يسقط خيار الغبن في حالات سنناقشها على مدى ثلاثة مقاصد

المقصد الأول: إسقاطه من قبل المغبون أو اشتراط إسقاطه

أولاً: إسقاطه من قبل المغبون:

ما قرر خيار الغبن إلاَ ضماناً لمصلحة المغبون ولهذا أن يتنازل عن حقه في ذلك بإسقاطه. والإسقاط قد يكون بعد العلم بالغبن وقد يكون قبله وقد يكون بعوض. فإن كان بعد العلم به بلا عوض فلا إشكال في صحة ذلك سواء علم بمرتبة الغبن فأسقطه بناء على ذلك أو لم يعلم فأسقط الغبن المسبب للخيار أياً كانت مرتبته ويؤخذ بنفس الحكم أن أسقطه بعوض أي صالح عليه فإن أطلقه أي صالح على الغبن المتحقق فظهر التفاوت أكبر مما صالح عليه ففي صحته و لزومه قولان أحدهما يسقط والأخر لا يسقط لأن الخيار واحد. وسببه واحد. فإذا أسقطه سقط(1). ولكن هل يجوز إسقاط هذا الخيار بعد العقد وقبل العلم بالغبن؟ الظاهر جواز ذلك حتى وأن كان قبل تحقق الغبن كشرط لثبوت الخيار ما دام سببه قد تحقق بالغبن الفعلي الواقعي وأن لم يعلم به.

ثانياً: اشتراط سقوطه:

قد يتفق المتعاقدان على إسقاط هذا الخيار بشرط يدرجانه في عقدهما. والحقيقة أن هذه المسألة قد تبدو واضحة جلية لأن للمتعاقدين أن يتفقا على أي شرط غير مخالف لكتاب الله وسنة رسوله الكريم(صلى الله عليه واله وسلم ).لكن الأشكال هنا أن هناك من يذهب إلى بطلان العقد في حالة اشتراط سقوط الخيار سواء كان خيار غبن أو رؤية للضرر. ونقل العلامة الشيخ الأنصاري(2) عن غاية المرام أنه لو شرط في العقد سقوط خيار الغبن والرؤية بطل الشرط والعقد إلاَ أن العلامة الحلي تردد في ذلك وأستظهر الصحة(3) وأعتمد من يقول بالبطلان على أن الجهل بمالية المبيع ما هو إلاَ جهل في صفاته المعتبرة وهذا غرر لأن الجهل بالصفات يرجع إلى مدى تأثيرها في المالية ولذا فلا غرر في الجهل بالصفات التي لا تؤثر في قيمة المبيع في حين قال المعارضون لذلك أن مجرد الجهل بالمالية ليس غرراً لأنه لو كان كذلك لما صح البيع مع الشك في القيمة.

المقصد الثاني: التصرف في العين

وفيه مسألتان الأولى تصرف المشتري المغبون والثانية تصرف الغابن تصرفاً مغيراً للعين.

أولاً: تصرف المشتري المغبون

إذا تصرف المشتري المغبون قبل العلم بالغبن تصرفاً يخرج المبيع عن ملكه على وجه الزوم كالبيع أو رتب عليه حقاً يمنعه من رده(4)سقط خياره. واشترطنا هنا أن يكون المغبون المتصرف هو المشتري لأن تصرف المشتري لا يسقط خيار البائع أن كان الغبن من جانبه حتى وأن أخرج المشتري المبيع عن ملكه لعدم وجود دليل على ذلك. لذا فإن البائع لو فسخ البيع استناداً إلى خياره لزم المشتري هنا قيمة المبيع أن كان من القيميات ومثله أن كان من المثليات أما إذا تصرف البائع بالثمن بما يخرجه عن ملكه فإن خياره يسقط لأصالة الاستصحاب أما خيار المشتري فباقٍ على حاله(5) .وخلاصة ذلك أن تصرف الغابن لا يسقط خيار المغبون إلاَ إذا خرج المبيع عن الغابن بعقد جائز لأن جواز ذلك العقد يقتضي تسلط أحد طرفيه على فسخه ولا دليل على تسلط المغبون هنا لأنه أجنبي عنه يقول الشهيد الثاني في المسالك(6).[ولو كان العقد الناقل مما يمكن أبطاله كالبيع بخيار للمشتري والهبة قبل القبض احتمل قوياً إلزامه بالفسخ فإن امتنع فسخ الحاكم فإن تعذر يفسخ المغبون، بل قيل أن له الفسخ مطلقاً وهو بعيد وأن وجد المانع من الرد نقل المنافع على وجه اللزوم كالإجارة والتحبيس جاز له الفسخ وانتظار انقضاء المدة يعتبر ملكه من حينه].ويقول العلامة الشيخ الأنصاري(7).أنه يمكن النظر في ذلك[بأن فسخ المغبون أما بدخول العين في ملكه، وأما بدخول بدلها فعلى الأول لا حاجة إلى الفسخ حتى يتكلم في الفاسخ وعلى الثاني فلا وجه للعدول عما استحقه بالفسخ إلى غيره]. أما إذا تصرف المغبون بائعاً كان أم مشترياً بعد علمه بالغبن فإن تصرفه يسقط خياره ويستند هذا أساساً على أن تصرف ذي الخيار فيما انتقل إليه أجازة وفيما أنتقل منه فسخ لذا فإن التصرف هنا لا يفسر إلاَ أنه رضاء بلزوم العقد.

ثانياً: تصرف الغابن تصرفاً مغيراً للعين.

قد يتصرف الغابن في العين بما يغيرها زيادةً أو نقصاناً أو اندماجاً ولكل منها حكمه فإن تغيرت العين بالزيادة كما لو وجد الثوب مقصوراً أو القمح مطحوناً أو البستان محروثاً أخذ العين وأستحق المشتري أجر عمله لأن العمل هنا صفة محضة وأن كان عيناً كالصبغ كان شريكاً بنسبته(8).وأن لم تكن للزيادة أثر في زيادة القيمة فليس لمحدثها شيء لأنه عمل في ماله وعمله هذا غير مضمون على غيره. فإن كانت الزيادة بعين محضة كالغرس في الأرض فللمغبون قلعه بلا أرش(9) .وقيل أن له قلعه مع الأرش وقيل أن كلاهما يملك ماله ولا حق له أو عليه ولكل منهما أن يخلص ماله من مال صاحبه فإذا أراد مالك الأرض قلع الغرس فعليه أرشه وأن أراد صاحب الغرس غرسه فعليه أرش تسوية الأرض وهكذا(10).وهذا أرجح الآراء. ولكن إذا قلنا أن لصاحب الأرض المغبون قلع الغرس فهل له أن يباشر ذلك بنفسه أم عليه أن يطلبه من صاحبه فإن أمتنع أجبره الحاكم على ذلك أو قام هو بالقلع؟ وللإجابة على ذلك يجب أن نميز بين الشجر والزرع. فللمغبون قلع الشجر سواء كان ذلك قبل الامتناع أو بعده فإن أختار إبقاؤه استحق أجر المثل لأن الأرض انتقلت إلى المغبون بحق سابق على الغرس لا لاحق له وأما الزرع فيتعين إبقاؤه بالأجرة لأن له أمد ينتهي فيه بخلاف الشجر ولا يجوز لصاحب الأرض أن يمنع مالك الغرس من قلعه لأن كلاهما مسلط على ماله وله أن يتصرف فيه وليس له أن يمنع غيره من التصرف بملكه. أما إذا كان تغير العين بالنقيصة نظرنا أن كان نقصاً يوجب الأرش كما لو تعين فله ردها مع الأرش لأن الفائت مضمون بجزء من الثمن وأن كان نقصاً لا يوجب الأرش ردها من دونه يقول الشهيد الثاني[لو وجد العين ناقصة. فإن لم يكن النقص بفعل المشتري أخذها أن شاء ولا شيء له وأن كان بفعله فالظاهر أنه كذلك لأنه تصرف في ملكه تصرفاً مأذوناً فيه فلا يتعقبه ضمان](11) وأن كان التغير بامتزاج العين بغيرها فإن كان امتزاجها بغير جنسها على وجه الاستهلاك كامتزاج ماء الورد المبيع بالزيت فهو في حكم التالف يرجع فيه إلى القيمة وأن لم يكن اندماجها على هذا الوجه قولان في كونه شريكاً أو معدوماً(12) وأن كان امتزاجها بجنسها فإن كان بالتساوي ثبت فيه الشركة وأن كان بالأردأ قيل كذلك. وقيل فيه أرش(13)

المقصد الثالث: حكم تلف أحد العوضين مع الغبن.

لا شك أن التلف هنا قد يكون فيما قبضه الغابن وقد يكون فيما قبضه المغبون وفي الحالتين قد يكون بقوة قاهرة أو بفعل أحدهما أو بفعل أجنبي. فإن كان التلف أو الهلاك قد أصاب ما في يد المغبون بقوة قاهرة بقي على خياره فإن اختار الفسخ غرم قيمته يوم الهلاك أو يوم الفسخ وأخذ ما عند الغابن وينطبق ذات الحكم أن كان الهلاك بفعله. وقال البعض بسقوط خياره هنا لعدم أمكان الاستدراك(14) وأن كان الهلاك بفعل أجنبي فإن فسخ المغبون أخذ الثمن وجاز للغابن أن يرجع على الأجنبي أن لم يرجع عليه بقيمة العين وأن هلك بفعل الغابن رجع عليه المغبون بقيمته أن أختار الإمضاء وبالثمن أن أختار الفسخ وأن أصاب الهلاك ما في يد الغابن فإن كان ذلك بقوة قاهرة أو بإتلافه من قبله وفسخ المغبون أخذ البدل باعتبار قيمته يوم تلفه. وذهب بعضهم إلى أن القيمة تعتمد يوم الفسخ وليس يوم الهلاك( 15 ). وعلى هذا لو كان البيع مقايضة[إي عين بعين]فقبض أحدهما ولم يقبض الآخر ثم قام الذي قبض ببيع ما قبضه ثم هلك غير المقبوض فإن البيع الأول ينفسخ حكماً بتلف غير المقبوض أما البيع الثاني فلا ينفسخ وإنما يغرم البائع الثاني قيمة ما باعه يوم هلاك غير المقبوض. وهذا دليل على اعتماد القيمة يوم الفسخ وليس يوم الهلاك. أما إذا هلك المقبوض في يد الغابن من قبل أجنبي فإن المغبون يرجع على الغابن ولهذا أن يرجع على من أتلف المال كما أن بإمكان المغبون أن يرجع على المتلف لأن المال في ضمانه قبل أداء القيمة وأن كان الهلاك بيد الغابن بفعل المغبون فإن فسخ رد الثمن وأخذ قيمة المال الهالك وأن لم يفسخ غرم بدله( 16 ). وقبل أن ننهي الكلام عن حالات سقوط الخيار لابد من الإجابة عن سؤال أخير له علاقة مباشرة بهذا الموضوع وهو هل يسقط الخيار مع بذل التفاوت من قبل الغابن؟ ومفاد ذلك أن هذا الخيار قرر للغبن والغبن ضرر. لذلك فإن للمغبون أن يختار بين أمساك العقد بكل الثمن أو فسخه. وهو أمر متروك له ولكن ماذا إذا دفع الغابن للمغبون مقدار ما غبن به هل يمتنع عند ذاك على المغبون أن يستخدم خياره بفسخ العقد أم لا؟ والحقيقة أن آراء الفقهاء في الإجابة على ذلك مختلفة( 17 ).فقد ذهب العلامة الحلي في تذكرة الفقهاء إلى أمرين الأول أن هذا الخيار لا يثبت به أرش وهذه مسألة متفق عليها والثاني احتمال سقوطه ببذل التفاوت. حيث يقول[وإنما يثبت الخيار للمغبون خاصة دون الغابن أجماعاً. لأن المقتضى لثبوت الخيار هو التضرر بعدمه إنما يتحقق في طرف المغبون فيختص بالحكم ويثبت بالخيار بين الفسخ والإمضاء مجاناً. ولا يثبت به أرش أجماعاً ولو دفع الغابن التفاوت أحتمل سقوط خيار المغبون لانتفاء موجبه وهو النقص وعدمه لأنه يثبت له فلا يزول عنه إلاَ بسبب شرعي…..الخ]( 18 )وذهب آخرون إلى أن[اللازم من الغبن الخيار لا التفاوت بين الثمن و القيمة الموجب للغبن سواء بذله الغابن أم لا] وأبرز ما استند إليه من قال بسقوط الخيار ببذل التفاوت أن المبذول ليس هبة وإنما غرامة على الغابن لما أتلفه على المغبون من الزيادة في المعاملة الغبنية وبهذا فهو لا يعد جزء من الثمن وهو رأي راجح باعتقادنا .في حين قال معارضوهم أن بذل التفاوت لا يخرج المعاملة عن كونها معاملة غبنية والمبذول هبة مستقلة وليس جزء من أحد العوضين حتى يمكن استرداده من العوض الآخر(19).

________________

1- الشیخ مرتضى الأنصاري المكاسب ج ٥ ط4 -1424 ، ص ١٨١

2- الشیخ مرتضى الأنصاري المكاسب ج ٥ ط4 -1424 ص ١٨٣ .

3- الشيخ علي أبن الحسين الكركي – جامع المقاصد في شرح القواعد ج ٤ ط ١ مؤسسة آل البيت لأحياء التراث ١٤٠٨ ه ص ٣٠٢ وما بعدھا.

4- العلامة جمال الدين الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي –تذكرة الفقهاء ج ١ المكتبة الرضوية بدون سنة طبع ص ٥٢٣ .

5- الكركي جامع المقاصد ج ٤ مصدر سابق ص ٢٩٦

6- زين الدين بن علي ألعاملي(الشهيد الثاني)مسالك الإفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام ج ٣ ط ١ – ١٤١٤ ه ص ٢٠٦ .

7- الشیخ مرتضى الأنصاري المكاسب ج ٥ مصدر سابق ص ١٩٣ .

8- الشھید الثاني مسالك الإفھام ج ٣ مصدر سابق ص ٢٠٥ .

9- الشيخ محمد حسن ألنجفي –جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج ٢٣ دار الكتب الإسلامية ص ٥١ .

10- الشیخ مرتضى الأنصاري المكاسب ج ٥ مصدر سابق ص ١٩٧ .

11- الشھید الثاني مسالك الإفھام ج ٣ مصدر سابق ص ٢٠٥ .

12- الشیخ مرتضى الأنصاري المكاسب ج ٥ مصدر سابق ص ١٩٩ .

13- الشیخ مرتضى الأنصاري المكاسب ج ٥ مصدر سابق ص ٢٠٠ .

14- الشھید الثاني مسالك الإفھام ج ٣ مصدر سابق ص ٢٥٧ كذلك .. المحقق الحلي شرائع الإسلام ج ٢ مصدر سابقص ٣٢

15- الشیخ مرتضى الأنصاري المكاسب ج ٥ مصدر سابق ص ٢٠٢ .

16- الشیخ محمد حسن النجفي جواھر الكلام ج ٢٣ مصدر سابق ص ٥٠ و ٥١ .

17- العلامة الحلي تذكرة الفقھاء ج ١ مصدر سابق ص ٥٢٣ .

18- الشھید الثاني مسالك الإفھام ج ٣ مصدر سابق

19- الشیخ مرتضى الأنصاري المكاسب ج ٥ مصدر سابق ص ١٦٣

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .