مقالة قانونية معمقة حول المساواة في الحقوق و الواجبات

رئيس المحاكم الشرعية السنية في لبنان
القاضي الشيخ عبد اللطيف دريان

——————————————-
المساواة بين الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم مبدأ أصيل في التشريع الإسلاميّ ، وهذا المبدأ مع أهميته لم يكن قائماً في الحضارات القديمة السابقة للحضارة الإسلامية ، إذ كان السائد تقسيم الناس إلى طبقات اجتماعية لكلّ منها مميزاتها وأفضليتها، أو على العكس من ذلك تبعاً لوضعها الاجتماعي المتدني ، وكانت التفرقة بين البشر في المجتمعات القديمة تستند إلى الجنس واللون ، والغنى والفقر ، والقوة والضعف ، والحرية والعبوديّة ، وكانت طبقة الحكّام ورجال الدِّين من الطبقات المميزة .

في العصر الحديث رفعت الثورة الفرنسية سنة 1789م شعار المساواة ، غير أن التجارب العملية أثبتت أن المبادئ والشعارات لا تكفي وحدها دون أن يكون هناك ما يُحدّد مضامينها ، ويُبين سبل وإجراءات تطبيقها ، ويفرض الجزاء عند مخالفتها ، وذلك ما نجده في التشريع الإسلاميّ في مبدأ المساواة بين الناس ، فهي تسوية أصلية بحكم الشرع ، ومضمونها محدد ، وأساليب تطبيقها واضحة ، والجزاء عند مخالفتها قائم ، وهو جزاء دنيويّ وأُخرويّ .

التسوية بين الناس في المفهوم الإسلامي تعني التسوية بينهم في حقوق الكيان الإنسانيّ ، الذي يتساوى فيه كلّ النّاس ، أما التسوية الحسابيّة في الحقوق الفرعية التي تؤدي إلى المساواة بين غير المتماثلين فإنها معنى يختلف عن التسوية في الآدمية التي كرّمها الله تعالى ، والتي تستند إلى مبادئ ثابتة وأصل واضح ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} ، فالنّاس كلّهم من نفس واحدة ، ويبين نبيّ الرحمة صلوات الله وسلامه عليه هذا الأصل في المساواة بقوله : (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ , مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ , وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ , لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ فَخْرَهُمْ بِرِجَالٍ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِدَّتِهِمْ مِنْ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ) .

وحينما تختلف أحوال الناس وأوضاعهم , وتختلف أزمنتهم وأمكنتهم ، ويوجد التنوع في الأجناس والألوان واللغات ، والغنى والفقر ، والقوّة والضعف ، والعلم والجهل ، ويختلف الموقع الاجتماعي والاقتصادي بين الناس ، حينذاك تفرض المجتمعات معايير للتفاضل بين الناس، إزاء هذا التنوع والاختلاف ، ولا بد من وضع معيار للتفاضل ، لأن المساواة المطلقة لا تكون إلا في الكيان الإنساني ، والمشكلة تبدأ عند وضع هذا المعيار ، بحيث لا يخل بمبدأ المساواة في ذاته ، ويجعل التفاضل وسيلة نمو ورقي ، وليس ذريعة للظلم والتفرقة بين الناس , وهذا ما جاء في الشرع الإسلامي حيث ترك كل المعايير السائدة للتفاضل،كالقوة والضعف ، والموقع الاجتماعي أو الاقتصادي , أو الطبقة التي ينتمي إليها الإنسان أو الجنس واللون ، والتي كانت قائمة في المجتمعات القديمة حين أنكر بعض الفلاسفة الأقدمين مبدأ المساواة ذاته ، مثل أفلاطون الذي قرر أن بعض الناس خُلقوا للحكم والسيطرة ، وبعضهم خُلق لكي يكون محكوماً يعمل من أجل غيره ، وحدد الإسلام معياراً واحداً للتفاضل ، يتساوى أمامه الخلق جميعاً على اختلاف أجناسهم وألوانهم ، هو معيار التقوى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .

فمعيار التفاضل بين الناس الذي حدده الإسلام يستطيع الارتقاء إليه كل البشر، ولا يقسم الناس إلى طبقات يعلو بعضها بعضاً ، وهو معيار يدفع إلى الرقيّ والسموّ بالإنسان،
والتقوى كمعيار للتفاضل هي معيار الكرامة الإنسانية عند الله تعالى ، وهي معيار الصلاح في الدنيا ، وهي معيار حقيقي وعملي ، إذ أن صلاح الإنسان في دنياه يجعله أفضل لنفسه وللمجتمع الذي يعيش فيه من غيره الذي لا يفيد نفسه ولا مجتمعه بشيء .

لقد ألغى الدين الإسلامي بهذا المعيار الحقيقي – التقوى – الذي يرتقي بحياة الإنسان والمجتمع كل المعايير الزائفة والتي أشار القرآن الكريم إلى الكثير منها، حيث يقول الله تعالى في الإنكار على أصحاب المعايير الزائفة في التفاضل: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} مما يدلّ على أنهم لم يؤمنوا لأنّ مَن هم أقل منهم قد آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء} ، وتذكر كتب السيرة أن وجهاء قريش ومن كانوا يحسبون أنفسهم سادة قومهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد الفقراء والمساكين وضعاف الناس الذين التفوا حوله وآمنوا به ، كعمار بن ياسر ، وبلال ، بحجة أنهم يريدون أن يستمعوا إليه ولكنهم لا يجلسون مجلساً يكون فيه هؤلاء محل الرعاية من الرسول الكريم ، فنزل قول الله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، وقال أيضاً صلوات الله وسلامه عليه في خطبته في حجة الوداع : (لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى) .

لقد أقامت الشريعة الإسلامية أصل المساواة في أحكامها على النحو الذي يجعل هذا الأصل وسيلة لرقي الإنسان, وتحصيل مصالح الحياة.

إن المفهوم الحقيقي للمساواة هو ليس مطلق المساواة ، وإنما المساواة في المفهوم الحقيقي هي العدالة ، والمساواة لها حدودها وشروطها ومعاييرها، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه هو المفهوم الإسلامي للمساواة ، وإن عدو المساواة هو التسلط ، والتسلط عدو المساواة بكافة أشكالها، فلا يكفي أن يعرف الأفراد المفاهيم الأساسية للعدالة والحرية المنضبطة والمساواة، بل يجب ألاَ يناقض المجتمع في ممارسته هذه المبادئ ، وإلا أصبحت حبراً على ورق وترسيخاً للازدواجيّة والانفصام في الشَّخصية ، وعندها يدرك الفرد أن الواقع مخالفٌ لما تعلّمه من المفاهيم ، والمفاهيم الإسلامية لو ردَّدناها شفويّاً ونظرياً ألف مرة وعارضتها ظواهر اجتماعية لن ترسخ في مجتمعاتنا ، والمساواة لا تصبح حقيقة ملموسة وشريعة متَّبعة إلا إذا تساوى الناس أمام الشريعة والنظام ، من هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده يحرصون أشدَّ الحرص على تنفيذ الشريعة والنظام على الجميع ، لأن بنيان الأمة لا يختل إلا بالتفرقة ، ولا تضيع مهابة التشريع والقانون واحترامه بين الناس إلا بالاستثناءات .

إن نظام الخلق تحكمه سنةٌ التفاضل لا التساوي ، والإسلام يحمي مبدأ العدل والإحسان، ولا يقر المساواة المطلقة كمبدأٍ عام ، إنما يقتضي العدل والمساواة حينما يكون واقع الأفراد متساويًا في كل الصفات ، فمطلب المساواة مع واقع التفاضل مطلبٌ ظالمٌ مخالف للحق والعدل ، وقد دلت النصوص القرآنية على وجود التفاضل بين المخلوقات ، قال تعالى : {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} .

وإن قاعدة العدل توجب التسوية بين كل فريقين متساويين ، وكل تفاضل على غير أساس من الحق والواقع في مفاهيم الناس في الإسلام ظلم اجتماعي ، كمفاهيم التفاضل الطبقي ، فالناس متساوون في عبوديتهم لله تعالى ، والخصمان في مجلس القضاء لهم من رعاية القاضي حقان متساويان ، والأصل تساوي الناس في حق العمل ، والكسب ، والتعليم ، والسبق لاغتنام خيرات الدنيا والآخرة ، فالعدل يستلزم إتاحة الفرص لهم جميعاً بنسب متساوية ، ثم يكون لكلّ بحسب ما يقدم من عملٍ أو جهدٍ أو أي كسب إرادي أو سبق في علم أو خلق أو رأي أو إخلاص ، والناس متساوون في إنسانيتهم ، فلا فضل لعرق على عرق ولا لقوم على قوم ، ولا لأهل لون على أهل لون آخر، ولا لأهل لسان على أهل لسان آخر ، فالإسلام يقوم في الحقوق على مبدأ العدل ، ولا يمكن أن يساوي الناقص بالكامل ، ولا يستوي الحق والباطل ، ولا العالم والجاهل …

إن مفهوم المساواة في الإسلام لا يعني المساواة في البؤس والذل والحرمان. فالمطلوب هو أن تكون المساواة غير مرتبطة بالعز أو مركز أو سلطان أو جاه أو مال فالإنسان بدونها كرمه الله ولا يستطيع مخلوق أن ينـزع هذه الكرامة أو يعلقها على شروط خارجة عن ذات الإنسان المنضبطة إسلاميّاً .