آثار غسل الأموال على الاستثمار الأجنبي
د. محمد عرفة
يرى البعض أن عمليات غسل الأموال تحقق آثاراَ إيجابية تتمثل في إقامة مشروعات أو أنشطة اقتصادية في الدولة التي تدخل فيها تلك الأموال ويتم غسلها فيها, مما يترتب عليه خلق فرص عمل جديدة والتخفيف من حدة مشكلة البطالة, ويتم إنتاج بعض أنواع من السلع اللازمة للاستهلاك المحلي, مما يغنيها عن اللجوء إلى عمليات الاستيراد وما تتطلبه من عملات حرة؛ ومع ذلك فإن هذا القول غير صحيح على إطلاقه, لأن تلك الأموال التي يتم غسلها لا تدخل الدولة بهدف الاستثمار الحقيقي, بل بهدف الإخفاء أو الاحتماء من الملاحقة القانونية, كما أن أصحاب الأموال المراد غسلها لا تكون لديهم الرغبة الحقيقية في إنشاء مشروعات استثمارية منتجة وطويلة المدى, بل يهتمون في المقام الأول بإدخال أموالهم وبقائها لمدة قصيرة حتى تتهيأ لهم الظروف لإعادتها إلى دولتهم الأم أو إلى دولة أخرى, مما يؤدي إلى عدم اهتمامهم بالمشروعات الاقتصادية المنتجة, فضلاَ عن لجوئهم لعمليات الرشوة والفساد الإداري والمالي والتهرب الضريبي أو على الأقل استفادتهم من الإعفاءات الضريبية التي تقررها قوانين الاستثمار الأجنبي في السنوات الأولى من قيام مشروعاتهم, وذلك دون عائد على الاقتصاد الوطني.

ومن ثم فإن عمليات غسل الأموال تؤثر في الادخار والاستثمار ليس فقط في الدولة التي تستقبل الأموال غير المشروعة ليتم غسلها في مشروعات اقتصادية بها, ولكن أيضاَ في الدولة التي تخرج منها تلك الأموال, ومن أهم تلك الآثار الاقتصادية على اقتصاديات هذه الأخيرة أن خروج تلك الأموال من الدولة لغسلها في الخارج يُعد نقصاَ في القيمة الإجمالية للأموال التي يمكن استثمارها في المشروعات الاقتصادية.

كما أن القيام بتلك العمليات يتطلب تحويلها إلى نقود أجنبية حرة, مما يترتب عليه زيادة الطلب على المعروض من النقد الأجنبي في السوق المحلية للنقد, فترتفع أسعار العملات الأجنبية مقابل العملة المحلية, فينشأ نوع من التنافس الشديد بين غاسلي الأموال وبين المستثمرين الحقيقيين مما يخلق ـ في ظل السياسة النقدية المقيدة ـ سوقاَ سوداء للنقد الأجنبي إلى جانب السوق الرسمية للعملات الأجنبية الحرة, وقد يستدعي ذلك ممارسة بعض أعمال الرشوة والفساد للوصول إلى تلك الأهداف غير المشروعة, والغالب أن غاسلي الأموال لا يهتمون بالسعر الذي يدفعونه مقابل الحصول على النقد الأجنبي اللازم لإتمام عملياتهم, ومن المتوقع في ظل تصاعد أسعار العملات الأجنبية أن يعزف قطاع كبير من المستثمرين الجادين عن شراء الأموال اللازمة لمشروعاتهم الاستثمارية الحقيقية, فتحدث حالة من الركود الاقتصادي لتلك المشروعات, ويُصاب هؤلاء المستثمرين الجادين بحالة من الإحباط, وقد يلجأ البعض منهم إلى إخراج أمواله أو جزء منها إلى خارج البلاد واستثمارها في دول أخرى يشعر فيها بالاستقرار الاقتصادي ويتوقع فيها تحقيق هامش أفضل من الربح.

وقد تلجأ بعض المشروعات الاستثمارية للبحث عن فرص استثمارية سريعة العائد في الأجل القصير وقليلة المخاطر مثل مكاتب السياحة والمشروعات الخدمية والاتجار في العملة وغيرها من الأنشطة الهامشية وغير الإنتاجية.

ولهذا يؤكد بعض الاقتصاديين أن عمليات غسل الأموال وما يرتبط بها من أنشطة تؤدي إلى سوء تخصيص الموارد من مجالات الاستثمار الجيد والذي تحتاج إليه الاقتصاديات المختلفة بالفعل إلى المجالات التي لا تحتاج إليها هذه الاقتصاديات أو على الأقل لا تندرج ضمن أولوياتها.

كما أن غسل الأموال يترتب عليه تحويل الأموال من كبار المدخرين أو أكثر الفئات الاجتماعية إقبالاَ على الادخار في الاقتصاد الوطني إلى الفئات الأقل إقبالا على ذلك, وهي أيضاَ الفئة الأكثر إقبالاَ على تحويل أموالها إلى الخارج أو تحويلها إلى عملات أجنبية والاحتفاظ بها في المصارف الوطنية أو فروع البنوك الأجنبية دون استثمار في المشروعات الإنتاجية, وقد تلجأ إلى عمليات المضاربة في أسواق العقار أو أسواق المال, ما يسهم بشكل أو بآخر في ارتفاع أثمان الوحدات العقارية وعدم استطاعة فئات كثيرة من المواطنين الحصول عليها.

ويترتب على خروج الأموال من الدولة بكميات كبيرة بقصد غسلها في الخارج عزوف الدول الغنية والهيئات المالية الدولية عن مساعدة الدول الفقيرة التي تخرج منها تلك الأموال, بسبب انتشار الفساد المالي والإداري وما يصحبه من تهريب الأموال إلى الخارج بقصد غسلها والدليل على هذا ما سبق أن أعلنه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير من تغيير سياستهما في الإقراض للدول النامية بحجة أن هذه الدول لم تستفد على نحو كامل منها بسبب انتشار الفساد وعمليات غسل الأموال. يضاف إلى ذلك أن تلك العمليات تؤثر سلباَ على الاستثمار والإنتاج من خلال نقص التمويل الأجنبي اللازم لاستيراد السلع والتجهيزات الرأسمالية للمشروعات الإنتاجية.

وخلاصة القول أن غسل الأموال يؤدي إلى التأثير السلبي في مناخ الاستثمار, إذ إن هذا المناخ هو عبارة عن مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية التي تشكل الإطار العام الملائم لاستثمار رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية, فإذا أصبح هذا المناخ غير مناسب لاستثمار رؤوس الأموال الوطنية فسوف تهرب إلى الخارج, وسيؤثر هذا بطبيعة الحال في الاستثمارات الأجنبية, لهذا يرى بعض الاقتصاديين أن عمليات غسل الأموال تسهم في إصابة الاقتصاديات بما يشبه مرض الأنيميا أو فقر الدم, نظراَ لاستمرار نزيف النقد الأجنبي اللازم لتقوية الطاقة الإنتاجية وتوسيعها ومن ثم يصاب الاقتصاد الوطني للدولة ككل بمرض الهزال العام.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت