استبعاد تطبيق القانون الاجنبى لمخالفتة للنظام العام
يمكن للقانون الأجنبي الواجب التطبيق أن يُستبعد اذا ظهرت بعض المشاكل بشأنه, قد يحدث ذلك عندمــا يتعارض مضمون هذا القانون الأجنبي مع المفاهيم الأساسية و المبادئ القانونية المستقر عليها دولة القاضي، و هنا يمكن للقاضي الوطني استبعاده بسبب مخالفته للنظام العام، كما أن القانون الأجنبي قد يثبت له الإختصاص عن طريق التغيير الإرادي الإحتيالي لضابط الإسناد للهروب من أحكام قانون معين هو المختص أصلا بحكم النزاع، وهنا يمكن للقاضي الإمتناع عن تطبيقه بسبب “الغش نحو القانون “.

إن معظم التشريعات في العالم قد أوجبت على القاضي الإمتناع عن تطبيق القانون الأجنبي إذا خالف النظام العام أو إذا ثبت له الإختصاص بواسطة الغش نحو القانون كأسباب عامة لاستبعاد القانون الأجنبي، ومنها المشرع الجزائري الذي ينص في المادة 24/1 من القانون المدني الجزائري: ” لا يجوز تطبيق القانون الأجنبي بموجب النصوص السابقة إذا كان مخالفا للنظام العام أو الآداب العامة في الجزائر، أو ثبت له الاختصاص بواسطة الغش نحو القانون >

و على هذا الاساس سوف نتطرق أولا إلى النظام العام كسبب لاستبعاد القانون الأجنبي و في موضوع لاحق إلى الغش نحو القانون
°°النظــــام العـــام°°

عندما تعين قاعدة الإسناد الوطنية قانونا أجنبيا لحكم العلاقة القانونية المطروحة أمام القاضي، فإن هذا التعيين يكون محددا بشرط هام و هو عدم التعارض الجوهري بين مضمون هذا القانون، و الركائز التي يقوم عليها النظام القانوني في دولة القاضي. و هو ما يعرف اختصارا باسم النظام العام >

</إن فكرة النظام العام كانت معروفة منذ نشأة تنازع القوانين، غير أنها استعملت في بادئ الأمر كأداة لتثبيت الإختصاص للقانون الوطني، و استعملت فيما بعد من طرف الفقيه الألماني سافيني كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي، لكن رغم ذلك فإن مفهومها ظل غامضا و يصعب ضبطه، رغم اتفاق أغلب التشريعات على آثارها في استبعاد القانون الأجنبي المختص و تطبيق القانون الوطني مكانه، غير أنه مع ذلك فإن أغلب الفقه يفرق بين أثر النظام العام عندما تنشأ المراكز القانونية في دولة القاضي حيث يكون لفكرة النظام أثرها كاملا و أثرها عندما تنشأ المراكز في دولة أجنبية و تنتج آثارها </في دولة القاضي حيث يكون أثرها مخففا.

تـطـور فــكـرة الــنـظـام الـعـام : 

استعملت فكرة النظام العام في بادئ الأمر كأداة لتثبيت الإختصاص للقانون الوطني ولم تبرز بمفهومها الحالي كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي إلا مع الفقيه الألماني سافيني

1- الـنظـام الـعام كـأداة لـتثبـيت الإخـتـصاص للقـانـون الـعام الوطـني
بدأت الملامح الأولى لفكرة النظام العام مع المدرسة الإيطالية القديمة حيث كان الفقيه بارتولي “” يفرق بين الأحوال الملائمة التي يمكن أن يمتد تطبيقها إلى خارج الإقليم و الأحوال المكروهة التي يقتصر تطبيقها على داخل الإقليم

ثم جاء الفقيه الايطالي مانشيني > >” رائد مدرسة شخصية القوانين و استعمل النظام العام كأداة لتثبيت الإختصاص للقانون الوطني كاستثناء على نظريته، مبررا ذلك بكون هذه القوانين لا تشكل جزءا من القوانين الشخصية، و بكونها ضرورية لصيانة النظام العام على الإقليم، مثل القوانين المتعلقة بالملكية العقارية و المسؤولية التقصيرية. 

2- الـنـظـام الـعـام كـأداة لاسـتـبـعـاد الـقانـون الأجـنبي
أول من استعمل فكرة النظام العام كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي هو الفقيه الألماني سافيني، فبعد أن عرض نظريته في الإشتراك القانوني التي تسمح للدول الأوروبية بتطبيق قوانين بعضها البعض، أشار إلى استثناء هام خول بموجبه لقاضي الإمتناع عن تطبيق القانون الأجنبي إذا ما تبين له انقطاع ” الوحدة القانونية ” بين قانونه و القانون الأجنبي المختص

وقد أخذ الفقه الحديث عن سافيني نظريته للنظام العام كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي دون أن يشترط مسبقا وجود” اشتراك قانوني “، و ذلك لأن سافيني وجه نظريته في التنازع إلى الدول الأوروبية قبل أن تنتشر و تأخذ بها أغلب دول العالم.

الـفـرع الـثـانـي: صعـوبـة ضـبط فكرة الـنظام العام كأداة لاستبـعاد الـقانون الأجنبي:

رغم أن الفقه الحديث مجمع على أهمية فكرة النظام العام و دورها كأداة لاستبعاد القانون الأجنبي </>إلا أنه يبقى مختلفا مع ذلك حول تحديد مضمونها، و مع ذلك فإن هناك اتفاق حول تحديد هدفها، و هي أنها تمكن القاضي من استبعاد القانون الأجنبي المختص إذا تعارض تطبيقه مع الأسس السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية السائدة في الدولة.</>
وهي على هذا الأساس فكرة مرنة و متطورة تختلف باختلاف الزمان و المكان، فما يعتبر اليوم من النظام العام قد لا يعتبر في المستقبل كذلك، و ما يعتبر متعارضا مع النظام العام في دولة ما قد لا يعتبر في دولة أخرى كذلك. فهي فكرة لا تتجسد إلا عندما تقوم بوظيفتها و يصعب تحديدها قبل ذلك.

وقد أدت الاعتبارات السالفة الذكر إلى إعطاء القاضي سلطة واسعة في تقديرها حسب المفاهيم السائدة في دولته على أن القاضي لا يقتصر في تقديره لمدى تعارض القانون الأجنبي مع النظام العام في دولته على مضمون هذا القانون، و إنما إضافة إلى ذلك على الأثر الذي يتركه تطبيق هذا القانون على النزاع، إذ قد يكون القانون الأجنبي في ظاهره، غير أن الأثر الذي يترتب عن تطبيقه هو الذي يتعارض مع النظام العام.

ويضيف الفقه الألماني معيارا آخر، و هو ضرورة وجود صلة بين النزاع و دولة القاضي، و في هذه الحالة يجب التفريق بينما إذا كان تطبيق القانونية الأجنبي المتعارض مع النظام العام ينتج أثاره في دولة القاضي أم خارجها، و هذا الرأي تبنته مؤخرا محكمة النقض الفرنسية.

في قرار لها صادر بتاريخ 10 فيفري 1993 في قضية تتعلق بإثبات النسب الطبيعي إذ نص هذا القرار ” إذا كان القانون الأجنبي الذي يمنع إثبات النسب الطبيعي لا يتعارض مبدئيا مع المفهوم الفرنسي للنظام العام، إلا أنه يتعارض مع هذا النظام إذا كان يحرم طفلا فرنسيا، أو مقيما بصفة دائمة في فرنسا من حقه في إثبات نسبه، مما يتعين معه استبعاد هذا القانون الأجنبي “.

الــفــرع الــثــالــث : أثـر الـنـظــام الـعــام

إذا تعارض القانون الأجنبي مع النظام العام في دولة القاضي، ترتب على ذلك أثران: أثر سلبي و هو الإستبعاد الجزئي أو الكلي للقانون الأجنبي و أثر الإيجابي و هو ثبوت الإختصاص للقانون الوطني.
</>
1- الأثـر الـسـلبـي للـنـظـام الـعـام

يتمثل الأثر السلبي للنظام العام في اسبتعاد تطبيق القانون الأجنبي لكن السؤال الذي يطرح هنا هو هل يتم استبعاد القانون الأجنبي كليا أم يستبعد منه الجزء المتعارض مع النظام العام فقط؟

إن الإجابة على هذا السؤال من طرف الإتجاه الفقهي الغالب هو أن الأثر السلبي للنظام العام ليس من شأنه استبعاد القانون الأجنبي كليا، و إنما ينحصر هذا الأثر في الجزء الذي يتعارض مع النظام العام، و يطبق القانون الأجنبي على باقي عناصر النزاع. و هذا الرأي له تطبيقات عديدة في القضاء القانون الفرنسي ففي قـرار صادر عن محكمة النقض الفرنسية بـتاريخ: 17/11/1964 جاء فيـه :

” أن ما تنص عليه أحكام الشريعة الإسلامية في الميراث لا يمس النظام العام في فرنسا، إلا في منعها التوارث بين المسلم و غير المسلم و من ثم يتعين استبعاد أحكام الشريعة الإسلامية في هذه النقطة و حسب، من دون أن يحل القانون الفرنسي محل القانون الأجنبي الإسلامي في بيان مراتب الورثة وأنصبتهم”. و هو الرأي نفسه الذي سار عليه القضاء المصري.

و يستند هذا الاتجاه إلى حجج عدة منها أنه ينبغي استخدام الدفع بالنظام العام </>بحذر شديد، و وفقا للغاية التي يسعى إلى تحقيقها، أي بالقدر الذي يمنع المساس بالمبادئ الأساسية السائدة في دولة القاضي </>كما أن الدفع بالنظام العام لا يهدف إلى إصدار حكم قيمي على القانون الأجنبي برمته، و إنما يهدف فحسب إلى استبعاد النتيجة المخالفة للنظام العام و متى أمكن ذلك عن طريق الإستبعاد الجزئي كان ذلك أمرا مقبولا.

غير أن هذا الحل يرد عليه استثناء وحيد، و هو في حالة ما إذا كان ثمة ارتباط بين أجزاء القانون الأجنبي بحيث يكون من المستحيل استبعاده جزئيا ففي هذه الحالة يستبعد القانون الأجنبي كليا.

2- الأثـر الإيـجـابـي للـنظـام الـعـام :
الأثر الإيجابي للنظام العام هو تطبيق القانون الوطني للقاضي محل القانون الأجنبي المستبعد، و هو ما تبناه المشرع الجزائري بنص المادة 24/2 من القانون المدني. فالدفع بالنظام العام هو بهذا مسألة موضوعية على خلاف ما ينظر إليه في البلاد الأنكلوسكسونية على أنه مسألة إجراءات، حيث تكتفي المحكمة باستبعاد تطبيق القانون الأجنبي و تحيل الأطراف إلى المحكمة أخرى.</>
ورغم أن الاتجاه الفقهي الغالب و معظم التشريعات تؤكد أن الأثر الإيجابي للنظام العام هو تطبيق قانون القاضي، إلا أن جانبا من الفقه الألماني يرى أن الأثر الايجابي هو تطبيق نص قانوني آخر من القانون الأجنبي لا يتعارض مع النظام العام. ويستند هذا الاتجاه إلى قرار صادر عن محكمة النقض الألمانية استبعدت نص القانون السويسري الذي يمنع تقادم الدين محل النزاع بسبب تعارضه مع النظام العام، و أخضعت الدين إلى أطول مدة تقادم نص عليها القانون السويسري نفسه.

إلا أن هذا لرأي محل نقد لكون القانون الأجنبي المطبق في هذه الحالة لا علاقة له بالنزاع كما أنه لا يمكن تطبيقه في اغلب الحالات التي يصعب فيها العثور على نص قانوني بديل.

الـــفــرع الــرابــع: الأثـر الـمـخـفـف لـنـظـام الـعـام 
يميز الفقه والقضاء عادة في مجال أثر النظام العام بين الحالة التي تنشأ فيها الحقوق في دولة القاضي، حيث يكون للنظام العام أثره كاملا »، و بين الحــالة التي تنشأ فيها الحقــوق في ظل قانون دولة أجنبيــة و تنتـج آثــارها في دولة القاضي حيث يكون للنظام العام أثرا مخففا

>و تستند هذه الفكرة إلى أنه ثمة حالات يتعارض فيها القانون الأجنبي مع النظام العام، سواء نشأ الحق موضوع النزاع في الخارج أو في دولة القاضي، و هناك حالات أخرى يتعارض فيها فقط إذا نشأ في دولة القاضي، و لهذا الموقف عدة تطبيقات في القضاء الفرنسي، منها أن محكمة النقض الفرنسية قضت بعدم الإعتراف بحق الملكية الذي اكتسب في الخارج عن طريق نزع الملكية دون تعويض، و بالمقابل فإنها تعترف بآثار الطلاق بالإرادة المنفردة. وكذلك تعدد الزوجات الذي نشأ في الخارج رغم أن القانون الفرنسي لا يقره، لكن إذا أريد الإعتراف ببعض آثاره كحق الزوجة في طلب النفقة أو الإرث فإن هذا الأثر ليس فيه ما يمس النظام العام في فرنسا.

غير أن هناك حالات أخرى لا يعترف فيها القضاء الفرنسي بآثار هذا الزواج، و ذلك متى كان للنزاع علاقة بالقانون أو الإقليم الفرنسي، و من ذلك على سبيل المثال ما جاء به قرار محكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 01 مارس 1973 الذي اعتبر فيه: ” أن الزوجة الثانية لزوج جزائري لا يمكنها المطالبة بمنحة الضمان لاجتماعي، ما دام أن الزوجة الأولى قد استفادت منه لتعارض ذلك مع النظام العام في فرنسا”.