الأمثلة الشهيرة بالصدد تدخل القضاء

بتاريخ 15 مارت من عام 1910 أصدرت محكمة باريس حكماً صريحاً بالأخذ بنظرية تحمل التبعة، دون ان ينص عليها القانون المدني الفرنسي، وجاء في حيثيات الحكم ( وسواء اكان الضرر ناشئاً عن شيء ام عن فعل تابع او خادم لغير من كان ضحية هذا الضرر فان العدالة تقضي في هذه الحالة بان يتحمل النتائج المادية لهذا الضرر لا من كان ضحية له او ورثته وهم غرباء تماماً عن الحادث او الفعل الضار وانما يتحملها من كان الشيء او عمل التابع او الخادم يعود اليه بالفائدة والنفع )

كما اجتهد القضاء الفرنسي وقرر إن البطلان الذي يشوب بيع ملك الغير هو بطلان نسبي ، فاستقر هذا الاتجاه واتبعته جميع المحاكم ،رغم ان المادة(1599) مدني فرنسي لم تنص على أكثر من القول على إن بيع ملك الغير باطل ولم تحدد هل هو بطلان مطلق ام بطلان نسبي ، وبديهي ان يترتب على هذا الاجتهاد خلق مراكز قانونية جديدة لاطراف العلاقة القانونية في بيع ملك الغير لم يكن النص قد تضمنها لا صراحة ولا ضمناً .

وأخذ القضاء الفرنسي بنظرية الإثراء دون سبب رغم انه لا يوجد مبدأ عام في القانون الفرنسي يقرر هذه النظرية ، وكانت حجته في ذلك ان هناك نصوص تشريعية وردت بشأن بعض حالات الإثراء دون سبب ، كالفضالة ودفع غير المستحق ونحوهما ، فأعتبرها القضاء الفرنسي ليست سوى تطبيقات متفرقة لهذا المبدأ وردت على سبيل المثال لا الحصر فأدخل المبدأ كله جملة وتفصيلا الى النظام القانوني الفرنسي باجتهاده فأصبحت النظرية اليوم كأنها القانون المسنون لا يستطيع احد القول إن القانون الفرنسي لا يأخذ بها .

ومن الأمثلة على اثر تغير المبادئ والمثُل الاجتماعية على الاجتهاد القضائي ، اقرار نظام التعسف في استعمال الحق دون نص خاص ، حيث ان القانون الفرنسي والقانون المدني المصري القديم لم يتضمنا نصاً خاصاً بذلك ، وكان ذلك بدافع النظرة التقديسية الى حق الملكية والحقوق الفردية ، حيث عرف حق الملكية فيهما بأنه ( الحق للمالك في الانتفاع بما يملكه والتصرف فيه بطريقة مطلقة ) .

الا ان النظرة الاجتماعية للحق ومنه حق الملكية تغيرت بمرور الوقت وأصبح ينظر للحقوق على ان لها وظيفة اجتماعية تؤديها في إطار عموم مصالح المجتمع ،فظهرت اتجاهات فكرية تنادي بضرورة الحد من اطلاق الحقوق وتقييدها بواجب عدم التعسف في استعمالها .

تأثر القضاء الفرنسي والمصري بهذه النظرة المتطورة للحقوق ، فأقر مبدأ نسبية الحقوق وقيدها بواجب عدم التعسف في استعمال الحق ،واعتبر من يتعسف في استعمال حقه كمن يرتكب عملا غير مشروع ويكون مسؤولا عن الأضرار التي تلحق بالغير جراء ذلك التعسف .

كما أورد القضاء العديد من القيود على مبدأ، العقد شريعة المتعاقدين ،التي أملتها النظرة الإنسانية الجديدة للعلاقة بين الدائن والمدين وتخلصاً من المساوئ الاجتماعية الكثيرة التي نشأت بسبب تطبيق هذا المبدأ في صورته الأولى . ومن ذلك إن القانون المدني المصري القديم كان ينص على انه ( إذا كان مقدار التضمين في حالة عدم الوفاء مصرحا به في العقد او في القانون فلا يجوز الحكم بأقل منه ولا بأكثر)،إلا ان القضاء المصري أجاز لنفسه تخفيض التعويض المتفق عليه اذا كان مبلغ التعويض المتفق عليه مبالغاً فيه الى درجة كبيرة ولا يتناسب مع الضرر الذي أصاب الدائن بالرغم صراحة النص مستجيباً في ذلك لاعتبارات العدالة والملائمة ومرجحاً إياها على الاعتبارات التي أملت النص .

ومن جانب اخر ، فان اعتماد القضاء الانكليزي على المعايير القانونية أتاح له تطوير الأحكام القضائية التي كانت غالبا ما تتقيد بالأعراف القضائية ، ومنها معيار المعقولية ، ومفاده ان تفسير القوانين والأعراف وتكييف الوقائع ينبغي ان يكون في النهاية منسجماً مع مقتضيات العقل والفهم الصحيح للامور ، وبتطبيق هذا المعيار على الشروط العقدية التي اختل توازنها بسبب ما طرأ من ظروف جديدة لم تكن بالحسبان عند التعاقد ، يتبين مايلي : ان تلك الشروط تقوم في الأصل على مصلحة الدائن والمدين معاً ، الا ان تطبيق معيار المعقولية ، يكشف عن وجود مصلحة ثالثة، هي مصلحة الجماعة ، التي يهمها ان ان تنفذ هذه الشروط ، بشرط ان لا يترتب على تنفيذها إفلاس مدينين ( تجار ) معقولين ، إلا انهم كانوا سيء الحظ بسبب ظروف اجنبية لا دخل لارادتهم في تحققها . فحكم القضاء الانكليزي بفسخ مثل هذا العقد حيث ثبت لديه ان المدين لم يكن مخطئاً ، وان التنفيذ قد أصبح مرهقاً بشكل لو امكن لرجل عاقل ان يتنبأ به لما تعاقد .

وعلى هذا يكون للقضاء دور متميز في الحياة القانونية ، وهذا الدور متميز عن مجرد إنشاء القواعد العامة المجردة الذي هو من عمل المشرع لان القاضي هو من يضفي الفعالية من الناحية العملية على تلك القواعد و يجعلها ملائمة للواقع ومن أدواته في ذلك قواعد التفسير، المبادئ العامة للقانون ، المعيار القانوني ، مبادئ العدالة وهو يكاد يقترب من عمل المشرع من خلال الأداتين الأخيرتين فهو الذي يعين مضمونها عند نظره في قضية معروضة عليه .