الرجل المعتاد في القانون المدني ولدى عامة الناس

الرجل المعتاد في القانون المدني وعامة الناس في المنطق الحيوي

كثيرا ما يُرجع للحكم على صلاحية معينة في المنطق الحيوي لمفهوم “عامة الناس” لمعرفة مدى تطابق هذه المصلحة مع البداهة الكونية للمصالح المشتركة,أي هل هذه المصلحة المعروضة بديهية أم غير بديهية “إشكالية” أي هل يتفق بشأنها الغالبية العظمى من الناس أم هناك اختلاف بشأنها بين فئة وأخرى أو مجموعة وأخرى أو أمة وأخرى……

ولكن مفهوم عامة الناس أو عقلائهم يبقى مفهوما غير مضبوطا أو يوحي لذهن القارئ بالشتات وعدم التحديد

ولكي يتم تقليص الهامش الذي يتركه أثر كلمة “عامة الناس” في الذهن ,أو لتقليص المساحة التي يطرحها هذا المفهوم لابد من إيجاد مفهوم أضيق نستطيع أن نقيس عليه بداهة أي صلاحية معروضة,غير مفهوم “عامة الناس“

فهذا المفهوم إن كان واضحا للبعض ,فهو للبعض الآخر يخلق إشكالية وشعور بأن المفهوم مشتت للذهن وغير دقيق,ولقد حصلت بعض النقاشات في منتديات كفرنبل العامة حول هذا المفهوم اضطرتني لمحاولة تقليص وتحديد دلالاته ,

فرجعت إلى القانون المدني الذي يطرح مفهوم أو معيار الرجل المعتاد كحل وسطي للقياس عليه,ولكن ماذا يتم القياس عليه؟

يتم بهذا المعيار قياس الخطأ,
سأشرح وبشكل مختصر كيف وصل القانون المدني لمقياس أو معيار الرجل المعتاد

عندما ألتزم بعمل ما أو القيام بعمل ما أو بالتعويض عن ضرر تسببت به فهذا يعني أنني ملتزم بشيء ما, فمن أين أتت هذه الالتزامات؟

قسم القانون المدني مصادر الالتزام إلى عدة مصادر هي: العقد , والعمل غير المشروع “المسؤولية التقصيرية” والإثراء بلا سبب والقانون, أربع مصادر ,منهم من قال خمسة ولكن ليس مجال بحثنا قي هذا الجانب.نأتي لمصدر العمل غير المشروع أو “المسؤولية التقصيرية” وهي تقوم على ثلاثة أركان هي: الخطأ والضرر والعلاقة السببية بينهما “أي يشترط أن يكون هذا الخطأ هو مصدر ذاك الضرر”

حيث جاء نص المادة 164 من القانون المدني السوري وهي نفسها موجودة في القانون المصري المشتقين من القانون الفرنسي الذي هو بدوره نتاج جهود بشرية سابقة من العصر الروماني,فقالت:

((كل خطأ سبب ضرر للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض)) ولكن كيف سيتم تحديد ركن الخطأ, أو ما هو المعيار الذي سنستند عليه في تحديد مفهوم الخطأ ومعناه؟

بغض النظر مبدئيا عن العنصر المعنوي في الخطأ والذي يعني إدراك ارتكاب الخطأ

كيف سنحدد أن فعل فلانا من الناس خطأ؟ هل سيتم قياس الخطأ بالنظر إلى مؤهلات هذا الشخص ومهاراته, بحيث إذا كان نفس الفعل(أو الامتناع عن فعل) يعتبر خطأ وقع فيه فلانا وهو ليس خطأ إذا وقع فيه شخصا آخر نظرا للمهارات التي يتمتع بها كل منهما؟

لذلك تم التوصل لقياس الانحراف أو الخطأ بسلوك شخص نجرده من ظروفه الشخصية* ,هذا الشخص المجرد هو الشخص العادي الذي يمثل جمهور الناس* فلا هو خارق الذكاء شديد اليقظة فيرتفع إلى الذروة,ولا هو محدود الفطنة خامل الهمة فينزل إلى الحضيض,وهذا ما يسمى بـ “الرجل المعتاد” وهو في القانون الروماني القديم كان يسمى”رب الأسرة العاقل“

وبذلك ننظر إلى المألوف من سلوك هذا الشخص العادي ونقيس عليه سلوك الشخص الذي نسب إليه الخطأ (أو الركن المادي للخطأ “التعدي”) ,فإن كان هذا لم ينحرف في سلوكه عن المألوف من سلوك الشخص المعتاد فهو إذا لم يتعدّ ولم يخطئ, ونفض المسؤولية عن كاهله, أما إذا كان قد انحرف, فمهما يكن من أمر فطنته ويقظته فقد تعدى وثبت عليه الخطأ, وترتبت المسؤولية في ذمته.

بهذا وحده يسلم لنا مقياس منضبط صالح واف بالغرض .فلا نحن في حاجة إلى البحث عن خبايا النفس والكشف عن خفايا السرائر,ولا المقياس يختلف في تطبيقه من شخص إلى شخص, بل يصبح التعدي أمرا واحدا بالنسبة إلى جميع الناس, إذ أن معياره لا يتغير, فإذا جاوز الانحراف المألوف من سلوك الناس”الرجل المعتاد” صار تعديا, يستوي في ذلك أن يصدر عن شخص فطن ذكي أو وسط عادي,أو خامل غبي.ويصبح الخطأ شيئا اجتماعيا لا ظاهرة نفسية,فتستقر الأوضاع وتنضبط الروابط القانونية

ولكي نعرف مدى أثر هذا الرجل المعتاد على التزامات الأفراد
سأضرب المثال التالي:

لو اضطررت لوضع وديعة أو أمانة لديك كونني سأسافر لمدة زمنية محددة ,فإذا كان وضع هذه الوديعة لديك بشكل مجاني ولا تأخذ عليه أجرة معينة,فأنت مطالب في سبيل الحفاظ على هذه الوديعة أن تبذل العناية التي تبذلها عادة في سبيل الحفظ على أشياءك الخاصة,

وهذا يعني أنك لو كنت مهملا في العناية في أملاكك الخاصة فليس عليك حرج في أن تكون مهملا في الحفاظ على هذه الوديعة,ولو أصاب هذه الوديعة ضرر ما نتيجة إهمالك المعتاد فلا يتوجب عليك أن تعوضني عما أصاب هذه الوديعة من ضرر

بينما لو وضعت هذه الوديعة لديك لقاء أجر معين تأخذه مني حال عودتي,فهنا أنت مطالب ببذل عناية الرجل المعتاد الذي فيما لو وضع بمكانك سيبذل هذه العناية المطلوبة في حفظ هذا الشيء,وليس العناية التي تبذلها أنت في الحفاظ على أملاكك الخاصة,

فلو أصاب هذه الوديعة ضرر معين نتيجة تقصيرك في بذل العناية التي كان سيبذلها الرجل المعتاد لو وضع في نفس الشروط التي كنت أنت بها ,فأنت مطالب بتعويضي عن الضرر الذي لحقني من جراء تلف هذه الوديعة أو وقوع الضرر عليها,

فهنا يتضح أثر هذا المعيار في تحمل المسؤولية والالتزام , وفي القانون الذي يقوم بتقصي هذا الخطأ وهذا السلوك وهذا القياس هم قضاة الحكم سواء في المحاكم التي تتألف من قاض واحد أو تلك التي تتألف من ثلاثة قضاة وفي مختلف درجات التقاضي

وفي الفقه الإسلامي هناك ما يشبه هذا المعيار عندما أشار إلى العرف أو المتعارف عليه بين الناس, جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية الجزء الثامن والعشرون الصفحة 224

“مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الضَّمَانُ : 7 – لا يَتَحَقَّقُ الضَّمَانُ إِلا إِذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الأُمُورُ : التَّعَدِّي ، وَالضَّرَرُ ، وَالإِفْضَاءُ .

أَوَّلا : التَّعَدِّي :
8 – التَّعَدِّي فِي اللُّغَةِ ، التَّجَاوُزُ . وَفِي الاصْطِلاحِ هُوَ : مُجَاوَزَةُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ عُرْفًا أَوْ عَادَةً . وَضَابِطُ التَّعَدِّي هُوَ : مُخَالَفَةُ مَا حَدَّهُ الشَّرْعُ أَوِ الْعُرْفُ .

وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ ( أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا ، وَلا ضَابِطَ لَهُ فِيهِ ، وَلا فِي اللُّغَةِ ، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ )

وَذَلِكَ مِثْلُ : الْحِرْزِ فِي السَّرِقَةِ ، وَالإِحْيَاءِ فِي الْمَوَاتِ ، وَالاسْتِيلاءِ فِي الْغَصْبِ ، وَكَذَلِكَ التَّعَدِّي فِي الضَّمَانِ ، فَإِذَا كَانَ التَّعَدِّي مُجَاوَزَةَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ ، رَجَعَ فِي ضَابِطِهِ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ فِيمَا يَعُدُّونَهُ مُجَاوَزَةً وَتَعَدِّيًا ، سَوَاءٌ أَكَانَ عُرْفًا عَامًّا أَمْ خَاصًّا .

وَيَشْمَلُ التَّعَدِّي : الْمُجَاوَزَةَ وَالتَّقْصِيرَ ، وَالإِهْمَالَ ، وَقِلَّةَ الاحْتِرَازِ ، كَمَا يَشْتَمِلُ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ”

هذا ما يخص القانون المدني.
***
ولكن كيف سنستفيد من نظرية الرجل المعتاد في المنطق الحيوي؟

سنقوم بوضع هذا المصطلح أو المفهوم الناتج عنه مكان مفهوم عامة الناس,ويتم تجريد هذا الرجل المعتاد من المعايير الشخصية حسب المصلحة المعروضة, بحيث إذا كانت المصلحة المعروضة تخص كافة البشر فيجب أن يكون هذا الرجل المعتاد متجرد من انتمائه إلى عقد فئوي معين,

كما أنه إذا كانت المصلحة المعروضة تخص فئة معينة فيجب أن يكون هذا الرجل المعتاد هو من هذه الفئة المعينةكيف نربط مفهوم الرجل المعتاد في القانون المدني في الرجل المعتاد في المنطق الحيوي؟

الرجل المعتاد في القانون المدني هو ذاك الشخص الذي نقيس خطأ الأشخاص بالنسبة إليه, فعندما ارتكب أنا مثلا خطأ معين كأن أقود السيارة بسرعة, يتم قياس هذا السلوك بسلوك الرجل المعتاد الذي لو وضع في مكاني ,هل كان سيقود سيارته بسرعة؟وبالتالي هل سيرتكب الخطأ الذي ارتكبته؟ إذا كانت الإجابة نعم فهذا يعني أنني بقيادة سيارتي بسرعة فأنا غير مخطئ كون الرجل المعتاد عندما وضع في نفس الظروف التي كنت أنا بها تصرف كما تصرفت أنا,

وفي المنطق الحيوي مثلا لو سألني أحدهم هل ماء البحر مالح؟ فسأقول “مثلا” لا..

ولكن لو سألنا هذا الرجل المعتاد والذي هو كما تمت الإشارة إليه أعلاه بأنه” هو الشخص العادي الذي يمثل جمهور الناس فلا هو خارق الذكاء شديد اليقظة فيرتفع إلى الذروة,ولا هو محدود الفطنة خامل الهمة فينزل إلى الحضيض” فماذا نتوقع أن تكون إجابته؟ بالطبع سيقول نعم

على الرغم من وجود بعض الأنهار التي تشق عباب البحر , فالبداهة هي أن ماء البحر مالح
وبذلك سيعتمد الحكم على منظور الشخص المعتاد الذي يمثل جمهور الناس وليس على منظوري الذي يعتبر شاذا عن هذا المنظورويقوم المقايس المتمرس في المنطق الحيوي والذي يتوجب أن تتوفر فيه صفات الرجل الحريص -وهو الأكثر مهنية من الرجل المعتاد- بإجراء التقصي والتدقيق للوصول إلى ردة فعل أو جواب الرجل المعتاد على أي فعل أو سؤال
المرجع:
* الصفحة 844 من المجلد الثاني الجزء الأول من كتاب الوسيط في شرح القانون المدني الجديد للدكتور عبد الرزاق السنهوري
أرجو أن أكون قد أضفت شيئا مهما للمنطق الحيوي ,كما أتمنى أن أكون قد وفقت في شرح وتبسيط مفهوم عامة الناس وإبداله في مصطلح آخر
منقول