التزوير المعنوي .. قراءة في النظام الجزائي للتزوير
د. عبد اللطيف القرني
من خلال قراءة في نظام التزوير الجديد، نجد أن النظام عالج مسائل جديدة، من أهمها تعزيز تجريم التزوير المعنوي من خلال طرح أكثر من صورة لتوسيع دائرة النظر، من ذلك اعتبار استخدام التوقيع الصحيح أو الختم الصحيح بطريق الخداع والغش، وكذا إساءة استخدام التوقيع على بياض، مع أن النظام تناولها في النظام القديم- كما في المادة الخامسة ـــ إلا أن النظام الجديد شرح الصور التي تدخل ضمن مفهوم التزوير المعنوي، وللقاضي أن يدخل أي صورة فيها تغير للحقيقة ومجانبة للعدالة، وقبل شرح معنى التزوير المعنوي نوضح معنى التزوير في أصله الذي هو تغيير الحقيقة تغييراً من شأنه إحداث ضرر، وبنية استعماله كمحرر صحيح. وتنقسم جرائم التزوير إلى قسمين الأول: جرائم التزوير المادي، وهي تلك الجرائم المتعلقة بكل عبث وتغيير الحقيقة في محرر تاركاً أثرا يتبين بالحواس المجردة أو الخبرة الفنية من مظاهر مادية نتيجة كشط أو محو أو طمس أو تقليد خط الغير أو نسب كتابة أو إمضاء لغير صاحبها.

والقسم الثاني: وهو ما سنلقي عليه الضوء- جرائم التزوير المعنوي التي تتحقق بتشويه وتغير المعاني التي كان يجب أن يعبر عنها المحرر وفقاً لإرادة من ينسب إليه بياناته، أي أن مفهوم التزوير المعنوي بصورة أبسط هو تغير للحقيقة بشكل لا يتضمن تغييراً في مظهره المادي، وإنما في تغيير البيانات دون إرادة، وعلم صاحب المستند. وإثبات القصد الجنائي في التزوير المعنوي لا يأتي إلا من خلال التحقيق وتحري الحقيقة من مصادر أخرى، كالقرائن المصاحبة للمستند، فإن ثبت الاختلاف بين الحقيقة وما تضمنه المحرر المزور، وتيقنت جهة التحقيق من توافر نية الاستعمال بقصد الضرر تمت جريمة التزوير كاملة الأركان.

وقد نص المنظم في النظام الجديد في المادة الثانية الفقرة (ج) على جريمة التزوير المعنوي، وأهمهما ما تضمنته المادة وهو شرح لجوهر فكرة تغيير إقرار صاحب الشأن، ويتم ذلك بتغيير بيانات صاحب الشأن عن طريق مدون المحرر الذي قصد تزوير الحقائق، إما تماشياً مع مصلحة صاحب الشأن، وإما مخالفاً لتلك المصلحة. وخطورة هذه الطريقة أن المزور يسيء استغلال الثقة التي وضعها فيه أصحاب المصلحة، ويستغل إهمالهم أو رعونتهم لتغيير إرادتهم، وهذه الطريقة تتم في المحررات العرفية والرسمية،

ومن أمثلتها استخدام توقيع على بياض، خاصة في الشيك من حيث الاستيلاء على ورقة الشيك بعد توقيعها، وكما يحصل أحياناً من قيام سكرتير إحدى الشركات التجارية باستغلال ذروة العمل والإلحاح على المدير للتوقيع على أوراق قام بدسها لمصالحته الشخصية فيكون قد ارتكب جريمة التزوير. ومن المهم معرفة أن التزوير المادي يقتصر على تحريف الشكل أو الظاهر الخارجي للمحرر، بينما يتناول التزوير المعنوي تشويه مضمون المستند، أي موضوعه وظروفه بما يجعل إرادة صاحب المحرر مشوهة، فالتزوير دخل على معنى المحرر وليس شكله الخارجي، كما أن التزوير المعنوي لا يكتشف من خلال علامات أو آثار مادية ظاهرة غالباً؛ بل لتضمّن المستند بيانات تدل الظروف على أنها كاذبة وغير دقيقة.

إن إثبات التزوير المعنوي الباطني لا يتم بالاستعانة بالخبرة الفنية على غرار التزوير المادي- هذا في الغالب- بل باللجوء إلى التحقيقات والاستجوابات والاستماع إلى الشهود، فضلا عن اعتماد بداية البيانات الخطية والقرائن العامة، وغالباً يكون الاستعانة بالخبرة الفنية من خلال معرفة التوقيت الزمني للبيانات التي تكشف قرائن ومعاني مخالفة للشكل الظاهر للمحرر، والمقصود إثبات عدم صحة واقعة بأي دليل من أدلة الإثبات.

ولو نظرنا إلى السبب الذي جعل المنظم يضفي صوراً للتزوير المعنوي، ويؤكدها في أكثر من معنى، كثرة الوقائع الكاذبة التي تحمل توقيعاً صحيحا تم استغلالها عن طريق الخداع، خاصة استخدام التوقيع على بياض، وأشد صور إساءة استخدام التوقيع على بياض هو التوقيع على السندات التنفيذية، مثل الشيكات، والسند لأمر، خاصة من الموظف في القطاع الخاص أو الوكيل الذي يطلع على الأوراق والمستندات، فمتى ما توافرت القرائن التي تدل على خيانة الأمانة، وإساءة استخدام التوقيع، وجب عندها الحكم بتزويرها المعنوي، ومن أبرز ما يكشف التزوير المعنوي في الورقة التجارية هو بحث الالتزام الأساسي الذي نشأت عنه الورقة التجارية، والكشف عن ركن السبب، ومتى حررت البيانات؟

وهل كانت متزامنة مع التوقيع أو بينهما وقت طويل؟ كذلك البحث عن ركن الرضا؟ وهل الشخص المستفيد مقدوح فيه؟ إلى غير ذلك من القرائن التي تدل بمجموعها على انتفاء إرادة الساحب في تحرير الشيك للمستفيد. إن فساد الأخلاق جعل المنظم يضفي على المحررات حماية من ذوي النفوس الرديئة التي تستخدم الخداع وسيلة لها في استخدام محررات صحيحة بتحريفها بأي وسيلة تحريف، ما يجعلها تناقض مقصود أصحابها، ولذلك كان لابد من وضع هذه الحماية، ويبقى على الأفراد زيادة الحيطة في محرراتهم والاهتمام بها، وعدم الإفراط في الثقة بالآخرين اغتراراً باللحظة المكتسية بالابتسامة الصفراء، فالثقة في التعامل تكون في الدائرة الضيقة، وهذه الدائرة يتم قياسها بمقياس التجربة الناضجة، وليس في هذا زرع الشك في كل من حولك، ولكن بين الشك في كل شيء وبين دائرة الثقة في كل تعامل مساحة ينبغي أن نكون فيها أثناء تعاملاتنا.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت