لقد بدأ المركز القانوني للشركات متعددة الجنسية اكثر وضوحا وتميزا في ظل العولمة من أي فترة زمنية مضت. فالشركات متعددة الجنسية باتت احدى اكبر الجماعات الضاغطة نحو تبني العولمة فكرا و مضمونا، ذلك انها تعدو وبحق المحرك الاساسي للنظام الرأسمالي بشقيه الانتاجي “التجارة الدولية والاستثمار الاجنبي المباشر” والمالي”عولمة الأسواق المالية”(1). فالشركات متعددة الجنسية اصبحت ظاهرة كونية ولها من الامكانات والقدرات ما تتجاوز به الحدود الوطنية للدول، فمنطق الزمان والمكان في ظل العولمة لم يعد يشكل عائقا امام نمو الشركات وازدهارها. فراس المال اصبح عولميا لا تحد حركته حدود فقد اصبح خارج سيطرة الدول بما فيها الدول الكبرى(2). وانتقال السلع والخدمات كذلك اصبح عولميا، فالشركات متعددة الجنسية في زمن العولمة لم تعد تحت سيطرة فضاء قومي او صناعة واحدة محددة او تحت نظام قانوني معين ينظم تعاملاتها المالية لهذا فقد “نشرت انشطتها في عشرات الدول وهي تحاول الاستفادة من أي ميزة نسبية في أي دولة دون افضلية لبلد المقر القانوني، كما تنتقي كوادرها على اساس الكفاءة والاداء بغض النظر عن جنسية أي منهم. وتحصل على تمويل محلي من كل بلد يمتد اليه نشاطها الذي قد يكون فرعا او شركة مملوكة بالكامل او شركة مساهمة نشأت في ظل القانون المحلي، وتبيع اسهمها لمواطنيه، وتقترض من بنوكه او من الجمهور في شكل سندات، كما تجتذب مدخرات كبيرة من بلدان العالم الثالث من خلال البنوك البورصات العالمية …“(3). ان عدم استجابة النظم القانونية الداخلية للنشاط المتنامي والمتزايد للشركات في ظل العولمة الذي عكسته الارقام والنسب المئوية للمبيعات والارباح السنوية لها يعكس حقيقة وجوب اخضاعها للقواعد القانونية الدولية، فلقد ازداد عدد الشركات متعددة الجنسية في ظل العولمة، وبالتالي ازدياد سيطرتها على مجمل التجارة الدولية، فلقد زاد عددها من (11.000) شركة تتحكم بـ (82.000) شركة وليدة تزيد مساهمتها على 25% من حجم التجارة عام 1975 الى (37.000) شركة تتحكم بـ (207.000) شركة وليدة تتعامل باكثر من نصف التجارة الدولية عام 1990(4)، زاد بنسبة 75% من حجم التجارة العالمية في نهاية عقد التسعينات من القرن العشرين(5).

وحسب تقرير الاستثمار الذي قدمته لجنة الشركات متعددة الجنسية التابعة للامم المتحدة عام (2000) فان عدد الشركات متعددة الجنسية يزيد على (63.000) شركة ام تدير (690.000) شركة وليدة وان اكبر مائة شركة متعددة الجنسية يعمل فيها اكثر من ستة ملايين شخص تجاوزت مبيعاتها ترليون دولار وتركزت هذه المبيعات في الالكترونيات والمعدات الالكترونية والسيارات والبترول والكيمياويات والمستلزمات الطبية(6). ان التحول الكبير على مستوى الاقتصاد الدولي ممثلا بالتحالفات الاستراتيجية والاندماجات الدولية بين الشركات متعددة الجنسية في ظل العولمة عكس حقيقة بروز المركز القانوني الدولي لهذه الشركات، وبين انه من الصعوبة بمكان اخضاعها للقواعد القانونية الوطنية فهذه الاخيرة بما انها محصورة ضمن نطاق اقليمي محدد، غير قادر على الاحاطة بموجة الاندماجات التي تشهدها الشركات متعددة الجنسية، وحيث ان القانون الدولي العام يحتوي على قواعد قانونية صالحة للتطبيق على المجتمع الدولي فهي بالمقابل صالحة للتطبيق على انشطة هذه الشركات وموجات اندماجها. ومن بين موجات الاندماجات التي تعزز المركز القانوني الدولي للشركات متعددة الجنسية التي حصلت عام 1999 حيث حدث اكبر اندماجين لاربع شركات متعددة الجنسية بترولية عملاقة فالاول حدث بين شركة بريتش بتروليوم وشركة اموكو باسم جديد هو “B.p.Amoco” وبصفقة قيمتها (50) مليار دولار. اما الثاني فقد حدث بين شركة اكسون وشركة موبيل وبصفقة قيمتها (80) مليار دولار(7). وسوق النفط عموما تسيطر عليها الان اربع شركات متعددة الجنسية بترولية عملاقة وهي “شركة اكسون موبيل وشركة شفيرون-تيكساكو وشركة بريتش بتروليوم وشركة رويال دوتش شل“(8).ولم تقتصر موجة الاندماجات على شركات النفط فحسب بل امتدت لتشمل انواع الشركات كافة. فلقد حصل اندماج بين شركة “تايم وارنر” وشركة “اميركا اون لاين” لخدمات الكومبيوتر نتج عنه تكوين امبراطورية كبرى متعددة الانشطة امتد نشاطها ابتداءً من المجلات مرورا بافلام السينما وانتهاءً بالانترنت. ويتجاوز دخلها السنوي (30) مليار دولار(9). وكذلك اندماج شركة “سمث” العملاقة للادوية مع شركة (كلاسكو) واندماج اخطبوط الاتصالات (فود فون) مع (مان سمان) وان كل اندماج اكبر من الاخر يعطي مزيدا من القوة لهذه الشركات ويعزز مركزها على المستوى الدولي(10).

ويذهب “ريكاردو بتريلا” الى القول “بقدر ما تتعولم الشركة بقدر ما تفقد تدريجيا هويتها وسط شبكات الشركات والتحالفات والاسواق”(11). ان من مستلزمات نجاح الشركات متعددة الجنسية في نشاطاتها المختلفة في ظل العولمة، ان عليها ان تتبنى استراتيجية كونية، متمثلة باستخدام التكنولوجيا المتطورة فتصبح بذلك قادرة على تصنيع منتجات فائقة الجودة والنوعية وذات انماط متميزة فيكون من الصعوبة تقليدها(12). وتهدف هذه الشركات من خلال استخدام التكنولوجيا المتطورة فضلا عن تنميط منتجاتها بحيث تكون مقبولة عالميا، تسويق قيم ثقافية بحيث تؤثر في طبيعة الدول المضيفة لها، اذ انها تقوم بتركيز السيطرة على التقبل النفسي للسلع الاستهلاكية بالتعرف على اذواق المستهلكين ورغباتهم(13)، فهي بما تمتلكه من سيطرة عالية على وسائل الاعلام، لها القدرة العالية على ترويج ثقافة العولمة التي “تتمحور حول تطوير وتوصية انماط استهلاكية محاكية للانماط الاستهلاكية الغربية عموما والامريكية خصوصا”(14). ويؤكد “بيكمور” ان الشركة المتخصصة بانتاج بسكويت “ريتزكراكرز” عندما قامت بعرض هذا البسكويت على شاشات التلفزيون ليصل الى دول العالم، لم يكن اساسه الترويج لتلك السلع من اجل الربح فحسب، بل انها عمدت من خلال ذلك ان تقول “اننا نبيع مفهوما“(15).

وبهذا فان الشركات متعددة الجنسية تعد بحق اهم مؤسسات العولمة وذا مركز قانوني دولي متميز، اذ انها تقوم بالدور الكبير بتعميم الكثير من مفاهيم تلك الظاهرة، حيث تبلغ قيمة مبيعاتها ما يزيد على اجمالي الناتج القومي للعديد من دول العالم متوسط الدخل وخاصة في دول العالم الثالث ولو “تناولنا بالدراسة اضخم مائة اقتصاد في العالم فستجد ان اكثر من 50% منها متمثلة في شركات، والباقي في دول، وان شركة متعولمة واحدة لديها دخل ومبيعات سنوية تفوق مجموع اجمالي الناتج القومي لتسع دول يبلغ تعداد سكانها (550) مليون نسمة، او ما يعادل 10% من تعداد سكان العالم، وتخضع 25% من الموجودات في العالم لهيمنة (300) شركة متعولمة فقط. كما تبلغ الموجودات المجمعة لاكبر (50) مصرفا تجاريا ومؤسسة مالية في العالم ما يعادل زهاء 60% من الاسهم العالمية في راس المال المنتج. هذه السلطات والقوى التي لا يصدق مداها تقع تحت امرة زمرة قليلة اصبح نفوذها اوتقراطيا تفرضه على الدول. وتهمش أية ديمقراطية تحجمها، كما تقف في وجه أي تشريع او حكومة تحاول اعتراض نفوذها او الوقوف بوجه مصالحها المتعولمة“(16). لقد لجات الشركات متعددة الجنسية في ظل العولمة الى اتباع اسلوب التركيز الشديد في الملكية والسيطرة يقابلها التخصص في وحدات الانتاج الصناعي، فهذه الشركات قد اعادت هيكلية عملها عن طريق تصغيرها حجم اجهزتها الادارية والتخلي عن اسلوب المجمعات الصناعية الضخمة، و بالمقابل فأنها نشرت أنشطتها في الخارج عن طريق انشاء شركات وليدة او تابعة لها او بطريق التعاقد من الباطن(17).

واخيرا يمكننا القول ان العولمة تعد اهم الاحداث والمنعطفات التاريخية التي ساهمت في ازدهار الشركات متعددة الجنسية وابقائها إلى الآن الوحدة الاقتصادية القادرة على التكييف مع الواقع والتجاذب مع المتغيرات التي تلحق المجتمع الدولي من حين إلى آخر. فالشركات قد اخذت مكانا عظيما في الاقتصاد الدولي فهي لم تعد مجرد وحدات اقتصادية تمارس نشاطا على مستوى دولي فحسب بل امتلكت مفاتيح القوة، فهي في ظل العولمة قد غيرت الكثير من سياساتها المالية والاقتصادية بل وحتى السياسية واصبحت تنافس الدول كلاعب رئيس في العلاقات الدولية، لان امتلاكها امكانات وقدرات هائلة قد مكنها من ان تمارس مختلف الضغوط على حكومات الدول لتحقيق مصالحها مما شهد بالمقابل تراجعا ملحوظا في الدور الوظيفي للدولة داخل اقليمها. وهكذا فان العولمة قد اضفت على الشركات متعددة الجنسية وصف الاشخاص الدوليين لانها برزت مركزها الدولي بصورة واضحة، حيث انها في ظل العولمة اصبحت اقوى من اقوى الدول فما عساها ان تفعل أي دولة تجاه شركة (I.B.M) مثلا، اذا ما ارادت هذه الشركة نقل الوحدة الانتاجية التابعة لها من هذه الدولة الى دولة اخرى الامر الذي يلحق ضررا بالاقتصاد القومي للدولة. امام هذا العجز الذي يزيد يوما بعد يوم للدول بمواجهة الشركات فان اعادة هيكلية مركزها على المستوى الدولي والاعتراف لها بشخصية قانونية دولية محدودة امر تتطلبه ضرورة مراجعة الانشطة المتزايدة للشركات متعددة الجنسية في ظل العولمة.

________________

1- انظر د.مازن عيسى الشيخ راضي/ العولمة والشركات العالمية والاثر المتبادل الشراع والذراع، مجلة كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة، العدد 4، تصدر عن كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة، بغداد، 2001، ص83.

2- انظر برهان غليون/ رهانات العولمة، بحث مسحوب من الانترنت على الموقع http://www.mafhoum.com، ص6.

3- يحيى اليحياوي، العولمة :أي عولمة؟ افريقيا الشرق، بيروت، 1999، ص41.

4- انظر د. مازن عيسى الشيخ راضي/ العولمة والشركات العالمية والاثر المتبادل الشراع والذراع، مجلة كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة، العدد 4، تصدر عن كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة، بغداد، 2001، ص83، ص90.

5- انظر دان غالين/ أي حركة نقابية في زمن العولمة، بحث مسحوب من الانترنت http://www.maroc.attac.org ص2

6-UN Transnational Corporations، Vol. 9، No.3، December 2000، P 99-101.

7- انظر د.مازن عيسى الشيخ راضي، مصدر سابق، ص93.

8-انظر مامون الباقر، الشركات متعددة الجنسية تلغي نفوذ الدولة القومية، بحث مسحوب من الانترنت على الموقع http://www.albayan.ae/servatt ص4

9- انظر خالد عبد العزيز الجوهري، الاندماج ما بين الظاهرة والهوس، مجلة السياسة الدولية، العدد 140، مؤسسة الاهرام، القاهرة، 2000، ص177.

10- Yanuar Nuyroho، The Power of Corporations Towards Good governance ، p4

بحث مسحوب من الانترنت على الموقع www.globalpolicy.org

11- انظر يحيى اليحياوي، العولمة :أي عولمة؟ افريقيا الشرق، بيروت، 1999، ص50.

12- انظر سعد غالب ياسين، الادارات الدولية “مدخل استراتيجي”، ط1، دار اليازوري العلمية للتوزيع والنشر، عمان، 1999، ص153.

13- انظر محمد السيد سعيد، الشركات عابرة القومية ومستقبل الظاهرة القومية، عالم المعرفة، الكويت، 1986، ص57.

14- انظر د. مازن عيسى الشيخ راضي/ العولمة والشركات العالمية والاثر المتبادل الشراع والذراع، مجلة كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة، العدد 4، تصدر عن كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة، بغداد، 2001، ص83، ص96.

15- انظر مايكل تانزر واخرون، من الاقتصاد القومي الى الاقتصاد الكوني : دور الشركات متعددة الجنسية، ترجمة، عفيف الرزاز، ط1، مؤسسة الابحاث العربية، بيروت، 1981، ص43.

16- عبد الحي يحيى زلوم/ نذر العولمة : هل بوسع العالم ان يقول لا للرأسمالية المعلوماتية، عمان، 1999، ص352.

17- انظر د. إسماعيل صبري عبد الله، العرب والعولمة : العولمة والاقتصاد والتنمية العربية (العرب والكوكبة) بحث مقدم الى ندوة العرب العولمة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998، ص366.

المؤلف : طلعت جياد لجي الحديدي
الكتاب أو المصدر : المركز القانوني الدولي للشركات متعددة الجنسية
الجزء والصفحة : ص132-136

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .