مقالة قانونية هامة حول العنف ضد المرأة

القاضي الشيخ محمد أحمد عساف
المحاكم الشرعية السنية في لبنان
—————————————–

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
المرأة هذا المخلوق الضعيف في تركيبته الخلقية ،القوي في شخصيته ، المظلومة من قبل مجتمع جائر ، صنفها من بين السلع التي تروجها شتى أنواع الدعايات على أنها مخلوق خلق لإثارة الشهوة، ليست كمعشر الرجال أساس في بناء المجتمع ، فالمرأة في نظر البعض ما هي إلا مخلوق يشفي غرائزه ، ومن هذه الغرائز الجائرة غريزة الضرب ، والشتم ، والقهر ، والإذلال ، فبعض الرجال يستلذ بضرب زوجته ، أو أي امرأة تقع عليها عيناه ، فذلك يشفي غليله ، ويروي ظمأه الشغوف في إذلال المرأة ، فيرى في ضعفها وقهرها رجولته الكاذبة ، يحسب أن الرجولة في الضرب وإذلال الغير ، غير عالم أن الرجولة تكمن في شخصية الرجل من حيث القول أو الفعل ، فالرجولة في القول ككلمة حق أمام ظالم جائر ، وفي الفعل أخذ موقف في حالة الشدة التي يصعب على الإنسان أخذ موقف عندها ، أو تحمل أذى الغير ،أو الوقوف أمام مظلوم في أخذ حقه ، فالرجولة ليست بقهر الآخرين ، ولا بممارسة العنف ضد الغير ، هذا الرجل الشهواني الذي لا يشبع غريزته الشهوانية إلا بممارسة شتى أنواع العنف ضد زوجته ما هو إلا كالبهائم التي ليس لها من الحياة غير الأكل والشرب والشهوة ، فهذا الصنف من البشر تعتريه عقد نفسية مركبة ، لا يشفيها إلا العودة و الاستيقاظ من الوهم الذي يعيشه ، وهم الرجولية الزائفة ، التي تسيطر على تصرفاته ، وتأخذ به نحو الانحطاط الخُلقي ، الذي يؤدي به إلى أسفل مراتب الإنسانية التي كانت سائدة في العصر الجاهلي الذي كان يعتبر المرأة كأي متاع في البيت ، يقامر بها عند الحاجة ، أو يبيعها عند العوز ، أو يعيرها لذي شأن لتستولد منه .

أتى الإسلام فرفع من شأن المرأة ، وجعلها في مصاف الرجال في الثواب والعقاب ،فمساواة المرأة بالرجل في الثواب نجده في قول الله سبحانه و تعالى: { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما } وقوله أيضا {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويُطيعون الله ورسولَه أولئك سيرحَمُهُم الله إن الله عزيز حكيم} ، وفي مساواتها مع الرجل في العقاب قوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءا بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم } المائدة 38 . وقوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } النور 2 . وفي حرية القول والفعل روى ابن عباس رضي الله عنهما “أن فتاة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله إن أبي زوجني من ابن أخ له ليرفع خسيسته وأنا له كارهة ، فقال لها : أجيزي ما صنع أبوك ، فقالت : لا رغبة لي فيما صنع أبي ، قال : فاذهبي فانكحي من شئت ، فقالت : لا رغبة لي عما صنع أبي يا رسول الله ولكني أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من أمور بناتهم من شيء ” وفي صحيح البخاري : “عن خنساء بنت خِذام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحَه ” .

وكذلك رفع الإسلام من شأن المرأة عندما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بهن خيرا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ، واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع أعوج ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا ” أخرجه البخاري . قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى : ” كأن فيه رمزا إلى التقويم برفق ، بحيث لا يبالغ فيه فيكسر ولا يتركه فيستمر على عوجه ” ، وقال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع : ” فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ” أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه ، قال الإمام النووي رشي الله تعالى عنه في هذا الحديث : ” فيه الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن ، ومعاشرتهن بالمعروف ، وقد جاءت أحاديث صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك ” ، كما نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن التعرض للمرأة بالضرب كالجلد أو الضرب على الوجه أو التحقير أو غير ذلك مما يهين المرأة ، ويذلها ، ويحقر من شأنها ، أخرج البخاري عن عبد الله بن زَمعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يجلد أحدُكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم “. قال ابن حجر رحمه الله تعالى : ” فوقعت الإشارة إلى ذم ذلك ، وأنه إن كان لا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير بحيث لا يحصل منه النفور التام ، فلا يفرط في الضرب ولا يفرط في التأديب ، عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه، قال : قلت : يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طعِمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت” .أخرجه أبو داود وقال : ” ولا تقبح أن تقول قبحك الله ” .

وفي رواية أخرى عن معاوية القشيري أيضا قال : ” أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فقلت م ما تقول في نسائنا : قال: أطعموهن مما تأكلون ، واكسوهن مما تكتسون ، ولا تضربوهن ، ولا تقبحوهن ” . قال الصنعاني في سبل السلام في قوله عليه الصلاة والسلام ” لا تقبح ” :” أي لا تسمعها ما تكره ، وتقول قبحك الله ونحوه من الكلام الجافي ” ، ولا يفهم من هذا الحديث كما يفهم بعض الجهلة ، أو قليلي العلم بأمور الدين من جواز ضرب المرأة مطلقا، وبأي طريقة شاءوا مستندين أيضا لقول الله سبحانه وتعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا } النساء 34 . قال الخليل : ” الوعظ : التذكير بالخير فيما يرق له القلب ” ، و جاء في تفسير القرطبي : ” والضرب في هذه الآية هو الضرب المؤدب غير المبرح ، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة ” ، وقال عطاء : قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح ؟ قال بالسواك ونحوه، وقال النووي رحمه الله تعالى : ” أما الضرب المبرح فهو الضرب الشديد الشاق ومعناه اضربوهن ضربا ليس بشديد ولا شاق ” والضرب هو آخر الدواء للمرأة الناشز أي الخارجة عن طاعة زوجها ، فالله سبحانه وتعالى أمر بادئ الأمر بالوعظ بالكلام اللين والتذكير بحق الرجل على امرأته ، مستدلا بذلك بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ، فإن لم تطعه انتقل إلى الدواء الثاني وهو الهجر في المضاجع ، فإن لم يستقم حالها ولم ترتدع عن العصيان ، والتذمر ، وعدم الإصغاء للأوامر الله سبحانه وتعالى في إطاعة الزوجة لزوجها كان الدواء الثالث وهو الضرب ، قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : ” قال جماعة من أهل العلم : الآية على الترتيب ، فالوعظ عند الخوف من النشوز ، والهجر عند ظهور النشوز ، والضرب عند تكرره ، واللجاج فيه ، ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز ، قال القاضي أبو يعلى : وعلى هذا مذهب أحمد ، وقال الشافعي : يجوز ضربها في ابتداء النشوز . والضرب هنا كما ذكرت سالفا من أقوال العلماء هو الضرب غير المبرح ، ولكن البعض يفهم من هذه الآية جواز الضرب على إطلاقه ، فيبتدئ به من دون التدرج في التأديب كما نصت عليه الآية الكريمة ، ومخالفا في ذلك أيضا بطريقة الضرب ، فيضرب زوجته ضربا مبرحا ، متجاوزا الحدود الشرعية التي أعطاها له الشرع في ضرب زوجته ، فالمقصود بجواز الضرب هو مجرد الإيلام البسيط الذي ترتدع معه الزوجة عن النشوز والعصيان ، كما فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنه بالضرب بالسواك ، ونحو ذلك ، والضرب بالسواك كما هو معلوم ليس كالضرب بالعصا أو بآلة حادة ، أو بشيء ثقيل ، يمكن أن تتأذى منه الزوجة إيذاء شديدا يستحيل معه دوام العيش مع زوجها ويبتدأ معه خراب البيت الذي على الزوج أولا أن يحصنه ، ويحرص على بقائه ، لا أن يساهم في تدميره ، من أجل شهوة حيوانية ، يظن معها أنه يحمي رجولته ، ويقوي هيبته أمام عائلته ، فالضرب المؤذي منهي عنه شرعا ،فالضرب الذي أمر به الشرع هو الضرب المؤدب الذي تعود معه المرأة طائعة لزوجها ضمن حدود الشرع ، ولا يجوز له أن يضربها ولو ضربا غير مبرح إذا عصته في أمر فيه مخالفة للشرع ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فإن أجبرها على محرم أن في ارتكاب معصية وخالفته في ذلك لا تعد ناشزا ولا يحق له ضربها ولا حتى هجرها ، ونقفل ابن جحر في الفتح : ” ولأن ضرب المرأة إنما أبيح من أجل عصيانها زوجها فيما يجب من حقه عليها ” ، وقال رحمه الله تعالى : ” وقد جاء النهي عن ضرب النساء مطلقا ” .

وكذلك من أساليب العنف ضد المرأة كشف سرها فيما يحصل معها عند المعاشرة الزوجية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إن من أشرِ الناس يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها ” . أخرجه مسلم في صحيحه ، قال النووي رحمه الله تعالى : ” وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل مل يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك ، وما يجري من المرأة من قول أو فعل ونحوه ” . ففي ذلك أذية لها ، وحط من قدرها ، خاصة إذا علمت ذلك ، وكذلك لا يحل لها أن تفعل هذا الأمر بزوجها .

وخلاصة القول في هذا الموضوع ، أن العنف ضد المرأة لا يكون فقط بالضرب، أو الشتم والسباب ، والتنابز بالألقاب ، ولكن في رأي يكون في أمور كثيرة سواء كانت المرأة زوجة أو أما ، أو بنتا ، أو أختا ، أو غير ذلك من النساء ، وعلى ذلك يكون العنف في الأمور التالية :

1- الضرب المبرح والمؤذي .

2- التقبيح والتحقير في الكلام .

3- الحط من كرامتها .

4- استغلالها و جعلها بضاعة للدعاية والترويج .

5- التعامل معها على أنها شيء من أثاث البيت ناقصة عنه .

6- عدم الإنفاق عليها كما أمر الشرع من مأكل وملبس ومسكن شرعي .

7- حرمانها من إبداء الرأي .

8- حرمانها من التعليم .

وهناك أمور من العنف خاصة بالزوجات ، وهي :

1- الهجر في المضجع وفي الكلام بغير مسوغ شرعي .

2- حرمانها من زيارة أهلها ومحارمها .

3- حبسها في المنزل .

4- إفشاء ما أفضت إليه .

وكذلك كما أنه لا يجوز العنف ضد الزوجة كذلك لا يجوز العنف ضد الآباء والأولاد والاخوة وغيرهم ، فالعنف منهي عنه شرعا ، قال الله تعالى في حق الوالدين : { ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا معروفا } فقال الله تعالى { أف } وهي أقل طرق الأذى ليدل على النهي عن الإيذاء الشديد وما هو دونه ، فإن كان لا يجوز الإيذاء بكلمة أف فمن باب أولى أن ما فوق ذلك لا يجوز كالضرب والحبس ، والمنع من الطعام والشراب ، والطبابة ، أو وضعهما في مصح مع قدرته على خدمتهما في منزلهما أو منزله .

وأخيرا أختم كلامي هذا بقول الله سبحانه وتعالى : { وعاشروهن بالمعروف } النساء 19 . وقول الرسول عليه الصلاة والسلام : ” واستوصوا بالنساء خيرا ” . والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
القاضي الشيخ محمد أحمد عساف