التحكيم والمصالحة في مسار العدالة الانتقالية 

بقلم خالد الكريشي

“يستطيع الأطراف تفضيل التحكيم على القضاء ذلك أن المحكم يرى العدالة بينما لا يعتد القاضي إلا بالتشريع ” أرسطو

من أغرب و أروع ما قرأت من تبريرات لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية من بعض رجال السياسة والقانون والإقتصاد أنه جاء ربحا للوقت وإختصارا للمسافات والآجال التي مازالت تفصلنا عن إنهاء هيئة الحقيقة و الكرامة لمهامها بعد سنتين و نصف ،هذا إذا لم يتم التمديد لها بسنة أخرى، وكأن في ذهنهم فقط أن الهيئة ستشرع في إنجاز المصالحة الاقتصادية في خاتمة إنهاء مهامها دون أن يكلفوا أنفسهم إلقاء نظرة على قانون العدالة الإنتقالية أو الإطلاع على سير عمل لجنة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة التي شرعت في معالجة ودراسة ملفات التحكيم والمصالحة التي تشمل كل الانتهاكات بما فيها إنتهاكات الفساد المالي والاعتداء على المال العام والواردة عليها منذ إحداثها قبل عدة أشهر ؟؟ وأن الوضع الاقتصادي المتردي لايتحمل الانتظار كل هذه المدة وأن الجماعة ليس لهم صبر أيوب لكي تمطر السماء ذهبا من جراء المصالحة الاقتصادية فتنتفخ به ميزانية الدولة بفتح و غلق ملفات مرتكبي إنتهاكات الفساد المالي و الاعتداء على المال العام في ظرف ستة أشهر على أقصى تقدير بداية من تقديم الملف حسب مشروع القانون المجمد بمكاتب لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب ،والله وحده عز و جل يعلم في أي شهر من سنة 2016 سيشرع في مناقشته إذ أخذنا طبعا بما صرح به أصحاب المشروع بأنه مازال يحتاج الى حوار وطني معمق قد ينطلق أواخر هذه السنة من أجل التوصل إلى صيغة توافقية ترضي الجميع ،مع التسجيل بأن المشروع قدم في جويلية 2015 ، وأن هيئة الحقيقة و الكرامة قدمت قبل ذلك لرئاسة الحكومة منذ أفريل 2015 مشروع امر حكومي يتعلق بإتمام الامر عدد 2046 لسنة 1997 المتعلق يضبط شروط إبرام الصلح في المادة المدنية و الإدارية لتنظيم وجود الدولة في ملفات التحكيم و المصالحة الواردة على الهيئة بصفتها كمتضررة أو كمرتكبة للانتهاكات الجسيمة و/أو الممنهجة و لكن هيهات لا مجيب إلى حد كتابة هذه الأسطر .

ومن المضحكات الغريبة أنه عوضا أن يتم التسريع بإصدار الأمر المذكور المتعلق بتنظيم وجود الدولة في ملفات التحكيم والمصالحة طبقا لقانون العدالة الانتقالية تم التسريع في تقديم مشروع قانون المصالحة الاقتصادية بصفة آحادية دون تشريك أي طرف كقانون موازي لعمل لجنة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة في إستهتار كامل بالزمن “كبعد رابع” وبالهيئات العمومية الدستورية وبأحكام الدستور.

I- التحكيم والمصالحة بين الموجود والمفقود.
وجدت آلية التحكيم والمصالحة في مسار العدالة الانتقالية بمقتضى القانون عدد 53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية و تنظيمها و خاصة الفصل 45 وما بعده و الذي نص على أن ” تحدث لجنة التحكيم و المصالحة صلب الهيئة يعهد إليها النظر و البت في ملفات الانتهاكات على معنى هذا القانون …” و تم بالفعل إحداث هذه اللجنة و تنظيمها و هيكلتها بالفصل 25 و ما بعده من النظام الداخلي للهيئة المؤرخ في 22 نوفمبر 2014 و شرعت لجنة التحكيم و المصالحة بهيئة الحقيقة و الكرامة بداية من شهر أوت المنقضي في معالجة ودراسة ملفات التحكيم والمصالحة في كل الانتهاكات الجسيمة و/أو الممنهجة بما فيها ملفات الفساد المالي و الاعتداء على المال العام و تنظيم جلسات إستماع خاصة لكل الأطراف بما فيهم المكلف العام بنزاعات الدولة ممثلا للدولة بصفتها المزدوجة : متضررة أو مرتكبة الانتهاك تطبيقا لأحكام دليل إجراءات التحكيم و المصالحة المصادق عليه من مجلس هيئة الحقيقة و الكرامة في شهر جويلية المنقضي الذي وضع الإطار القانوني والإجرائي في كيفية التعامل مع ملف التحكيم والمصالحة بداية من تقديم المطلب وصولا إلى إكساء القرار التحكيمي بالصيغة التنفيذية من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بتونس مرورا بإستماع اللجنة إلى أطراف النزاع التحكيمي وتلقي دفوعاتهم وأسانيدهم وإمضاءهم لإتفاقية تحكيم ومصالحة وضبط مهمة وعقد جلسات مصالحة لتقريب وجهات النظر بالاستعانة بخبراء مختصين في المالية والمحاسبة والقانون والطب وغيرهم من ذوي الإختصاص في مجال التحكيم والمصالحة وإحالة الملف التحكيمي إن لزم الأمر على أحد مكاتب قضاة التحقيق بالهيئة للتحقق من مدى صحة إدعاءات طالب التحكيم والمصالحة ودفوعات المحتكم ضده طبقا لأحكام الفصل 47 وما بعده من مجلة الإجراءات الجزائية مع الأخذ بعين الإعتبار خصوصية أعمال البحث والتحقيق في مسار العدالة الإنتقالية.

فاذا كان الإطار النظري لآلية التحكيم والمصالحة موجودا بصدور كل النصوص القانونية المؤطرة لذلك من الدستور إلى قرارات مجلس هيئة الحقيقة والكرامة ، وبوجود الإطار التنظيمي بإحداث لجنة التحكيم والمصالحة صلب هيئة الحقيقة والكرامة كهيئة عمومية دستورية التي شرعت في دراسة ومعالجة مطالب التحكيم والمصالحة والبت فيها في أقرب الآجال رغم عديد العراقيل والمعوقات، فما الفائدة من البحث عن المنشود والمحاولات ” السيزيفية” لإيجاد المفقود بالعمل على إحداث مؤسسة جديدة موازية لمؤسسة دستورية قائمة الذات؟ عبر تقديم قانون المصالحة الاقتصادية قد يتحول إلى قانون وقد لا يتحول؟ ولماذا كل هذا التخبط والعشوائية في إحداث مؤسسات جديدة ،موازية لمؤسسات دستورية سابقة الوجود ؟؟ والحال أن أعمال المشرع منزهة عن التزيد والإعتباط خاصة إذا كان مشرعا منبثقا عن إنتخابات ديموقراطية وشفافة ونزيهة.

II- التحكيم والمصالحة بين الخصوصية والوفاء للأحكام العامة .
تستمد آلية التحكيم والمصالحة في مسار العدالة الانتقالية خصوصيتها من خصوصية و إستثنائية قانون العدالة الانتقالية نفسه مع إحترام الأحكام العامة الواردة بمجلة التحكيم وباقي النصوص التشريعية المنظمة لمؤسسة التحكيم والمصالحة عموما ، فلا يمكن النظر في ملفات طالبي التحكيم والمصالحة بعد إنهاء هيئة الحقيقة والكرامة لمهامها ،وخلال هذه المدة لا تجابه لجنة التحكيم والمصالحة بالهيئة ولا يقبل الدفع أمامها بعدم رجعية القوانين أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن أو بحجية إتصال القضاء أو بوجود عفو سابق.

وبهذه الوسائل تتحقق المصالحة فلا نجاح للعدالة الإنتقالية دون نجاح المصالحة بوصفها الهدف المنشود والسامي لمسار العدالة الانتقالية المتعدد الآليات المتكاملة إنطلاقا من كشف حقيقة الانتهاكات الجسيمة و/أو الممنهجة وصولا إلى تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة مرورا بمسائلة ومحاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات وجبر ضرر ضحاياها وحفظ ذاكرتهم الفردية والجماعية وتطبيق آلية التحكيم شريطة موافقة الطرفين و إصلاح المؤسسات عبر غربلة الإدارة ومراجعة المنظومة التشريعية الفاسدة وهي بذلك آليات مترابطة لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها تحت أي سبب من الأسباب حتى وإن كان ظرف طارئ أو فعل الأمير أو قوة قاهرة وإلا عد ذلك من قبيل الإعتداء على الدستور.

و تنقسم المصالحة إلى مصالحة فردية (التحكيم) ومصالحة جماعية ( المصالحة الوطنية) وهي مصالحة ذات صيغة سياسية بامتياز بين الدولة بوصفها مرتكبة الانتهاكات الجسيمة و/ أو الممنهجة و بين مناضلي الأحزاب والتيارات السياسية والمنظمات المهنية و الحقوقية وغيرهم من ضحايا هذه الانتهاكات ، أو داخل الأحزاب والتيارات السياسية نفسها كجماعات منظمة إرتكبت إنتهاكات في حق بعضها البعض وذلك خلال المدة المتراوحة من بداية شهر جويلية 1955 إلى حدود موفى شهر ديسمبر 2013 ،و تعمل هيئة الحقيقة و الكرامة من خلال الصلاحيات و الآليات التي تتمتع بها على تحقيق هذه ” المصالحات ” فهي ملزمة بأن تضمن في تقريرها الختامي جميع التدابير الواجب إتخاذها للتشجيع على المصالحة الوطنية و كذلك التوصيات و المقترحات و الإجراءات التي تعزز البناء الديمقراطي و تساهم في بناء دولة القانون من ذلك مثلا إقتراح عقد مؤتمر وطني واسع للمصالحة الوطنية بين الدولة من جهة والأحزاب والتيارات السياسية والمنظمات المهنية و الحقوقية من جهة أخرى أو بين التيارات السياسية نفسها يتم فيه تبادل الاعترافات والاعتذارات الجماعية ، و هذا إجراء مؤجل في تونس التي قطعت أشواطا مهمة في انجاز المصالحة الوطنية عبر صدور دستور توافقي في جانفي 2014 و إنجاز إنتخابات تعددية ديمقراطية نزيهة و شفافة شاركت فيها كل الأطراف بما فيها رموز نظام ما قبل 14 جانفي 2011 و انبثقت عنها حكومة ائتلاف وطني و معارضة وطنية و ذلك بفضل وحدة المجتمع التونسي دينيا و عرقيا و مذهبيا و ثقافيا ،و مدنية الشعب التونسي و تحضره و تسامحه عبر حل خلافاته وإختلافاته الفكرية و الإيدولوجية بالحوار و النقاش ثم الاحتكام إلى المؤسسات الدستورية للدولة و أهمها هيئة الحقيقة و الكرامة المنبثقة عن مسار العدالة الانتقالية و لم يسلك بذلك الشعب التونسي مسار العدالة الانتقامية أو الانتقائية.

ويتم كل هذا بعد أن تكون نتائج إعمال آلية التحكيم أوالمصالحة الفردية قد أعطت أكلها محققة نتائجها المرجوة منها ، وقد مهدت بذلك الطريق بإنجاز مصالحة الفرد مع دولته ومجتمعه بعد جبر ضرره وكشف حقيقة ما تعرض له من إنتهاكات ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها ،وقد قطعت لجنة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة بهيئة الحقيقة والكرامة في معالجة ملفات المصالحة الفردية بإعمال الية التحكيم والمصالحة وطبقا للإجراءات والقوانين الجاري بها العمل واحتراما لخصوصية هذه الآلية خاصة وخصوصية مسار العدالة الانتقالية عموما.

يعرف الفصل الأول من مجلة التحكيم التونسية التحكيم بكونه: “طريقة خاصة لفصل بعض أصناف النزاعات من قبل هيئة تحكيم يسند إليها الأطراف مهمة البت فيها بموجب إتفاقية تحكيم “ في حين جاء بالفصل 1458 من مجلة الإلتزامات والعقود تعريف الصلح بأنه:” عقد وضع لرفع النزاع و قطع الخصومة ويكون ذلك يتنازل كل من المتصالحين عن البعض من مطالبه أو بتسليم شيء من المال او الحق ،و مؤسسة التحكيم قديمة قدم البشرية ذاتها فقد عرفتها مختلف التشريعات السماوية و الوضعية و يرجع أول ظهور للتحكيم مع إتفاق قابيل وهابيل على الإحتكام إلى السماء لفض خلافهما حول الزواج من الأخت التوأم ، كما إحتكم العرب قديما بواسطة المنافرة لحسم نزاعات بينهم تهم مسائل كالشرف ،و قال الله عز و جل :” فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما”(النساء 65)، فالتحكيم بسط نزاع ما بين أطراف متحكمين على هيئة أو لجنة تحكيمية غير قضائية ،أعضائها معينين بالاتفاق بينهم لفصل نزاع بينهم وفق شروط يضبطونها باتفاقية تحكيم و تصدر هيئة التحكيم قرارها التحكيمي ملزم لجميع الأطراف.

هذا على المستوى العام ، اما على المستوى الخاص بمسار العدالة الانتقالية فقد أخذت آلية التحكيم و المصالحة بالمبادئ العامة مع بعض الاستثناءات الخصوصية فأعضاء لجنة التحكيم و المصالحة بهيئة الحقيقة و الكرامة لا يختارهم أطراف النزاع التحكيمي ،بل إن إحداث اللجنة صلب الهيئة تم بمقتضى القانون و تطبيقا لذلك جاء بالنظام الداخلي للهيئة أن لجنة التحكيم و المصالحة تتركب من خمسة أعضاء من مجلس الهيئة الذي يختار بدوره رئيسها و نائبه و لا يجوز الجمع بين عضوية لجنة التحكيم و المصالحة و عضوية لجنة الفحص الوظيفي و اصلاح المؤسسات و عدم إختيار أطراف النزاع التحكيمي لأعضاء اللجنة التحكيمية ليست بدعة خاصة بآلية التحكيم و المصالحة في مسار العدالة الانتقالية بل هناك العديد من الهيئات التحكيمية التي لا يقع اختيار أعضاءها من الأطراف المتحكمين على غرار تحكيم غرفة التجارة الدولية و تحكيم منظمة الملكية الفكرية العالمية.

و لا تختص لجنة التحكيم و المصالحة بهيئة الحقيقة و الكرامة بالنظر و البت في مطالب التحكيم و المصالحة المتعلقة فقط بالفساد المالي و الإعتداء على المال العام أو المسائل المتعلقة بالمعاملات التجارية كما هو معمول به عادة ،بل تنظر طبقا لإختصاصها الشامل في مطالب التحكيم و المصالحة المتعلقة بكل الانتهاكات طبقا لقواعد العدالة والإنصاف والمعايير الدولية المعمول بها ،وهي الانتهاكات الجسيمة و/أو الممنهجة الواردة بالفصل 8 من قانون العدالة الانتقالية على سبيل الذكر القتل العمد ، الإغتصاب او أي شكل من اشكال العنف الجنسي ، التعذيب ، الاختفاء القسري …و بقية الانتهاكات الواردة بالإفادة المعدة من هيئة الحقيقة والكرامة ، كالسجن ، المراقبة الإدارية ، التطليق القهري… و ذلك على خلاف الفصل السابع من مجلة التحكيم و الذي نص على انه :” لا يجوز التحكيم:
أولا: في المسائل المتعلقة بالنظام العام
ثانيا: في النزاعات المتعلقة بالجنسية
ثالثا: في النزاعات المتعلقة بالحالة الشخصية باستثناء الخلافات المالية القائمة عنها
رابعا: في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح
خامسا: في النزاعات المتعلقة بالدول والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية والجماعات المحلية الا إذا كانت هذه النزاعات ناتجة عن علاقات دولية اقتصادية كانت او تجارية او مالية “.

و على مستوى الإجراءات تتعهد لجنة التحكيم و المصالحة بناء على مطلب يقدم لمكتب الضبط المركزي لهيئة الحقيقة و الكرامة من المنسوب إليه الانتهاك أو من الضحية سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ،و يمكن للجنة أن تتعهد بناء على طلب من الدولة إن كانت متضررة من أحد الانتهاكات المنصوص عليها بالقانون ، و في كل الحالات تكون الدولة طرفا أصليا في كل الملفات المعروضة على اللجنة، لتنطلق بعد ذلك بقية الإجراءات التحكيمية صلب لجنة التحكيم و المصالحة من استدعاء طرفي النزاع التحكيمي لعقد جلسة إستماع لهم سواءا كان طالبا للتحكيم أو محتكم ضده بما فيهم المكلف العام لنزاعات الدولة بوصفه الممثل القانوني للدولة ،وتوجيه الاستدعاء للمحتكم ضده مصحوبا بالمؤيدات وبتقرير المقرر للحضور أمام لجنة التحكيم والمصالحة هو اجراء أساسي في العملية التحكيمية يهدف إلى حماية حقوق كل الأطراف وتدعيما لمبدأ المواجهة ،اذ يمكن للمحتكم ضده تقديم جميع اعتراضاته او دفوعاته في جلسة الاستماع الخاصة وأن الحضور ليس دليل لوجود شبهة إدانة.

ويعتبر عدم حضور المحتكم ضده للمرة الثانية بعد إستدعاءه طبق القانون وفي آجال متسعة أمام لجنة التحكيم والمصالحة رفضا للتحكيم والمصالحة ويتم تبعا لذلك إحالة الملف على أحد مكاتب قضاة التحقيق بالهيئة لأتخاذ جميع الإجراءات القانونية بما فيها الإحالة على الدوائر القضائية المتخصصة.

وإذا وافق المحتكم ضده على آلية التحكيم وإبرام الصلح مع طالب التحكيم فإنهما يمضيان إتفاقية تحكيم و مصالحة و ضبط مهمة طبقا للنموذج الموجود يحددان بها الآجال التي سيتم فيها حسم النزاع التحكيمي بينهما التي قد تكون اقل من ستة أشهر و كذلك الموضوع الذي سيتم فيه التحكيم و المصالحة حسب إتفاقهما دون تدخل أحد، و بمجرد إبرام هذه الإتفاقية بين طالب التحكيم و المحتكم ضده يتم قطع آجال التقادم و يتوقف نظر الهيئات القضائية في الملف المنشور امامها و التي أصبحت محل نظر لجنة التحكيم و المصالحة و تعلق تبعا لذلك جميع التتبعات القضائية و ترفع مفعول البطاقات القضائية كبطاقات الإيداع بالسجن أو تحجير السفر أو تجميد الأموال إلى حين تنفيذ القرار التحكيمي الذي يكون آثاره مختلفا بحسب نوعية الانتهاك ، فاذا كان القرار التحكيمي يتعلق بانتهاكات جسيمة كالقتل و التعذيب و الاغتصاب وغيرها، فإن الآثار تكون نسبية و لن يشكل القرار التحكيمي سوى ظرف تخفيف عند تقدير العقاب من الدائرة القضائية المتخصصة التي تبقى صاحبة الاختصاص في مساءلة ومحاسبة مرتكبي تلك الانتهاكات ،أما اذا كان موضوع القرار التحكيمي و الصلح فساد مالي و الاعتداء على المال العام فان الأثر يكون مطلقا اذ يترتب عنه انقراض الدعوى العمومية أو إيقاف المحاكمة أو إيقاف تنفيذ العقوبة.

وضمانا لكشف حقيقة الانتهاكات مهما كان نوعها موضوع مطلب التحكيم والمصالحة وتحقيقا لتعويض عادل للضحايا وحفظ ذاكرتهم الفردية والجماعية ودعما لعملية غربلة الإدارة و الإصلاح الوظيفي تحقيقا للمصالحة فإن لجنة التحكيم والمصالحة لا يمكنها دراسة ومعالجة الملف التحكيمي إلا بتوفر جملة من الشروط أهمها إقرار طالب التحكيم والمصالحة بما إقترفه كتابيا وإعتذاره الصريح ، موافقة الضحية أو الدولة في حالة ملفات الفساد المالي ،بيان الوقائع التي أدت إلى إستفادة غير شرعية وقيمة الفائدة المحققة من ذلك ،إرفاق المطلب بالمؤيدات المثبتة لادعاءات التحكيم ، القبول بالمشاركة في جلسات الإستماع العمومية ،

وأخيرا وليس آخرا القبول الصريح بالقرار التحكيمي وإعتباره قرارا نهائيا غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن أو الإبطال أو دعوى تجاوز السلطة .

كما أنه من حق بقية لجان هيئة الحقيقة والكرامة الإطلاع على كل الملفات المعروضة على لجنة التحكيم والمصالحة بما في ذلك جميع المؤيدات وإبداء رأيها بشأنها في أي طور من الأطوار ، وإذا تبين من خلال أعمال الإستقراءات والتحقيقات التي تجريها الهيئة وأن طالب التحكيم قد تعمد التصريح بمعلومات غير صحيحة حتى بعد إبرام الصلح بين الأطراف وأخفى الحقيقة ولم يصرح بجميع ما أخذه دون وجه حق فإن إجراءات التحكيم تلغى وترفع جميع الآثار حتى ولو تم غلق الملف التحكيمي وإنقراض الدعوى العمومية .

و أمام وجود الإطار النظري والعملي لآليات التحكيم والمصالحة طبقا لمسار العدالة الانتقالية كما سبق بيانه يصبح إصدار قانون جديد موازي وتعيين لجنة إدارية موازية للجنة التحكيم والمصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة كهيئة عمومية دستورية غير ذي جدوى ولا طائل من وراءه والحال أن أعمال المشرع منزهة عن التزيد والاعتباط سيما إذا كان مشرعا أفرزته إنتخابات ديموقراطية شفافة نزيهة بعد حوار وطني جامع قاده الرباعي الراعي للحوار رفض ثلاثة من مكوناته مشروع قانون المصالحة الاقتصادية لتعارضه مع مسار العدالة الانتقالية والدستور في حين قبله المكون الرابع من حيث المبدأ مطالبا بضرورة ادخال تعديلات جوهرية عليه من حيث الأصل ليستحق عن جدارة الرباعي الراعي للحوار الوطني جائزة نوبل للسلام ويملأ نجاحه العالم و يشغل الناس وهو إنتصار لمسار العدالة الانتقالية ولصلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة كهيئة عمومية دستورية، أفلا يعقلون ؟؟

إعادة نشر بواسطة محاماة نت