قراءات أخرى في القانون الدولي حول مياه الأنهار الدولية وإمكانية التحكيم
علاء اللامي

توظيف العامل الثقافي “الديني”:
قدمنا في الفصل السابق، قراءة تعريفية وتحليلية عامة، للموقف من التجاوزات العدوانية التركية و الإيرانية على أنهار العراق في ضوء القانون الدولي، وناقشنا إمكانيات اللجوء إلى خيار التحكيم الدولي عبر محكمة العدل الدولية و المحكمة الجنائية الدولية. واستكمالا لهذا الموضوع، وبغية المزيد من التوضيح، نستعرض في هذا الفصل قراءتين مختلفتين لهذه القضية تسلطان مزيداً من الضوء على دقائقها لإنما من زوايا أخرى :
يناقش الباحث العراقي فؤاد قاسم الأمير موضوع الوضع القانوني وإمكانيات التحكيم في قضية الرافدين في بحثه المرموق والموَّثق جيدا، والذي أشرنا إليه واقتبسنا عنه فقرات عديدة في الفصول السالفة عدة مرات[1]، والذي يسجل فيه أنه اعتمد في تأليفه على كتابين قيمين: الأول، للدكتور سليمان عبد الله إسماعيل، الذي اعتمدنا عليه هو الآخر كثيرا، والثاني الدكتور صبحي أحمد زهير العادلي، و على وثائق الأمم المتحدة، وبالخصوص ما يتعلق بالقانون الدولي.

في بداية عرضه للموضوع، يناقش الباحث الأمير وجهة نظر، قال إنه سمعها ممن تحدث معهم حول إمكانية حلِّ مشكلة المياه وفق “الشريعة الإسلامية”، ولكن ضمن توجه خاص يمكن أنْ يدخل ضمن إشكالات علاقة الدين والسياسة وتوظيف العامل الثقافي في الصراعات السياسية. مفاد وجهة النظر تلك، يمكن تلخيصه بالكلمات الآتية: طالما وجِدت حكومة تركية إسلامية مستقرة، تحاول التقرب إلى شعوب ودول محيطها الجغراسياسي، وطالما وجدت حكومة إسلامية في إيران، لها امتدادات في العلاقات والتأثير في العراق، وطالما أنَّ الحكم في العراق “إسلامي”، لذا يمكن حلُّ الأمر وفق “الشريعة الإسلامية”.

يرفض الباحث الأمير وجهة النظر هذه بقوة قائلاً ( إنّ الأمر لا يحل بتاتاً بهذه الطريقة، ومن يعتقد ذلك فإنه يعيش في وهم) وحجة الأمير في ذلك هي أنَّ التفاسير و التأويلات و التخريجات الفقهية قد تختلف تماماً عمّا أريد لها أصلاً بالأحاديث النبوية الشريفة الداخلة في هذا الباب كـ “المسلمون شركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار”، أو “ثلاثة لا يُمنعن: الماء والكلأ والنار”، وحديث “لا ضرر ولا ضرار” ويضيف موضحاً ( إذْ أنَّ الملكية الخاصة للترع والجداول والعيون والآبار أوّلت الأحاديث، وعلى لسان فقهاء عصور “الازدهار”، لتراعي مصالح الملاّك الكبار. والأهم أن مفاهيم الإسلام السياسي قد تختلف اختلافاً كبيراً عما جاء في روحية الدين، من محاربة الظلم والفساد وإيذاء الآخرين، والعدل والمساواة والإنصاف، وأنَّ التاريخ مليء بمثل هذه المواقف) والواقع، فإنَّ رفض الباحث لوجهة النظر هذه يشوبه التسرع، رغم أنه قد لا يخلو من قوة الحجة التاريخية، في ما يتعلق بالأحاديث النبوية المذكورة، غير أنَّ لنا عليه عدة مآخذ:
فأولا، ينبغي تصويب الأساس المضموني الذي تقوم عليه وجهة النظر ذاتها، وهي أنَّ الحكومة التركية القائمة الآن ليست إسلامية بالمعنى السائد لهذه الصفة السياسية، إذْ أنَّ القانون العلماني التركي يُحرّم تشكيل أي حزب سياسي ديني أو قائم على أساس الدين، بل هي حكومة يقودها حزب ذو خلفية ثقافية ذات منحى إسلامي عام ومخفف جدا يتعلق حصرا بماضي بعض قادته وليس ببرنامجهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي. أما في إيران فتوجد دولة دينية طائفية ثيوقراطية صريحة، يتقاسم السلطة فيها مرشد روحي و رئيس جمهورية وبرلمان “مُفَلْتَر” بواسطة مؤسسة أيديولوجية دينية هي “مجمع تشخيص مصلحة النظام” التي تتوسط، خلال قيامها بمهمة الحَكَم، موضعا هو بين “مجلس صيانة الدستور” من جهة، و مجلس شورى النظام “البرلمان” من جهة أخرى، أما في العراق فثمة تحالف سياسي حاكم يتقاسم السلطات بموجب قاعدة المحاصصة الطائفية والعرقية من قبل مجموعة أحزاب وشخصيات علمانية وإسلامية وقومية – مع وجود غلبة نيابية للأحزاب الإسلامية الشيعية المتحالفة مع الأحزاب القومية الكردية – والحَكَمُ الأخير وصاحب الكلمة الفصل بين مكونات هذا التحالف الحاكم هو الاحتلال أو سفيره في بغداد، ولا يمكن، بالتالي، تحكيم القناعات الإسلامية في توجهات الحكم وممارساته السياسية.

ومع ذلك، يمكن أنْ نأخذ بوجهة النظر هذه بعموم القول، وبكثير من التحفظ، فنقرر أنَّ هذه الحكومات الثلاث هي ذات خلفيات وتوجهات “إسلامية” عامة، تحكم ثلاثة بلدان يشكل المسلمون الغالبية الساحقة من سكانها وبنسبة تفوق التسعين بالمائة. إنَّ التعويل، هنا، ليس على مدى التزام الحكومات الثلاث و قادتها بالتعاليم والقيم الإسلامية، بل على فاعلية العامل الثقافي ذاته، وهو، في حالتنا، من طبيعة دينية في الميدان الجماهيري. بكلمات أخرى، إنَّ التأثير الإيجابي، وهو لصالح العراق حتما، يتأتى من تحريك العامل الديني لوعي جماهير الشعب التركي على سبيل المثال، حين تبلغ المأساة ذروتها في العراق و بزوال أنهاره من الوجود وتحل كارثة كبرى فيه، أو حين تنهار السدود التركية وتطلق طوفاناً مرعباً في المنطقة.

نحن نعتقد، وبثقة، أن عموم الناس العاديين، والنخب المثقفة في تركيا وفي إيران، ستتحرك فورا وبقوة قد تجبر السلطات الحكومية في البلدين على إيقاف عدوانها على شعب العراق، و إنَّ ذلك يمكن أنْ يتحقق من خلال إدارة عراقية جيدة و جرئية لهذا العامل.

وثانيا، فالأستاذ الأمير استشهد بثلاثة أحاديث للنبي العربي الكريم، سلف ذكرها، ولا نستطيع، في هذه العجالة، مناقشتها من حيث المتن والسند “العنعنة”، لتبيان مدى صحتهاأو ضعفها ومدى انطباقها على واقع الحال من عدمه، ولكنه أغفل آية قرآنية صريحة وبليغة في حكمها الذي ورد بصيغة الأمر، وكأنها لم تنزل إلا لإنقاذ الرافدين وشعب الرافدين، عنينا الآيةَ الثامنةَ والعشرين من سورة القمر ونصها ( وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ). فهل هناك نص قرآني أو غير قرآني أكثر وضوحاً وأمرية من هذه الآية الكريمة التي تمنع وتحرم المتاجرة بالماء وتأمر باعتباره مشاعا يقتسم بين الناس؟ وكيف سيكون موقف ملايين المسلمين في إيران وتركيا، لو رفع ملايين المسلمين العراقيين المحتضرين والمعانين الجوع والعطش بسبب الحصار المائي الذي تتحمل مسؤوليته السلطات التركية والإيرانية، لو رفعوا هذه الآية الكريمة شعارا إنقاذيا لهم في مواجهة قرارات الحكام الأتراك والإيرانيين سواء كانوا إسلاميين أو ماسونيين أو غير ذلك؟
تعريف النهر الدولي في القوانين الدولية :
يتابع الباحث الأمير قراءته لتجربة تطور مفهوم الأنهار الدولية والقوانين الدولية المعنية بها، ويحدد أربعة أمور جرى جمعها في عنوان واحد، هي على التوالي: الأنهار الدولية، والأنهار الوطنية، والقوانين الدولية، والقوانين الوطنية “المحلية”. وقد تطورت تعاريف ومفاهيم هذه العناوين سوية على مدى حقب تاريخية متعاقبة، بحسب الحاجة للأنهار، والتي كان في مقدمتها الملاحة النهرية. وقد تقلصت الأنهار الملاحية كثيراً بعد التطور الهائل في وسائط النقل الحديثة والتي دفعت الملاحة النهرية إلى الوراء حتى كادت تتلاشى في عصرنا. أما مفهوم وقوانين الأنهار الدولية فقد برز وتطور مع ظهور وتطور مفهوم السيادة الوطنية في أوربا القرن الثامن عشر.

يعتقد الباحث، أنَّ قضية تعريف النهر الدولي مرت بمرحلتين، تنتهي الأولى بصدور القرار 51/229 سنة 1997 تحت عنوان “اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية”. ومن المعروف أنَّ تركيا ترفض الاعتراف بهذه الاتفاقية حتى الآن، مع أنها تعاملت مع أطرافها الصائغة، ومع ظروف ولادتها، وشاركت في المفاوضات والتعديلات والنقاشات التي دارت حولها على امتداد بضعة أعوام. أما المرحلة الثانية، فتبدأ بصدور هذه القرار، وتُعَرِّف المادة الثانية الفقرة “أ” المجرى المائي بأنه ( شبكة المياه السطحية والمياه الجوفية التي تشكل، بحكم علاقتها الطبيعية بعضها ببعض كلاً واحداً وتتدفق عادة صوب نقطة وصول مشتركة). أما المجرى المائي الدولي، فتعرفه المادة ” 2 ب” بأنه ( أي مجرى مائي تقع أجزاؤه في دول مختلفة). نلاحظ في هذا التعريف استبدال مفردة “النهر” بعبارة “المجرى المائي” وهذا من نتائج تطور مفهوم المجرى الدولي، وقد رفضت تركيا هذا التعريف وحاولت تغييره، وحين فشلت في الوقوف ضده طالبت بأنْ يقتصر تعريف “المجرى المائي” على المياه السطحية ولا يشمل المياه الجوفية، ولكن هذا الرأي رفض أيضا.

قبل هذا القانون، كانت معاهدة باريس لسنة 1814 قد أشارت إلى النهر الدولي، وكان يقصد به ( النهر الذي يفصل أو يخترق إقليم دولتين أو أكثر ويكون صالحاً للملاحة ). وتكرر هذا التعريف في الوثيقة النهائية لمؤتمر فينا لسنة 1815، بمعنى أن هناك أنهار دولية تشكل الحدود بين دولتين فأكثر أو تخترق دولتين فأكثر، وهذا الأخير يسمى النهر التتابعي. ويلاحظ الأمير ( لهذا فإنَّ ما كانت تدعيه تركيا في ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي من النهر الدولي هو فقط النهر الذي يفصل بين الدول، أي الذي يشكل الحدود، هو ادعاء غير صحيح حسب النصوص المبينة أعلاه، إلاّ إذا كانت تدّعي أن هذا التعريف ينطبق على النهر الملاحي فقط، وأنَّ الفرات غير صالح للملاحة، كما وأنَّ دجلة قد يكون صالحاً للملاحة ولكن فقط ضمن الأراضي العراقية وليس ضمن الأراضي التركية. علماً أن عدة دراسات أجريت على الفرات منذ اوائل القرن التاسع عشر بغية استغلاله لأغراض الملاحة الدولية، وذلك قبل التفكير بإنشاء قناة السويس. إذْ كانت الغاية في ذلك الوقت، تجنب الطريق الطويل حول إفريقيا، رأس الرجاء الصالح، للوصول إلى الهند، واعتقدوا بأن توصيل الفرات بالبحر المتوسط من منطقة في سوريا، سوف يُمكّن للوصول إلى الهند من خلاله. إنَّ من أبرز هذه الدراسات هي رحلة جيزني ( Jzni) الأولى بين عامي 1830 ـ 1831، وأعيدت المحاولة في عام 1836، فتبين عدم صلاحية الفرات للملاحة البخارية أو الشراعية)[2]. ولكننا لا نستطيع أن نشارك الباحث قناعته، إنْ وجدت، بأنَّ هذه المحاولات لاستغلال دجلة للملاحة، كافية لاعتباره نهرا ملاحيا، لأنه لم يتكرس كنهر ملاحي فيما بعد، بل كانت تلك الرحلات مجرد محاولات استكشافية. ومع تراجع دور الأنهار في الملاحة والنقل في العالم فإنَّ هذا الواقع انعكس وسينعكس أكثر على واقع القوانين الدولية وتعريفاتها للأنهر الدولية كما سنلاحظ.

وقد ظل هذا التعريف الذي يشترط بقاء الصلاحية الملاحية ساريا، حتى أنَّ محكمة العدل الدولية اعتمدته في إصدار حكمها في منازعة نهرية عرضت عليها سنة 1929، واعتبرت أنَّ النهر الدولي هو المجرى الصالح للملاحة الذي يكون وسيلة لاتصال عدة دول بمنفذ بحري، واشترطت ثلاث خصائص كي تنطبق عليه صفة الدولية هي: صلاحيته للملاحة، واتصاله ببحر، وأنْ يهم ذلك الاتصال أكثر من دولة.

أما “حوض المجرى المائي”، فقد عرفه القانون الدولي بأنه يشمل الوحدة الجغرافية والطبيعية التي تكوِّن مياه النهر الواقع في عدة دول، ولها تأثيرها في تحديد نوعية وكمية المياه، ومن حيث التحكم والسيطرة على جريان المياه، وفي طبيعة نظامها، بغض النظر عن حجم هذه المياه أو قربها أو بعدها عن الحدود الدولية المرسومة. ويذكِّرنا الباحث بأن تركيا، وبهدف الاستفادة من هذا التعريف للحوض النهري، عرضت اقتراحا على العراق وسوريا يعترفان بمقتضاه، بأنَّ دجلة والفرات يشكلان حوضاً نهرياً واحداً، فرفضت الدولتان هذا المقترح لأنه سيخدم تركيا عملياً، إذْ ستستولي بموجبه عمليا على المزيد من مياه النهرين، وفي الوقت نفسه، تعوض عمّا ستستولي عليه من مياه الفرات مثلاً باحتساب المياه الواردة في دجلة وعلى حساب مصالح سوريا والعراق.
مفهوم دول الحوض النهري:
إنَّ مفهوم “دول الحوض النهري”، قد حلّ فعلا محل مفهوم النهر الدولي كما يعتقد باحث آخر هو د.سليمان عبد الله إسماعيل، فهو يرى أنَّ ( مفهوم النهر الدولي قد تطور أكثر وتوسع، فلم تعد الملاحة هي الأساس الذي يحدد “دولية” أو “وطنية” النهر، بل أصبح الفقه الحديث ينظر إلى الاستخدامات المتعددة لمياه الأنهار، ما يوجب التخلي عن مصطلح “الدول المتشاطئة” والأخذ باصطلاح دول الحوض النهري التي تساهم جميعا في تشكيل حوضه الطبيعي وتمثل الوحدة الجغرافية الطبيعية التي تشكل حوض تغذيته وتؤثر بشكل أو بآخر في نظام تصريفه السنوي من حيث الكم والكيف، بغض النظر عن حجم ذلك التصريف أو موقع النهر من الحدود الدولية للدول المعنية).[3]

نعتقد أنَّ هذا التطور الكبير في فقه القانون الدولي، قد أثر كثيرا حتى على مفهوم هوية النهر الوطنية، فلم يَعُدْ الزعم بأن نهر الفرات تركيا عابر للحدود ذا معنى أو أهمية، ويمكن لمن يشاء أن يصف النهر المار في أراضيه بالصفة التي يحملها الإقليم أو البلد المعني دون أنْ يؤثر ذلك على موقف القانون الدولي من تعريف النهر الذي أصبح أكثر دقة وعلمية فصار يشمل الحوض الجغرافي الطبيعي للنهر وهذا أمر نعتقد أنه إنْ لم يكن مفيدا ونافعا للعراق وحقوقه فهو لن يكون ضارا في أسوأ الاحتمالات.

وسوف نتعرض في الفصل الثاني عشر، لما أوردته مذكرة سورية موجهة إلى تركيا حول هذا الموضوع مقتبسا عن اللجنة القانونية التابعة للأمم المتحدة، والتي رفضت الأخذ بالصيغة التركية المقترحة “مياه عابرة للحدود” واعتبرتها مجرد تعبير انشائي يتعلق بصياغة لغوية ولا يوجد اختلاف جوهري بينه وبين تعريف القانون الدولي للنهرين بوصفهما مجريين مائيين دوليين. بكلمات أخرى فإنَّ مواد وأحكام القانون الدولي ستبقى حيّّةً ونافذة لجهة كونها أحكاما لازمة التطبيق على المجاري الدولية والتي تسميها السلطات التركية “مياه عابرة للحدود”، وليس لجهة كونها الصيغة المُنْتِجَة لتلك الأحكام وعلى هذا يمكننا القول: طالما كانت الأحكام عادلة والصيغة المعتمدة هي الدولية فلتطلق السلطات التركية على النهرين ما تطلق من عبارات وصيغ تخصها وحدهالأنهما يظلان مجريين مائيين دوليين حكما ومعنىً وصفة.

في الصدد ذاته، يضيف الباحث د. إسماعيل، حول موضوع تطور تعريف النهر الدولي، أمراً مهماً آخر وهو أنَّ ( ثمة اصطلاحاً آخر حل محل “النهر الدولي” وهو “نظام المياه الدولية” أو “شبكة المياه الدولية” ويقصد به تلك المياه التي تتصل فيما بينها في الحوض الطبيعي حتى امتداد أي جزء من هذه المياه داخل دولتين أو أكثر. ويشمل “نظام المياه الدولية” المجرى الرئيسي للنهر و روافده وسواء الإنمائية “المنابع” أو التوزيعية” المصبات)[4]. إنَّ سيادة تعريف نظام المياه الدولية، وسابقه “دول الحوض النهري”، سيكون دون أدنى شك لصالح دول المصب، والتي تقع في الترتيب الأدنى جغرافيا للحوض كالعراق، في مواجهتها لتجاوزات وتعديات دول المنبع التي تحتكر مياه الأنهار وتضفي هويتها القومية على الأنهار من طرف واحد وخارج منطق التاريخ و القانون الدولي .

نعتقد، إذاً، أنَّ هذه التعاريف والمفاهيم القانونية الجديدة يمكن أنْ تكون، بل هي فعلاً، مصدّات مفيدة وجيدة لدول مستهدفة كالعراق تساعده في بناء دفاعات راسخة وقوية عن حقوقه الطبيعية في الرافدين، دون أنْ يضر ذلك كثيرا بالهوية الثقافية والحضارية “العراقية” للنهرين دجلة والفرات، والتي هي نتاج آلاف السنين من التطور التاريخي المديد مع ضرورة تسجيل الفكرة التالية وأخذها بنظر الاعتبار: إنَّ هذه الهوية الحضارية الثقافية للأنهار لم تعد مهمة حيوية وأولى في قضية تثبيت الحقوق والدفاع عنها قانونيا، ولكنها لن تزول أيضاً بسبب سيادة تلك المفاهيم والتعريفات الجديدة للأنهار الدولية كما قد يعتقد البعض، فثمة فرق عميق بين الدائرتين الثقافية الحضارية والأخرى القانونية والقضائية الدولية. ونحن حين ندافع عن عراقية الرافدين، ونقول بأنَّ دجلة والفرات عراقيان، فنحن ندافع هنا عن هويتهما الحضارية والثقافية، وعن حق العراق – كدولة مصب – في حصة عادلة ودائمة من مياههما، و لا نرفض ما يقوله القانون الدولي الحديث بخصوص المجاري الدولية غير الملاحية فالفرات بموجب التعريف القانوني الدولي الجديد هو مجرى مائي دولي يعبر أراضيَ ثلاث دول، ودجلة أيضاً مجرى مائي دولي يعبر أراضيَ دولتين إذا ما تجاوزنا عن تلك الكيلومترات القليلة التي يحاذي فيها الحدود السورية. وليس ثمة تناقض أو تضارب في المعنى بين هاتين القناعتين: عراقية الرافدين الحضارية ودوليتهما القانونية الدولية.

اتفاقيات مائية دولية :
في صفحات لاحقة، يقدم الباحث فؤاد قاسم الأمير، وزميله د. سليمان عبد الله إسماعيل، أمثلة على الاتفاقيات المائية الموقعة بين عدد من الدول، والتي ترفض كُلّا من تركيا وإيران التوقيع على مثلها مع العراق وسوريا. فهناك، مثلا، الاتفاقية المعقودة أثناء مؤتمر جنيف الثاني للمواصلات في تشرين الثاني 1933 حول “استخدام القوى المائية في الأنهار الدولية”، حيث ورد فيها ( إنَّ على كل دولة تحتفظ في حدود قواعد القانون الدولي، بأن تقوم في إقليمها بجميع الأعمال التي تراها ملائمة لاستخدام القوى المائية ما لم تكن هذه الأعمال من شأنها أنْ تمس إقليم دولة أخرى، أو كان يترتب عليه أضرار جسيمة بدولة أخرى. وفي هذا الصدد يتعين قبل تنفيذها التفاوض بين الدول التي يهمها الأمر للوصول إلى اتفاق بشأنها).

وهناك أيضا المعاهدة الموقعة بين فرنسا وأسبانيا في عام 1957، والتي تنص على أن دولة أعالي النهر، أي الدولة المنبع، تقوم بخرق القانون الدولي إذا غيَّرت، أو خفضت كمية المياه المتدفقة إلى دولة المجرى الأسفل. وهذه الاتفاقية الواضحة تنطبق شديد الانطباق على ما تقوم به تركيا وإيران حالياً من تجاوزات وخروقات للقانون الدولي في دجلة والفرات وروافدهما إلى درجة قطع المياه قطعاً كاملاً، مؤقتا أو دائما، كما حدث مع الفرات الذي قطعته تركيا تماما، وبشكل مؤقت، سنة 1974، عندما شرعت بملء سد كيبان بمياه النهر، ومع نهر القارون الصّاب في شط العرب الذي قطعته إيران بشكل نهائي.

وقد تضمنت اتفاقية نهر “درافا” الموقعة في سنة 1954 بين يوغسلافيا والنمسا، إقراراً لمبدأ التشاور بين دولة المجرى الأعلى (النمسا) ودولة المجرى الأسفل (يوغسلافيا)، إذا قررت دولة المجرى الأعلى القيام بأي مشروع، والتعهد بإجراء مفاوضات قانونية بشأن الحقوق في المياه مع دولة المجرى الأسفل، و مبدأ التشاور وارد ضمن التزامات وبنود معاهدة الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا سنة 1946 ولكنَّ تركيا دأبت على عدم الالتزام به.

أما إعلان الدول الأميركية في كانون الثاني 1933، فهو ينظم التعاون بين الدول ذات الأنهار المشتركة في مجال استخدام المياه الدولية في الأغراض غير الملاحية، وفي استغلال الموارد المائية الدولية لتوليد الطاقة الكهرومائية، وفي الأغراض الزراعية والصناعية. وقد أكد هذا الإعلان حق الدول الكامل في استغلال ما يقع تحت سيادتها من مياه الأنهار الدولية للأغراض المشار إليها، مع التأكيد على عدم أحقية أية دولة القيام بتغيير مجرى النهر الدولي لهذه الأغراض دون موافقة الدول ذات الأنهر المشتركة، و عدم الإضرار بمصالح هذه الدول. وكذلك عليها، قبل القيام بأي مشروع، إخطار الدول الأخرى في حوض المجرى المائي و إرفاق جميع الوثائق الفنية اللازمة لمعرفة صلاح المشروع. وفي حال تعذر الوصول إلى اتفاق بالطرق الدبلوماسية، يُلجأ إلى المعاهدات الجماعية والاتفاقيات السارية في القارة الأميركية.

هناك أيضاً، اتفاقية نهر الهندوس بين الهند وباكستان في عام 1960، والتي أشارت مقدمتها إلى أنها استندت على مبادئ حسن النية وتحقيق أفضل استخدام لمياه نهر الهندوس فيما بينهما.

أما اتفاقية حوض البلاتا ، فكانت قد وقعت في نيسان 1967 من قبل حكومات خمس دول هي الأرجنتين، بوليفيا، البرازيل، البارغواي والأروغواي، و تضمنت أحكاماً تتعلق باستخدام الثروات المائية من خلال تنظيم المجاري المائية والاستغلال العادل لها.
إنَّ جميع المعاهدات والاتفاقيات السالفة، تنصُّ صراحة على أنَّ أحكامها هي تطبيق لقواعد القانون الدولي، والمقصود بالقانون الدولي هنا، ليس مجموعة قوانين محددة يمكن الإشارة إلى رقم القانون وتاريخه، وماذا يحدث في حالة عدم تنفيذه، ولكن المقصود به توجيهات عامة يمكن الرجوع إليها كدليل عمل.

اتفاقية 1946 بين العراق وتركيا:
وكمثال على المعاهدات الموقعة بين العراق وتركيا، يذكر الباحث معاهدة “الصداقة وحسن الجوار” الموقعة بين العراق وتركيا في 29 آذار 1946، والتي يتحدث عنها العديد من الكتاب باعتبارها جزءاً من القانون الدولي في تنظيم العلاقة المائية بين دولتين، فهي أيضاً وقعت في وقت مقاربٍ لتوقيع المعاهدات والاتفاقيات أعلاه. ويقع نص المعاهدة في سبع مواد، مع ست بروتوكولات، منها البروتوكول رقم “1” “بشأن تنظيم مياه دجلة والفرات و روافدهما”.

قد لا نبالغ إذا وصفنا هذه الاتفاقية بأنها أغرب “و أطرف؟ “ اتفاقية في التاريخ، فهي تنص على أنْ يقوم العراق بتمويل بناء مجموعة من السدود على نهري دجلة والفرات وروافدهما ولكن على الأراضي التركية. أما الهدف من وراء ذلك فهو ( إدامة مورد منتظم من المياه، وتنظيم سيلها أثناء الفيضانات لإزالة خطر الغرق، وحيث قد يظهر أثناء التحريات، أن المواقع الأكثر ملائمة لإنشاء الخزانات والأعمال المماثلة التي سيقوم بها العراق على نفقته تماماً، كائنة في الأراضي التركية، وحيث اتفقا على تأسيس محطات مقاييس دائمة في الأراضي التركية لتسجيل مقادير تلك المياه، وتبليغ العراق بقراءات تلك المقاييس بانتظام)[5]. ولم ينسى الموقعون على الاتفاقية موضوع توليد الطاقة الكهرومائية ليستفيد منها البلدان. واضح إذاً، لماذا سارعت تركيا وتحمست للموافقة على هذه الاتفاقية فالعراق هو من يتولى تمويل السدود و محطات التوليد. ويمكن أنْ ننظر بشيء من التفهم لهذه الاتفاقية مع ذلك، إذا وضعناها في سياقها التاريخي في الأربعينات من القرن الماضي، وتذكرنا ما كانت تشكله الفيضانات شبه السنوية من كابوس مرعب للعراقيين آنذاك والتي كانت تدمر العراق، وبخاصة العاصمة بغداد، تدميرا كبيرا ويروح ضحيتها المئات وربما الالاف من الضحايا إضافة إلى الخسائر المادية الباهضة.

كانت الحكومة العراقية قد شكلت وفدها للتفاوض مع السلطات التركية برئاسة وزير الخارجية عهد ذاك نوري السعيد، وكان رئيس الحكومة حينها هو حمدي الباجه جي، وكان ضمن الوفد العراقي المسؤول البريطاني أتكنسن مدير الري العام، فالعراق كان من الدول شبه المحتلة والدائرة في الفلك البريطاني الاسترليني طوال العهد الملكي الهاشمي. وحين اطلعت الحكومة العراقية على مسودة المعاهدة، أمرت نوري السعيد بعدم التوقيع عليها، ولكنه خالف أوامر حكومته وواصل التفاوض ثم وقع عليها، إذْ يبدو أنَّ السعيد كان يأخذ أوامره من المستشار البريطاني أتكنسن وليس من رئيسه العراقي حمدي الباجه جي. ثم وافق عليها مجلس الوزراء على مضض، وبضغط بريطاني كما يبدو، ولكنَّ مجلس الوزراء العراقي سجل تحفظه على المادة الثالثة من هذه الاتفاقية مشترطاً ألا تتعارض مع ميثاق جامعة الدول العربية، ولا تخالف التزامات العراق الأخرى، وألا تفسر في المستقبل بشكل يتعارض مع الميثاق. وحين تغيرت الحكومة العراقية، وحلَّ نوري السعيد رئيساً للوزراء بادر إلى إلغاء التحفظ وصادق مجدداً على المعاهدة.
تنص المادة الخامسة من البروتوكول الخاص بهذه المعاهدة، على أنْ توافق تركيا على إطلاع العراق على أية مشاريع خاصة بأعمال الوقاية قد تقرر إنشاؤها على أي من هذين النهرين أو روافدهما، وذلك لغرض جعل تلك الأعمال تخدم على قدر الإمكان مصلحة العراق كما تخدم تركيا. و يستغرب الأستاذ فؤاد الأمير في كتابه سالف الذكر، أنْ ينظر بعض الباحثين الجادين بإيجابية إلى هذه المعاهدة أو الاتفاقية ويكتب ( إنَّ كلَّ ما مذكور فيها من “حقوق” للعراق هي تحصيل حاصل لأية دولة تريد تشييد منشآت بكلفة عالية لدى دولة أخرى على نفقتها الخاصة، لخدمة الدولة الأخرى و”خدمتها”، فعند ذاك، سيذهب فنيون إلى الدولة الأخرى ويطلعون ويحصلون على المعلومات اللازمة لإنشاء هذه المنشآت.

علماً أنني أؤكد مرة أخرى أنه لم يدر في بال أحد في ذلك الوقت بأنه ستكون هناك أزمة شحة مياه، وإنما ما كان موجود فعلاً هو أزمة فيضانات. إضافة لذلك، فإنَّ ما سمي الاعتراف بـ “حقوق العراق” من قبل تركيا، سيتم فقط بعد أنْ يصرف العراق، في داخل تركيا، مبالغ ضخمة جداً مقارنة بميزانيته في ذلك الوقت. رغم ذلك لم يعترف البرتوكول بوجود حقوق مكتسبة للعراق في مياهه، ولم تحدد كميات الحد الأدنى للمياه المصرفة إلى العراق وسوريا)[6].

في واقع الأمر، يمكننا أنْ نتفهم موقف الأمير ونظرته السلبية هذه، فهذه المعاهدة غريبة فعلا، وليس ثمة نظير لها على حدِّ علمنا، ولكنها يجب أن تقرأ في سياقها التاريخي الذي تطرقنا إليه قبل قليل. إنه سياق الكابوس العراقي المرعب من الفيضانات المدمرة المتكررة، ثم أن الاتفاقية “والبروتوكول الملحق بها” لا تخلو تماماً من الإيجابيات فهي تلزم الطرف التركي بالعديد من الواجبات كالتنسيق مع العراق وإعلامه بما تنوي القيام به من مشاريع ولكن تركيا لم تقم بأي من هذه الالتزامات كما ذكرنا في موضع آخر من هذا الفصل، وتصرفت وكأن المعاهدة لا وجود لها. ولا ندري، على جهة اليقين، إنْ كان العراق قد موَّل فعلاً تكاليف بعض هذه السدود التركية أم لا، أم أنه موَّل قسماً منها ثم توقف. وعموما، فدوافع الجانب العراقي كانت جدية تماماً و متعلقة بكوارث الفيضانات المدمرة التي تضرب البلد،كما ذكرنا، وكانت سنة 1946 التي وقعت فيها هذه المعاهدة قد شهدت أخطر فيضان كاد يغرق بغداد بكاملها واجتاحت المياه معسكر الرشيد وغمرته وأتلفت سلاح وعتاد الجيش العراقي.

بروتوكولات أخرى بين العراق وتركيا:
ما نزال في موضوع الاتفاقيات بين العراق وتركيا، يمكننا، أيضا، التذكير ببروتوكول التعاون الاقتصادي والفني بين العراق وتركيا لسنة 1971، حيث ورد الشأن المائي ضمن هذا الاتفاق الاقتصادي و الفني العام، في وقت كانت تركيا فيه تضع برنامج مَلء خزان كيبان قيد التنفيذ.

نصت المادة الثالثة من البروتوكول على ما يلي ( بحث الطرفان المشاكل المتعلقة بالمياه المشتركة للمنطقة واتفقا على أنْ تجري السلطات التركية المختصة أثناء وضع برنامج ملء خزان كيبان، جميع المشاورات التي تعتبر مفيدة مع السلطات العراقية، بغية تأمين حاجات العراق وتركيا من المياه، بما في ذلك مَلء خزان الحبانية وكيبان .. و يشرع الطرفان في أسرع وقت بالمباحثات حول المياه المشتركة، ابتداءً بالفرات وبمشاركة جميع الأطراف المعنية).

وفي سنة 1980، وقَّع العراق وتركيا وسوريا، التي التحقت بهما بعد ثلاثة أعوام، بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني. و نص الفصل الخامس منه، والخاص بالمياه الإقليمية، على ( اتفق الطرفان على التعاون في مجال السيطرة على تلوث المياه المشتركة في المنطقة). و ( وافق الطرفان على إنشاء لجنة مشتركة للمياه الإقليمية التركية ـ السورية ـ العراقية، مهمتها دراسة الشؤون المتعلقة بالمياه الإقليمية وخصوصاً حوضي دجلة والفرات، واقتراح الطرق التي تؤدي إلى تحديد كمية المياه المعقولة العادلة التي يحتاجها كل من البلدان الثلاثة من الأنهار المشتركة).

ويلاحظ الباحث في هذين البروتوكولين وجود لغة تختلف عن لغة التهديد والتعنت التركية المعهودة، التي كانت عليها الدبلوماسية التركية في الثمانينات و التسعينات من القرن الماضي. إذ نجد هنا تعابير “المياه المشتركة”، و”المياه الإقليمية التركية ـ السورية ـ العراقية”، و”تحديد كميات المياه المعقولة والعادلة التي يحتاجها كل من البلدان الثلاثة من الأنهار المشتركة”. وهو محق هنا، ويمكن أنْ تكون هذه اللغة التركية الهادئة مؤشراً جيداً على توجهات جديدة ينبغي على العراق استثمارها بمواصلة طرح موضوع الرافدين بقوة وبالاستفادة من جميع الأوراق السياسية والاقتصادية التي بحوزته وهي كثيرة.

وللمقارنة مع لغة وطريقة تفكير الدولة التركية في السبعينات، وخصوصا في عهد سليمان ديميريل، يمكن أن نستشهد بما قاله الوفد التركي في المفاوضات الثلاثية مع العراق وسوريا في بداية مايس / آيار 1974 والتي جرت في أنقرة بهدف ملء خزان سد كيبان، حيث سجل الوفد التركي المضيف، وبكل عنجهية، إهانة لضيوفه العراقيين والسوريين، كما ينقل لنا الباحث د. سليمان عبد الله إسماعيل، حين قال رئيس الوفد التركي ( إنَّ ملء خزان سد كيبان من حق تركيا، و هي تتصرف به كما تشاء و دون ضرورة لأخذ موافقة أية جهة كانت. إنَّ الحكومة التركية في الوقت الذي تحترم حقوق الأقطار المجاورة في المياه المشتركة فيما بينها، إلا أنها في الوقت نفسه تتمسك بحقوق الشعب التركي وتضمن مصلحته بالدرجة الأولى، انطلاقاً من مبدأ سيادة تركيا على مصادرها الطيبعية .. وقد اقترحنا إطلاق 100 متر مكعب في الثانية من المياه وعلى أساس التضحية العظمى فإن تركيا مستعدة لإطلاق 25 متر مكعب في الثانية إضافية ) ويضيف د. إسماعيل ( وبخصوص ذلك، قال كاميران اينان، إذا أرادت سوريا والعراق أنْ تكون لهما حصة في المياه التركية فإنَّ على تركيا حينئذ أنْ تطالب بحقها في بترولهما، وبدلاً من أن تشكو الدولتان من مشروع “غاب” على العراق وسوريا المشاركة في نفقاته).[7]

في هذا النص تتبدى العنجهية بل والنزعة القومية التركية المتطرفة في أشنع صورها، فالمسؤولون الأتراك المذكورون في الاقتباسات السابقة، قرروا، ومن جانب واحد، أنَّ مياه دجلة والفرات وروافدهما هي مياه تركية مائة بالمائة، وأنَّ تركيا تسمح بعبور بعض هذه المياه إلى العراق وسوريا كنوع من الصدقة والتضحية العظمى. وفي الواقع، فإنَّ الأمر بعيد جداً عن الإحسان والتضحية، فحتى لو أرادت تركيا قطع نهر الفرات أو رافد دجلة “دجلة سو” نهائيا، وإلى الأبد، فهي لن نستطيع ذلك لأنَّ سعة أضخم سدودها وهو سد أتاتورك لا يتجاوز 49 مليار متر مكعب وهذه الكمية أقل كثيراً من عائد نهر الفرات من المياه لمدة سنتين فقط، والذي يصل في الأحوال العادية إلى ستين مليار متر مكعب، وأحياناً يرتفع الوارد إلى ضعف هذه الكمية في الأحوال المناخية غير الطبيعية، وإذا ما علمنا أن جميع السدود التركية ممتلئة بالمياه الآن باستثناء تلك التي قيد الإنجاز، فلن يكون بإمكان تركيا قطع مياه النهرين أكثر من ستة أشهر في حال امتلائها، و لمدة سنتين في حال كانت خزانات السدود فارغة، وتركيا بهذا القطع ستغامر بتدمير أغلب السدود، محدثة بذلك طوفانا هائلاً ومجزرة مائية بحق شعوب المنطقة قد تفوق في بشاعتها مجزرتي هيروشيما وناكازاكي.

هذا الاحتمال المرعب ليس افتراضاً أو كلام مزايدين، بل هو أمرٌ شديد الواقعية[8]، و قد كاد يحدث قبل بضعة أشهر، فقد نشرت وسائل الإعلام التركية ذاتها، بتاريخ 11/06/2011، خبرا مفاده، أنَّ المياه الموجودة في البحيرات الاصطناعية خلف السدود التركية وصلت إلى أعلى مناسيبها حيث ( امتلأت بحيرات السدود التركية هذه السنة جراء المطار الغزيرة الهاطلة، ووصل منسوب المياه في سد أتاتورك كبرى السدود في تركيا إلى 537.31 متراً هو أعلى منسوب له خلال الـ19 سنة الماضية. أما في سد كيبان الذي يعد بدوره من أكبر السدود التركية فقد وصل منسوب مياهه إلى 844.61 متراً سيضطر المسؤولون إلى فتح بوابات الفيضان في حال ارتفع المنسوب بمقدار 39 سنتمتر آخر. وبالنسبة لمعطيات سد قراقايا، أحد السدود الكبيرة أيضاً، فلم يبق غير 4.5 متر لوصول مياهه إلى الحد الأقصى له. وبامتلاء السدود ازداد انتاج الطاقة الكهربائية فيها ووصل إلى رقم قياسي جديد).[9]

وبالعودة لكلام رئيس الوفد التركي الذي أوردناه قبل قليل، فنحن لا نريد أنْ نعطي الأفكار العدوانية والعنصرية الواردة فيه و البعيدة تماما عن مبادئ حسن الجوار والمشتركات الحضارية والثقافية، والدينية منها خصوصا، التي تجمع وبعمق شعوب العراق وتركيا وسوريا، أكثر من الاهتمام الذي تستحقه، إنما علينا ألا نعتقد بأنَّ هذا النمط من التفكير والتعبير قد انتهى وولى زمانه في عالم اليوم وتركيا جزء منه، ولكننا نأمل وبصدق أنْ يستمر ما دعاه أحد الباحثين العراقيين بالهدوء والبعد عن التشنج في الخطاب الرسمي التركي الذي يتطرق لشأن يمس حياة الملايين من البشر مساً قويا.
قفزة نوعية في القانون الدولي للمياه:
ولأننا ما نزال في إطار قراءة الباحث فؤاد الأمير لموضوع القانون الدولي، فسوف نعرج، هنا، وبسرعة، على التفاصيل المهمة وذات الدلالات لتلك المحاولة الدولية لصوغ معاهدة دولية للقانون الدولي بخصوص استخدام المجاري المائية الدولية للأغراض غير الملاحية :
في سنة 1972، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا، أوصت فيه بمباشرة “لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة” بدراسة وضع إطار قانون دولي يخص استخدام المجاري المائية الدولية للأغراض غير الملاحية، لاسيما وأن المشاكل حول المياه الدولية كانت قد بدأت تتصاعد دون وجود قانون دولي واضح بهذا الشأن. وفي سنة 1976 وضعت اللجنة الصيغة الأخيرة لمشروع القانون و عند تقديمه للقراءة الأولى اعترضت عليه مجموعة من الدول، ولدراسة طلبات التعديل والحذف وتحفظات هذه الدول، وأخذها بنظر الاعتبار، قررت لجنة القانون الدولي الاستمرار في أعمالها للوصول إلى نتيجة يتفق عليها المجتمع الدولي.

وعندما عرضت الاتفاقية للقراءة الثانية في سنة 1994، قدم عدد من الدول، مرة أخرى، اعتراضات و اقتراحات بالتعديل أو الحذف أو الإضافة لبعض المواد، أو تعديلات للصيغ. وقررت لجنة القانون الدولي إحالة مجموعة المقترحات بكليتها إلى لجنة الصياغة لتشرع بالنظر فيها، واستناداً إلى تقرير لجنة الصياغة، اعتمدت لجنة القانون الدولي النص النهائي للاتفاقية. ويخبرنا الباحث، الأمير، أنَّ ( سوريا كان لها دور كبير في مناقشة القراءتين، واقترحت في القراءة الثانية إضافة مادة جديدة يكون نصها كالآتي ( إنَّ قيمة المياه تعادل قيمة الأرض، ومن يعتدي على الحصص العادلة والمعقولة من استخدامات المجرى المائي الدولي، المتفق عليها بين دول المجرى المائي، فسوف تطبق بحقه العقوبات المناسبة، والمنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، شأنه في ذلك شأن من يعتدي على أراض الغير بالقوة). بمعنى، أنَّ الاقتراح السوري يساوي بين الاعتداء على أراضي دولة أخرى وبين الاعتداء على حقها في المياه، على الرغم من أن الأرض ثابتة والمياه جارية ومتغيرة. وفي الواقع، فإنَّ ما تعنيه سوريا هو تطبيق البند السابع لميثاق الامم المتحدة بسبب الاعتداء على أراض دول مجاورة، وهذا الأمر لم تتم الموافقة عليه، ولكنْ، ونظراً لأنَّ العصر القادم، سيكون عصر “حروب المياه”،كما يتوقع كثيرون، فمن المتوقع أن يصبح هذا الاقتراح السوري مطروحا بقوة على بساط البحث والتفاوض في الهيئات الأممية في المستقبل.

أما موقف تركيا في اجتماعات اللجنة الدولية، فكان موقف التحفظ والاعتراض دائماً، حتى إذا كان دون مضمون أحياناً وبقصد العرقلة والتشويش ليس إلا. ومن هذا القبيل ما صرح به ممثلها في إحدى الجلسات حيث قال إنَّ تركيا ( ترى أنَّ سيادة الدولة على مواردها الطبيعية، بما في ذلك المياه لم يؤخذ به بالقدر الكافي من الاعتبار، وهي تؤيد قصر تطبيق القانون – موضوع النقاش – على المياه السطحية دون المياه الجوفية). أما ممثل العراق في الجلسة نفسها، فقد أكد على ( أهمية أخذ نوعية المياه الداخلة لأي دولة من دول المجرى المائي عند تحديد الكمية المنصفة والمعقولة) وهذا مطلب معقول يؤيده العلم إذْ أن المياه الملوثة تحتاج إلى المزيد من المياه النظيفة والعذبة لإزالة ما تخلفه التلوثات في حوض النهر. وقد بلغ عدد الدول التي صادقت على الاتفاقية 14 دولة حتى تاريخ 8/6/2006 وهي: فنلندة، وسوريا، والنرويج، وجنوب إفريقيا، ولبنان، والأردن، وهنغاريا، والسويد، وهولندا، والعراق، وناميبيا، وقطر، وليبيا، والبرتغال. فيما يتطلب تحولها من مشروع إلى قانون دولي نافذ 35 دولة تودع صكوك مصادقتها لدى الأمين العام للأمم المتحدة. أي أنَّ هذه الاتفاقية المهمة ماتزال بحاجة إلى مصادقة 21 دولة، وتلك هي مهمة العراق وسوريا بالدرجة الأولى لإقناع وكسب هذا العدد من الدول، والدول العربية قبل غيرها.

ويلاحظ الأمير، أنَّ ست دول عربية فقط صادقت على الاتفاقية علما بأن مواد هذه الاتفاقية لصالح العراق وسوريا، وحتى لصالح دول عربية يقع جزء من أراضيها ومياهها الجوفية في حوض دجلة كالمملكة العربية السعودية التي تغذي حقول مياهها الجوفية الأجزاء الجنوبية من حوض الفرات. وهناك دول عربية لن تترتب عليها أية التزامات أو يلحق بها أي ضرر إذا صادقت عليها، ربما يمكن استثناء مصر والسودان لأنهما قد يتأثران سلباً فيما يخص مياه النيل فيكون معهما حق إذا تحفظتا على هذه اتفاقية. ويستنتج الأمير مقترحا، إنَّ ( على العراق وسوريا العمل لجمع العدد اللازم من الدول للمصادقة على الاتفاقية لكي تكون قانوناً دولياً يمكن اللجوء إليه في النزاع الحالي على المياه مع تركيا وإيران رغم أن هاتين الدولتين لم تصادقا عليها، و في الواقع فإنَّ تركيا رفضت الاتفاقية أصلا. إنَّ العمل لإقناع الدول المختلفة التي وافقت على الاتفاقية في عام 1997 بوجوب تصديقها عليها، يجب أن يكون جزءاً مهماً من العمل الدبلوماسي لوزارة الخارجية العراقية)[10]. وكان مفترضاً أنْ تغتنم الدبلوماسية العراقية مناسبة كون العراق هو بلد رئاسة القممة العربية التي عقدت في بغداد سنة 2012، لتقوم بهذه المهمة ويقنع الدول العربية، ثم الصديقة بالمصادقة على هذه الاتفاقية، ولكن يبدو، حتى الآن، أنَّ هذه الدبلوماسية في شغل شاغل عن هذا الأمر ولا يبدو انها ستكترث له.

من المواد المهمة في اتفاقية “قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية” يمكن تسليط الضوء على تعريف “المجرى المائي”. وقد تطرقنا له بشكل عام، وقلنا بأن الاتفاقية تعرفه بأنه “شبكة المياه السطحية والمياه الجوفية التي تشكل، بحكم علاقتها الطبيعية بعضها ببعض، كلاً واحداً وتتدفق عادة صوب نقطة وصول مشتركة”. أما المجرى المائي الدولي، فهو ” مجرى مائي تقع أجزاؤه في دول مختلفة”. وعُرِّفَت دولة المجرى المائي بأنها “دولة طرف في هذه الاتفاقية، يقع في إقليمها جزء من مجرى مائي دولي، أو طرف يكون منطقة إقليمية للتكامل الاقتصادي يقع في إقليم دولة أو أكثر من الدول الأعضاء فيها جزء من مجرى مائي دولي”. ومن إيجابيات هذه التعريفات أنها أدخلت البحيرات والغدران وأنهار الجليد والمياه الوفيرة والطبقات الصخرية المائية ضمن هذا المصطلح الجامع الشامل، وبهذا تلاشت التعريفات الجزئية والناقصة وغير العلمية وبخاصة المصطلحات التركية من قبيل “النهر العابر للحدود” و”الأنهار الحدودية”.. الخ. إنَّ هذه التعريفات في الاتفاقية الدولية تقترب كثيراً من تأكيد وضمان حقوق العراق في مياه الحوضين اللذين تصر تركيا على المطالبة باعتبارهما حوضاً واحداً. وسنعود إلى هذا الموضوع في الفصل القادم، العاشر، والخاص بمناقشة مشروعي الثرثار وبخمة .

يتضمن الباب الثاني، المبادئ العامة للاتفاقية. ويحتوي على مجموعة من المواد المهمة، والتي تتعلق بحقوق المجرى المائي والتزامات الدول. فالفقرة الأولى، من المادة الخامسة، قررت، ضمن عنوان “الانتفاع المشترك”، أنْ تنتفع دول المجرى المائي، كل في إقليمها، بالمجرى المائي الدولي بطريقة منصفة ومعقولة. و بصورة خاصة، تستخدم هذه الدول المجرى المائي وتنميه بغية الانتفاع به بصورة مثلى ومستدامة والحصول على فوائد منه، مع مراعاة مصالح دول المجرى المائي المعنية، على نحو يتفق مع توفير الحماية الكافية للمجرى المائي”. أما الفقرة الثانية، فزادت الأمر وضوحاً حين نصَّت على أنْ (تشارك دول المجرى المائي في استخدام المجرى المائي الدولي وتنميته وحمايته بطريقة منصفة ومعقولة، وتشمل هذه المشاركة حق الانتفاع بالمجرى المائي و واجب التعاون في حمايته وتنميته على النحو المنصوص عليه في هذه الاتفاقية).

ورغم أنَّ الباحث يفترض وجود تفسيرات و تأويلات عديدة لتعابير من قبيل: طرق الاستخدام “المنصفة و المعقولة”، حيث تعتمد على درجة رقي الدولة المعنية، و قوة اقتصادها، و طرق الري و الزراعة المستخدمة فيها، و العلاقات و الاعراف الاجتماعية السائدة، و القوانين النافذة فيها. و لكنه يعتقد أن وجود تعابير “الانتفاع و المشاركة ” تساعد كثيراً في التأكيد على عدم ضياع حق أية دولة “تشارك” في المجرى المائي.

كما تحتوي هذه الاتفاقية على عدد آخر من المواد والفقرات، و يمكن لمن أراد الاستزادة الرجوع إلى الشرح الدقيق والمستفيض لها في البحث الذي أشرنا إليه أكثر من مرة والمعنون “الموازنة المائية في العراق” للكاتب العراقي فؤاد قاسم الأمير.

قراءة أخرى مختلفة وتحفظ:
ومادمنا في موضوع القراءات المختلفة لموضوع القانون الدولي، والتحكيم، وقضية المياه، فقد يكون مفيدا الاطلاع على قراءة أخرى، من زاوية نظر مختلفة قليلا، وردت في مقالة نشرها الكاتب صاحب الربيعي في نشرة دورية على الشبكة “النت”، اختصر فيها الموضوع في حالة واحدة هي عجز الدول المتشاطئة، وهي هنا العراق و تركيا، عن الوصول إلى حلول مرضية لتوزيع ( حصص مائية منصفة وعادلة فيما بينها في النهر الدولي، ينتاب أحد الأطراف، خاصة دولة المصب، الشعور بالغبن في الانتقاص من حقوقه المائية المكتسبة وتضرر مصالحه الوطنية. فإما أن يعلن الحرب، شرط امتلاكه القوة العسكرية الرادعة، لاستعادة حقوقه المغتصبة وفرض شروطه بالقوة على دول المنبع، وأما أن يلجأ للطرق الدبلوماسية لتحشيد الرأي العام العالمي والمنظمات الدولية ذات الصلة للضغط على دولة المنبع للنظر في حقوقه ومطالبه المائية، وغالباً ما تعتمده الدول غير القادرة على فرض إرادتها بالقوة العسكرية ) [11]. واضح أنَّ التبسيط المانوي يطبع هذه الفقرة بطابعه، إضافة إلى سطحية الفكرة التي تقف خلفها، والتي تختصر الموضوع كله بحيازة القوة المسلحة. فإذا كنت قوياً ومسلحاً جيداً، فالحل هو أن تخوض حرباً لتحصل على حقوقك، أما إذا كنت ضعيفا عسكريا فعليك باعتماد السبيل الدبلوماسي. وبما أن العراق، والكاتب نشر مقالته سنة 2009 أي بعد احتلال العراق بستة أعوام تقريبا، لا يملك آليات ( التحشيد الدولي والعلاقات الدولية اللازمة لممارسة الضغط السياسي على دول المنبع، نتيجة ضعف جهده الدبلوماسي، وترهل عمل القابضين على خناق وزارة الخارجية والموارد المائية العراقية، وبالتالي هشاشة علاقاته على المستوى الإقليمي والدولي). فالربيعي يؤكد أن السبيل الدبلوماسي ذاته ليس مضمونا، فما الذي تركه أمام العراق والعراقيين ليفعلوه بعد أنْ أعلن أنهم غير قادرين على الدفاع عن حقوقهم لا بالقوة العسكرية ولا بالجهد الدبلوماسي؟ إنه تساؤل منطقي يكشف الخواء الذي يقوم عليه تفكير سلبي كهذا.

ورغم ذلك، فالكاتب، يتخلى مؤقتا عن العدمية التي تجلت في تحليله السابق و يحشد مجموعة من الاقتراحات والتوصيات والأفكار، بعضها مفيد وخلّاق تماما، ليعطي الموضوع اتجاها عمليا. فلتحقيق ما يسميه ( التحشيد الدولي لممارسة الضغط الدبلوماسي والسياسي والشعبي على دول المنبع)، ينبغي من وجهة نظره (امتلاك الآليات المناسبة لتوظيفها بالفعل السياسي كوجوب تقديم دراسات قانونية مستندة لقواعد القانون الدولي للأنهار الدولية لتأكيد شرعية المطالب المشروعة للعراق في مياه الأنهار الدولية، ودراسات تقنية دقيقة عن حجم الأضرار المتوقعة، التي يمكن أنْ يتعرض لها العراق في حال عدم حصوله على مياه كافية لتلبية متطلباته الأساس).

ويقترح الكاتب ( أنْ تكون الدراسات المقدمة للجهات الدولية ذات الصلة والمراد إشراكها في فعل التحشيد الدولي لممارسة الضغط السياسي ذات معايير وأهداف متنوعة ومرتبط بمهام كل جهة دولية بصورة منفردة، فعلى سبيل المثال هناك منظمات دولية متعددة للأمم المتحدة تعنى بالشؤون التنموية المختلفة ( البيئة، مكافحة التصحر، الغابات، المياه، الزراعة، مكافحة الفقر والجوع، الصحة.. ) والتي تعد منظمات متخصصة لكل منها مهام محددة تعنى بها حول العالم، لذلك يجب أنْ تكون الدراسات المقدمة لها تتوافق مع مهامها، وبالتالي يمكن إقناعها بسهولة بالمشاركة في الحشد الدولي لممارسة الضغط السياسي والتعبوي ضد دول المنبع لوجود مصالح وصلات مماثلة لها مع ذات المنظمات الدولية. وهذه الفكرة صحيحة تماما، والكاتب يذَّكر قارئه، وهو محق فعلا، بمثال التحرك الذي قامت به منظمات المجتمع المدني في تركيا وأوروبا من تسليط الضغوط على البنوك الممولة لمشروع أليسو التي اضطرت معه تلك المصارف لسحب تعهدها بتقديم التمويل اللازم لتركيا لبناء السد.

وضمن (آليات التحشيد الدولي لتدويل أزمة المياه ومناصرة الحقوق المائية المكتسبة للعراق) يُدْرِج الكاتب عددا من الاقتراحات في قائمة قد لا تخلو من التكرار والتبسيط، رغم الفائدة العملية لبعضها، ومن ذلك مثلا، اشتراطه وجود دراسات علمية دقيقة عن الأزمة المائية، وأخرى عن الواقع المائي والمتطلبات الآنية والمستقبلية. و ضرورة وجود كوادر متخصصة وفعالة في وزارة الخارجية العراقية، قادرة على توظيف القنوات الدبلوماسية اللازمة للوصول إلى المنظمات الدولية ذات الصلة. و وجود كفاءات علمية متخصصة وفعالة للعراق في المنظمات الدولية ذات الشأن، و وجود إستراتيجية مائية على مستوى العراق لأمد بعيد. وتنشيط منظمات المجتمع المدني في العراق وتوظيف علاقات العراق في التكتلات الإقليمية والدولية كالجامعة العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي وغيرهما في الحملة الدولية لمناصرة المطالب المائية المشروعة للعراق من دول المنبع. كما يوصي بتوظيف جهود منظمات المجتمع المدني للجاليات العراقية في المهجر للضغط على حكوماتها لمناصرة مطالب الدولة الأم، وتنظيم مسيرات احتجاج ضد سفارات دول المنبع، واستثمار علاقاتها مع المنظمات المماثلة لكسب تأييدها ومناصرتها في المنتديات الوطنية في المهجر أو على مستوى شبكاتها في الاتحاد الأوروبي.

أما بخصوص موضوع التحكيم الدولي في الأنهار الدولية غير الملاحية بين العراق ودول المنبع، فالكاتب يختصر الموضوع على النحو الآتي: إنَّ الأنهار الدولية هي تلك التي تخضع لقانون الأنهار الدولية الملاحية التي أقرتها الأمم المتحدة، وهو يكرر أن دجلة والفرات نهران دوليان ( لكنهما غير ملاحيين لا يخضعان كلياً لأحكام القانون الدولي حول الأنهار الدولية “الملاحية” حيث لم يلحظ التوصيف القانوني للأنهار الدولية، الأنهار غير الملاحية لأنها معدة أصلاً للأنهار الدولية الملاحية. لذلك أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 21 / 6 / 1997، الاتفاقية الإطارية لاستخدامات المجاري المائية الدولية غير الملاحية).

ولا ندري بالضبط إنْ كان الكاتب يقصد بالاتفاقية الإطارية هي تلك الاتفاقية التي توقفنا عندها مطولا في استعراضنا لما قاله عنها الباحثان الأمير وإسماعيل، والتي لم تصادق عليها بعد 21 دولة من مجموع 35 دولة يجب مصادقتها عليها، أو انه يقصد شيئا آخر. ونحن نرجح انه يقصد بالاتفاقية الإطارية الصيغة النهائية التي تمت المصادقة عليها في 21/5/1997 بأغلبية 104 دولة ومعارضة ثلاث دول هي تركيا والصين و بوروندي ولا عبرة في الاختلاف في التواريخ فقد يكون ثمة خطأ مطبعي أو قد يكون أورده سهوا.

وبصدد التحكيم، فالكاتب يرى أنَّ اللجوء إلى التحكيم يمكن أنْ يكون ممكنا بعد أن تعجز الدول المتشاطئة عن الوصول إلى اتفاق حول توزيع مياه النهر غير الملاحي وتطور الأمر إلى نزاع مائي يمكن أنْ يهدد السلم العالمي أو الإقليمي. وهنا – بحسب الكاتب – يمكن أن تلجأ إحدى الدول المتضررة إلى التحكيم الدولي، شرط موافقة كافة أطراف النزاع على ذلك، استناداً لأحكام الاتفاقية الاطارية للأنهار غير الملاحية، وعملاً بالمادة 33 “باب التحكيم الدولي”، غير أن عدم المصادقة على هذه الاتفاقية التي يسميها الكاتب الإطارية حتى الآن، و عدم دخولها حيز التنفيذ والتحول إلى جزء من القانون الدولي، لا يعني أنها نافلة ولا قيمة لها، بل هي مرجعية قانونية دولية نافذة كمرجعية وليس كقانون ملزم التنفيذ، ولكن المطلوب يبقى هو المصادقة عليها لتكون ملزمة التنفيذ إلى 35 دولة تودع صكوك المصادقة لدى الأمم المتحدة، في حين أنْ عدد الدول التي صادقت حتى الآن 14 دولة. وقد تطرقنا لهذا الموضوع في مناقشتنا لإمكانيات التقاضي لدى محكمة العدل الدولية ولدى المحكمة الجنائية الدولية.

يمكن التوقف أخيرا، عند بعض الملاحظات التي أوردها الربيعي في نهاية مقالته تحت عنوان فرعي يقول “فرص العراق لكسب الدعوى القضائية وإجراء التحكيم” فمن المفيد أخذ فكرة عن تلك الفرص فقد تصلح في مناسبة أخرى للتقاضي، ومن ذلك أنَّ العراق (لا يملك موارد مائية بديلة، وبالمقابل تمتلك كل من تركيا وسوريا موارد مائية بديلة) وهناك حق العراق التاريخي المكتسب في المياه من الأنهار الدولية كونه أول من استخدم المياه في الزراعة من دول الحوض، تبعاً لأحكام مبادئ هلسنكي للعام 1966. كما أن العراق ( معرض لكارثة بيئية واقتصادية واجتماعية عند نقص المياه).كما تكتسب مياه الشرب والزراعة بالنسبة للعراق أهمية خاصة ( تبعاً لمبادئ هلسنكي للعام 1966) وأفضلية وأولوية على إنتاج الطاقة الكهرومائية واستخدام المياه للأغراض الصناعية بالنسبة للدول المتشاطئة. وأخيرا فتحويل مجاري الأنهار الدولية إلى خارج منطقة الحوض أو حجبها أو تقليل تدفقها عن الدول المتشاطئة ما يتسبب بأضرار بيئية واقتصادية واجتماعية ( كما هو الحال في تحويل إيران مجرى نهر القارون والتسبب بأضرار بيئية في شط العرب والمناطق الحدودية والتأثير السلبي على جريان مياه نهر دجلة في العراق) وكما في عملية سحب تركيا لمياه الفرات عبر نفق أورفه، وهو من الأعمال التكميلية لسد أتاتورك، ويتكون من قناتين، على شكل نفقين متوازيين. و يمكن اعتبار هذه الشبكة النفقية أكبر نظام نقل للماء في العالم بطريقة الأنفاق، وذلك بسبب طولها ومعدلات الجريان والدفق العالية فيها. إنَّ هذه الأنفاق تعمل على تحويل مياه الفرات من مجراها الطبيعي، إلى مجرى صناعي لإنتاج الطاقة الكهرومائية ولأغراض زراعية في حوض آخر بعيد عن النهر وهذا مخالف لروح ونصوص القانون الدولي القديم والحديث.
الخلاصة :
من المفيد تفعيل العامل الثقافي “الديني”، في عملية الدفاع عن الرافدين بهدف كسب الشعوب المسلمة المجاورة للعراق، والتركيز على الآية 28 من سورة القمر “ونبئهم أن الماء قسمة بينهم”، وجعلها شعارا حياتياً للعراقيين. لقد مرَّ التعريف الدولي للنهر بمرحلتين: ما قبل ولادة تعريف ” المجرى المائي الدولي غير الملاحي” وما بعدها. هذا التعريف ولد خلال عملية صياغة وإقرار “اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية”والتي انتهت بصدورها كقرار برقم 51/229 سنة 1997 وما يزال قيد المصادقة التي تحتاج إلى جهود مضاعفة من العراق وسوريا لكسب مصادقات 21 دولة من مجموع 35 دولة يجب مصادقتها عليها. في هذا التعريف تم استبدال مفردة “النهر” بـ “المجرى” وهو أشمل وأدق علميا، وقد رفضت تركيا هذا التعريف، ولكنها فشلت في الوقوف ضده وتمرير مصطلحها “المياه العابرة للحدود” الذي اعتبرته الهيئة الدولية قضية تتعلق بالصياغة ولا يوجد اختلاف جوهري بينه وبين المصطلح الدولي الجديد، بمعنى أنَّ المصطلح التركي تنطبق عليه قواعد القانون الدولي أيضا. جميع الاتفاقيات والمعاهدات استندت إلى روح القانون الدولي القائم على العدل والإنصاف والاستخدام الأمثل وعدم إلحاق الضرر بالدول الأخرى في المجرى المائي.

وشكلت – تلك الاتفاقيات – بمجموعها مرجعية عامة لذلك القانون. اتفاقية التعاون وحسن الجوار سنة 1946 بين العراق وتركيا هي أغرب اتفاقية في هذا الشأن، تعهدت الحكومة الملكية العراقية بدفع تكاليف سدود تركية تقام في تركيا بدعوى التخفيف من وطأة الفيضانات الدورية المدمرة. أحد الباحثين العراقيين ينظر إلى قضية الدفاع عن الرافدين نظرة مثبِّطة فإما أنْ يشن العراق الحرب وهو غير قادر عليها في رأيه، أو أنْ يلجأ إلى الجهد الدبلوماسي وهو ليس قادرا عليه أيضاً. ولذلك لم يبق أمام العراقيين، سوى “التحشيد الدولي لتدويل أزمة المياه ومناصرة الحقوق المائية المكتسبة للعراق”. إنَّ التحشيد من أجل تدويل المشكلة وطرحها على التحكيم الدولي جبهة واحدة من جبهات الدفاع عن الرافدين لا ينبغي إهمالها ضمن خطة شاملة تعتمد جميع وسائل الدفاع الأخرى عن النفس والوجود بجميع الوسائل المتاحة.

[1] – الأمير فؤاد قاسم . الموازنة المائية العراقية . دار الغد . مصدر سابق. ص 245 وما بعدها.
[2] – الموازنة المائية في العراق وأزمة المياه في العالم . ص 248 . دار الغد . م س
[3] – إسماعيل د. سليمان عبد الله . م س . ص 246
[4] – مخيمر د. سامر ، و خالد حجازي. أزمة المياه في المنطقة العربية سلسلة عالم المعرفة 209 ص 28 . استشهد به د. سليمان عبد الله إسماعيل في م.س ص 248
[5] – المصدر السابق ص 258 . نص الاتفاقية منشور ضمن ملاحق هذا الكتاب ، الملحق الثامن.
[6] – م س. ص 260
[7] – إسماعيل د. عبد الله إسماعيل . السياسة المائية لدول حوضي دجلة والفرات وانعكاساتها على القضية الكردية. ص80. مركز كردستان للدراسات الإستراتيجية. ط 1/ 2004
[8] – سنناقش بالتفصيل آخر ما قالته الأبحاث الجيوفيزيائية حول احتمالات انهيار السدود المائية العملاقة في المناطق الناشط زلزاليا وعن احتمالات حدوث الزلازل بسبب بناء تلك السدود في الفصل الخامس عشر من هذا الكتاب.
[9] – نشرة ” أخبار تركيا . عدد 11/06/2011
[10] – الأمير فؤاد قاسم . الموازنة المائية في العراق . ص 267 م. س
[11] – الربيعي صاحب. أزمة المياه بين العراق ودول المنبع ( التدويل والتحكيم الدولي ) نشرة ” الحوار المتمدن” عدد 2796 بتاريخ 11/10/2009
الفصل التاسع من كتاب ” القيامة العراقية الآن” تأليف علاء اللامي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت