الشرعية السياسية بين الشريعة و القانون

ترجع الأصول الفكرية لما يُسمى بالشرعية السياسية إلى مشكلة علاقات الأمر والطاعة في المجتمع, إذ يتصور الفكر الغربي أن تولي السلطة بما يتضمنه من احتكار لأدوات العنف يهيئ للتدلي بتلك الرغبة إلى التعسف في استعمالها, والانحراف بها عن أغراضها الخيرة إلى أغراض شريرة تضر المجتمع الذي سمح لها من قبل وأنشأها برغبته المحضة؛ تحصيلًا للمنافع المتولدة من التعاون والاجتماع, ودفعًا لمفاسد الفوضى والغوغائية.

هذه المشكلة في علاقة طرفي المجتمع صاحب السلطان, ومن يقعون تحت سلطانه وسطوته، أفرز سؤالًا ملحًّا في علم السياسة، ألقى بظله على العلوم القانونية، قوامه: ما هي الوسائل التي لو اتُبعت لحالت دون التسلط والاستبداد والتدلي إلى الطغيان؛ ومن ثم الفساد، مع الاحتفاظ بهيكل السلطة والوقوف بها عند خيريتها المرجوة؟

هذه المشكلة في حقيقتها ليست وليدة الفكر المعاصر؛ فقد شغلت الفكر الإنساني منذ العهد اليوناني القديم, وكذا الفكر السياسي المعاصر, وكان لها نصيب في الشريعة الإسلامية الغراء.

فقد راح الفكر اليوناني ينطلق من تقسيمه لشكل الحكومات والتفاضل بينها إلى إجابة على هذا السؤال, فهي ـ أي الحكومات ـ وفق “المعيار العددي”، ثلاثية القسمة؛ حكومة يقودها فرد، أو حكومة قلة, أو حكومة كثرة, وكل شكل من هذه الأشكال يمكنه أن يتدلى بالسلطة إلى الطغيان، فحكومة الفرد هي أقرب هذه الحكومات إلى الاستبداد؛ لأن الفرد سيعمل حتمًا لصالحه الشخصي أو العائلي, ثم حكومة القلة والتي ستعمل لصالح الطبقة التي تمثلها على حساب بقية الطبقات الأخرى, وحكومة الكثرة ستعمل على هضم حقوق الأقليات؛ ومن ثم فإن “الحكومة الخيرة” التي تحظى بشرعية كاملة وفق التصور اليوناني هي “الحكومة المختلطة”، التي تتمثل فيها كافة الطبقات بنسب تمنع انفراد الفرد أو الطبقة بالسلطة.

وواضح من هذا التصور, الذي لم تجد المدينة اليونانية القديمة سبيلًا لتطبيقه, ليبقى تصورًا فلسفيًّا محضًا في فكر فلاسفة اليونان وفي مقدمتهم أرسطو, أنه لن يكون سبيلًا لحل مشكلة الشرعية لا في القديم اليوناني, ومن باب أولى في الفكر الحديث, الذي وإن لم يجد طريقًا عمليًّا لتطبيق هذه الفلسفة إلا أنه تأثر بها إلى حد كبير، وهو يحاول أن يجد سبيلًا لمشكلة الشرعية السياسة.

وإذا ما تأملنا في الفكر السياسي الحديث وهو يلهث وراء وقاية من هذا الاستبداد، الذي تبرز أنيابه من راء حجب السلطة السياسة، نراه اتخذ في هذا السبيل أفكارًا مختلفة, يأتي في مقدمتها ما صكه الفرنسي “مونسكيو” في القرن الثامن عشر في كتابه “روح القوانين”, حيث ميز بين ثلاثة أنواع من الحكومات, تخالف ما ذهب إليه أرسطو من قبل, فقد جعلها: إما حكومة جمهورية، حيث يقوم الشعب أو جزء منه على شئون الحكم, والملكية حيث ينفرد بالحكم شخص أو عائلة، وفي كلا الحالتين ثمة قانون ملزم تسير وفقه الجمهورية أو الملكية, والقسم الثالث هو حكم الاستبداد, فلا قانون مسبق يضبط السلطة ويسيرها؛ فتصبح بذلك منفلتة، فتتدلى إلى الاستبداد والفساد ولابد.

وواضح من هذه التفرقة أن المعيار الذي استند إليه “مونسكيو” هو معيار جد مختلف عن المعيار العددي اليوناني, فالحكم أيًّا كان شكله إذا التزم بقانون مسبق، فهو يحظى بشرعية سياسية وقانونية معتبرة, شرعية تكسو وجوده واستمراره, أما إذا كان الحكم بالهوى؛ فلا شرعية لهذا الحكم مهما اكتسب من مسميات وألقاب.

فليست المشكلة في تصور “مونسكيو” في عدد القائمين على الحكم, وإنما في السند الذين به يحكمون, فالهوى قرين الاستبداد, والقانون سبيل الشرعية.

ومع أن هذا التصور قريب مما جاء في الشريعة الإسلامية على نحو ما سنرى, إلا أنه وغيره من المفاهيم والتصورات الغربية لم تقدم مضمونًا موضوعيًّا عمليًّا لضمان الشرعية, وعدم التدلي إلى الاستبداد, إذ جعل مونسكيو ـ وجرى على نهجه الفكر الغربي المعاصر ـ من مبدأ الفصل بين السلطات ضمانة عملية لتحقيق هذه الشرعية السياسية, والتغلب على الشر المنبعث من الانفراد بالسلطة, وهو المبدأ الذي يقوم على فكرة أن السلطة في ذاتها قوة لا يمكن وقف تدليها للانحراف والاستبداد إلا قوة مناظرة, وحيث لا قوة تضاهي السلطة, فإنه من المناسب أن نحطم هذه القوة الجبارة لتتنازع فيما بينها على النفوذ، فينجو المجتمع من غائلة الاستبداد والفساد.

وهذه الضمانة كما هو واضح تقترض تصورًا مثاليًّا، قوامه قيام ثلاث سلطات متساوية القوة، مستقلة تمامًا عن بعضها, لا تجمعها مصالح مشتركة, وهو تصور لم تعرفه الحياة السياسية في أي وقت مضى, ولم يقره أي قانون, فهو أقرب ما يكون إلى الإفرازات الذهنية المثالية المجردة من الرؤية الواقعية التي يفترضها علم السياسة.

ومن الملاحظ في كل هذه الأطروحات، أنها لم تجعل للمجتمع الذي هي تدافع عن حريته, وتبحث في التقليل من غلو سلطته الحاكمة، أي دور حقيقي في مواجهة هذا الاستبداد الذي يتهدده، إلا انتظار قرار من سلطة أخرى تحكم بفساد السلطة وعدم شرعيتها, أو أن يمكث رهين هذا الوضع البائس في انتظار انتخابات يغير فيها ذلك الوضع.

ونحن إذا ما تأملنا في شرعيتنا الإسلامية؛ فنراها اتخذت منهجًا متميزًا من حيث التصورات الفكرية أو الضمانات العملية.
فمن حيث التصورات الفكرية، لم تر الشريعة الإسلامية في السلطة كما في الغرب ظاهرة أفرزتها الحاجة المجتمعية فحسب, فهي قبل ذلك ضرورة شرعية وفريضة دينية، يأثم المجتمع بأسره إن تقاعس عن إيجادها أو تخلف عن السعي لإنشائها.

يقول ابن حزم: (اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليه الانقياد لإمام عادل يقيم فيها أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة) [الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، (4/87)].

ويقول الإمام الماوردي: (عقد الإمامة لمن يقوم بها واجب بالإجماع) [الأحكام السلطانية, الماوردي، ص(5)]، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقربة، يتقرب بها إلى الله, فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات) [السياسة الشرعية، ابن تيمية، (1/170)].

وتخالف الشريعة الإسلامية كذلك التصور الغربي من حيث شكل “الحكومة الخيرة”, فليس الأمر في الشريعة مرتبط بعدد, حيث اقترنت الكثرة غالبًا في الإسلام بالذم, فقال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25], وقال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100].

وفي مقابل ذلك، امتدح الإسلام صفة العلم وغيرها من الصفات الطيبة؛ فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9], ووضع شروطًا معتبرة لمن يتولى السلطة, وهو ما يعني أن الميزان ليس التعبير عن الكثرة, وإنما توافر الشروط الدينية والعلمية؛ ومن ثم فهي إن جاز التعبير “حكومة كيف”, وليست “حكومة كم”, أي أن عنايتها “بمن” يتولى السلطة, وليس بـ”عدد” من يحكمون.

وبصدد مفهوم الشرعية وامتثال السلطة وعدم تدليها إلى الفساد أو الاستبداد, وضعت الشريعة ضمانتين اثنتين:

الأولى: ضرورة تقيد السلطة والتزامها بالدستور المسبق الممثل في القرآن والسنة, وهي ضمانة إنشاء ودوام, أي يجب أن توافق السلطة على نصوص الوحيين قبل توليها, وأن يستمر هذا التقيد والانصياع وهي تمارس دورها في السلطة.

الثانية: وهي ضمانة عملية للمجتمع، ممثلة في حق الاحتجاج وعدم الامتثال لأي قرار خارج عن الأطر الشرعية, دون حاجة لقانون يُصدر من سلطة أخرى, بل قد تعدى الأمر في ظل الشريعة الإسلامية إلى حد الفرضية لكل فرد، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السياسي، وليس فقط السماح بالاعتراض عند أي بادرة للخروج عن الشرعية من قِبَل السلطة الحاكمة.

هكذا تصور الإسلام الشرعية السياسية, في كونها التزام من السلطة الحاكمة وقبل أن تتولى مسئوليتها المنوطة بها بالنصوص الشرعية الحاكمة والممثلة في الكتاب والسنة, على أن يبقى هذا الالتزام مصاحبًا لها أثناء ممارستها لمهامها, وإلا فقدت من شرعيتها بقدر ما تبعد قراراتها وتخرج عن الشريعة.

ثم وضعت الشريعة ضمانة أخرى عملية ممثلة في حق كل فرد في المجتمع في ممارسة حقه, وهو آنذاك واجبًا عليه, إذا ما وجد انحرافًا عن الشرعية, حتى تعود السلطة لجادة الطريق.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت