نستعرض في هذا (الموضوع) في مقصدين، نتناول في المقصد الأول تعريف الترجيح، و في المقصد الثاني نتناول طرق الترجيح.

المقصد الأول- تعريف الترجيح:

معنى ترجيح اللغة: الترجيح مصدر باب التفضيل من رجح يرجح ترجيحا، و تدور مادة (رجح) حول الميلان، و الثقل، و الميلان من الثقل. تقول: رجح الميزان- بتثليث الجيم أعطاه راجحا، ترجحت به الأرجوحة أي مالت(1) و جاء في لسان العرب ” رجح الشيء بيده: وزنه، و نظر ما ثقله، و ارجح الميزان :أي أثقله حتى مال(2) و من هذا المعنى يقال للحليم: الثقيل، فيصفون الحلم به، كما يصفونه ضده بالخفة، و منه جاء قوله صلى الله عليه و سلم لجويريه أم المؤمنين رض الله عنها- هي جوبريه بنت الحارث – اسمها بره، فغيرها الرسول (ص) 🙁 لقد قلت بعدي كلمات، لو وزن لرجحت بما قلت، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنه عرشه، سبحان الله مداد كلماته) (3) و ذكر الأصوليون من فقهاء الأمة معاني أخرى استعمل فيها لفظ الترجيح منها (الترجيح في اللغة التمييل و التغلب)(4) جعل الشيء راجحا، و يقال مجازاً لاعتقاد الرجحان)(5). أما معنى الترجيح اصطلاحا: الترجيح تقديم المجتهد أحد الدليلين المتعارضين لما فيه مزية معتبرة تجعل العمل به اقرب من الآخر، و ولا يكون الترجيح إلا مع وجود التعارض فحيث انتقى التعارض انتقى الترجيح أو تفضيل أحد الدليلين و بيان زيادة أحدهما على الآخر(6) أن علماء الأصول من فقهاء الأمة الإسلامية اختلفوا في بيان المعنى الاصطلاحي للترجيح و قد اتخذ هذا الاختلاف اتجاهات عدة الاتجاه الأول ذهب فيه جمهور الحنفية والشافعية و بعض الحنابلة و الأمامية إلى أن الترجيح من فعل المجتهد مما أوجد تقارب في تعاريفهم فعرفه الرازي بأنه ( تقوية أحد الدليلين ليعلم الأقوى فيعمل به و يطرح الآخر)(7). أما الاتجاه الثاني فيرى أن الترجيح صفه الأدلة و إلى هذا ذهب بعض الشافعية ومنهم الامدي و بعض الحنابلة حيث عرف الامدي: (بأنة اقتران أحد الدليلين على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به و إهمال الآخر) (8). آما الاتجاه الثالث فيرى الجمع بين الاصطلاحين و سلكه عبد العزيز البخاري الحنفي. أن الترجيح يعتمد بالدرجة الأساس على وجود التعارض وأن الدليل الراجح هو الدليل المتعارض قبل الترجيح و أن الترجيح يعتبر منفذا ومسلكا للتخلص من حالة التعارض و لهذا فان دور المجتهد لا يحاول الترجيح إلا عندما أحس بوجود التعارض و لهذا فان الترجيح لا وجود له بعدم وجود التعارض إذا الترجيح فضل أحدهما على الآخر.

المقصد الثاني – طرق الترجيح:

ينظر قاضي الموضوع (المجتهد) في قضايا أو دعاوى الناس التي يرفعونها إليه يأملون في الحصول على حكم عادل يستردون حقوقهم المتنازع عليها. و القاضي يصدر أحكامه الختامية بناء على البينات التي يقدمها أطراف الدعوى.فصاحب البينة المقبولة هو الذي يصدر الحكم لصالحه بناء على بينتة المقبولة و لكن يحدث ان كلاً من طرفي الدعوى يقدم بينة مقبولة، فكيف يتصرف القاضي إزاء هاتين البينتين هل يقبلهما مع تعارضهما أم يرفضهما و يردهما، أم يقبل أحدهما دون الأخرى، و على هذا الأساس هنالك قواعد معينة تحكم موضوع تعارض البينات يلتزم القاضي بمراعاتها و اعتبارها و في ضوئها يستطيع أن يقبل أو يرفض هذه البينات المتعارضة أو يرجح فيما بينهما فيأخذ الراجح و يترك المرجوح ونبين فيما يلي هذه القواعد أو الطرق المعتمدة في إزالة التعارض من خلال محاولة اتباع الطريقة التي تنتهي بها مشكلة التعارض بين البينات أو الأدلة.

الطريقة الأولى: العمل بالبينتين إذا كانت البينتان مقبولتين و العمل بهما ممكنا و لا رجحان لاحدهما على الأخرى بحيث يدعو إلى قبول الراجحة فقط و رفض المرجوحة،فانه في هذه الحاله ياخذ القاضي بالبينتين، و يقضي بين الخصوم بموجبها و مثاله لو تنازع اثنان على مال و كان كل منهما ذا يد على المال المتنازع فيه المدعي به و اقام كل منهما البينة على ان المال له وحده فان القاضي يعمل بالبينتين و يحكم باشتراكهما في المال مناصفه. و كذلك لو كان في يد شخص ثالث و اقام كل منهما البينة على ان المال في يد شخص ثالث و اقام كل منهما على ان المال له على وجه الاستقلال فان القاضي يحكم باشتراكهما في الحال مناصفة، أي الجمع بين البينتين(9).

الطريقة الثانية: العمل بالبينة الراجحة اذا تعذر العمل بالبينتين عمل القاضي بالبينة الراجحة و الترجيح بين البينات يكون بامور منها على سبيل المثال

ترجيح بينة الخارج على بينة الداخل (ذي اليد).

المقصود بالداخل هو ذو اليد على متاع او عقار، لان وضع اليد يعتبر قرينة على ملك المنقول او العقار لصاحب ذي اليد حتى يظهر عكس ذلك، و صاحب اليد يسمى ايضا الداخل، و من يدعي شيء في يد الداخل يسمى خارجا، هنا تكون بينة ذي اليد الداخل مرجحة على بينة الخارج يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم البينة على من ادعى و اليمين على من انكر. فالداخل مدعى عليه و الخارج المدعي.

الترجيح بكثرة العدد و الاشتهار بالعدالة. اذا تداعى رجلان شيئا معينا في يد شخص اخر، و اقام كل منهما بينة، و كانت احداهما اكثر عددا و اكثر عدالة رجحت بينتة (10).

الطريقة الثالثة- تهاتر البينات:

اذا حصل تعارض بين بينتين و تعذر العمل بالطرقتين السابقتين لترجيح احدهما على الاخرى، تهاترت البينتان أي تساقطت و لم يعمل بهما جميعا لان بعضهما يبطل البعض الاخر، للتعارض الذي لا يمكن معه محاولة التوفيق او للاستحالة و المثل على تهاتر البينات اذا شهد شاهدان ان زيداً قتل عمراً في الكوفة في يوم النحر من ايام العيد (عيد الاضحى) وشهد اخران ان زيداً قتل عمراً في بغداد في اليوم الاول من رمضان فلا يعمل باحدى هاتين الشهادتين لان احدهما كذب يقينا و لا نعلم ايهما الكاذبة. كذلك لو اقام شخصان دعوى يدعي كل منهما بكونها امرأته، و انها انكرت دعوى كل منهما مع محاولة كل منهما اقامة البينة لاثبات صحة دعواه، هنا لا وجه لترجيح احداهما على الاخرى فتسمع كلتاهما. فاذا اثبت كل منهما صحة دعواه بالبينة فيتعذر العمل بهما و يجب اسقاط البينتين من العمل، حيث ان محل الدعوى لا يقبل الاشتراك(11).

______________

1- قاموس المحيط، ج1.

2- لسان العرب، ص1125.

3-صحيح مسلم ص318؛ مسند الامام احمد، ص97،

4- الاسنوي، نهاية السول، ص156.

5- الامدي، احكام الاحكام، ص206؛ مشكاة الانوار، ص52.

6- الكوكب المنير، ص428؛ علي حسب الله، اصول التشريع الاسلامي، ص322؛ د. حمد عبيد الكبيسي اصول الاحكام في طرق الاستنباط في التشريع الاسلامي، ص249؛ شاكر الحنبلي، اصول الفقه الاسلامي مطبعة الجامعة السورية، 1948، ص332.

7- الزيعلي، ارشاد الفحول، ص273.

8- الامدي، الاحكام، ص216.

9- د. صبحي محمصاني، فلسفة التشريع في الاشلام، ص298؛ علي حسب الله، اصول التشريع الاسلامي ط3، 1964، مصر، ص324؛ بدران ابو العينين، ادلة التشريع المتعارضه و وجوه الترجيح بينهما، مؤسسة شباب الجامعة، الاسكندرية، ص161.

10- محمد مصطفى الزحيلي، وسائل الاثبات في الشريعة الاسلامية، ص809.

11- م(1761) مجلة الاحكام العدلية؛ علي حيدر، درر الحكام، ج15، ص180 – 193؛ شرح مجلة الاحكام العدلية، توفيق السويدي كتاب البينات والتحليف، مطبعة الفلاح، بغداد، 1346هـ- 1928م، ص241.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .