قواعد قانونية لتسوية منازعات عقود والبناء
د. محمد عرفة
تتمتع المنازعات الهندسية بأهمية خاصة على المستويين الداخلي والدولي, فقد شهدت السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي في السنوات الماضية نهضة تنموية في جميع المجالات الاقتصادية، ولا سيما في مجال التشييد والبناء، حيث سعت لاجتذاب الشركات الأجنبية للقيام بأعمال التشييد والبناء بها، كما خطت خطوات مهمة نحو تحقيق التكامل الاقتصادي بينها بتسهيل انتقال الأشخاص والبضائع ومنــح مزايا خاصة لمواطنيها, ما أدى إلى ازدهار ونمو التجارة الدولية، والتجارة البينية بينها، ونشأة مشاريع خاصة مُشتركة في مجالات الحياة الاقتصادية كافة ومنها التشييد والبناء، بل لقد وضعت قواعد موحدة في نطاق مجلس التعاون الخليجي تُنظم تملك مواطني المجلس للعقارات، وهذا من شأنه أن يُساعد على انتعاش سوق العقارات فيها وزيادة حركة الإنشاءات بها، ما يتطلب معرفة القواعد التي تحكم تسوية المُنازعات الناشئة عنها عن طريق اللجوء إلى التحكيم.

إذ لم يعد خافياً على رجال القانون وكذا على المتعاملين في حقل التجارة الداخلية والدولية إدراك أهمية التحكيم كوسيلة مهمة لفض المنازعات الخاصة على المستويين الداخلي والدولي على حد سواء.

وقد زاد اللجوء إليه بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة نتيجة ازدياد العلاقات الخاصة للأفراد والشركات وتخطيها حدود الدول، حيث إنه لا يكاد يخلو عقد من عقود التجارة الدولية من بند أو شرط يُقرر التزام أطرافه باللجوء إلى التحكيم للفصل في المُنازعات الناشئة عن تنفيذه وتفسيره, وأصبح التحكيم، إذا جاز التعبير، موضة العصر، وهو الخيار الأول أمام المتعاملين في حقل التجارة الدولية، لكونه يُعتبر الوسيلة الأنسب، أو إن شئت الدقة، الوسيلة الأكثر مُلاءمة لمواجهة مُتطلبات هذه التجارة.

ويلعب التحكيم التجاري الدولي دوراً مهما في مجال اجتذاب الاستثمارات الأجنبية الخاصة، لأن اللجوء إليه يُحقق نوعاً من الضمان والاطمئنان للمُستثمر الأجنبي ضد المخاطر غير التجارية التي تتعرض لها استثماراته في الدولة المُضيفة. وفي ظل المُتغيرات والتحولات الاقتصادية المحلية والإقليمية والعالمية التي يشهدها العالم اليوم، ولا سيما بعد نفاذ اتفاقيات تحرير التجارة العالمية ولجوء العديد من الدول إلى اتباع أسلوب تخصيص للمشاريع العامة والسعي بخطى حثيثة لتطبيق النظام الرأسمالي الحر، والعمل على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية الخاصة، سيتعاظم دور التحكيم في العلاقات الخاصة الدولية، ولا سيما في مجال العقود الدولية للإنشاءات.

ونظراً لأهمية التحكيم ودوره في العلاقات التجارية فقد أنشأت الدول مراكز للتحكيم المؤسسي مُتخصصة في الفصل في مُنازعات التجارة الدولية، يتم اللجوء إليها عند الاتفاق بين أطراف العقد أو المُنازعة على عرض المُنازعات التي تنشأ بينهم على هيئة تحكيم تفصل فيه طبقاً لقواعد خاصة بعيدة عن الأنظمة القانونية الوطنية. ولم تكن دول مجلس التعاون الخليجي الست بعيدة عن تلك التطورات العالمية، فقد اهتمت بالتحكيم في قوانينها الداخلية، حيث تضمنت قوانين المرافعات المدنية الداخلية في بعضها أحكاماً تفصيلية بشأن التحكيم، وأصدر بعضها في الآونة الأخيرة قوانين خاصة تنظم التحكيم الداخلي والدولي على حد سواء, مثل دولة البحرين وسلطنة عمان. كما أنشأت هذه الدول عدة مراكز وطنية للتحكيم في الإمارات وفي البحرين.

وتم إنشاء مركز التحكيم التجاري الخليجي في البحرين كمؤسسة مُتخصصة في تسوية المنازعات التجارية التي تنشأ بين مواطني هذه الدول من الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين، أو بينهم وبين الغير, الذي من المُنتظر أن يلعب دوراً مهما وفاعلاً في تسوية منازعات التجارة الدولية في المنطقة ومن بينها المنازعات الهندسية. ومن المعلوم أن أهمية التحكيم التجاري الدولي في هذه المنطقة ليست مسألة حديثة بل تعود جذورها إلى النزاعات التي نشأت بين هذه الدول وبعض شركات امتياز النفط منذ النصف الأول من القرن العشرين الميلادي، وصدرت فيها قرارات تحكيم بين أبو ظبي وشركة Petroleum Development في حزيران (يونيو) 1953م، وبين قطر وشركة International Marine Oil Company في حزيران (يونيو) 1953م، وبين حكومة السعودية وشركة Arabian American Oil Company (ARAMCO) بتاريخ 23 آب (أغسطس) 1958م، وبين الكويت وشركة Aminoil American Oil Company في 24/3/1982م.

ثم أصدرت هذه الدول قوانين خاصة بالتحكيم، وانضمت إلى اتفاقية نيويورك المُتعلقة بالاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها عام 1958م، واتفاقية البنك الدولي المُتعلقة بتسوية مُنازعات الاستثمار بين الدولة ومواطني الدول الأخرى، والتي نظمت أحكام التحكيم في مُنازعات الاستثمار، كي يُضيف بُعداً جديداً لأهمية التحكيم التجاري الدولي في هذه المنطقة، ولا سيما أنه قد لاحت في الأفق في الوقت الحالي دعوات من قبل هذه الدول للشركات الأجنبية للاستثمار في المشاريع المشتركة بها وفتح المجالات أمامها، فضلاً عن اهتمامها بتحديث قوانينها وأنظمتها ذات الصلة بالأنشطة التجارية الدولية، مثل قوانين استثمار رؤوس الأموال الأجنبية، وتملك الأجانب للعقارات، ونظام الكفالة، وانضمامها لمنظمة التجارة العالمية WTO.

وكل هذا من شأنه أن يفتح آفاقاً جديدة في هذه المنطقة للتجارة الدولية وللعلاقات الخاصة الدولية بصفة عامة مُستقبلاً، ولا شك أن هذا التطور يفرض ضرورة تحديث القوانين والأنظمة المعمول بها في هذه الدول حتى تواكب المُتغيرات الدولية المعاصرة والمتلاحقة, ونرى أن ذلك يتطلب إعطاء أهمية خاصة لمنازعات عقود التشييد والبناء أو ما يعرف بالمنازعات الهندسية, وذلك بوضع قواعد قانونية محددة في تلك القوانين والأنظمة تحدد كيفية تسويتها عن طريق التحكيم التجاري الدولي, ولكن هذا يتطلب تحديد المقصود بتلك المنازعات, وأنواعها, والجوانب التي تثير خلافات في الواقع العملي, وهذا ما سأوضحه في مقال لاحق.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت