نحو قضاء إداري ليبي مستقل

د.عبدالحميد جبريل

لقد أصبحت الحاجة ملحة لوجود تنظيم للقضاء الإداري في ليبيا في هذا الوقت أكثر منغيره من الأوقات بعد أن أثبت القضاء الإداري أنه ليس أقل من القضاء العادي في الحرص علي حماية حقوق الأفراد وحرياتهم ضد تعسف الإدارة، إن لم يكن أكثر قوة وتشددا منه في بعض الحالات.

كما أثبت الواقع العملي عدم تكيف قواعد القانون المدني في حسم النزاعات الإدارية أو تنظيم سير المرافق العامة مما أدي إلى إظهار استقلال القانون الإداري. الذي يفترق عن غيره، في أنه غير مقنن وفي مستهل نشأته، كما أن العلاقات الاجتماعية والروابط التي يحكمها ليست ذات طبيعة واحدة.وتظل قواعده هي الفيصل في تحديدها. كما تحتل الناحية العملية المكانة الأولي في دراسته في الوقت الحاضر، لأنها تعتمد علي دراسة الواقع الاجتماعي الذي أملي وضع القواعد القانونية ومضمونها.

ولم يكن الهدف من السعي إلى تحقيق هذا الاستقلال منح امتيازات خاصة للإدارة التي تخضع للقانون كالأفراد، وإنما مراقبة ممارسة تطبيق تلك الامتيازات. ولأن قواعده غالبا غير مكتوبة وكان القضاء هو المصدر الأساسي له. وفرض علي الإدارة قيودا لم يكن لها مثيل في القوانين الأخرى من خلال الرقابة التي يمارسها.

في إلغاء كل قرار مخالف للقانون والمبادئ العامة مهما كانت السلطة التي أصدرته ومهما كان نوعه. فهو ليس مجرد قضاء تطبيقي كالقضاء المدني. بل هو في الأغلب قضاء إنشائي يبتدع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ بين الإدارة والأفراد لاختلاف طبيعتها عن روابط القانون الخاص، فالقاضي من استقرائه للواقع يضع القاعدة التي تحسم النزاع المطروح عليه، انطلاقا من مبادئ عامة كمبدأ المشروعية الذي ولاشك أن هدفه الأول وغايته هو حماية الأفراد. غير أن الدول اختلفت في تحديد النظام الذي تتبعه في ممارستها إلى أسلوبين، فبعضها أسسها علي وحدة التنظيم القضائي، حيث توجد جهة قضائية واحدة يكون اختصاصها شاملا لمختلف المنازعات دون أية تفرقة بين النوعين من الدعاوى، ويسمي بالنظام الموحد، ” يسود نظام القضاء الموحد في إنجلترا والولايات المتحدة وغيرها من الدول التي ترتبط في تأسيسها بالنظام الإنجليزي ويرجع أصله التاريخي إلى استقرار قاعدة مفادها أن ” الملك لا يخطئ “

مما نتج عنه مبدأ عام هو عدم إمكانية توجيه الدعاوى ضد الإدارة مباشرة، لأن الإدارة هي جزء من الدولة، والدولة تختلط بالتاج ومادام التاج لا يخطئ فإن الدولة لا تخطئ وبعضها أسسها علي نظام القضاء المزدوج، حيث يوجد قضاء إداري متخصص ومستقل عن القضاء العام يتحدد نشاطه غالبا بكل المنازعات التي تكون الإدارة طرفا فيها. وقد كانت نشأته الأولي في فرنسا مع ظهور المبادئ الدستورية بعد قيام الثورة الفرنسية في 1789، تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلطات. واستطاع مجلس الدولة الفرنسي عن طريق أحكامه وآرائه، ومجهود فقهاء القانون العام أيضا أن يضع مبادئ القانون الإداري الحديث.

لقد نمي القانون الإنجليزي عموما مرتبطا بالنظام السياسي السائد عبر التاريخ متأثرا بالقواعد السكسونية ومتأثرا بها وبذلك اختلف اختلافا كليا عن البيئة الفرنسية المتأثرة بالقواعد الرومانية، وحتى وإن اقتربت النتائج بين فلسفة القانونين إلا أن لكل منهما أصولها ومنهاجها وبذلك تختلف طرق التفكير في كل منهما، وبرغم التطوير الذي طرأ علي النظام الإنجليزي بتعاظم دور القاضي الإنشائي للقواعد القانونية في الحالات التي لا يوجد فيها تشريع أو سابقة قضائية قديمة فقد لعب العرف دورا مهما عبر التاريخ القانوني في إنشاء القواعد القانونية، حيث كان القضاة يفتشون عن القواعد العرفية ويصوغونها في شكل مبدأ قانوني في قراراتهم القضائية والتي شكلت في مجملها قانون الأحكام العام، ونظرا لأهمية العرف فقد أشار قسم من الفقهاء إلى أن أساس القاعدة المعروفة ( لا يصح الدفع بالجهل بالقانون ) يكمن في حقيقة أن القانون مصدره العرف الذي ولدت قواعده ونمت من خلال تصرفات الأفراد أنفسهم، لذلك فيفترض في كل شخص أن يعرف القانون “.

تعتبر المحكمة الإدارية العليا هي قمة القضاء الإداري في مصر وأهم مكونات مجلس الدولة، الذي أصبحت له سلطة الفصل في كل الدعاوى المتعلقة بنشاط الإدارة وأنشأ دائرة توحيد المبادئ وصولا لاستقرار أحكامه ومبادئه، وتمثل رقابة ذاتية علي هذه الأحكام وسببا من أسباب دعوي البطلان الأصلية لها.

حدود الرقابة القضائية علي أعمال الإدارة في ليبيا.

ظل الوضع جامدا منذ صدور قانون القضاء الإداري رقم 88لسنة 71، الذي منح دوائر القضاء الإداري بمحاكم الاستئناف حق الفصل في دعاوى الإلغاء دون غيرها والاختصاص بالفصل في طلبات التعويض بالاشتراك مع القضاء المدني، بعد أحال الاختصاص من المحكمة العليا التي كانت مختصة بالفصل فيها ضمن إحدى دوائرها وأصبح هناك درجتان من التقاضي. وحددت المادة الثانية اختصاص هذه الدائرة دون غيرها بالمنازعات المتعلقة بالوظيفة العامة في استحقاق المرتبات والمعاشات والمكافآت والطعون المتعلقة بسير الوظيفة كالتعيين والترقية وقرارات السلطة التأديبية والإحالة علي التقاعد أو الاستيداع أو الفصل بغير الطريق التأديبي وخرج من ولايتها في هذا الجانب قرارات النقل سواء كان مكانيا أو نوعيا وقرارات الندب والتثبيت.

وهو ما استقر عليه قضاء المحكمة العليا عند التفسير في هذا الشأن بقولها ” إن المستقر عليه في الفقه والقضاء الإداري أن قرارات نقل الموظفين إنما تستقل بها جهة الإدارة بمطلق الحرية في إصدارها لأن لها دون غيرها تقدير ظروفها والاسترشاد بما تراه من الاعتبارات المؤيدة لها حسبما تراه مناسبا لصالح العمل وأنه ليس للموظف إزاء تنظيم العمل في الإدارة وما يقتضيه الصالح العام من تنسيق وتوزيع الاختصاصات حق مكتسب في تقلد وظيفة معينة دون الأخرى “

غير أنها ميزت بين النقل المكاني والنوعي واعتبرت القضاء الإداري غير مختص بالنقل المكاني لأنه من سلطة الإدارة التقديرية متي اقتضت دواعي المصلحة العامة ذلك أما النقل النوعي فإنه يعتبر بمثابة تعيين في الوظيفة الجديدة ويؤدي إلي اختصاص القضاء الإداري بنظره. أما قرارات التثبيت للموظفين بعد فترة الاختبار فقد اعتبرته حق مطلق للإدارة التي لها تقدير صلاحية الموظف لشغل الوظيفة.

أما المنازعات المتعلقة بالعقود الإدارية فبرغم أن مضمون النص عليها ضمن قانون القضاء الإداري يوحي بأنه اختصاص مانع ينعقد للقضاء الإداري إلا أن المحكمة العليا استقر رأيها في العديد من أحكامها علي الاختصاص المشترك بين القضاء المدني والإداري. ويستند هذا التفسير في عمومه إلى أن نص المادة الرابعة قد جاء علي إطلاقه دون قيد مقررا ” تفصل دائرة القضاء الإداري في المنازعات الخاصة بعقود الالتزام والأشغال العامة والتوريد ” خلافا لما تضمنته نص المادة الثانية في حالة القرارات الإدارية بقولها تختص دائرة القضاء الإداري دون غيرها بالفصل فيها.

وبحكم وجود دائرة القضاء الإداري مع القضاء المدني ضمن محكمة واحدة. فقد ظلت متمسكة بالمبادئ القديمة التي تجاوزها القضاء المقارن في كثير من الأحوال بخلق مبادئ عامة تتفق واختصاصه في الرقابة التي امتدت إلى كل النشاط الإداري. ولم تعد قاصرة علي المبادئ القديمة التي كانت تنطلق من حدود الرقابة التي مازال يدور في فلكها قضاء المحكمة العليا في ليبيا، ففي حالة المرفق العام ظلت وفية لما قال به القضاء الإداري في السابق الذي طور آراءه ولائم رأيه وظروف التطور.إلى أن وصل إلى تبني المعني الموضوعي.

فعرف المرفق العام بأنه النشاط الذي تتولاه الدولة أو الأشخاص العامة الأخرى مباشرة، أو تعهد به إلى آخرين كالأفراد أو الأشخاص المعنوية الخاصة. ولكن تحت إشرافها ومراقبتها وتوجيهها وذلك لإشباع حاجات ذات نفع عام تحقيقا للصالح العام.مع أن هذه المبادئ هي ما يتلاءم مع حقيقة الوضع السائد إداريا لتدخل الدولة في كل مناحي النشاط الإداري، وظلت متمسكة بالمعيار العضوي في هذا الشأن كما أن حصر منازعات العقود الإدارية بدائرة القضاء الإداري يؤدي إلى وحدة القضاء واستقرار القواعد التي تحكمها، فالقضاء المدني ينظر إلى موازنة الأدلة دون القضاء الإداري الذي يرتبط بالمشروعية أساسا لتقدير التصرف ومعياره المصلحة العامة في تقدير عنصر الخطأ الذي هو أساس تقدير الضرر.

أما حالة الظروف الاستثنائية فبحكم عدم وجود تشريعات تتضمن حالات الضرورة والظروف الطارئة، انحصرت رقابته في بحث الظروف الطارئة بحكم تكوينه دون مراقبة لنشاط الإدارة في هذا الشأن ومدي وجود حالة تستدعي تدخل الإدارة والغاية التي ترمي إليها. في الوقت الذي تري فيه المحكمة الإدارية العليا في مصر ” أنه لا توجد في إطار الشرعية وسيادة القانون قرارات أو تصرفات إدارية تقوم بمباشرتها بناءا علي سلطات مطلقة لأية جهة إدارية تباشرها دون رقابة لمشروعيتها وعدم مخالفتها للدستور أو القانون “.

وكذلك ما قررته المحكمة الدستورية العليا بقولها ” الرقابة القضائية هي المظهر العملي الفعال لحماية الشرعية فهي التي تكفل تقيد السلطات العامة بقواعد القانون، كما تكفل رد هذه السلطات إلى حدود المشروعية إن هي تجاوزت تلك الحدود “.

مدي وجوب اللجوء إلى قضاء إداري مستقل.

إن الواقع العملي قد أصبح ملحا في وجود قضاء إداري مستقل إذ أن أغلب فقهاء القانون العام يعتبرون القضاء الإداري ضمانا أكيدا يحول دون تجاوز الإدارة علي حريات الأفراد وحقوقهم ويرون أن حماية الحريات والحقوق الفردية هي أهم الأسباب التي تجعل وجود القضاء الإداري ضروريا، وأن القضاء الإداري هو الذي يخفف من وطأة عدم المساواة التي تولدها هذه العلاقات أو المنازعات الناشئة عنها ويحقق النتائج الآتية:_

1- تعدد درجات التقاضي بدلا عن نظامه الحالي المقتصر علي درجتين

2- اختصاصه بكل الدعاوى المتعلقة بالإدارة مما يخفف العبء علي القضاء المدني

3- يمكن للقضاء الإداري أن يضع من المبادئ ما يتوافق وسير الإدارة وتنظيمها لتعلقه بمبدأ المشروعية خلافا للقضاء المدني الذي يهتم بموازنة الأدلة.

4- توسع البنية العامة لجهاز القضاء مما يؤدي إلى سهولة التقاضي

5- وجود القاضي المتخصص ولاشك أن نتيجة ذلك الحتمية هي سرعة الفصل في النزاعات المطروحة عليه.

فدعوا الإلغاء مثلا تنصب علي القرار الإداري الذي يصدره رجل الإدارة وقد يتجاوز حدود سلطاته أو يسيء استخدامها. وتمثل ردعا له وللإدارة لا يمكن أن يحققه أي جزاء آخر، فعندما يري رجل الإدارة أن قراره قد الغي وأعدمت آثاره فإن موقفه سيتغير خلافا لأن يجد قراراه قائما مستمرا في إنتاج آثاره، حتى لو تقرر للمضرور تعويض مالي من هذا القرار، فالتعويض تدفعه الإدارة.

أما نظام القضاء الموحد فإنه يؤدي إلى أن كافة الروابط والعلاقات القانونية في الدولة تخضع لأحكام وقواعد قانونية كأصل عام قد يرد عليها بعض الاستثناءات تتعلق بمسائل تخص السلطة الإدارية لوجود تشريعات أو قواعد أو مبادئ مختلفة، غير أن ذلك لا يمس الأصل العام وهو خضوع السلطة الإدارية لذات القوانين والمبادئ التي يخضع لها الأفراد في الدولة ومن ناحية أخري عدم الاهتمام بدراسة وتطور القانون الإداري طالما أن جهة الفصل واحدة فالمسئولية المرفقية والخطأ الشخصي مثلا لا يظهر الفصل بينهما في هذه الحالة.

وفي تقديرنا إن القضاء الإداري في ليبيا وأسباب نشأته.صاحبت تطور الدولة في البداية أما بعد تدخلها المباشر في كل أوجه النشاط الذي أدي إلي اختلاط المسئولية وصعوبة تحديدها وفقا لمعايير القانون الخاص مراعاة لطبيعتها من حيث الأهداف والغاية فإن تنظيمه الحالي ظل قاصرا عن أداء مهمته. ونري أن وجوده وإعادة تنظيمه مستقلا.عاملا هاما لتحقيق التوازن بين هذه العلاقات القانونية غير المتكافئة، لأنه نظاما وسطا في تركيبته بين القضاء الموحد في شكله والمختلط في اختصاصه. يقع تحت مظلة القضاء العادي، مما يعني من جانب آخر عدم استقلال رأيه عن القضاء المدني، ويطبق قانون خاص يحكم اختصاصه وهو ما يعني أنه قضاء إداري مستقل.غير أن موقعه الحالي لا يمنحه استقلالا لتحليل المسئولية الإدارية ذات الطابع الخاص في ليبيا. وحصر الامتيازات التي تتمتع بها وإبقائها داخل النطاق الذي ترسمه المبادئ القانونية لاختصاصه وحده بالفصل في المنازعات الإدارية.

وله دور في رسم نصوص التشريع من خلال الفتوى، وتفسيره من خلال الرقابة ووضع المبادئ العامة للقانون والمسئولية الإدارية التي يمكن تحديد معالمها في الآتي :ـ

أولا :ـ قصور قواعد القانون المدني في فهم المسئولية الإدارية. وتحديدها في العديد من الفروض. إذ أنها تبتعد في مفهومها عن قواعد القانون المدني التي تعتمد المسئولية عن الفعل الضار. بينما يري فقهاء القانون العام أن المسئولية الإدارية في الوقت الحاضر تستند إلى مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة في أغلب حالاتها، ومن هنا يختلف التكييف لواقع الحال وتقدير الخطأ والضرر. فمبدأ المساواة يؤدي إلى انحصار المسئولية في حدود العبء الإضافي الذي يقع علي المضرور من ناتج إدارة المرفق بغرض إشباع حاجات المواطنين خلافا للربط بين الخطأ والضرر في نطاق المسئولية التقصيرية.

ثانيا :ـ إن المسئولية الإدارية يجب أن تدور في نطاق القواعد الأساسية التي يتضمنها التشريع الدستوري أو ما يؤدي إلى أنها مبادئ دستورية، وما يعني بوجه آخر أن المسئولية الإدارية يجب أن تنحصر في نطاق التشريع الذي ينظم عمل الإدارة التي يمكنها أن تتصرف خارج القانون في الظروف التي وجدت فيها. مما يؤدي إلى انحصار مبدأ المشروعية ولن يجد لها القضاء المدني تبريرا ضمن أحكام المسئولية التقصيرية فهذا البعد ينعدم أثره إذا كانت الأدلة محل موازنة دون التفرقة بين أطراف الخصومة.

ثالثا :ـ إن قواعد المسئولية التقصيرية كادت أن تصبح تراثا لحقبة مضت فتدخل السلطة العامة واتساع نشاطها في شتي مناحي الحياة اليومية أدي إلى ظهور أنواع شتي من التصرفات التي تؤدي إلى قصور فكرة الخطأ في ترتيب المسئولية.

رابعا :ـ إن ما حصل من اختلاف في تأصيل الدعاوى التي عرضت علي القضاء الليبي بين ما يقتضيه الواقع وما تمليه المبادئ القانونية ضمن أحكام القضاء لم يكن له مبرر إلا عدم وجود قضاء إداري مستقل يمكنه أن يمحص تصرف الإدارة ويضع له التقدير الصحيح للتصرف ويرجعها إلى دائرة الصواب بإلغاء تصرفاتها.

خامسا :ـ أن نشأة القضاء الإداري في فرنسا ثم في مصر كانت مدفوعة بالدرجة الأولي بضرورة تحقيق وتدعيم مشروعية أعمال السلطات الإدارية، فالرقابة القضائية علي أعمال الإدارة بواسطة قضاء إداري متخصص يمثل السبب الدافع للأخذ بنظام القضاء المزدوج، غير أنها في الوقت الحاضر أصبحت تمثل الرقابة علي المشروعية ومدي تحققها، ولم يقف بجانب الإدارة إلا إذا كان تصرفها مبررا وفق معيار المصلحة العامة بتحققها فعلا دون النظر إلى قيام الإدارة باتخاذها سببا لتصرفها.

سادسا :ـ إن التصرف الإداري لا يخرج عن وصفه بأنه إداري إلا إذا فصل القضاء الإداري بما يعني ذلك خلافا لما هو عليه الحال وفق نظام القضاء الإداري حاليا في ليبيا القائم علي دعوا الإلغاء ودعوا القضاء الكامل والتي أصبحت جزءا من كل في القضاء المقارن. وفي ذلك تحقيق لمبدأ تعدد درجات التقاضي ضمانا لحسن العدالة.

أسباب قصور التنظيم الحالي للقضاء الإداري.

لم يكن القضاء في ليبيا حاسما بالفصل فيما عرض عليه من دعاوى خلال المرحلة اللاحقة للتغيير الإداري بتعيين حدود عمل الإدارة بسبب عدم استقلال القضاء الإداري الذي يمكنه ان يضع هذه الحدود من خلال ما يقرره من مبادئ. فمراحل التغيير التي مرت بها الإدارة في ليبيا قد سبقتها مراحل مشابهة في مصر، وظلت دوائر القضاء الإداري تطبق ما وصل إليه القضاء المصري في الكثير من الأحيان للوصول إلى حلول ملائمة للوقائع المعروضة.

أما القضاء المدني فكان يتبع خطوات التشريع دون النظر إلى الأهداف ليضع حلولا تلائم النصوص التي تحكم العلاقات الفردية ويطبقها في حالة علاقة الدولة بالأفراد، وبذلك وقف عاجزا عن أن يضع تحليلا لما يجري حوله ضمن إطار الفصل في الدعاوى حتى بعد أن أعلنت الدولة ضمن التشريع أن هناك انحراف في تطبيق المقولات، وكانت رؤية الدولة أكثر ملائمة غير أنها أسندت ذلك الاختصاص إلى محكمة أنشئت لتنظر في الانحراف وعجزت عن أن تضع له تحديدا، وعاد الاختصاص من جديد للقضاء العادي دون أن يضع له تكييفا قانونيا يتفق وطبيعته وعما إذا كان اعتداء مادي أم أنه نشاط إداري مشروع حتى وإن خالف القواعد العامة يستند إلى أعمال السيادة. ولعل أسباب القصور يمكن تحديدها ضمن سببين :ـ

أسباب تتعلق بالتشريع :ـ

لقد خرجت الدولة منذ البداية من فكرة أن مبدأ الشرعية لا يضحي بالمصلحة العامة واستخدمت وسيلة التشريع وصولا إلى أهدافها المعلنة سلفا ضمن الإعلان الدستوري. وانقلبت موازين التقدير للوقائع التي يراها القانون مبادئ لا يجوز تجاوزها بوضعها لأسس جديدة للنظام الإداري والاقتصادي والاجتماعي من خلال قوانين غيرت كل المفاهيم التي كانت قائمة في السابق برغم أنها أفصحت عن إرادتها في استعمال قواعد القانون الإداري في كل نشاطاتها، كما ضمنت كل القوانين الصادرة خلال مراحل التغيير جزاءا جنائيا علي مخالفة محتواها. فلم يخلو قانون منه إضافة إلى القاعدة العامة المقررة بالقانون الجنائي، مما حقق لها صحة استخدام امتياز التنفيذ المباشر باعتباره صورة من صور النفاذ التلقائي للقانون لتحقق شروطه وهي القانونية والمشروعية والمحل.

فإما التنفيذ وفق ما تري الإدارة أو الوقوع في دائرة الجرم الجنائي. وبذلك لم يعد مبدأ الشرعية بتصوره في ظل النظام الليبرالي الفردي قائم أمام الدفع الثوري الجديد، وأصبحت المصلحة العامة مغلبة في كل الأحوال علي مصلحة الفرد، مما شكل ضغطا علي ضرورة اتساق مبادئ القضاء مع ما يتطلبه التغيير من مفاهيم جديدة، كانت تتمثل في تطبيق مقولات ثورية في شكل أعمال مادية بإعادة صياغة القطاع الخاص والوحدات الإنتاجية بطريقة الزحف علي إداراتها، بعد أن طبق المبدأ علي الإدارة، وتحولت سلطة إصدار القرار الإداري من الرئيس المباشر إلى لجنة شعبية، وأصبح يتخذ طابع العقل الجماعي بدلا عن الطابع الفردي، وبذلك أصبحت للمسئولية الإدارية وصف آخر.

إن كل ذلك في تقديرنا كانت له آثاره في التأصيل القانوني للمبادئ التي يسير عليها القضاء مما جعل الدولة تتجه إلى اتجاه آخر عندما تبين لها أن التنفيذ المادي لهذه الأفكار قد شابه قصور في مطابقته لمبتغاة، ولجأ المتضررين للقضاء للمطالبة بحقوقهم، فتدخلت بموجب القانون رقم 7 لسنة 1985 في 15 مايو 1985، الصادر عن مؤتمر الشعب العام بوقف النظر في الدعاوى المقامة بسبب تطبيق المقولات الثورية وبوقف تنفيذ الأحكام الصادرة في هذه الدعاوى، وبذلك خرجت هذه الأعمال من نطاق الأعمال الإدارية إلى دائرة أعمال السيادة.ولم يشأ القضاء التصادم مع الإدارة بحكم تكوينه والتفرقة بين أعمال السيادة والتعويض عنها، فحتى لو رأت الإدارة وقف تنفيذ الحكم فإن ذلك لا يعني مصادرة حق التقاضي.

إن موقف القضاء الإداري تحديدا علي هذا النحو أدي إلى تدخل المشرع الذي أنشأ محكمة الشعب خضعت لرقابة المحكمة العليا فترة من الزمن، ثم أعيد تعديل قانونها بوقف تلك الرقابة وجعلها مستقلة، إلى أن ألغيت وأعيد الاختصاص إلى القضاء العادي بموجب القانون رقم 7 لسنة 2005. ولو أن القضاء الإداري قد بني مستقلا لما كان أمر محكمة الشعب قد وجد.

الأسباب العملية :ـ

إن القضاء الإداري هو قضاء إنشائي أما القضاء المدني فهو قضاء تطبيقي وشتان بين الاثنين في نظر الفواصل والحدود من فارق، ووجوده ضمن دائرة بمحكمة الاستئناف هو مسألة ملاءمة للمحكمة قد تؤدي إلي تغيير مركز القاضي من دائرة إلى أخري في كل سنة قضائية فلا يوجد ضمن قانون نظام القضاء وجوب بقاء القاضي ضمن الدائرة الإدارية، وعلة ذلك أن التكوين الشخصي للقاضي هو نوع من التخصص يؤدي به إلى الإبداع في مجال الدعوى الإدارية فهو ملزم بخلق المبادئ حيث لا يوجد قانون إداري خلافا للحال في مجال الدعوى المدنية التي تعتمد علي وسيلة إثبات يسندها القانون المكتوب.

ومن ناحية أخري فإن المنازعات الإدارية بمجملها يصبح لها قضاؤها المستقل كما هو الحال في قانون مجلس الدولة المصري، ويكون القانون العام في مجمله في رعاية قاضيه الطبيعي الذي قد يخلق للإدارة الأسباب التي تلجأ إليها من خلال الرقابة علي الأعمال المعروضة لتفادي أخطاؤها. كما أن تنظيم القضاء الإداري يؤدي إلى وجود قسم الفتوى الذي يختص بإبداء الرأي القانوني في المسائل التي تهم الإدارة، وقسم التشريع الذي يهتم بصياغة القوانين ومراجعتها، ووجود جمعية عمومية لقسمي الفتوه والتشريع تهتم بالمسائل التي تخص الدولة والمنازعات التي تنشأ بين الإدارات المختلفة.

الخاتمة

إننا ندعو المشرع الليبي أن يلجأ إلى تنظيم القضاء الإداري مستقلا علي هدي ما فعل المشرع المصري وصولا إلى حماية الحريات العامة وتحقيق العدالة.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت