توجد الى جانب النصوص الدستورية المقررة للحريات العامة، وثائق تعبر فيها الدولة عن فلسفة المجتمع وما يجب ان يقوم عليها من اسس، وهي ما تعرف باعلانات الحقوق والتي تمثل تاكيداً للحريات العامة وضماناً اساسياً في مواجهة سلطات الدولة، بحيث اصبح تقرير الحريات العامة في الاعلانات المذكورة تقليداً متباعاً في فترات تاريخية متلاحقة. وتظهر اهمية اعلانات الحقوق من الناحيتين السياسية والادبية على حد سواء ، حيث تبرز اهميتها السياسية باعتبار ان اعلانات الحقوق تمثل ثمرة نجاح الشعوب في كفاحها تجاه الحكام من اجل الحصول على حقوقها وحرياتها ، وذلك مايكون دافعاً لها من اجل صياغة مكاسبها في هذا المجال بوثيقة كبرى يعتقد واضعوها بانها تسموا على كافة القوانين داخل الدولة ، بينما تبرز اهمية اعلانات الحقوق من الناحية الادبية كونها تجعل الشعب اكثر يقضة وانتباهاً لتصرفات الحكام ، وفيما اذا كانت تشكل خروجاً عن سلوكهم السابق من عدمه ، وذلك لما تمثله اعلانات الحقوق من قدسية ومهابة ، وبغض النظر مما اذا كانت الحقوق والحريات الواردة في اعلانات الحقوق قد تم تطبيقها عملياً ام اقتصر ذلك على اهميتها النظرية فحسب ، اذ انها تبقى من اهم عوامل الارشاد وتنوير الافكار وهداية الشعوب (1).

ان تقرير الحريات العامة في اعلانات الحقوق، يمثل اسلوباً مميزاً للنظام الدستوري الفرنسي، اذ صدر اول اعلان للحقوق عام 1789، والذي يعد المصدر التاريخي للتنظيم الدستوري المعاصر لحقوق الانسان وحرياته، وقد اكدت مقدمة الاعلان على ان حقوق الانسان هي حقوق طبيعية خالدة ومقدسة، كما ورد النص في المادتين الاولى والثانية منه بان الناس يولدون ويظلون متساوين في الحقوق، وان صيانة حقوق الانسان الطبيعية الخالدة وهي الحرية والملكية والحق في الامن ومقاومة الطغيان هي هدف كل مجتمع سياسي.(2) وقد اصدرت الجمعية التاسيسية الفرنسية اعلاناً اخراً للحقوق في العام الثالث للثورة، 1793، الا انه لم يكن الا نسخة مشابهة لاعلان الحقوق الاول لعام 1789، ولم يكن له اثر في ازالة اثاره من الاذهان، وقد صدرت اعلانات الحقوق بشكل متتابع اما بصورة مستقلة عن الدستور كما هو الحال بالنسبة للاعلان الاول او على شكل اشارات لها ترد في مقدمة الدساتير كما هو الحال في الدستور الفرنسي لعام 1946، والدستور الحالي لعام 1958(3).

وقد اختلف الفقه القانوني بصدد القيمة القانونية للنصوص الواردة في اعلانات الحقوق ، ويمكن التمييز في هذا الخصوص بين ثلاثة اتجاهات وعلى النحو التالي :ـ

الاتجاه الاول : ويمثل هذا الاتجاه في الفقه الفرنسي العميد ( ليون ديجي ) والذي اضفى على اعلانات الحقوق قيمة اسمى من قيمة النصوص الدستورية على اعتبار انها تمثل مباديء سامية ومقيدة لكافة السلطات في الدولة ، بحيث يقتصر دور المشرع الدستوري على الكشف عنها دون ان ينشأ حقوقاً جديدة ، وتبقى هذه الاعلانات – بحسب هذا الرأي – حتى بعد الغاء الدستور ، وقد قسم اصحاب هذا الاتجاه ، القواعد القانونية في الدولة الى ثلاث درجات وهي القواعد الواردة في اعلانات الحقوق والقواعد الدستورية والقواعد الواردة في القوانين العادية (4) . وقد تعرض الاتجاه السابق لنقد شديد من الفقه الدستوري ، وذلك على اعتبار ان القواعد الدستورية تحتل قمة الهرم القانوني داخل الدولة ، ثم تليها القواعد القانونية العادية ، اذ لاتوجد قواعد قانونية لتسمو على القواعد الدستورية من جهة ، ومن جهة اخرى فان اعلانات الحقوق انما يتم وضعها من قبل السلطة التاسيسية الاصلية ، وهي ذات السلطة التي تضع القواعد الدستورية ، لذا فان هناك تناقضاً منطقياً بين الادعاء بان ارادة السلطة التي وضعت اعلانات الحقوق تكون اعلى من ارادتها وهي تضع اعلانات الحقوق سابقاً ، هي تغيير ارادتها لاحقاً عند وضع الدستور ، كما ان الاجيال الحالية لاتستطيع ان تخضع عن طريق القوانين الصادرة عنها الاجيال المقبلة (5) .

الاتجاه الثاني : ويمثل هذا الاتجاه في الفقه الفرنسي الفقهاء ( كاريه دي مالبيريج ) و( ازمان) و (لافيير ) ، اذ يؤكد انصاره على عدم اضفاء اية قيمة قانونية لاعلانات الحقوق ، كونها لاتعدو ان تكون مباديء فلسفية ذي قيمة ادبية فقط ، دون الزام قانوني لها مقارنة عما هو عليه بالنسبة لقواعد القانون الوضعي (6) . وقد تعرض الاتجاه السابق للنقد ايضاً ، باعتبار ان اعلانات الحقوق يتم وضعها من قبل السلطة التاسيسية الاصلية وهي اعمال قانونية ولا يمكن انكار صفتها القانونية (7) .

الاتجاه الثالث : يذهب اصحاب هذا الاتجاه الى اضفاء الصفة القانونية لاعلانات الحقوق (8) . الا انهم اختلفوا في مرتبتها ، اذ يرى الفقيه ( جيز) بان لاعلانات الحقوق قيمة قانونية الا انها تكون ادنى درجة من التشريع ،حيث انها غير ملزمة للبرلمان الا انها مقيدة للجهة الادارية(9) وذهب الفقيهان ( اندريه هوريو)(10) و ( موريس هوريو)(11) في الفقه الفرنسي والدكتور مصطفى ابو زيد فهمي (12) في الفقه العربي الى اضفاء قيمة قانونية لاعلانات الحقوق مساوية للقيمة القانونية للقواعد الدستورية اذ لافرق – بحسب هذا الرأي – بينهما ، وبالتالي فانها تكون ملزمة للمشرع العادي وللقاضي وللافراد على حد سواء ، الامر الذي يترتب عليه انتفاء القيمة القانونية لاعلانات الحقوق عند الغاء الدستور مباشرة . ويستند اصحاب هذا الرأي الى عدة حجج في تدعيم رأيهم ، وهي (13) :-

1) ان اعلانات الحقوق تعتبر جزء من الدستور ، ومنذ آواخر القرن الثامن عشر وحتى الوقت الحاضر ، وذلك ماقررته الدساتير الفرنسية كدستور 1971 ودستور 1946 والدستور الحالي عام 1958 .

2) ان مايجري عليه العمل في الولايات المتحدة الامريكية هو مساواة اعلانات الحقوق بالدساتير من حيث قوتها القانونية ، اذ يمارس القضاء الامريكي رقابته على دستورية القانون من حيث مطابقتها لنصوص الدستور والاعلانات الحقوق .

3) ان هنالك دستوران داخل الدولة ، احدهما سياسي يبين نظام الحكم فيها ويحدد نشاط سلطاتها العامة ، والآخر اجتماعي يحدد العلاقة القائمة بين الدولة والافراد ، ويبين حقوق المواطنين الفردية ، وهذا مايسمى باعلانات الحقوق ، وهذا الاخير – بحسب هذا الرأي – لايقل اهمية عن الدستور السياسي ، بحيث تكون لها ذات القيمة القانونية .

الاتجاه الرابع : ويتمثل هذا الاتجاه في الفقه الفرنسي الفقهاء ( فيدل ودليفولفيه ) ، والذي يميز بهذا الخصوص نوعين من النصوص الواردة في اعلانات الحقوق ، الاولى وهي النصوص التقريرية او القانونية والثانية هي النصوص التوجيهية او المنهجية (14) .

وتتميز النصوص التقريرية او القانونية بانها محددة ، وقابلة للتطبيق المباشر ، ويكون للافراد حق المطالبة بتطبيقها دون حاجة لتدخل المشرع العادي لتنظيمها ، بل ان هذا الاخير يكون ملزماً باحترامها وعدم اصدار مايخالفها من قوانين ، ومن امثلتها ماورد عليه النص في المادة العاشرة من اعلان الحقوق الفرنسي (( ان لايضار احد بسبب افكاره او معتقداته )) والمادة السابعة عشر منه (بوجوب التعويض العادل مقدماً في حالة نزع الملكية او الحرمان منها )(15)

اما النصوص التوجيهية او المنهجية ، فهي نصوص غير محددة ، وتعبر عن الاهداف التي يسعى النظام السياسي الى تحقيقها في الدولة ،كما وانها توضح الاسس التي يجب ان يقوم عليها النظام في المجتمع ، وتوصف من قبل بعض الفقهاء كونها (( قواعد برامج)) ولا يمكن للافراد المطالبة بتطبيق هذه النصوص ، حيث لايمكن القيام بذلك الا بتدخل السلطة التشريعية ، ومن امثلتها حق العمل لكل مواطن (16) . ويلتزم المشرع تجاه النصوص التوجيهية بنوعين من الالتزام ، اولهما وجوب تدخله لغرض اصدار القوانين اللازمة بغية تنفيذ هذه النصوص عملياًً ، وثانيهما وجوب عدم مخالفة النصوص المذكورة عند اصدار القوانين صراحة او ضمناً ، كون النصوص المذكورة تبين الانشطة اللاحقة للمشرع والتي يجب عليه احترامها والتقييد بها (17) .

ويلاحظ بان مجلس الدولة الفرنسي، يعمل على تطبيق المبادئ الواردة في اعلانات الحقوق او الاعتداد بها في الاحكام القضائية الصادرة منه، الا ان قيامه بذلك لا يتم باعتبار ان ما ورد في اعلانات الحقوق يعد نصوصاً قانونية ذات طبيعة دستورية او تشريعية، بل باعتبار ان ما تتضمنه اعلانات الحقوق يمثل تطبيقاً للمبادئ العامة للقانون، لذا يعمد مجلس الدولة الفرنسي الى الغاء الاجراءات التي تتخذها الجهة الادارية بسبب مخالفتها للمبادئ الواردة في اعلانات الحقوق، دون الاشارة للاعلانات المذكورة، اذ يتم تاسيس قضاؤه بهذا العدد استناداً لمبدأ من المبادئ العامة للقانون(18). وقد عَدَلَ مجلس الدولة الفرنسي عن موقفه السابق لاحقاً في الحكم الذي اصده في قضية ( candamine ) اذ انه قد اعتد فيها بالقيمة القانونية للنصوص الواردة في اعلانات الحقوق كونها تمثل احد مصادر القواعد القانونية المكتوبة ،ويجب الالتزام بها وعدم مخالفتها ، لذا فان القرارات الصادرة عن الجهة الادارية انما تكون غير مشروعة وجديدة بالالغاء في حالة مخالفتها للنصوص الواردة في اعلانات الحقوق (19) .

___________________

1- لتفصيل ذلك ينظر د.ثروت عبد العال احمد : الحماية القانونية للحريات العامة بين النص والتطبيق ، دار النهضة العربية ، 1998 ص72-73 .

2- Georges vedel: Manuel elementaire de droit constitutionnel، sirey، 1949، p. 70

3- د. محمود عاطف البنا: حدود سلطة الضبط الاداري، مجلة القانون والاقتصاد، ع3-4، س42، 1978، ص41

4-LeonDuGuit:traitededroitconstitutionnel ،paris،2e.ed.T.III،1925،P.59.

5- لتفصيل ذلك ينظر د. ابراهيم عبد العزيز شيحا : المباديء الدستورية العامة ، الدار الجامعية ، بيروت ، 1982 ، ص192-193.

6- لتفصيل ذلك ينظر د. ثروت عبد العال احمد : الحماية القانونية للحريات العامة ، المصدر السابق ص74.

7- د. نعيم عطية: في النظرية العامة للحريات الفردية، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965، ص158 .

8- د. سعاد الشرقاوي : نسبية الحريات العامة وانعكاساتها على التنظيم القانوني ، دار النهضة العربية ، القاهرة /1979 ، ص123.

9- نقلا عن د. ثروت عبد العال احمد : الحماية القانونية للحريات العامة بين النص والتطبيق ، دار النهضة العربية ، 1998،ص74

10- نقلا عن د ابراهيم عبد العزيز شيحا: المباديء الدستورية العامة ، الدار الجامعية ، بيروت ، 1982ص194.

11- Mourice Hauriou:precis de droit constiturionnel ، paris ، sirey ، 2e–ed1929،p.58

12- د. مصطفى ابو زيد فهمي : الدستور المصري ورقابة دستورية القوانين ، نشأة المعارف ، الاسكندرية ، 1985 ص202.

13- د.ابراهيم عبد العزيز شيحا: المصدر السابق ، ص195.

14- جورج فيدل ، بيار دلفولفيه : القانون الاداري ، الجزء الاول ، ترجمة منصور القاضي ، ط1 ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ،2001 ، ص 372 .

15- د.ابراهيم عبد العزيز شيحا: المباديء الدستورية العامة ، المصدر السابق ،ص199.

16- المصدر نفسه ، ص199-200.

17- المصدر نفسه ،ص200.

18- د. محمود عاطف البنا: حدود سلطة الضبط الاداري، المصدر السابق، ص43.

19- د. فاروق احمد خماس : الرقابة على اعمال الادارة ، دار الحكمة للطباعة والنشر ، بغداد ، 1988،ص19.

المؤلف : حبيب ابراهيم حمادة الدليمي
الكتاب أو المصدر : سلطة الضبط الاداري في الظروف العادية

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .