تتطلب العقود الهامة ان يتم التعبير عن الرغبة في التعاقد معها ان يكون تعبيراً صريحاً حتى يتبين للطرف الاخر ان المقصود من العرض الذي وصل اليه هو الايجاب بحد ذاته، بحيث لا يُثار أي شك او منازعات حول مدلول ذلك العرض ، ولذا يجب ان يكون الايجاب صريحاً. والواقع ان ثمة طريقتين توافر العمل على اتباعهما عند ابرام مثل هذه العقود الهامة فقد يوجه الايجاب بالتعاقد الى شخص معين دون الدعوة الى المنافسة بشأنه وهذا هو اسلوب (التعاقد المباشر) وقد يوجه هذا الايجاب الى افراد الجمهور مع الدعوة الى المنافسة وهذا هو اسلوب (التعاقد بطريق المناقصة)(1).

وفيما يأتي عرض لكلتا الطريقتين لنرى شكل الايجاب بالتعاقد فيهما.

أ. الايجاب في التعاقد المباشر

يتم التعاقد بين الافراد والشركات الخاصة عادة عن طريق التعاقد المباشر، أي من خلال التوجه الى شخص معين للتفاوض معه دون سواه من اجل ابرام العقد، اذ يفضل المتعاملون ورجال الاعمال في كثير من الاحيان التعاقد مع شخص معين مباشرة، وذلك لتحقيق اهداف معينة. فقد يود صاحب الصفقة ان يجري التفاوض عليها في سرية تامة، وذلك لكي لا يتدخل احد منافسيه في التفاوض لافساد الصفقة عليه. ولاشك ان التعاقد المباشر مع شخص معين دون الدعوة الى المنافسة يضمن له السرية وسرعة انجاز المرحلة السابقة على التعاقد باكملها والتوصل الى اتفاق بكل ما يخص العقد المراد ابرامه(2).وقد يفضل صاحب المشروع ان يستعين بمقاول معين لما له من شهره وسمعة طيبة بين أقرانه، او لوجود تعامل سابق معه حاز على رضاه، ويرغب من ثم في الاستمرار في التعامل معه، بل قد يضطر الشخص الى اتباع هذا الطريق في التعاقد، كما لو كان مرتبطاً بوعد التفضيل يلزمه باختيار المستفيد للتفاوض معه دون سواه. وقد يكون الراغب في التعاقد واقعاً تحت ضغوط سياسية تدفعه الى التعاقد مع شركة اجنبية تابعة لدولة معينة توجد بينها وبين دولته اتفاقية تعاون في مجال المشروع المراد تنفيذه(3).

وقد يكمن السبب الحقيقي لاختيار شخص معين للتعاقد معه مباشرة في احتكار هذا الاخير لطريقة الصنع. ففي عقود نقل التكنولوجيا –مثلاً- فان الطرف المتلقي لايجد غالباً مجالاً للاختيار بين اكثر من مورد، وانما يكون مضطراً الى اللجوء الى مورد وحيد يحوز تكنولوجيا معينة(4) وقد تلجأ الادارة الى اتباع هذا الاسلوب في التعاقد عند ابرام العقد الاداري، وذلك في الحالات العاجلة، او اذا كانت قيمة العقد زهيدة، او اذا كان التعاقد لشراء اشياء محتكرة، او اذا كانت هناك اتفاقية تعاون مع دولة اجنبية تلزم الادارة بالتعاقد مع مقاول في هذه الدولة(5). يتخذ الايجاب في التعاقد المباشر صورة الدعوة الى التعاقد بمفهومها التقليدي، حيث توجه الدعوة الى الطرف الاخر شفاهة وذلك بمخاطبته وجهاً لوجه، او بالاتصال به تليفونياً ، او بارسال رسول محملاً بهذه الدعوة(6). وقد يتم توجيه هذه الدعوة الى الطرف الاخر كتابة من خلال ارسال خطاب اليه، اما عن طريق البريد العادي او البريد الالكتروني (الايميل)، او البرق، او الرسول او التلكس، او الفاكس او غير ذلك من وسائل المراسلة. بل انه ليس مستعداً ان توجه الى الطرف الاخر الاشارة المتداولة عرفاً، أي الاشارة التي تواضع الناس على معنى خاص لها(7). وقد جرت عادة رجال الاعمال خاصة في مجال التجارة الدولية على ارسالة الدعوة الى التعاقد او الايجاب الى الطرف الاخر عن طريق ما يسمى “خطاب النوايا” وذلك للدلالة على جدية هذا الايجاب ورسميته(8).

ب. الايجاب في التعاقد بطريق المناقصة

يتخذ الايجاب بالتعاقد بطريق المناقصة ، صورة الدعوة الى المناقصة وهي الدعوة العلنية التي يوجهها شخص الى افراد الجمهور عن طريق وسائل الاعلام المختلفة (صحف، تلفزيون… الخ) ويدعوهم فيها الى ان يتقدموا بعروض تنافسية بشأن عقد معين يريد ابرامه، وذلك لكي يختار من بينها افضل عرض. ولذا يطلق على هذه الدعوة، ولاسيما في المناقشات الخاصة (اسم الدعوة الى تقديم عروض)(9). هذا وان اوضاع الايجاب في التعاقد بطريق المناقصة يختلف من حالة الى اخرى بحسب نطاقها. فقد تكون دعوة عامة او مقيدة، او جامعة بين الصفتين. فعندما تكون عامة، معنى ذلك ان توجه الى كافة افراد الجمهور للمشاركة في المناقصة المعلن عنها، بحيث يستطيع أي فرد او اية شركة ان تتقدم بعطاء في هذه المناقصة. وتعد هذه الصورة العادية والمألوفة للدعوة الى التعاقد بطريق المناقصة(10). اما الدعوة المقيدة فهي دعوة توجه الى عدد محدود من الافراد او الشركات، بحيث تكون المناقصة قاصرة عليهم وحدهم دون سواهم. وقد يكون صاحب الشأن مضطراً الى تقييد المناقصة، وذلك عندما يكون عدد المنافسين محدوداً، او بسبب الامكانيات المالية والقدرات الفنية اللازمة للمشروع، او بسبب ارتقاء المستوى التكنولوجي المطلوب او بسبب وقوعه تحت ضغوط سياسية معينة، كوجود اتفاقية بين دولته ودولة اخرى في هذا المجال، او لكون المناقصة تتطلب التقيد بعض الاحيان مع جهة تحافظ على سرية التعامل لكون طبيعة الموضوع تقتضي ذلك كما في المشروعات المنتجة للتكنولوجيا غير انه بامكان صاحب الشأن ان يجمع بين هاتين الطريقتين في مشروع واحد(11). وعلى هذا فان الدعوة الى المناقصة هي مجرد ايجاب بالتفاوض، اما التقدم بعطاء في مناقصة فهو الذي يعتبر ايجاباً بالعقد، شريطة ان يأتي هذا العطاء خالياً من أي تحفظ. وقد اكدت على ذلك صراحة محكمة النقض المصرية، اذ قضت بانه : “من المقرر في قضاء هذه المحكمة ان طرح المناقصات التوريد، وغير ذلك من البيانات الموجهة للجمهور او الافراد، كالنشرات والاعلانات، لا تعتبر ايجاباً، وانما مجرد (ايجاب بالتفاوض)، والاستجابة لهذه الدعوة هي التي تعتبر ايجاباً“(12). .. ومن جانبها قضت المحكمة الادارية العليا بان “اعلان الادارة عن اجراء مناقصة او مزايدة او ممارسة لتوريد بعض الاصناف عن طريق التقدم بعطاءات ، ليس الا (دعوة الى التعاقد)، وان التقدم بالعطاء وفقاً للمواصفات والاشتراكات المعلن عنها هو الايجاب الذي ينبغي ان يتلقى عنده قبول الادارة لينعقد العقد“(13).

__________________

1- ينظر: عبد الناصر توفيق العطار، نظرية الالتزام في الشريعة الاسلامية والتشريعات العربية، الكتاب الاول، مصادر الالتزام (العقود والعهود)، اسيوط، 1990، ص40؛ د. الوسيط في نظرية العقد مع المقارنة والموازنة بين نظريات الفقه الغربي وما يقابلها في الفقه الاسلامي والقانون المدني العراقي، الجزء الاول، مصادر العقد (اركان العقد)، بغداد، شركة الطبع والنشر الاهلي، 1967، ص136.

2- ينظر د.احمد حشمت ابو ستيت، نظرية الالتزام في القانون المدني الجديد، الكتاب الاول، مصادر الالتزام، ط2، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1954، ص75؛ د.حسام كامل الاهوائي، الحق في احترام الحياة الخاصة، الحق في الخصوصية، دراسة مقارنة، القاهرة، دار النهضة العربية، 1978، ص69 ومابعدها؛ د.محمود عبد الرحمن، نطاق الحق في الحياة الخاصة، القاهرة، دار النهضة العربية، 1994، ص229 ومابعدها.

3- ينظر د.سعيد جبر، احكام الالتزام، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1997، ص15؛ د. عبد المنعم البدراوي، النظرية العامة للالتزام في القانون المدني المصري، الجزء الاول، مصادر الالتزام، بلا مكان طبع، بلا اسم مطبعة ، 1989، ص155؛ د.سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني، ج3، في العقود المسماة، المجلد الاول، عقد البيع، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1990، ص149؛ د. سليمان محمد الطماوي، الاسس العامة للعقود الادارية (دراسة مقارنة)، الطبعة الثالثة، القاهرة، دار الفكر العربي، 1975، ص352.

4- ينظر: د.حسام محمد عيسى، ، نقل التكنولوجيا، دراسة في الآليات القانونية للتبعية الدولية، بلا مكان طبع، دار المستقبل العربي، 1987، ص61؛ د.غنام محمد غنام، الحماية الجنائية لاسرار الافراد لدى الموظف العام، القاهرة، دار النهضة العربية، 1987، ص25؛ د.خالد حمدي عبد الرحمن، الحماية القانونية للكيانات المنطقية (برامج المعلومات)، اطروحة دكتوراه مقدمة الى كلية القانون-جامعة عين شمس،1992، ص30.

5- والمقصود بأن قيمة العقد زهيدة، هي ان تلك العقود التي تكون قيمتها من الضالة بحيث لا تسوّغ نفقات واجراءات بيعها بطريق المناقصة. ينظر: د.سليمان محمد الطماوي، مصدر سابق، ص927. ينظر : د. علي ابراهيم، الوسيط في المعاهدات الدولية، الابرام، الطبعة الاولى، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1955، ص150 ومابعدها ؛ د يكن، القانون الاداري، بيروت، صيدا، منشورات المكتبة العصرية، بلا عام طبع ، ص238 ومابعدها.

6- ينظر: د. محمود سعد الدين الشريف، شرح القانون المدني العراقي، نظرية الالتزام، الجزء الاول، في مصادر الالتزام، بغداد، مطبعة العاني، 1955، ص161.

7- ينظر: د. محمد لبيب شنب، دروس في نظرية الالتزام، مصادر الالتزام، القاهرة، دار النهضة العربية، 1977، ص .

– وعلى ذلك تنص المادة 79 من القانون المدني العراقي على انه “كما يكون الايجاب او القبول بالمشافهة يكون بالمكاتبة وبالاشارة الشائعة الاستعمال ولو من غير الاخرس وبالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي وباتخاذ أي مسلك اخر لا تدع ظروف الحال شكا في دلالته على التراضي. ينظر: نصوص القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 وتعديلاته.

8- ينظر: د.محمد حسام لطفي، عقود خدمات المعلومات، دراسة مقارنة في القانونين المصري والفرنسي، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1994، ص17؛ د.حسام كامل الاهوائي، اثبات عقود التجارة الالكترونية، بحث مقدم الى مؤتمر القانون وتحديات المستقبل في العالم الغربي، نظمته كلية الحقوق- جمعة الكويت للفترة من 25-27 اكتوبر، 1997، ص14؛ د. نبيل ابراهيم سعد، الضمانات الغير المسماة في القانون الخاص في نطاق قانون الالتزامات وفي نطاق قانون الاموال، دراسة مقارنة، الاسكندرية، منشأة المعارف، 1991، ص6.

9- ينظر: د.محمود خلف الجبوري، النظام القانوني للمناقصات العامة، دراسة مقارنة، بلا مكان طبع، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1999، ص68.

– والواقع ان المناقصة تجد اصلها في القانون الاداري، اذ تجبر الادارة قانوناً على اتباع طريق المناقصة عند ابرام بعض العقود الادارية والتي عرفتها المحكمة الادارية العليا بانه “العقد الذي يبرمه شخص معنوي من اشخاص القانون العام بقصد ادارة مرفق او بمناسبة تسييره وان تظهر نيته في الاخذ باسلوب القانون العام وذلك يتضمن العقد شرطاً او شروطاً غير مألوفة في عقود القانون الخاص. ينظر: د.سليمان محمد الطماوي، مصدر سابق، ص22 ومابعدها؛ د.سعاد الشرقاوي، العقود الادارية، القاهرة، دار النهضة العربية، 1995، ص32؛ د.جابر جاد نصار، المفاوضات العامة، القاهرة، بلا اسم مطبعة ، 1996، ص25.

10- د.سليمان الطماوي، مصدر سابق، ص213 و ص214.

11- د. محمد عبد الظاهر حسين، الجوانب القانونية للمرحلة السابقة على التعاقد، القاهرة، المؤسسة الفنية للطباعة والنشر، 2001-2002، ص40؛ د.نصيرة بو جمعة سعدي، عقود نقل التكنولوجيا في مجال التبادل الدولي، رسالة دكتوراه مقدمة الى كلية القانون، جامعة القاهرة، 1960، ص303؛ د. حسام محمد عيسى، نقل التكنولوجيا، دراسة في الاليات القانونية للتبعية الدولية، بلا مكان طبع، دار المستقبل العربي، 1987، ص134.

12- نقص مدني 22 ديسمبر 1986/ المجموعة س 37، رقم 205، ص1008.

13- حكم 333 السنة 10ق، 2/ 12/ 1967؛ نقلاً عن د. رجب كريم عبد اللاة، التفاوض على العقد، دراسة مقارنة، اطروحة دكتورات مقدمة الى كلية القانون، جامعة القاهرة، 2000، ص 390-391.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .