص التشريعي المطعون فيه، شأن كل تحكيم أُقيم دون اتفاق، أو بناء على اتفاق لا يستنهض ولاية التحكيم. إذ لا يعدو التحكيم- في هذه الصور جميعها – أن يكون حملاً عليه، من عدماً وجوداً من زاوية دستورية ، فلا تتعلق به بالتالي ولاية الفصل في الأنزعة أياً كان موضوعها. بما مؤداه: أن اختصاص هيئة التحكيم التي أحدثها النص المطعون عليه بنظر المنازعات التي أدخلها جبراً في ولايتها، يكون منتحلاً، ومنطوياً بالضرورة على حرمان المتداعين من اللجوء – في واقعة النزاع الماثل – إلى محاكم القانون العام بوصفها قاضيها الطبيعي ، فيقع من ثم مخالفاً لنص المادة (68) من الدستور.
وحيث إن البين من المادة (18) من القانون رقم 48 لسنة 1977 المشار إليه أن فقراتها الثالثة والرابعة والخامسة ، وكذلك ما ورد بفقرتيها السادسة والسابعة متعلقاً بهيئة التحكيم المنصوص عليها في الفقرة الثانية – المطعون عليها- تكون في مجموعها وحدة لا تقبل التجزئة، إذ يستحيل عزل بعضها عن بعض، ولا يتصور أن يكون لها وجود إذا حكم بعدم دستورية الفقرة الثانية المطعون عليها، فإن ذلك الحكم يكون مستتبعاً لزوماً سقوط الفقرات المشار إليها جميعها.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة (18) من القانون رقم 48 لسنة 1977 بإنشاء بنك فيصل الإسلامي ، وبسقوط فقراتها الثالثة والرابعة والخامسة وكذلك ما ورد بفقرتيها السادسة والسابعة متعلقاً بهيئة التحكيم المنصوص عليها في الفقرة الثانية ، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنية مقابل أتعاب المحاماة .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .