بعد ان تغير حال اكثر الناس اليوم وصاروا لا يؤثرون على انفسهم من اجل الخير والبر والنفع العام ، الامر الذي دفع بالتشريعات المعاصرة الى التشديد في محاسبة متولي الوقف، واختلفت هذه التشريعات في ذلك على النحو الآتي : –

فموقف القانون المصري من محاسبة المتولي لم يكن بشكل دوري سنوي الزامي ، وانما اثناء نظر المحكمة في تصرف من تصرفات المتولي كتقديمه حسابه عن الوقف او طلبه الاذن بالاستبدال او العمارة ونحوهما او في دعوى مرفوعة عليه من المستحقين وغيرهم ، فعندئذٍ تكلفه المحكمة بتقديم حسابه عن الوقف، وبشكل تفصيلي في الصرف على شؤون الوقف والمستحقين وبدليل كتابي – عدا ما جرى عليه العرف –(1)، وذهب احد الفقهاء(2). الى ان هذه المحاسبة تقترب من رأي المالكية اذا اشترط الواقف الاشهاد ، غير ان ذلك محل نظر، لأن رأي المالكية هو مطالبة المتولي بالبينة وان كان اميناً بنص الواقف ، في حين جعل المشرع المصري محاسبة المتولي بعد اتهامه وبنص القانون ومن هنا افترقا ، ونعتقد ان محاسبة المتولي في القانون المصري تقترب من الرأي الراجح عند الحنفية في محاسبة المتولي غير الامين . هذا وجوّز المشرع المصري للمحكمة الحكم على المتولي بمعاقبته بالغرامة او حرمانه من بعض أجره او كله اذا لم يقدم حسابه عن الوقف في الموعد المحدد او قدمه غير مؤيد بالمستندات او لم ينفذ ما كلفته به المحكمة فيما يتعلق بالحساب ، ولها ان تعفيه من هذه العقوبات اذا قدم حسابه، ونفذ ما أمرت به المحكمة وأبدى عذراً مقبولاً عن التأخير(3).

وفرق القانون الاردني بين محاسبة المتولي على الوقف الذري والمتولي الخاص على الوقف الخيري ، فقد نصت المادة (21) من قانون الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية رقم 32 لسنة 2001 على ان ((تتولى الوزارة مراقبة اعمال المتولين على الأوقاف الذرية وتبليغ المحكمة الشرعية المختصة عن أي مخالفة او تقصير وطلب عزل المتولي ومحاسبته)) ويتضح من هذا النص ، ان محاسبة متولي الوقف الذري يكون من المحكمة بعد اتهامه بالمخالفة للأحكام الشرعية او القانونية او نص الواقف في استغلال الموقوف وانفاق غلته او تقصيره في إدارة شؤون الوقف . وجاء في الفقرة ( د ) من المادة (23) من القانون بأن ((تتولى الوزارة مراقبة المتولين الخاصين على الوقف الخيري ومحاسبتهم والتأكد من عدم وقوع أي مخالفة او تقصير)) . يتضح من النص ان محاسبة المتولي على الوقف الخيري الإسلامي تكون من الوزارة بكونها متولياً عاماً على الأوقاف الخيرية ، وبتقديم حساباته اليها معززة بالبينة للتأكد من عدم مخالفته او تقصيره .

اما موقف القانون العراقي من محاسبة متولي الوقف ، فإنه يفهم من نصوص المادة الرابعة من قانون إدارة الأوقاف رقم 64 لسنة 1966 ، والمواد (13-17) من نظام المتولين رقم 46 لسنة 1970 ، ان محاسبة متولي الوقف الصحيح الإسلامي الملحق والذي تشمل متولي الوقف الخيري والمشترك والذري والعتبات المقدسة والوصي على الوصية التي تخرج مخرج الوقف ، تكون دورية سنوية الزامية بتقديم المتولي حسابات الوقف الذي تحت توليته الى دائرة الوقف المختصة من وارد ومصروفات لكل سنة مالية خلال الاشهر الثلاثة الاولى من السنة التالية معززة بالوثائق والمستندات، وتنظر لجنة محاسبة المتولين في دائرة الوقف في حساباته بتصديقها او ترفضها كلاً او بعضاً خلال ثلاثة اشهر من تاريخ تقديم حساباته بقرار منها تبلغه الى الدائرة والمتولي ، ولهما حق الاعتراض عليه لدى مجلس الأوقاف الاعلى خلال عشرة أيام من اليوم الذي يلي تاريخ التبليغ . غير ان المشرع العراقي استثنى المتولي من المحاسبة اذا كان هو الواقف نفسه ، وعدّ احد شراح القانون (4).

أن هذا الاتجاه الجديد للمشرع العراقي اقرب الى العدالة واكثر اتساقاً مع نظمه القانونية ولا سيما حكم المادة (14) من مرسوم جواز تصفية الوقف الذري رقم (1) لسنة 1955، والتي اعطت للواقف حق الرجوع عن وقفه الذري او المشترك ما دام حياً ، وفضلاً عن ذلك ، نعتقد ان المشرع العراقي كان اكثر انسجاماً مع الفقه الإسلامي لأن الواقف هو مصدر الوقف واعرف بشؤونه ومقاصده واحرص عليه من غيره ، فمن كان متصفاً بالخيرات والمبرات والنفع العام بوقف املاكه، فمن باب اولى ان لا يحاسب وحتى لا ينفر الخيرون عن ايقاف املاكهم . واجاز المشرع العراقي – استثناء- محاسبة متولي الوقف الملحق في حالات اخرى منها : عند عزله او استقالته عن المدة التي لم يحاسب عليها ، او عند الشكوى ضده بشأن كيفية ادارته للموقوفات او بصرف واردات الوقف ، او لدى احالة المتولي من قبل ديوان الأوقاف للمحاسبة اذا ثبت تقصيره او اهماله او سوء ادارته للوقف ، كما ويحاسب ورثة المتولي المتوفى او من يقوم مقامهم قانوناً في تركته ويطالبون بمبالغ واردات الوقف غير المصروفة عليه . ونعتقد ان اتجاه المشرع العراقي في موضوع محاسبة متولي الوقف بمطالبته بتقديم حساب تفصيلي بشكل دوري كل سنة سواء كان المتولي اميناً ام غير امين الى دائرة الوقف يتفق مع المذهب الحنبلي ، فقد جاء في فتاوى ابن تيمية ((لولي الامر ان ينصب ديواناً مستوفياً لحساب الاموال الموقوفة عند المصلحة)) (5).

وتجدر الاشارة الى ان المشرع العراقي جعل الوقف الذري في عداد الوقف الملحق في الفقرة (7) من المادة الأولى من قانون إدارة الأوقاف رقم 64لسنة 1966 ، وان ديوان الأوقاف يحاسب متولي الأوقاف الملحقة في الفقرة (1) من المادة الرابعة من القانون ، وبهذا يتضح ان متولي الوقف الذري يحاسب من قبل دائرة الوقف المختصة . ونص المشرع العراقي ايضاً في الفقرة (3) من المادة (300) من قانون المرافعات رقم 83 لسنة 1969 على اختصاص محكمة الاحوال الشخصية بالنظر في محاسبة متولي الوقف الذري ، وبذلك تكون محاسبته اما بطلب من المتولي او غيره، ويقدم حساباته للمحكمة من واردات ومصروفات الوقف الذري، او بدعوى محاسبة يقيمها احد المستحقين من الوقف الذري نيابة عن اصحاب الاستحقاق في الوقف بعد الأذن الشرعي من قاضي محكمة الاحوال الشخصية (6)، وبذلك يكون متولياً مؤقتاً منصوباً من القاضي حسب ولايته العامة لخصومة المتولي المتهم (7)، وما جرت عليه المحاكم انها تطالب المتولي بتقديم حساباته بالتفصيل مؤيداً ببينات تحريرية الا فيما قضى العرف به او ما شرط الواقف في توزيع الغلة على الفقراء (8) .

وذهب احد شراح القانون(9). الى أن المشرع العراقي، قد جعل اختصاص محاسبة متولي الوقف الذري مزدوجاً من قبل دائرة الوقف ومحكمة الاحوال الشخصية. ونعتقد انه لا يوجد ازدواج، وان الاختصاص لمحكمة الاحوال الشخصية لان القانون اللاحق يلغي السابق أو يعدله(10). ونأمل من المشرع العراقي ان يعالج ذلك بأن يبقي اختصاص محاسبته من قبل دائرة الوقف ويلغي اختصاص محكمة الاحوال الشخصية. وفضلاً عن ذلك ، فأن لمحكمة البداءه – التي تنظر في تصفية الوقف الذري – الحق في محاسبة متوليه (11). لأن لها الولاية العامة في الخصومات جميعها التي تتصل بتصفيته وما يتفرع عن ذلك (12).وتكون محاسبة دائرة الوقف بوصفها متولية على الأوقاف المضبوطة بصورة دائمة وعلى الأوقاف الملحقة بصورة مؤقتة سنوياً من قبل ديوان الأوقاف وديوان الرقابة المالية .

اما المتولون على أوقاف الطوائف غير المسلمة المعترف بها رسمياً في العراق ، فيتم محاسبتهم من قبل محكمة الاحوال الشخصية استناداً الى المادة (11) من بيان المحاكم رقم (6) لسنة 1917 والمادة (33) من قانون المرافعات. نخلص مما تقدم أن محاسبة متولي الوقف في القانون المقارن تقدم بشكل تفصيلي ومعززة بالادلة الكتابية ، ومنها عند اتهام المتولي على الوقف أي كان نوعه في القانون المصري وعند اتهام متولي الوقف الذري في القانون الاردني والعراقي، وبشكل دوري او عند اتهامه كما في محاسبة متولي الوقف الملحق في القانون العراقي . نعتقد ان محاسبة متولي الوقف الملحق في القانون العراقي ، هو الاتجاه الجدير بالتأييد من حيث جهة الاختصاص وكيفية المحاسبة والواقع العملي ، لأن دائرة الوقف هي الجهة المختصة التي تمتلك القدرات القانونية والحسابية والادارية في المحاسبة اكثر من غيرها، فضلاً عن ان محاسبتها وقاية للوقوف والمحافظة عليها من التجاوزات ولاستقرار المعاملات.

__________________

[1]-المادتان (50، 51) من قانون أحكام الوقف المصري ، تقابلها المادة (41) من قانون الأوقاف الذرية اللبناني ، والمادة –41- من قانون أحكام الوقف الليبي .

2- د. محمد سراج ، أحكام الوقف في الفقه والقانون ، من دون ناشر ، 1993 ، ص211 .

3- المادة –51- من قانون أحكام الوقف المصري ، تقابلها المادة (43) من قانون الأوقاف الذرية اللبناني ، والمادة –41- من قانون الوقف الليبي .

4- د. احمد علي الخطيب ، المصدر السابق ، ص172-173 .

5- تقي الدين ابن تيمية الحراني ، مجموع الفتاوى ، المجلد الثامن عشر ، جـ31 ، المصدر السابق ، ص40.

6- المادة – 306/1 -من قانون المرافعات ، وبالمعنى نفسه قرار محكمة التمييز في العراق المرقم 320/ شرعية /1974 في 25/1/1975 ، منشور في مجموعة الأحكام العدلية ، العدد الأول ، السنة السادسة ، 1975 ، ص127 .

7- د. احمد علي الخطيب ، المصدر السابق ، ص174؛ وتجدر الاشارة الى ان دعوى المطالبة بالاستحقاق او اكماله والثابت بشرط الواقف او بتعامل ثابت بحكم شرعي ، هي دعوى شخصية يقيمها المستحق على المتولي بوصفه ديناً بذمته لدى محكمة البداءة ، اما دعوى الاستحقاق من الغلة المتنازع عليها من حيث كون المدعي من ارباب الاستحقاق ام لا، فمرجع الاختصاص فيه محكمة الاحوال الشخصية، يراجع: محمد شفيق العاني ، اصول المرافعات والصكوك ، المصدر السابق ، ص275-276.

8- محمد شفيق العاني ، أحكام الأوقاف ، المصدر السابق ، ص76 .

9- مزاحم عبد القادر، المصدر السابق، ص97.

10- المادة –323- من القانون اللاحق المرافعات لسنة 1969، الغت كل نص في القوانين الاخرى السابقة- ومنها قانون الاوقاف لسنة 1966- يتعارض صراحة أو دلالة مع احكامه.

1[1]- قرار محكمة التمييز في العراق المرقم 58/مستعجل / 1964 في 22/5/1964 ، قضاء محكمة تمييز العراق ، المجلد الثاني ، القرارات الصادرة سنة 1964 ، ص322 ؛ وبالمعنى نفسه القرار المرقم 1/ تعيين اختصاص / 1968 في 22/6/1968 ، اشار اليه عبد الرحمن العلام ، شرح قانون المرافعات المدنية ، جـ4 ، المصدر السابق ، ص634-636 .

12- تراجع المادة – الرابعة /ب من مرسوم جواز تصفية الوقف الذري رقم (1) لسنة 1955 .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .