طرق الاثبات المعاصرة

إعادة نشر بواسطة محاماة نت 

(فقه العدالة فى الاسلام)

دراسة فى البصمة الوراثية وبصمات الأصابع والعين والصوت والدم والرائحة والإثبات الالكترونى

وموقف الفقه الاسلامى منها

ورقة عمل مقدمة لندوة “فقه العصر – مناهج التجديد الدينى والفقهى”

الذى تنظمه وزارة الاوقاف والشئون الدينية بسلطنة عمان – الندوة الرابعة عشر-

(تطور العلوم الفقهية5 -8 ابريل)

أ.د. أحمد هندى

أستاذ قانون المرافعات

وعميد كلية الحقوق جامعة الاسكندرية السابق

طرق الاثبات المعاصرة

(فقه العدالة فى الاسلام)

دراسة فى البصمة الوراثية وبصمات الأصابع والعين والصوت والدم والرائحة والإثبات الالكترونى

وموقف الفقه الاسلامى منها

أ.د. أحمد هندى

أستاذ قانون المرافعات كلية الحقوق جامعة الاسكندرية

====================

1- أهمية اثبات الحق :

الاثبات يعنى إقامة المدعى الدليل على اثبات ما يدعيه قبل المدعى عليه ، أمام القضاء بالطرق التى حددتها الشريعة الاسلامية – أو القانون()، أى اقامة الدليل على صحة الادعاء أمام القاضى() حيث يجب أن يسمح للقاضى بأن يصل إلى الحقيقة بكافة الطرق التى يمكن أن تؤدى إليها فى نظره وان يستنتجها من كل ما يمكن أن يدل عليها فى اعتقاده () . فالحق يتعرض للضياع إذا لم يقم الدليل عليه ، ولا يمكن للقاضى – الذى يفصل فى حقوق الناس وحرياتهم ودمائهم – أن يحدد صاحب الحق دون الالتجاء إلى طرق أو أدلة الاثبات ، ترشده إلى الحق وصاحبه ، مما يحفظ حقوق وأموال ودماء الناس . ففى الحديث الشريف (لو ترك الناس ودعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ، ولكن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ، أو على المدعى عليه) () .

والإثبات فى العادة والغالب لا يطلب إلا عند التنازع على حق ما بين اثنين فأكثر ، كل واحد يدعيه لنفسه ، دون غيره أو ينكره على من يدعيه أو يجوزه من غيره ولو كان لا يدعيه لنفسه () فالدليل بالنسبة للحق بمثابة الروح بالنسبة للجسد ، فهو قوام وجوده وحياته ومعقد النفع فيه حتى تكون له قيمة علمية وثمرة ذاتية ، فمقومات الحق تستقيم واقعاً بحكم اثبات مصدره وقانون بحكم الزامه () فالإثبات هو جوهر الحق ، لأن الحق بدونه عدم ، والدليل وحده هو الذى يظهره ويجعل صاحبه يفيد منه ، والقاضى لا يقضى بالحق المدعى به إلا إذا ثبت أمامه بالدليل().

فكل حق يحتاج إلى دليل لإثباته ، حتى يحكم به القاضى لصاحبه . يستوى فى ذلك أن يكون حقاً مدنياً أو تجارياً أو جنائياً . فالحقوق المدنية والتجارية التى تتولد للناس من تعاملاتهم اليومية، من بيع وشراء وإبرام عقود بمختلف أنواعها ومن قيامهم بتصرفات متعددة ، تحتاج إلى دليل على الحق حتى يتأكد الحق لصاحبه . كذلك الحقوق الجنائية – التى تنشأ عن ارتكاب جريمة أو مخالفة لأحكام الشريعة أو القانون ، سواء كانت هذه الحقوق المتولدة عن الجريمة الجنائية حقوقاً لأشخاص (للعباد) أو للمجتمع (لله) لأن الجريمة بمثابة اعتداء على المجتمع كله، تحتاج هى الأخرى إلى اثبات ، حتى يحصل صاحب الحق على حقه ، وحتى يرتدع الجانى ويسود الاطمئنان والاستقرار المجتمع وتتحقق العدالة . فالمجتمع لا صالح له إلا فى التعرف على الحقيقة ، ولا تبغى توقيع العقاب على برئ أو امتهان كرامته أو انسانيته () .

2- تعدد طرق إثبات الحق وتطورها :

وتتعدد طرق أو أدلة اثبات الحق ، أى الحجج الشرعية (أو القانونية) التى يقدمها الخصوم أمام القضاء عند نظر الدعوى لإثبات دعوى المدعى أو دفع المدعى عليه لهذه الدعوى أو اثبات واقعة معينة يتصل اثباتها بالفصل فى الدعوى () وهذه الادلة أو الطرق غير محصورة، إذ هى لا تنحصر فى الشهادة والإقرار واليمين ، كما يرى الجمهور ، ويضيف إليها البعض الكتابة ، النكول عن اليمين ، القسامة ، علم القاضى ، القرينة ، القيافة ، القرعة . فلا يتقيد الخصوم فى اثبات الدعاوى والدفوع والحقوق عامة بدليل أو حجة ، ولا يمتنع القاضى عن قبول أى دليل أو حجة تقدم إليه متى كانت تؤيد الدعوى وتثبت الحق المدعى به . على أساس أن مقصود الشارع الحكيم إقامة العدل بين عباده ، فأى طريق استخرج بها العدل فهو من دين الله وليس مخالفاً له . فالله سبحانه وتعالى ارسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذى قامت به الأرض والسماوات ، فإذا ظهرت امارت العدل واسفر وجهه بأى دليل كان ثم شرع الله ودينه () .

فطرق الاثبات غير محصورة فى طائفة معينة لأن الغاية من القضاء تحقق العدل فيما بين الناس وإعطاء كل ذى حق حقه وهذا لا يتأتى إلا بإتاحة الفرصة أمام صاحب الحق بأن يثبته بأى طريق مادام ذلك ليس منهياً عنه شرعاً . ولا خوف من القاضى الظالم أو المنحرف إذ ترد أحكامه ، كما لا خوف من اطالة أمد التقاضى لإمكان تداركه وتلافيه بوضع نظام يحدد الآجال التى يمنحها القاضى لكل خصم حتى لا تطول الخصومة أو تتأبد () فللخصوم أن يقدموا من الأدلة ما يستطيعون به اقناع القاضى بصحة دعواهم ، وللقاضى أن يقبل من الادلة ما يراه منتجاً فى الدعوى ومثبتاً لها .

وإطلاق طرق الاثبات ، عدم حصرها فى عدد معين ، بل تشمل كل ما يثبت به الحق ويطمئن به القاضى ، يعنى الاثبات المطلق أى الذى يعطى للقاضى سلطة قبول جميع الأدلة، وهو ما يسمى نظام الاقتناع الذاتى للقاضى ، أو نظام الاثبات المطلق أو الحر ، وهو نظام يعترف للقاضى بسلطة قبول جميع الأدلة والاعتراف له بسلطة تقدير قيمة كل دليل وتقدير قيمة الأدلة مجتمعة واستخلاص نتيجة ذلك وفقا لما يمليه عليه اقتناعه الشخصى ، فعلى القاضى أن يبحث عن الأدلة اللازمة ثم يقدرها فى حرية تامة دون تحكم ، وإنما هو اقتناع يخضع للعقل والمنطق. وهو النظام السائد فى أغلب الدول بالنسبة للقضاء الجنائى () . إما الاثبات فى المسائل المدنية فيخضع لمبدأ الاثبات المقيد () .

ولقد تطورت طرق الاثبات ، حيث ظهرت الأدلة العلمية ، التى تقوم على الاستعانة بالأساليب الفنية التى كشف عنها العلم الحديث ، بالذات فى المجال الجنائى ، حيث يستفاد بها فى اثبات الجريمة ونسبتها إلى المتهم ، ويعطى نظام الأدلة العلمية الدور الرئيسى فى الاثبات للخبير، ويجعل أهم الأدلة هى القرائن التى تخضع للفحص العلمى الدقيق ، ويستخرج منها فى صورة قاطعة ما يثبت الادانة أو البراءة () .

وتعد هذه الادلة العلمية من أهم طرق الاثبات الحديثة ، حيث أن الأخذ بها هو أخذ بأسباب العلم واستفادة من تطور الأجهزة الفنية والمستحدثات التكنولوجية ويتم اجراء التحاليل الطبية المختلفة من خلال معامل الطب الشرعى ، والطب الشرعى هو علم من علوم الطب يختص بوضع الخبرة الطبية لحل المشاكل ذات الصبغة الطبية المعروضة أمام جهات التحقيق والقضاء ، فهو استخدام الطب فى تحقيق العدالة() ، وهو ما يفيد كثيراً فى اعطاء الحقوق لأصحابها وكشف الجرائم التى تمثل اعتداء على حقوق الأفراد وعلى وجود المجتمع وأمنه والأخذ بهذه الأدلة العلمية إن كان يترتب عليه الحد من سلطة القاضى فى الفصل فى الدعاوى والجرائم إلا انه لا يعنى استبعاد نظام الاقتناع القضائى حيث انه يترتب على الأخذ بها اتساع نطاق الاستعانة بالقرائن والخبرة .

حيث أن طرق الاثبات التقليدية تتمثل فى القرائن ، الخبرة ، الكتابة ، اليمين ، الشهادة، إلى جانب طرق أخرى معروفة فى الفقه الاسلامى ومازال يعمل بها فى بعض البلاد ، وهى القسامة، القيافة ، الفراسة() . أما طرق الاثبات الحديثة فقد تزايدت فى الفترة الأخيرة وعظم دورها، ولعل أهمها ، فى المجال الجنائى البصمة الوراثية (بصمة الحمض النووى) وفصيلة الدم ، وبصمة الصوت ، وبصمة العين ، وبصمة الاصبع ، والتسجيل الصوتى والتسجيل التصويرى ، وبصمة الاسنان والرائحة والأذن وغيرها بالإضافة إلى الاثبات الالكترونى ، أو التوقيع الالكترونى وهو الشائع فى مجال الحقوق المدنية والتجارية .

ونعرض لهذه الطرق الحديثة فى الاثبات من ناحية مفهومها ودورها فى الاثبات وقيمتها فى تكوين اقتناع القاضى ، ثم لموقف الفقه الاسلامى منها ، ولضوابط استخدامها فيما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الاسلامية .

3- أ- البصمة الوراثية DNA:

البصمة الوراثية () هى المادة الحاملة للعوامل الوراثية والجينات فى الكائنات الحية ، أو هى تلك الصفات الخاصة بكل إنسان بعينه والتى تحملها الجينات أو الجينوم البشرى وتعرف أيضا بالشفرة الوراثية ، وعرفها المجمع الفقهى الاسلامى لرابطة العالم الاسلامى بمكة المكرمة فى () بأنها البنية الجينية نسبة إلى الجينات أى الموروثات التى تدل على هوية كل انسان بعينه ، وهى وسيلة لا تكاد تخطئ فى التحقق من الوالدية البيولوجية والتحقق من الشخصية() ، حيث تتعدى دقتها.% ، وإذا كانت هناك نسبة خطأ فهى ترجع إلى خطأ القائمين على الشفرة الوراثية وليس على الشفرة ذاتها ، فهى قرينة شبه قطعية () .

والطريقة التى يتم بها تحليل وفحص الجينات للوقوف على البصمة الوراثية تتمثل فى أخذ جزء لا يزيد عن رأس دبوس من جسم الشخص الذى يراد معرفة بصمته الوراثية ، ثم يجرى عليه التحليل اللازم لمعرفة ما تحمله العينة من صفات وراثية مستجدة أو موروثة . والجزء الذى يراد تحليله وفحصه يؤخذ من أى من المصادر التالية : الدم ، المنى ، جذور الشعر ، العظم ، خلايا الفم، خلايا الكلية ، السائل الامينوسى ، خلية من البويضات المخصبة ، خلية من الجنين . ويستخلص (الدنا) أولاً من احدى عينات الدليل ، ومن دم الأب المشكوك فيه ، ويقطع الدنا فى كل من العينتين إلى ملايين الشظايا ، بواسطة انزيم تحديد يقطع الحمض النووى (دنا) عند مواقع محددة وهذه القطع أو الشظايا تختلف من انسان إلى آخر ، من حيث طول هذه القطع وعدد تكرار وحدات بناء الحامض النووى فى كل منها ، ثم تعرض الشظايا لمجال كهربائى ، فتتحرك شظايا الدنا بسرعة تختلف بحسب حجمها ، فالشظايا الصغرى تتحرك بسرعة أكثر من الكبرى، وتفصل شظايا الدنا فى كل حالة حسب حجمها ، ثم تنتقل بعد ذلك فوق قطعة ورق تسمى الغشاء لتكون جاهزة للتحليل ، ثم يعرض الغشاء لفيلم اشعة X طوال الليل ، فتظهر عليها شرائط الحمض النووى العينة ، ثم تقارن هذه الصورة بنظيرتها التى تم تجهزها من كرات الدم البيضاء المأخوذة من دم المشكوك فيه ، فإذا توافقت الصورتان كان الشخص واحداً ، وإذا لم تتوافقا كانت العينتان لشخصين مختلفين () .

وتتميز البصمة الوراثية بعدة خصائص لعل أهمها عدم التوافق والتشابه بين كل فرد عند تحليل البصمة الوراثية ، فيستحيل التشابه بين الشخصين إلا فى حالة التوائم المتماثلة الواحدة. وتعتبر البصمة الوراثية هى أدق وسيلة عرفت حتى الآن فى تحديد هوية الانسان وكذلك فى اثبات أو نفى الابوة أو البنوة البيولوجية لأن نتائجها قطعية لا تقبل الشك والظن . وتتمثل وظيفة البصمة الوراثية اما فى الاثبات أو النفى فقط ، فهى اما أن تثبت نسباً أو تثبت جريمة أو تهمة أو تنفى تهمة عن المتهم () .

ومن أهم مجالات الاستفادة من البصمة الوراثية المجال الجنائى وتحديد الهوية (فى مجال الطب الشرعى) فيمكن الاستعانة بها للكشف عن الجرائم وإدانة المتهم ، وكذلك فى تحديد هوية الشخص خاصة الموتى فى حالات الكوارث الجماعية وتحديد هويات الاسرى والمفقودين الذين طال عهدهم وربما تغيرت ملامح وجوههم ، وكذلك فى تحديد هويات الاطفال التائهين أو المخطوفين وفاقدى الذاكرة والمجانين . وأيضا فى حالات المشاكل المتعلقة بالجنسية والتعرف على منتحلى شخصيات الآخرين .

وبالإضافة إلى مجال الطب الشرعى ، فإن البصمة الوراثية يعمل بها فى اثبات النسب فى الحالات الآتية : حالة الولادة من فراشين ، حالة التنازع على شخص مجهول النسب ، عند الشك فى الحمل بعد الزواج اقل من ستة أشهر ، وعند الشك فى شخصية مدعى الانتساب إلى شخص آخر لا يقره ولا ينكره ، وحيث يلحق شخص طفلاً لقيطاً أو ضائعاً لنفسه ثم يظهر أهله ومعهم الأدلة ، وعند الاشتباه فى اختلاط المواليد بالمستشفيات ، وعند الاشتباه فى حالة أطفال الانابيب ، وعند اختلاط الأطفال فى الحروب والكوارث ، وأخيراً لمنع الوصول إلى اللعان().

أما من ناحية مدى شرعية الاثبات بالبصمة أو الشفرة الوراثية، فلاشك أن هذه وسيلة حديثة لم تعرف إلا عام فى الولايات المتحدة وأول دولة عربية استخدمتها هى الامارات() وهذه الطريقة الحديثة من طرق الاثبات لا تتصادم مع الشريعة الاسلامية ، بل هى تتوافق معها ، لأن الشريعة تدعو دائما إلى الاخذ بالعلم وأسبابه وتحرص على أن يحصل كل صاحب حق على حقه بالطرق المشروعة تحقيقا للعدالة . ومن أهم مقاصد الشريعة حفظ المال ، والعقل والنفس والنسل والدين. وفى الأخذ بهذه الوسائل المتطورة فى الاثبات حفظ لكل هذه المقاصد الضرورية . ولقد اوضح القرآن الكريم أن المولود هو نتاج الزوجين ، حيث يقول تعالى (انا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) () التى هى عبارة عن اختلاط من ماء الرجل (الحيوان المنوى) وماء المرأة (البويضة) فكل خلية من خلايا الجسم لها دور ، كما أثبت العلم الحديث، فخلايا الرجل تحتوى على الجسيمات (XY) . والحيوانات المنوية نوعان : نوع يحمل كروموسومات الذكورة (Y) والنوع الثانى يحمل كروموسومات الأنوثة (X) . فإذا كان الحيوان المنوى يحمل الكروموسوم X التقى البويضة التى تحمل كروموسوم (Y) كان المولود انثى بإذن الله () . أى أن نوع الحيوان المنوى (الذى يحمله الرجل) هو الذى يحدد نوع المولود . وكل ذلك من آيات الله التى يوضحها لعباده (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) () أى أن الله يوضح لعباده ما الانسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والاخلاط والهيئات العجيبة ، على ما ذهب ابن كثير () . وهذا ينطبق على الشفرة الوراثية وغيرها من طرق الاثبات التى قد يستحدثها العلم ، حيث يتطور العلم تطوراً مذهلاً “وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ” () .

ولقد تعددت آراء علماء الفقه الاسلامى المعاصرين حول التكييف الشرعى للبصمة الوراثية بين ثلاثة آراء : الرأى الأول يذهب إلى أن البصمة الوراثية قرينة قطعية () ، والرأى الثانى أن البصمة الوراثية قرينة ظنية لا ترقى للقرائن القطعية لأنها عرضة للخطأ ، فهى ليست من البينات المعتبرة شرعاً فى اثبات النسب بل هى قرينة تخضع لتقدير المحكمة () . أما القول الثالث فهو وسط بين هذين الرأيين ، حيث يرى البعض أنها قرينة شبه قطعية للإثبات إذ أنها تدل على المطلوب مع احتمال خطأ نادر جدا فيلزم الأخذ بها فى اثبات النسب لأنها شبه قطعية، وبينما يرى البعض الآخر أنها قرينة قوية جداً ، فيجوز العمل بها حيث انها تزيد قوة عن القيافة فتكون البصمة الوراثية من باب أولى مثبتة للنسب أو نافيته وهى تقدم على الشهادة ، بينما يرى ثالث انها تعد من قبيل القرائن أو الدلائل أو الامارات “دليل ناقص” يقتصر تأثيره على عقيدة القاضى على مجرد انشاء احتمال أو شرط وجود موضوع الدليل () .

وفى كل الأحوال فإنه عند اجراء تحليل البصمة الوراثية – فى مجال النسب- يجب توافر مجموعة من الشروط من الناحية الشرعية () :

أ- يشترط فيمن يتولى اجراء التحليل الشروط التى يتطلبها الفقهاء فى القائف () وهى الاسلام والعدالة وان يكون خبيراً مؤهلاً وقد اشتهر عنه الاصابة . فالإسلام شرط لان قول القائم بتحليل البصمة يتضمن خبراً أو حكماً أو شهادة بناء على اختلافهم فيمن يقوم بالتحليل (القائف) هل هو حكم أو شاهد أم مخير أم مفتى . ولا نرى اشتراط الاسلام فيمن يتولى اجراء التحليل ، لأننا نرى أن مركز القائم بالتحليل أقرب للخبير منه للشاهد ، نوع من الخبرة الفنية التكنولوجية التى تغلب فيها عمل الآلة على جهد البشر ، البصمة الوراثية طريقة حديثة افرزها العلم المتطور، وتتم من خلال أجهزة علمية ذات تقنية عالية ، يشترط فيمن يستخدمها الخبرة والدقة، وكذلك فى المختبر الذى يتولى تحليل البصمة الوراثية () . فإذا ثبت عدم دقة أو عدم امانة أو عدالة القائم بالتحليل ، بالطرق العلمية ، فإن التحليل يفقد شرط من شروطه .

ب- يشترط كذلك فيمن يتولى اجراء التحليل خلوه من موانع الشهادة المعروفة () كما يشترط أيضا أن يكون اكثر من واحد لأنها شهادة على قول بعض أهل العلم ولا يقبل فى الحقوق أقل من شاهدين .

ج- أن تكون أوامر التحاليل البيولوجية للبصمة الوراثية بناء على أوامر من القضاء أو من له سلطة ولى الأمر حتى يقفل باب التلاعب أو اتباع الاهواء الظنية عند ضعاف النفوس().

من ناحية أخرى ، فإنه لإثبات النسب بالبصمة الوراثية يجب مراعاة مجموعة من الضوابط الشرعية ، لعل أهمها :

أ- عدم استخدام البصمة الوراثية فى التأكد من نسب ثابت – ذلك أنه إذا ثبت نسب الشخص بوسيلة من الوسائل الشرعية لإثبات النسب ، كالفراش وغيره ، فلا مجال لاستخدام البصمة الوراثية لإثبات النسب من جديد أو محاولة التأكد منه لأى سبب كان ، لأن ذلك المسلك يؤدى إلى مفاسد كثيرة ويلحق انواعا من الاضرار النفسية والاجتماعية بالأفراد والأسر والمجتمع.

ب- عدم استخدام البصمة الوراثية بديلاً عن الوسائل الشرعية لإثبات النسب ، فإذا كان استخدام البصمة الوراثية فى اثبات النسب أمر يحقق مصلحة مشروعة ، فيجب أن لا تصادم الوسائل الشرعية لإثبات النسب كالفراش والإقرار والبينة والقافة والقرعة . فالفراش ثم الاقرار وثم البينة تقدم فى اثبات النسب على البصمة الوراثية بينما تقدم البصمة على القافة أو القرعة() .

ج- عدم استخدام البصمة الوراثية فى نفى النسب ، ذلك انه إذا ثبت النسب شرعا فلا يجوز نفيه بعد ثبوته إلا بوسيلة واحدة وهى اللعان () .

د- يجب إلا تخالف البصمة الوراثية العقل والمنطق والحس والواقع ، فلا يمكن أن تثبت البصمة الوراثية نسب من لا يولد لمثله لصغر سنه أو لكونه مقطوع الذكر .

هـ- أن تستعمل التحاليل الفنية للبصمة الوراثية فى الحالات التى يجوز التأكد من اثبات النسب لعدم ضياعه والمحافظة عليه وذلك كاختلاط المواليد وأصحاب الجثث المتفحمة أو إذا دعت الضرورة لذلك .

ي – منع القطاع الخاص والشركات التجارية ذات المصالح من المتاجرة بالغيبات() .

وبناء على هذه الشروط والضوابط الشرعية ، فإن من العلماء من قال بإجراء تحاليل البصمة الوراثية DNA اختيارياً ، بينما ذهب البعض الآخر إلى القول بإجرائها جبرياً . ويمكن القول انه لا خلاف جوهرى بين هذين الرأيين ، حيث يمكن الزام المنكر سواء كان الزوج أم الزوجة على الخضوع لتحليل البصمة الوراثية فى حالة قيام نزاع بين الطرفين أمام القضاء عندما يدعى احدهما أو كلاهما قيام علاقة زوجية بينهما أو اثبات نسب طفل يدعى احدهما أو كلاهما انه ولد منها. وفى حالة رفض المدعى عليه اجراء تحليل البصمة الوراثية يعد الرفض بمثابة قرينة قوية على ثبوت نسب هذا الطفل له () . ذلك انه لا يمكن اجبار الشخص على أخذ عينة منه للقيام بتحليل البصمة الوراثية لتصادم ذلك مع حقوق الانسان – حقه على جسده وحريته الشخصية.

4- ب- تحليل الدم (بصمة الدم) :

من أدلة الاثبات الحديثة ، فى اثبات ونفى النسب وكذلك فى معرفة الجانى فى بعض الجرائم وفى اثبات شرب الخمر تحليل الدم أو بصمة الدم . ذلك أن دم الانسان ليس متفقاً بالنسبة لجميع الأشخاص وإنما يختلف من شخص إلى آخر ، وإن الوراثة تترك اثراً كبيراً فى هذا المجال. ففصيلة دم الابن تتأثر كما اكد العلم بنوع فصيلة دم ابيه وأمه سواء كان دمهما من فصيلة دم واحد أم من فصيلتين ، وإن اختلاف فصيلة دم الابن عن فصيلة دم والديه يمكن الاعتماد عليه فى نفى نسب هذا الطفل من هذا الأب وفقا للقواعد التى وضعها مندل ، وإن كان من غير اللازم أن يقطع تحليل فصائل الدم فى ثبوت هذا النسب () .

على انه لا يمكن اعتبار اختلاف فصيلة دم الابن عن دم ابويه دليلا يقام به حد الزنا ، إذ أن الشريعة الاسلامية ضيقت فى حد اثبات الزنا ، فلا يمكن اعتبار فعل هذه القرينة دليلاً يقام به الحد مع إمكان كون المرأة وطئت بشبهة أو وهى نائمة ، والحدود تدرأ بالشبهات . كما لا يجوز نفى نسب الولد اعتماداً على هذه القرينة لأن الولد ينسب للفراش ، ففى الحديث الشريف (الولد للفراش وللعاهر الحجر) () .

من ناحية أخرى ، فإن لتحليل أو بصمة الدم أهمية كبرى فى المجال الجنائى : فى معرفة الجانى وفى اثبات شرب الخمر.

من ناحية تحليل الدم ودلالته فى معرفة الجانى ، فإن الجانى عادة ، لاضطرابه اثناء ارتكاب الجريمة ، يترك آثارا لبصماته وبعض الاغراض التى تعود إليه ومنها قطرات من الدم تساقطت منه نتيجة اصابته بجراح أو نتيجة استعماله العنف فى الجريمة أو استخدامه شيئاً حاداً . وتكمن أهمية اثر الدم المتروك فى مكان الجريمة فى انه يشير إلى مكان ارتكاب الجريمة وخط سير المصاب بعد اصابته واعطاء تصور عن كيفية وقوع الجريمة كما يوضح المسافة بين مصدر الدم والسلاح الساقط عليه ووضع الجانى وقت الحادث واتجاه الجانى والمجنى عليه اثناء الحادث وبعده () .

وهذه العينات من الدم الموجودة بمسرح الجريمة يتم تحليلها للوقوف على ما إذا كانت تخص المتهم ، فتكون دليلاً على ارتكاب الجريمة. فلا يوجد ما يمنع من اعتبار التحليلات المعملية للدم (أو غيره كالبول) قرينة على ادانة المتهم فيما يتصل بالعقوبات التعزيرية وتوجيه الاتهام فى الجناية على النفس وما دونها ، فيمكن التحقيق مع المتهم لمعرفة ما إذا كان هو الجانى الحقيقى أم لا ، لكن لا يجوز التعويل عليها وحدها لتوقيع العقاب على المتهم ، أى أن الاستعانة بهذه القرينة إنما يكون فى النفى وليس الاثبات، وعلى القاضى سؤال أهل الخبرة الثقات العدول حتى يستفيد من هذه القرينة فى التوصل إلى الحق().

أما من ناحية دلالة تحليل الدم فى اثبات شرب المتهم للخمر ، فأنه يقوم على الكشف عن الكحول فى الدم بوسائل كيميائية كثيرة ، فيكشف نتيجة تحليل الدم ظهور الكحول فى دم من شرب الخمر ، بنسب متفاوتة () . ويمكن أن يقام حد شرب الخمر بناء على هذه القرينة ، لأنها قرينة قوية وقاطعة حيث تعتمد على وسائل علمية وتحليل كيميائى واحتمال الخطأ فيها قليل جداً، ويقوم بها ناس على جانب كبير من العلم ، مع مراعاة ضرورة الحذر الشديد والحيطة والتأكد من عدم تعفن عينة الدم التى يراد اجراء التحليل عليها ، وإلا وجب اخذ عينة أخرى من المتهم() .

ويمكن القول أن تحليل عينة دم المتهم تعتبر وسيلة حديثة فى الاثبات ، وجاء عن بعض الصحابة بعض الآثار التى يمكن القول معها بأنهم يأخذون بالتحاليل المعملية وأن لم يسموها . اما فى القانون فإنه لا مانع من استعمال هذه الوسائل فى التحقيقات عموماً (فى اثبات البنوة والسكر البين) ما دامت تؤدى إلى نتائج مقبولة ومعترف بها عملياً ، مع مراعاة عدة ضمانات هامة عند تحليل دم الجانى أهمها أن يرضى الجانى بأخذ عينة من دمه لفحصها وتحليلها ، وان يكون هذا الرضاء صحيحاً وليس من قبيل الخضوع والاستسلام ، وان يحصل اخذ العينة وتحليلها من متخصص وألا يضر ذلك بالسلامة البدنية () ونعتقد انه لا يجوز أخذ عينة الدم من المتهم عنوة، احتراما لحريته وسلامة جسده ، وإن كان يمكن حمل رفضه لإجراء هذا التحليل على انه قرينة ضده() .

5- ج – بصمة الأصابع :

البصمة هى اثر الختم بالأصبع أى الختم بطرف الاصبع ، ولكل انسان بصمة ، ولا توجد بصمة شخص تتوافق مع شخص آخر ، وعرفت الشريعة الاسلامية بصمة الاصبع منذ القدم، حيث قال المفسرون فى تفسير قوله تعالى (بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) () أن المراد بالبنان أطراف الاصابع . وبعد ذلك اهتم الصينيون ببصمات الاصابع وكانوا يشترطون التوقيع بها على العقود والأوراق المختلفة منذ اكثر من ألف عام ، واستخدمت اوروبا بصمة الاصابع – فى القرن التاسع عشر- فى كشف المجرمين وإثبات هوية أصحاب السوابق من خلال دراسات وأبحاث وتجارب قام بها كبار علماء الطب والتشريح وكبار رجال الشرطة () .

وبصمة الاصابع عبارة عن الخطوط الكلية البارزة والخطوط المنحدرة الموازية لها ، ويقع نوعى الخطوط فى رؤوس الاصابع بحيث تترك طابعها الخاص عند ملامستها للسطوح والأجسام خاصة الملساء منها () وتنقسم البصمات إلى أربعة أنواع رئيسية () .

وتعتبر بصمة الاصابع اكثر جدوى وفعالية من غيرها من أنواع البصمات البيومترية فى مجال الاثبات الجنائى () . وتبـــــدو أهميـــة بصمات الاصابع فى1- معرفة شخصية الجانى2- تدل البصمة على الاشياء التى تناولها الجانى أو امسكها بيده .3- تساعد على معرفة شخصية القتيل إذا كان مجهولاً .4- تساعد فى الكشف عن حقيقة اسم المتهم فى جرائم التزوير.5- الكشف عن سوابق المتهم .6- تدل البصمة على سن المتهم على وجه التقريب فبصمة الطفل الصغير أصغر حجماً من بصمة رجل كبير () . بالإضافة إلى فائدة بصمة الاصابع فى ضبط الامتحانات والمصارف وإخراج جوازات السفر والبطاقات الشخصية ومعرفة حرفة صاحب البصمة() والتعرف على الأشخاص فى ظروف معينة كالتعرف على الأطفال فى مستشفى الولادة ومعرفة الاجانب المبعدين .

ويتم رفع البصمة ، التى يجب أن يكون على جسم مصقول أو لامع كقطعة زجاج أو رخام املس أو مرآة أو بندقية أو سكين أو اوانى زجاجية أو معدن لامع كمقبض الباب أو خزانة نقود، وعلى المحقق أن يصف أولاً الشيء الذى يراه فى مكان الجريمة وصفاً دقيقاً قبل لمسه وان يندب احد خبراء ادارة تحقيق الشخصية لرفع البصمة وإجراء المضاهاة بينها وبين بصمات أصابع المتهم() . ومع تطور استخدام الآلة ودخول عصر الالكترونيات اصبح الآن يكشف تطابق بصمات الاصابع عن طريق وضعها فوق ماسح الكترونى حساس للحرارة فيقرأ التوقيع الحرارى للأصبع، ثم يقوم الماسح بصنع نموذج للبصمة ومضاهاتها بالبصمات المخزنة . كما أن هناك ماسح آخر يقوم على التقاط صورة للبصمة من خلال التقاط الآلاف من المجسات يتحسس الكهرباء المنبعثة من الاصابع () . بل انه يمكن استخدام بعض التليفونات المحمولة فى قراءة البصمات() . وهناك أيضا ما يعرف بهندسة اليد الحيوية وهى تستخدم للتعرف على الهوية البشرية ويتم ذلك بإدخال اليد فى جهاز يقيس اصابع الشخص وكف وراحة يديه بدقة ، لان اصابع وكف كل شخص لها سماتها الخاصة ، ويتم تمييزها اكثر بالتعرف على الاوردة التى تقع خلف راحة اليد وهى جميعها دلائل تأكيدية لبصمة الكف والأصابع كما أن التوقيع على الأوراق والمستندات والشيكات له سماته الشكلية والهندسية المميزة () .

أما عن موقف الفقه الاسلامى من بصمة الاصابع ، نظراً لأن كثيراً من وسائل الاثبات الحديثة لم تكن موجودة فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبالتالى لم تكن محلا لاجتهادات المتتابعة للعلماء عبر القرون ، لذلك لم يتعرض قدامى الفقهاء للإثبات بطريق البصمات (الاصبع أو العين أو الدم أو الصوت) لكن يمكن القول أن موقفهم من الاستدلال بالقرائن التى كانت معروفة فى عهدهم يمكن أن تسرى على القرائن المتحدثة ومنها قرينة بصمات الاصابع ، خاصة أن الاسلام وهو دين العلم والعقل لا يمنع من الاستعانة بالعلوم والنظم الاثباتية المعاصرة مادام ذلك لا يعارض نصا ولا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً ولا يخرج عن المبادئ العامة للشريعة الاسلامية خاصة أن البصمة ذكرت فى القرآن ().

ويمكن القول أن بعض العلماء الشرعيين المعاصرين يرون الاعتماد على البصمة فى الاثبات إذا لم تتعارض مع شهادة الشهود ، وان الأخذ بدليل البصمة للقطع بوجود صاحب الجريمة فى مسرح الجريمة جائز على أن يكون للمتهم اثبات عكس ذلك ، فلا يجوز الاعتماد على قرينة البصمة وحدها فى جرائم الحدود. فإذا وجدت بصمة اصابع المتهم بالسرقة على المكان المسروق منه فلا يدل ذلك بالضرورة على انه السارق ، ولا يجوز اقامة الحد اعتماداً على ذلك ما لم يقر بالسرقة أو يشهد على ذلك عدلان ، وإن جاز هنا تعزير المتهم (بالضرب) بسبب تواجده فى مكان لا يجوز له دخوله ، كما يجوز القبض عليه والتحقيق معه للوصول إلى حقيقة الأمر خاصة إذا كان معروفاً بالسرقة () . وفى كل الأحوال ليس هناك ما يمنع من الاعتماد على البصمة فى المعاملات الجارية بين الناس كالتصديق على العقود وغير ذلك لان قرينة البصمة مبنية على أسس علمية .

6- د- بصمة الصوت :

تجزم الدراسات العلمية بأن لكل شخص صوت خاص به لا يتصور صدوره من غيره بما يمكن تمييزه عن غيره من الأصوات التى تصدر عن الأشخاص الآخرين . فالصوت سواء اتخذ صورة التسجيل الصوتى أو البصمة الالكترونية ، من الحواس المميزة لشخصية الانسان ، فهو يشبه بصمات الاصابع من حيث المساهمة فى تحديد شخصية مصدر الصوت ، ولقد شاع استخدام البصمة الصوتية Voice Print لقبول الناس هذا النوع من التقنية فى الاستخدامات اليومية ولتسارع ارتفاع دقة التعرف على المتحدث () حيث ثبت حتى الآن أنه لم يعثر على صوتين متطابقين تماماً() .

ويعرف التسجيل الصوتى بصفة عامة بأنه عبارة عن عملية يتم بها ترجمة للتغيرات المؤقتة لموجات الصوت الخاصة بالكلام إلى نوع آخر من الموجات أو التغيرات الدائمة ، ويتدخل لإتمام ذلك آلة تترجم موجات الصوت إلى اهتزازات ذات طبيعة خاصة ويحفظ التسجيل على سلك بلاستيكى ممغنط لحفظ هذه التسجيلات وإعادة ترديدها () .

فمن خلال جهاز الاسبكتوجراف يتم تحليل الصوت البشرى الكترونياً وتحويله إلى خطوط مقروءة ومن ثم مقارنته مع أصوات المشتبه بهم وإعطاء الرأى بالمطابقة أو الاختلاف . ذلك أن نطق الكلمات أو الجمل يختلف من شخص لآخر وان الاختلافات بين عدد من الأفراد تكون أكبر عن الاختلافات فى النطق لفرد واحد . وحتى إذا حدثت محاولات تصنع أو تلاعب فى الصوت (عن طريق الحديث بالهمس أو غلق الأنف عند الكلام) فإن ذلك لا يؤثر ولا يترتب عليه أى تغيير فى الملامح الأساسية لبصمة صوت الشخص ، كذلك إذا حاول الشخص تقليد الاصوات أو التكلم من اقصى الحلق() .

وتتمثل الطرق التى يمكن التعرف بها على المتحدث من خلال صوته فى استخدام احدى الوسائل الثلاثة الآتية :

أولاً : بسماع الصوت مباشرة ، حيث تتميز الاذن بتضخيم الترددات الصويتة الخاصة بالكلام بما فيها من معطيات متنوعة عن المتحدث كلهجته وأسلوب حديثه وإلى من كان يوجه الحديث وهو ما يفسر استعانة الخبراء بالسمع بالإضافة إلى الأجهزة والبرمجيات المختلفة فى التعرف على المتحدث .

ثانيا : البصر ، حيث يمكن استخدام حاسة البصر فى التعرف على المتحدث بتحويل الموجات الصوتية إلى رسم صورة (رسم طيفى) يمكن من خلالها مقارنة مختلف الاصوات للوصول إلى نتيجة ما .

ثالثا : الأدلة ، حيث يتم تطوير نظم حاسوبية مهمتها مقارنة الأصوات وتحديد ما إذا كان صوت شخص ما هو ذات الصوت الذى سبق وتم تسجيله، وتستخدم هذه الطريقة التى تعتمد على الآلة تماما فى المضاهاة فى النفوذ إلى مواقع معينة فى الشبكة العالمية (الانترت) أو فتح باب المكتب أو المنزل أو فى التعرف على المتهمين() .

فالصوت أصبح كالبصمة ، ويمكن التعرف على شخصية صاحب الصوت ، بالطرق الحديثة الدقيقة ، وهو ما يساعد فى الكشف عن الجرائم وخاصة جرائم الابتزاز عن طريق التهديد والوعيد عبر الهاتف أو بواسطة التسجيل على شرائط الكاسيت وفى جرائم المؤامرة الجنائية والسب والقذف الصادر عبر الوسائل السمعية . كما أنه فى الجرائم المنظمة وجرائم الاشتراك تكون الأصوات وسيلة ملازمة فى جميع مراحل الاعداد والتحضير والتنفيذ والتعرف على الجريمة المنظمة التى لا يظهر فيها رؤساء العصابات والمجرمون . وقد تصدر الأصوات فى مسرح الجريمة من المتهم أو من المجنى عليه أو من الشهود أو من وسيلة النقل المستعملة فى الجريمة أو الاسلحة أو المواد المتفجرة أو من الحركة الديناميكية للشيء أو من حيوانات مثل نباح الكلب(). كذلك تستخدم بصمة الصوت فى المصارف فى التعرف على صاحب الحساب المصرفى وفى تأمين خزائن البنك لما لبصمة الصوت من دقة فائقة .

ويسرى على مدى مشروعية بصمة الصوت وضوابط الأخذ بها ، ما اوضحه الفقه الاسلامى بصدد قيمة القرائن فى اثبات الحقوق أو وقوع الجرائم ونفيها ، وما سبق توضيحه بصدد بصمة الاصابع . مع مراعاة حرص الشريعة الاسلامية على ضرورة الاستئذان ، وتحريم التجسس، ويتفق مع ذلك القانون الوضعى ، حيث تتم عملية اخذ بصمة الصوت (التسجيل الصوتى) فى إطار قانونى بعد الحصول على إذن من الجهة المختصة () .

7- هـ- بصمة العين :

تعتبر بصمة العين أكثر دقة من بصمة الأصابع ، لأن لكل عين خصائصها فلا تتشابه مع غيرها ولو كانت لنفس الشخص. ويمكن رؤية بصمة العين مكبرة مرة بالجهاز الطبى “المصباح الشقى” ، يحددها أكثر من عاملاً ، تجعل للعين الواحدة بصمة امامية وأخرى خلفية وباللجوء اليهما معا يستحيل التزوير . ويعتمد قياس بصمة العين على جزئين أساسيين فيها وهما بصمة الشبكية وبصمة القزحية .

وتم تطوير تقنية للتعرف على الهوية البيومترية عبر قزحية العين ، والتى تعتبر من أكثر التقنيات دقة فى العالم ، حيث لكل فرد قزحية مختلفة عن سواه ، حتى أن شكل القزحية يختلف بين التوائم ذاتها ، لأن قزحية العين البشرية تحتوى على مائتين وست وستين خاصية قياسية مميزة لها . فى حين أن بصمة الاصابع مثلا تحتوى على أربعين خاصية قياسية يمكن التعرف على الشخص وتمييزه من خلالها () .

وقامت أجهزة الشرطة فى العديد من دول العالم بتركيب نظام خاص ببصمة العين ، يعتمد علمياً على تقنية تصوير قزحية العين ، بوصفها الجزء الأدق بين تقنيات التعرف الحيوى فى جسم الانسان خاصة أن قزحية عين أى انسان تبقى ثابتة بدون أى تغيير ، منذ عامه الأول وحتى وفاته ، كما أنها منطقة غنية فى المعلومات الجينية وبصورة أفضل من الحامض النووى DNA ، كما أنها لا تتأثر بالعمر أو بالعمليات الجراحية أو لون العدسات اللاصقة والنظارات أو عوامل الطبيعة ، كما انها لا تهترئ لأنها محمية من القرنية بل وآمنة جداً للاستخدام ، وتستخدم تقنية الفيديو العادى بدون أى اشعاعات ضارة ولا يتطلب اللمس ولا يمكن خداعها ، ويتم التقاط صورة العين وتخزينها فى أقل من ثانيتين ثم تكون هناك رموز مشفرة لقزحية العين لا يمكن تقليدها أو العبث بها ().

وتستخدم العديد من الدول بصمة العين فى المجالات العسكرية ، خاصة فى امريكا وأوروبا ، كما تستخدمها الامارات ، ومعظم دول الخليج ، فى كافة منافذها الجوية والبرية والبحرية للتعرف على هوية القادمين والمغادرين . كما تستخدم بصمة العين فى مجال تأمين خزائن البنوك حيث يضع عميل البنك عينه فى جهاز متصل بكمبيوتر فإذا تطابقتا مع البصمة المحفوظة بالجهاز فتحت الخزينة المطلوبة على الفور () . ويمكن كذلك استخدام بصمة العين كدليل اثبات فى بعض الجرائم .

وتخضع بصمة العين لما سبق قوله وتوضيحه بصدد بصمة الاصابع وبصمة الصوت من جواز اعتبارها قرينة فى اثبات الحقوق ، مع ذات الضوابط الشرعية السابقة .

8- و- بصمات الشفاه والأسنان والرائحة والأذن :

تختلف بصمة أو شفرة الشفتين من شخص لآخر ، حتى بين التوائم ، كما أن بصمات الشفاه لا تتغير مع تقدم السن . فالخطوط التى على شفا الانسان تختلف من شخص لآخر ، وإن كان العلماء لم يتوصلوا إلى تصنيف تلك الخطوط والعلامات وحفظها بحيث يمكن الرجوع إليها. ولكن يمكن مقارنة طبعة شفاه على كوب أو فنجان أو خطاب مثلا مع بصمة المشتبه فيه ، فإذا ما تطابقت الطبعات أمكن القول أنها لشخص واحد وعندئذ قد تأخذ حكم بصمة الاصابع . والجلد الذى يغطى الشفاه مثل الجلد الذى يغطى اصابع اليد والكف والقدمين ، له مميزات منفردة فى نوعيته ينتج عنها انطباعات تقوم بدور اساسى وحيوى فى مجال الكشف عن الجريمة وترفع تلك الآثار بالتصوير وعلامات المقارنة هى التشققات على الشفاه وكلما كثرت نقاط التماثل كان ذلك اكثر اقناعاً () .

على أن بصمة الشفاه أو شفرة الشفاه أقل فى الاثبات أو فى الكشف عن الجريمة من بصمة الاصابع أو البصمة الوراثية ، كما أن حالات وجود شفرة الشفتين على مسرح الجريمة قليلة بل ونادرة بالنسبة لحالات استخلاص الحامض النووى على مسرح الجريمة ، ولا تبدو اهمية شفرة الشفتين سوى فى قضايا الاغتصاب وهتك العرض وزنا الزوجة والقتل من أجل الجنس() .

أما بخصوص بصمة الأسنان ، فتبدو أهمية بصمات الأسنان فى التحقيق الجنائى الفنى والبحث الجنائى فى تحقيق شخصية الأفراد ، حيث تحدث آثار بصمات الاسنان على شكل علامات سواء فى المأكولات أو على جسم المجنى عليه ، كما فى ضحايا الاغتصاب أو القتل الجنسى، كما قد تظهر هذه العلامات أيضا على الجانى حال مقاومة المجنى عليه . وترجع الحجة فى بصمات الاسنان إلى ما تتصف به من الاستمرارية وعدم القابلية للتغيير لفترات طويلة بعد الوفاة بما يجعل لها دورها فى ايجاد حل كثير من قضايا تحقيق الشخصية والاستعراف() حيث تساهم فى التعرف على الجثث المجهول أصحابها والتى انتشلت من كوارث الطيران أو الحرائق () .

ويستند استخدام الاسنان فى مجال الاثبات على الأوضاع الترابطية للأسنان واتساعها والمسافات البينية فيما بينها والبروزات الظاهرة على حافة الاسنان والاخاديد أو الثلمات الموجودة على الاسنان الامامية أو الخلفية حيث تختلف من شخص إلى آخر . ويتم مضاهاة بصمات الاسنان بعد تصويرها وعمل قوالب لها ومعالجتها بالمواد الحافظة ثم مقارنتها بالبصمات الخاصة بالمشتبه فيهم والمأخوذة على مادة البلاستين وتجرى المقارنة بين البصمة المعثور عليها بمكان الحادث وبصمة المقارنة (المشتبه فيهم) () .

وبصدد قرينة الرائحة ، فإنه لما كان لكل انسان رائحة مميزة تختلف عن غيره ، فإنه يمكن استخدام بصمة الرائحة فى التعرف على الجانى ، حيث يستعان بالكلاب البوليسية فى شم الأثر المادى الذى يتركه الجانى فى محل الحادث ثم فى تتبع رائحته والتعرف على صاحبها. فاختلاف الروائح البشرية باختلاف الاشخاص يعتبر من الأمور التى يتم اثباتها يقينياً ليس بالتجربة وحدها وإنما بواسطة بعض الأجهزة المتطورة أيضا ، كما تم اجراء بعض التحاليل للتعرف على الروائح البشرية بالتصوير الطيفى للكتل ولقد اكدت التجارب أن حينما تستقر القدم الأدمية على الأرض لمدة ثانية واحدة فإن كمية الرائحة المنبثقة فى كل خطوة يمكن أن يتبينها الكلب البوليسى ، كما يمكن له أن يشم الاشياء بعد مضى ستة أشهر على انفصالها عن صاحبها ما دامت فى حرز محكم () .

فيستفاد من رائحة الشخص فى التعرف على الجناة أو الارشاد إلى مكان اختفائهم بواسطة الكلاب البوليسية() التى تعتمد على حاسة الشم ، إذ المجرم لابد أن يترك أثاره بالملامسة مهما احتاط لذلك ، فتنتقل رائحته من يديه إلى الأشياء التى يلمسها مما يساعد فى تكوين البصمات على الاسطح اللامعة أو إذا ترك متعلقا من متعلقاته فى اثناء ارتكاب الجريمة أو عند الهروب . ويقوم العرق بدور هام فى اثبات نسبة الدليل المادى إلى المشتبه فيه لارتباطه بالبصمات والنمو البكترويولوجى والرائحة والانفعالات النفسية . فالغدد العرقية تقوم باستخلاص العرق وإخراجه عن طرييق مسام الجلد ، وتوجد هذه المسام فى الطبقة السفلى للجلد فى كل اجزاء الجسم وتقدر بحوالى مليونين ونصف مليون وحدة وتتفاوت كمية العرق التى تفرز تبعا للحركة وكمية المياه الممتصة فى القناة الهضمية ودرجة حرارة الجو () .

ولقد ثار الخلاف فى الفقه الاسلامى حول دلالة الرائحة فى شرب الخمر ، وهل يجوز إقامة حد الشرب بالرائحة ، حول ثلاثة آراء : رأى مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية : لا يجوز اقامة الحد بالرائحة لأنها تورث الشبهة والحد يدرأ بالشبهة عملاً بقاعدة درء الحدود بالشبهات المجمع عليها بين العلماء . والرأى الثانى يذهب إلى وجوب اقامة حد الشرب بالرائحة على ما ذهب فقهاء المالكية (الامام احمد ، ابن تيمية ، ابن القيم والزيدية) . بينما الرأى الثالث يذهب إلى اقامة الحد بمجرد الشرب لمن يكون مشهوراً بإدمان شرب الخمر (وهو ما ذكره ابن حجر أن ابن المنذر حكى ذلك عن بعض السلف) . والراجح هو رأى الجمهور بعدم جواز اقامة الحد على من وجدت منه رائحة الخمر ، سواء كان مدمناً لشربها أو غير مدمن ، لأن اقامة الحد بمجرد الرائحة فيه كثير من الشبهات فقد يكون شربها مكرها أو غالطاً أو مضطراً أو اكل شيئا يكون منه كرائحة الخمر ، وكما روى عن الامام على بن ابى طالب وعن ابن عباس (إذا كان فى الحد لعل وعسى فهو معطل) على أن ذلك لا يمنع من تعزير من وجدت منه رائحة الخمر لاسيما إذا كان مشتهراً بشرب الخمر () .

وفى القانون فإن رائحة المخدر تعتبر قرينة قضائية على الاحراز ، وضبط ورقة مع المتهم بها رائحة الافيون هو قرينة على ارتكابه لجريمة احراز مخدر على اعتبار أن الورقة لابد أن كان بها مادة الافيون () . كذلك فإنه إذا ضبط الشخص وهو يقود سيارة وتفوح منه رائحة الخمر أو تبدو عليه آثار المخدر فإن ذلك يعتبر قرينة على سكره أو تعاطيه مخدر ويكون جزم ذلك بتحليل الدم فإن رفض يتم تفسير ذلك لغير صالحه () .

9- الإثبات الالكترونى :

مع شيوع استخدام الكمبيوتر وشبكته العالمية – ظهرت طرق الاثبات الالكترونى ، خاصة للحقوق المدنية والتجارية وفى الأحوال الشخصية ، وهى القواعد التى تحكم استخدام الوسائل الالكترونية فى إنشاء رسالة البيانات أو السجل الالكترونى أو التوقيع الالكترونى. وتحاول الدول أن تنظم عملية الإثبات الالكترونى بوضع ضوابط فنية وقانونية تضمن قوة الدليل الالكترونى وسلامته ، بحيث يرقى إلى مرتبة القرينة على وجود الحق ، مع إمكانية تحويل الدليل الالكترونى إلى دليل ورقى معتمد من جهة مختصة .

فى مجال انعقاد الزواج بالطرق الحديثة ، فإنه إذا كان فقهاء الشريعة الاسلامية لم يتعرضوا للتعاقد ، أو لوقوع الزواج ، بالتليفون وما يشبهه كاللاسلكى والراديو والتليفزيون ، فإن الفقهاء المعاصرين يرون فى ذلك تعاقداً بين غائبين وتطبق عليه بالتالى أحكام العقد الحكمى حيث يعتبر كلام الموجب فى التليفون وما يشبهه بمثابة التبليغ عن طريق الرسول ، والرسول يعد وسيلة من وسائل نقل الايجاب إلى مجلس العقد الحكمى، إذ هو سفير ومعبر وناقل للإيجاب وهو ينقل إرادة الموجب لا إرادته هو ، أى أن الرسول ليس نائباً عن الموجب . اما انعقاد عقد الزواج عن طريق الفاكس أو البريد ، فهو ايجاب بواسطة الكتابة ، وإن لم تكن بخط العاقد وإنما نقل لصورة منها أو لصورة مكتوبة على آلة ميكانيكية أو اوتوماتيكية ، وبالتالى فهو تعاقد بين غائبين تسرى عليه أحكام مجلس العقد الحكمى كالتعاقد بالكتابة () .

اما التعاقد – الزواج – عن طريق شبكة الانترنت (بالكمبيوتر) فإنه يعد تعاقداً بين غائبين، لأنه قد يكون بالكتابة بين المتعاقدين عن طريق استخدام الجمل المكتوبة كما هو الحال بالنسبة للبرامج الخاصة بذلك ، وقد يكون بالحوار الصوتى كما هو الحال بالنسبة لبرنامج ماسنجر وغيره . وقد يكون بالصوت والصورة والكتابة كما هو الحال بالنسبة للكمبيوتر المزود بكاميرا وميكرفون . ففى كل هذه الأحوال يعد التعاقد تعاقداً بين غائبين كما هو حال التعاقد بالكتابة أو الرسول أو التليفون أو الفاكس . فيعتبر مجلس عقد حكمى تسرى عليه أحكام مجلس العقد الحكمى وهو مجلس وصول وعلم الموجه إليه الايجاب للإيجاب وينعقد العقد عند قبول الموجه إليه الايجاب للإيجاب () .

وبناء على ذلك يتم اثبات ايجاب الزوج عن طريق الاثبات الالكترونى ، بتقديم ما يدل على ارساله رسالة تفيد رغبته فى ابرام عقد الزواج ، وكذلك فى قبول الموجه إليه الايجاب ، مع مراعاة الضوابط الفنية التى تضمن أن الموجب ذاته هو من أرسل الايجاب وان الموجه إليه الايجاب قد عبر بإرادته الصريحة عن قبوله . ويكون هذا الدليل الورقى – المستخرج من الجهة التى تشرف على شبكة الكمبيوتر – بمثابة قرينة على الزواج . كذلك الحال بصدد اثبات وقوع الطلاق – إن كان يتم بمطلق إرادة الزوج – فطالما انه ثبت أن الزوج قد عبر عن ارادته الصريحة الجازمة بتطليق زوجته ، وبتوافر كافة الضمانات الفنية فإنه يمكن اثبات وقوع الطلاق -أو الرجعة- بالطريق الالكترونى، الذى يعد كقرينة على الطلاق أو الرجعة () ، وطالما استوفى المستند التوقيع الالكترونى .

فللتوقيع أهميته الكبيرة فى إثبات الحقوق ونسبتها إلى اصحابها . فالمحرر المكتوب يفقد حجيته القانونية إذا لم يتم التوقيع عليه . فالتوقيع هو الشرط الوحيد لصحة الورقة (العرفية) وثبوت حجيتها . ويتخذ التوقيع التقليدى صور ثلاثة : التوقيع بالختم ، التوقيع بالبصمة ، التوقيع بالإمضاء() .

ويقصد بالتوقيع الالكترونى البيانات التى تتخذ فى هيئة حروف أو أرقام أو رموز أو اشارات أو غيرها وتكون مدرجة بشكل الكترونى أو رقمى أو ضوئى أو أى وسيلة أخرى مماثلة فى رسالة معلومات أو مضافة عليها أو مرتبطة بها ولها طابع يسمح بتحديد هوية الشخص الذى وقعها ويميزه عن غيره () . فهو اصوات أو رموز أو اشارات تلتصق أو ترتبط منطقياً بعقد أو مستند ، يتخذها شخص بقصد توقيع المستندات أو العقود ، على ما ذهب القانون الفيدرالى الأمريكى .

ويتم توقيع المحرر الالكترونى الكترونياً بوسيلة آمنة تحدد شخص الموقع وتضمن صلته بالمحرر الذى وقع عليه () . ويأخذ التوقيع الالكترونى عدة صور أهمها – التوقيع بالقلم الالكترونى (يوقع الشخص بكتابة توقيعه الشخصى – بخط يده – باستخدام قلم الكترونى ضوئى خاص يمكنه من الكتابة على شاشة الكمبيوتر عن طريق برنامج خاص يقوم بخدمة التقاط التوقيع والتحقق من صحته) والتوقيع باستخدام البطاقة الممغنطة المقترنة بالرقم السرى (P.I.N) (وهى الطريق الاكثر شيوعاً خاصة فى المعاملات البنكية) والتوقيع البيومترى – أو التوقيع باستخدام الخواص الذاتية (بقيام الحاسب الآلى بأخذ صورة دقيقة لشكل التوقيع – كبصمة الصوت أو اليد أو قزحية العين – ثم تخزينها بطريقة مشفرة فى ذاكرته ويعاد فك هذا التشفير للتحقق من صحة التوقيع بمطابقة بصمة العميل المستخدم للتوقيع على البصمة التى تم تخزينها على جهاز الحاسب الآلى) والتوقيع الرقمى أو التوقيع باستخدام شفرة المفتاحين (باستخدام تقنية شفرة المفتاحين احدهما لإنشاء التوقيع أو الرسالة وكتابتها ويسمى المفتاح الخاص ، والثانى لفتح الرسالة أو التوقيع أو الاطلاع عليها ويسمى المفتاح العام ، ويتكون المفتاح العام والمفتاح الخاص من مجموعة من الأرقام الحسابية يتشكل عنها جميعاً التوقيع الالكترونى والمحرر الالكترونى) () .

تلك هى أهم طرق الاثبات الحديثة ، فى المجال المدنى والجنائى ، وهى ثمرة الثورة التكنولوجية الهائلة فى الفترة الأخيرة ، وتطور الآلة وظهور الكمبيوتر وشبكته العالمية . ولقد قطعت الدول المتقدمة شوطاً بعيداً فى الأخذ بهذه الطرق فى مختلف مجالات الحياة ، ومنها مجال القانون وإثبات الحقوق والجرائم . وتحاول الدول الاسلامية الأخذ بهذه الطرق ، وقد بدأت الكثير منها فى الأخذ بها فيما لا يعارض أحكام الشريعة الاسلامية . على أن هناك عدة معوقات تواجه تطبيق حجية البصمة البيومترية (البصمة الوراثية ، بصمة الدم ، بصمة العين ، بصمة الاصابع، بصمة الصوت ، بصمة الاسنان والفم والرائحة ، البصمة أو التوقيع الالكترونى) وتأتى المعوقات من النواحى الفنية ولعل أهمها سهولة الاختراق والتزوير والنسخ والتحريف ، توحيد الطرق البرمجية يؤدى لإضعاف قدرة البصمة البيومترية على تحديد الهوية البشرية وإثبات الارادة التعاقدية ، شيوع الاستخدامات الامنية والتجارية وسيطرة المؤسسات المختلفة على الدعامات الحاملة للبصمات البيومترية ، بالإضافة إلى التحديات التى تطرحها الكتابة الالكترونية وانعكاساتها على مشكلات البصمة البيومترية والمشكلات الناجمة عما تنفرد به البصمة البيومترية من مميزات وخصائص () .

الخلاصة :

قطع العالم المتقدم شوطاً بعيداً فى الأخذ بطرق الاثبات الحديثة ، حيث يعتبرها قرائن قوية أو دلائل على اثبات الحق لصاحبه أو على نسبة الجريمة إلى شخص الجانى أو نفيها عنه. ويواصل العلماء فى مختلف الدول العمل على الاستفادة من بصمة الهوية البشرية البيومترية وتطوير وسائل الكشف عنها . ومن شأن ذلك تحقيق العدالة حيث يتم نسبة الحق لصاحبه وردع المعتدين وعدم تركهم يفلتون من العقاب .

ولاشك فى أن الاسلام يشجع العلم والتفكير ، ولا يعارض بأى حال الأخذ بثمارهما . وإذا كان الفقهاء المسلمون الأوائل لم يتعرضوا لهذه الوسائل الحديثة لأنها لم تكن موجودة فى اوقاتهم – فإن الفقهاء المعاصرين المجددين لا يرفضون هذه الطرق الحديثة ويقومون بإدخالها ضمن القرائن، التى تساهم فى إثبات الحقوق والجرائم . وقد قطعت العديد من الدول الاسلامية ، خاصة دول الخليج العربى ، شوطاً بعيداً فى الأخذ بهذه الطرق ، مع تأكيدها على أهمية إلا يتعارض الأخذ بها مع المبادئ التى اقرتها الشريعة الاسلامية ، حيث يندرج ذلك ضمن “مقصد العدل” وهو من مقاصد الشريعة الاسلامية الغراء .

أن البصمة الوراثية وبصمات الدم والأصابع والصوت والصورة والعين والفم والرائحة والتوقيع الالكترونى وغيرها إنما هى الصفات التى خص الله بها الانسان وميز بها كل شخص عن غيره من الأشخاص فهى من آيات الله فى خلقه (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) () .

ولقد ساهم العلم – الذى لا موطن له- فى كشف هذه العلامات المميزة والاستفادة منها فى اثبات الحقوق وتحقيق العدالة وقمع الجناة . ولاشك فى أن الشريعة الاسلامية تحض على العلم والأخذ بأسبابه وثماره ، وتبقى مهمة فقهاء الإسلام فى وضع الضوابط السليمة والدقيقة للاستفادة من هذه البصمات المتنوعة ، فى الأخذ بتلك البصمات على الأقل كقرائن قوية على الحق أو على الجريمة ، مع أهمية الأخذ بكل الضمانات الفنية والتقنية التى تضمن دقة وسلامة النتائج ، ومع الحرص على عدم تعارض ذلك مع الأحكام قطعية الثبوت والدلالة فى الشريعة الاسلامية ، ويقوم بذلك فقهاء الاجتهاد المجددون (لا فقهاء النقل) القادرون على تجديد الفقه الاسلامى لسد حاجات الانسان المتغيرة ومعايشة العصر . ثم يأتى دور من يضع القوانين فى الدول الاسلامية الذين ينبغى عليهم ، فى ضوء كل ذلك ، رسم تنظيم دقيق متطور ييسر الأخذ بهذه الأدلة المتجددة ، التى لن تقف عند ما يعرفه الانسان حاليا من بصمات متنوعة ، حيث لا يتوقف العلماء عن كشف أدلة جديدة ، الكشف عن آيات الله فى خلقه .