مقال قانوني مميز عن العلاقة بين حرية التعبير و حرية العقيدة

للأستاذ الدكتور أحمد فتحى سرور

استاذ القانون الجنائي

ــــــــــــــــــــــ

القيمة الدستورية لحرية التعبير وحرية العقيدة:

تكفل الدساتير المختلفة حرية التعبير وحرية العقيدة. وقد درجت معظمها على النص على كل منهما في مادة مستقلة عن الأخرى. مثال ذلك الدستور المصري الذي نص على حرية التعبير في المادة 47 ونص على حرية العقيدة في المادة 46. والدستور الألماني الذي نص على حرية التعبير في المادة الخامسة، ونص على حرية العقيدة في المادة الرابعة، والدستور اليوناني الذي نص على حرية التعبير في المادة 14 منه وعلى حرية العقيدة في المادة 13 منه، والدستور النرويجي الذي نص على حرية التعبير في المادة العاشرة منه، ونص على حرية العقيدة في المادة الثانية من الدستور، والدستور البولندي الذي نص على حرية التعبير في المادة 54 منه ونص على حرية العقيدة في المادة 25 منه، بينما عنى الدستور الفيدرالي السويسري على النص على حرية العقيدة في المادة 15 منه، ونص منذ تعديله المعمول به في أول يناير سنة 2000 على حرية التعبير في عدد من النصوص وفقا لأشكال التعبير المختلفة (المواد من 16 إلى 21).

هذا بينما نصت بعض الدساتير على الجمع بين كل من حرية التعبير وحرية العقيدة في مادة واحدة مثال ذلك دستور رومانيا إذ نص في المادة 29 منه على كل من حرية التعبير وحرية العقيدة. كما نص الدستور الأمريكي لعام 1791 على الحريتين في مادة واحدة، وكذا الدستور البلجيكي الذي كفل في المادة 19 النص على الحريتين، وأيضاً الميثاق الكندي لعام 1982 حيث جمعت المادة 2 منه بين حرية العقيدة وحرية التعبير. كما عنى الدستور الأسبانى بالنص فى الفقرة الأولى من المادة 16 على ضمان الحرية الدينية ، وعبر فى الفقرة الثانية من هذه المادة على ضمان حرية التعبير بالنص على أنه لا يجوز إكراه أحد على الإفصاح على دينه أو معتقداته.

وقد عنى الدستور الفرنسي بوضع أساسين دستوريين لحرية العقيدة هما المادة الأولى من الدستور التي أوجبت احترام جميع المعتقدات، والمبادئ الأساسية المعترف بها بواسطة قوانين الجمهورية الفرنسية والتي تكتسب قيمة دستورية (قرار المجلس الدستوري رقم 446 لسنة 2001)، بينما جاء النص على حرية التعبير في المادة الحادية عشر من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789 والذي يتمتع بقيمة دستورية وفقا لقضاء المجلس الدستوري الفرنسي. (انظر قراره رقم 141 لسنة 1982).

وقد انتهج الدستور الايطالي منهجا متميزاً، فقد اقتصر على النص على حرية التعبير في المادة 21 منه، وعلى التأكيد على مبدأ علمانية الدولة في المواد 2 و3 و7 و8 و19 و20 من هذا الدستور. وقد استخلصت المحكمة الدستورية الايطالية من هذه المواد عدم جواز تقييد مظاهر الآراء الدينية بما في ذلك الشعائر الدينية. (انظر أحكام المحكمة أرقام 195 لسنة 1993 و329 لسنة 1997 و508 لسنة 2000 و327 لسنة 2002.

وقد عنيت الوثائق الدولية لحقوق الإنسان بالتأكيد على الحريتين، فنص عليهما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ( المادة 18 بالنسبة إلى حرية العقيدة والمادة 19 بالنسبة إلى حرية التعبير). ونص عليهما العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966) (في المادة 18 بالنسبة إلى حرية العقيدة، والمادة 19 بالنسبة إلى حرية التعبير). كما نص عليهما الإعلان الأمريكي لحقوق وواجبات الإنسان الصادر من منظمة الدول الأمريكية سنة 1948 في المادة الثالثة (بالنسبة إلى حرية العقيدة) والمادة الرابعة (بالنسبة إلى حرية التعبير) . ونصت عليهما الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في نطاق مجلس أوروبا والصادرة سنة 1950 في المادة 9 (بالنسبة إلى حرية العقيدة) والمادة العاشرة (بالنسبة إلى حرية التعبير). ونص عليهما الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الصادر من مجلس الرؤساء الأفارقة سنة 1981 في المادة 8 (بالنسبة إلى حرية العقيدة) والمادة 9 (بالنسبة إلى حرية التعبير) . ونص عليهما الميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 2000 في المادة 30 (بالنسبة إلى حرية العقيدة) والمادة 32 (بالنسبة إلى حرية التعبير).

وتتيح حرية التعبير لصاحب العقيدة الدينية أن يعبر عن عقيدته (التي يؤمن بها). وتعتبر حرية التعبير عن الرأي بمثابة الحرية الأصل التي يتفرع عنها الكثير من الحريات، بل تعد المدخل الحقيقي لممارسة الحقوق العامة الفكرية والثقافية وغيرها من الحقوق ممارسة جدية، كحق النقد وحرية الصحافة والطباعة والنشر وحرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي، وحق الاجتماع للتشاور وتبادل الآراء، وحق مخاطبة السلطات العامة (دستورية عليا في 7/5/1988، القضية رقم 44 لسنة 7 قضائية “دستورية”، جـ 4 “دستورية” ص 98).

وقد قيل بأن هذه الحرية هى أم الديمقراطية ، بل إن المحكمة العليا الأمريكية وصفت التعديل الأول للدستور الأمريكى الذى كفل حرية التعبير بأنها الحارس للديمقراطية (قضيةBrown V. Hartloge1982).

وقضت المحكمة الدستورية العليا فى مصر بأن حرية التعبير هى القاعدة فى كل تنظيم ديمقراطى (دستورية عليا فى 3/2/1996 فى القضية رقم 2 لسنة 16 قضائية “دستورية” جـ7 “دستورية” ص 470).

وتعتبر حرية التعبير في ذاتها قيمة عليا . ولا غرو فهي القاعدة في كل تنظيم ديمقراطي، لا يقوم إلا بها (دستورية عليا في 3/2/1996، القضية رقم 2 لسنة 16 قضائية “دستورية”، جـ 7 “دستورية” ص 470، و7/2/1997، القضية رقم 77 لسنة 19 قضائية “دستورية” ، جـ 8 “دستورية” ص 1165، 3/6/2000، القضية رقم 153 لسنة 21 قضائية ” دستورية ” جـ 9 “دستورية” ص 582) . إلا أن هذه الحرية كغيرها من الحريات العامة ليست مطلقة لا حدود لها، فممارستها لا يجوز أن تكون من خلال التضحية بغيرها من الحريات العامة، وذلك باعتبار أن تنظيم ممارسة حرية التعبير أو غيرها من الحريات العامة لا تكون في إطارها المشروع إلا إذا لم تضر بالغير أو بالمجتمع (انظر دستورية عليا في 7/5/1988، القضية رقم 44 لسنة 7 قضائية “دستورية”، جـ 4 “دستورية” ص 98). فالدستور لا يعرف أي تدرج بين الحريات العامة التي يحميها، ولا يتصور وجود تنازع بين هذه الحريات في نصوص الدستور، فأي تنازع ظاهري في هذا الشأن يجد حله من خلال التفسير القائم على وحدة النظام الدستوري ووحدة الجماعة . وفي هذا الصدد أوضحت المحكمة الدستورية العليا أن ما نص عليه الدستور في المادة 7 من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي، يعني وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، وأنه لا يجوز لفريق من المجتمع أن ينال من الحقوق قدرا منها يكون بها عدوانا – أكثر علوا، بل يتعين أن تتضافر جهود أفراد الجماعة لتكون لهم الفرص ذاتها، التي تقيم لمجتمعاتهم بنيان الحق، ولا تخل، في الوقت ذاته – بتلك الحقوق التي كفلها الدستور (دستورية عليا في 5 أغسطس سنة 1995، القضية رقم 8 لسنة 16 قضائية “دستورية”، جـ 6 “دستورية” ص 139). فجميع الحريات العامة يجب ممارستها بكل مسئولية.

ويبدو الاعتماد المتبادل بين حرية التعبير وحرية العقيدة، في أن جوهر حرية العقيدة يكمن فى اختيار العقيدة وممارستها بغير إكراه . وبدون حرية الإعلان عن الانتماء إلى عقيدة ما ، فإن القدرة على اتباع تعاليم العقيدة المختارة ونقلها من جيل إلى جيل تبدو ناقصة. وهو ما يوضح أن حرية التعبير وحرية العقيدة ليستا متناقضتين أو متضادتين . بل إن حرية التعبير هى التى تكفل الدفاع ضد أعداء التنوع فى الثقافات . وهذا التنوع ينبع من الاختلاف فى التفكير الدينى ، وكلاهما من خلال حرية التعبير يفتح المجال أمام إعلاء التجانس فى التفاعل الاجتماعى والثقافى.

حرية التعبير فى مواجهة حرية العقيدة الدينية:

تتيح حرية التعبير لكل فرد التعبير بحرية عن آرائه . ولهذه الحرية بعدان : بعد شخصى وآخر اجتماعى . ويتمثل البعد الشخصى فى أنه يتيح للفرد استكمال شخصيته من خلال التعبير عن نفسه . هذا بخلاف البعد الاجتماعى فى أنه يتيح للفرد المشاركة فى المسئولية داخل المجتمع ، ولهذا اعتبرت هذه الحرية أحد الدعائم الأساسية للنظام الديمقراطى. وقد عبرت عن ذلك المحكمة الدستورية العليا فى قولها بأن حرية التعبير أبلغ ما تكون أثرا فى مجال اتصالها بالشئون العامة ، وعرض أوضاعها، وأن الدستور أراد لضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة فى أعماق منابتها(دستورية عليا فى 3/2/1996 فى القضية رقم 2 لسنة 16 قضائية “دستورية” جـ7 “دستورية” ص 470).

وتفرض حرية العقيدة الدينية أن تلقى الاحترام من الآخرين الذين لا ينتمون إلى ذات العقيدة . ومن هذا المنطلق تتمتع حرية العقيدة بذات البعدين : البعد الشخصى والبعد الاجتماعى . ويشكل البعد الشخصى عنصر الاختيار فيمن يعتنق العقيدة حتى يستكمل شخصيته الإنسانية . أما البعد الاجتماعى فإنه يبدو فى ذلك القدر من التسامح الذى يجب أن تحظى بها ممارسة هذه الحرية داخل المجتمع . ومن ذلك حرية المؤسسات الدينية (كالمسجد والكنيسة) داخل المجتمع فى ممارستها ، وحرية الفرد فى إظهار دينه أو معتقده والتعبد وإقامة الشعائر والممارسة مع جماعة، وأمام الملأ (المادة 18/1 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية) . إلا أن البعد الاجتماعى فى كل من حرية التعبير وحرية العقيدة الدينية يثير مشكلة تتعلق بنطاق ممارسة حرية التعبير فيما يتعلق بمدى إمكان أن تتوغل هذه الممارسة فى الحرية الدينية فتحدث مساسا بها . فقد نشأت علاقة بالغة الحساسية بين الحريتين عندما ظهرت آراء معادية أو ناقدة للدين فى بعض صور التعبير أبداها البعض تحت ستار حرية التعبير . وقد تجلى ذلك فى السنوات الأخيرة من خلال بعض الكتابات أو الرسوم الكاريكاتيرية أو الأقلام التى تسئ إلى الدين. وقد ألقت هذه المواجهة بين الحريتين بالمسئولية على القانون لإيجاد الحلول لها .

وقد أثار ذلك ثلاثة إشكاليات ، وتبدو الإشكالية الأولى فى حل التنازع الظاهرى بين الحريتين . أماالإشكالية الثانية فتبدو فى مدى إمكان اللجوء إلى التجريم لحل التنازع بين الحريتين أو امتداده إلى الدعوة إلى الكراهية الدينية .والثالثة تبدو فى مدى تأثير الانتماء الدينى للدولة فى التوازن بين الحريتين.

(أولا) :إشكالية حل التنازع الظاهرى بين حرية التعبير وحرية العقيدة الدينية:

تبدو هذه الإشكالية فيما إذا كان التنازع أو الصراع بين الحريتين يتم بتغليب إحداهما على الأخرى . ولاشك أنه لا يوجد تدرج بين الحريتين ، بل يوجد اعتماد متبادل بينهما، فلا سيادة لحرية منهما على الأخرى ، وإنما يتعين التوفيق بينهما دون إخلال بجوهر كل منهما .فهذا التوفيق هو ركن أساسى للحكم الرشيد للتنوع الثقافى المبنى على اختلاف العقائد الدينية ، وأداة بالغة الأهمية لمنع الصراع بين الحريتين وبناء السلام بينهما . وقد زاد هذا التوتر عند ممارسة حرية التعبير الفنى بمناسبة نشر الروايات الأدبية أو عرض الأفلام أو نشر بعض المطبوعات أو عرض رسوم كاريكاتيرية . وهنا يلاحظ أنه على الرغم من أن بعض الدساتير أقرت حرية الإبداع الأدبى والفنى والثقافى (مثال ذلك الدستور المصرى فى المادة 49 ، والدستور الألمانى فى المادة 5/3) ، فإن هذه الحرية لا توفر حماية أكثر من حرية التعبير بصفة عامة . وعلى ذلك ، فإن حرية الإبداع الفنى لا يجوز أن تتناقض مع حرية العقيدة الدينية ، مما لايجوز معه للفنان أن يتمتع بحرية فى المناورة تحت ستار الإبداع الأدبى والفنى والثقافى لكى يعتدى على حرية الاعتقاد الدينى.

هذا وقد عنى التعديل الدستورى الصادر فى 29 مارس سنة 2007 بأن يضع حدا للخلط بين المشاركة السياسية والحرية الدينية . ولما كانت الأحزاب السياسية والأنشطة السياسية ليست إلا تعبيرا عن الآراء السياسية ، فقد عنى الدستور المصرى بالنص فى المادة 5/3 منه بعد تعديلها فى 29 مارس سنة 2007 على أنه لا تجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أية مرجعية دينية أو أساس دينى ، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل . وقد أكد هذا التعديل الدستورى على الحرية الدينية من حيث عدم جواز تأثير ممارستها على من يريد المشاركة السياسية ، ولا أن تكون أساسا للاختيار السياسى ، نظرا للفرق بين الحرية الدينية وحرية المشاركة السياسية . فالأولى عقائدية بحتة تمثل إيمانا فرديا بالذات الإلهية وترتبط بشخص الإنسان ، والثانية إحدى وظائف الحكم التى يشارك فيها الأفراد وفقا للنظام الديمقراطى . وقد تكون هذه المشاركة من خلال الأحزاب السياسية أو من خلال الجمعيات فى حدود أنشطتها أو من خلال ممارسة حق الاجتماع فى حدود القانون . هذا بجانب أن الحرية الدينية لا يجوز أن تصبح أساسا للسيطرة السياسية لدين معين.

ولابد أن نشير ابتداء إلى الدور الأساسى الذى تؤديه حرية التعبير فى النظام الدولى لحقوق الإنسان ، إيمانا بأن المآسى الإنسانية – بما فى ذلك الإبادة الجماعية – تتطلب سيطرة عليها من خلال حرية التعبير لكشفها وإدانتها. وإن الالتزام بجميع حقوق الإنسان والتأكيد على اعتماد كل منها على الآخر حقيقة واقعة وليس مجرد خيار سياسى . وحرية التعبير هى أفضل دفاع ضد أعداء التنوع . فهذه الحرية يمكن تربية الآخرين وفقا لتقاليدهم الثقافية ، وتعليمهم مختلف الثقافات حتى يمكن التغلب على أفكار عدم التسامح وعدم التمييز

ومع ذلك ، فإنه يتعين استيعاب ما نصت عليه المادة 19 فى فقرتها الثالثة من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية من أن هذه الحرية تلقى بواجبات ومسئوليات خاصة ، مما يجوز معه إخضاعها لبعض القيود بشرط أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية: (أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم. (ب) لحماية الأمن القومى أو النظام العام أو الصحة العامة. كما أكدت المادة 20/2 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية ضرورة الحيلولة دون التنازع بين حرية التعبير وحرية العقيدة الدينية ، فيما نصت عليه من أن تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية الدينية تشكل حضا على التمييز أو العداوة أو العنف . وفى هذا الصدد نبهت لجنة حقوق الإنسان فى قضيةRoss V. canaed أنه يجب قراءة المادتين 19 و 20 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية مجتمعتين.

وقد تباينت تطبيقات هذه المبادئ فى مختلف الدول :

ففى ألمانيا تأكد التعاون بين الدولة والمجتمعات الدينية ، ورفض إعطاء أية صفة عامة لمجتمع دينى معين تأسيسا على مبدأ المساواة . ولم تمنح المحكمة الدستورية الألمانية الفيدرالية أية أولوية لجماعة معينة تحتل مركز الأغلبية فى المجتمع الألمانى أو تسهم فى ثقافته، واستخلصت من الحرية الدينية مبدأ حياد الدولة تجاه الأديان الأخرى . وقد قضت المحكمة الدستورية الفيدرالية فى 16 مايو سنة 1995 بعدم دستورية قرار وضع صورة صلب المسيح بفصول المدرسة ، من أجل حماية من لا يعتنقون المسيحية. وقد أسست هذه المحكمة قضاءها على المادة 4/1 من الدستور الألمانى الفيدرالى الذى يكفل حرية الدين والمعتقدات الفلسفية. وقالت المحكمة أن الشكل الإيجابى لهذه الحرية كفله القانون، وأن شكلها السلبى يبدو فى الحق فى عدم الإكراه على الاعتقاد أو التأثر بعقيدة دينية معينة وعدم الإكراه على الانضمام إلى طائفة دينية . وأضافت المحكمة أن الحرية الدينية فى شكليها السلبى والإيجابى تنطبق على اختيار الفرد فى الاعتراف أو عدم الاعتراف بالرموز الدينية لعقيدة معينة . واستخلصت المحكمة من مبدأ حرية العقيدة حياد الدولة تجاه جميع الأديان والمعتقدات الفلسفية مما لا يجوز معه للدولة أن تمنح ميزة لدين أو عقيدة معينة ، لأنه يوجد حظر دستورى للتعرف على الدولة داخل المجال الدستورى ، وأن صورة صلب المسيح لا يمكن اعتبارها علامة عادية تدل على التقليد الثقافى الغربى . وقالت المحكمة أنه عندما يوجد نزاع بين مختلف المعتقدات الدينية والفلسفية ، فإنه يجـب حله من خلال مبدأ التسامح على نحو لا ينال فيه أحد أطراف النزاع أية ميزة ، وأن يترجم هذا الحل بقدر الإمكان من خلال التوفيق المتسامح بين طرفى النزاع. وأضافت المحكمة بأن المواجهة بين الدين والطلاب يجب أن تكون بغير إكراه على أساس أن المدرسة ليست لها وظيفة تبشيرية . وقالت المحكمة أن إعمال الحرية الدينية لا يجوز أن يكون على أساس مبدأ الأغلبية وأنه يجب احترام الحرية الدينية ولو تمسك بها شخص واحد.

وخلافا لذلك اتجهت المحكمة الدستورية الباڤارية اتجاها مخالفا اعتمادا على السلطة التقديرية لدستور المقاطعات فى إعطاء مساحة دستورية نسبية لها فى علاقاتها بالاتحاد الفيدرالي. فقد قضت المحكمة الدستورية الباڤارية بدستورية قانون في مقاطعة باڤاريا يسمح بوضع صورة صلب المسيح في المدارس على أساس أنه لا يتناقض مع مبدأ حياد الدولة في المجال الديني لأن وضع الصلبان لا يستبعد أن توضع في الاعتبار المعتقدات والقيم التي تتحلى بها المجتمعات الدينية الأخرى في نطاق التعليم. وبينما لقى حكم المحكمة الفيدرالية ردود فعل داخلية في المجتمع الألماني، فقد اندلعت مظاهرات في باڤاريا ضد الحكم الصادر من محكمتها الدستورية.

وأصدرت المحكمة الدستورية الألمانية الفيدرالية حكما آخر حسمت فيه نزاعا ظاهريا بين الحرية الدينية لإحدى المدرسات فى مدرسة عامة والحرية الدينية للطلاب من ناحية أخرى . وقد قضت المحكمة بعدم دستورية القرار الصادر من المقاطعة والذى يسمح للمدّرسة بارتداء الحجاب على أساس أن المقاطعة لم تصدر قانونا يمنع ارتداء الحجاب بواسطة المدرسات . واستطردت المحكمة فى حكمها فقالت بأن ارتداء المدّرسة للحجاب يؤثر فى الحرية الدينية للطلاب وقد أقرت المحكمة بأنه لم تتوافر أدلة كافية تسمح بإثبات هذا التأثير ، إلا أن خطر انتهاك الحرية الدينية للطلاب يبدو مجردا وإن لم يكن محددا . ولكن المحكمة لم تمنع الطالبات من ارتداء الحجاب اعتمادا على الحرية الدينية . وقد أثار هذا الحكم تعليقات هامة على أساس أن عدم ارتداء المدرسات للحجاب لا يدخل فى شروط شغل الوظيفة العامة ، بل يعتمد على الحرية الدينية ، وفتحت المحكمة الباب للمقاطعات فى أن تصدر تشريعات بحلول مختلفة بشرط احترام القيم الدستورية التى أقرها الدستور الفيدرالى ووضع حل مقبول للتنازع بين مختلف هذه القيم.

وفي فرنسا قضى المجلس الدستورى الفرنسى فى 19/1/2004 بشأن اتفاقية دستور الاتحاد الأوروبى بأن المادة الأولى من الدستور الفرنسى تنص على أن فرنسا جمهورية علمانية ، مما يحول دون قيام قواعد مشتركة تحكم العلاقات بين المجتمعات العامة والأفراد بشأن المعتقدات الدينية . كما أكد هذا المجلس المعنى ذاته في قوله بأن المبادئ الأساسية لدستور 1958 تعارض وجود حقوق دينية أو لغوية أو ثقافية لأية جماعة. ومع ذلك اعترف مجلس الدولة الفرنسى فى أحكام أصدرها سنة 1989 و 1990 و 1993 و 2002 بأنه رغم مبدأ العلمانية الذى يعتنقه الدستور الفرنسى الذى يؤدى إلى حياد الدولة بالنسبة إلى الدين والتعددية ، فإن ارتداء الحجاب داخل المؤسسة التعليمية ليس فى حد ذاته متعارضا مع هذا المبدأ ، وأنه لا يجوز أن يعتبر ارتداء الحجاب عملا من أعمال التبشير الدينى أو عملا يثير المتاعب فى المؤسسة التعليمية . ورغم معارضة مجلس الدولة الفرنسى لأى حظر عام ومطلق لارتداء الحجاب فقد أقر وجود قيود على ارتدائه عندما يحدث مساس بالقيم التى تحميها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مثل التعددية وحرية الغير أو المساس بأنشطة التعليم أو مضمون برامجه. كما أقر أن من حق الطلاب فى التعليم العام التعبير عن معتقداتهم الدينية داخل المؤسسات التعليمية ؛ إلا أن هذه الحرية لا تسمح للطلاب بحمل علامات دينية تنطوى على دعاية أو تحبيذ لدين معين . وأكد هذا المجلس أن حرية التعبير وحرية إظهار المعتقدات الدينية المعترف بها للطلاب يجب أن تتم ممارستها فى إطار احترام حرية الغير . ومع ذلك صدر القانون رقم 228 لسنة 2004 في 15 مارس الذي عدل قانون التعليم الفرنسي بالنص على حظر إبداء أي علامات أو ارتداء أية ملابس يبين التلاميذ بها بشكل ظاهر من حيث انتمائهم الديني. والمقصود هنا هو الحجاب الإسلامي في التعليم الابتدائي والثانوي وليس في التعليم العالي. ولهذا سمى هذا القانون بقانون الحجاب.

وفى أسبانيا أكدت المحكمة الدستورية سنة 1981 (القرار رقم 6) الوضع الاستراتيجى الذى تحتله حرية التعبير فى النظام الدستورى، وأن الحرية الدينية تعتبر قيدا على حرية التعبير . وقد نظرت المحكمة الدستورية الأسبانية مدى دستورية اتفاق دولى عقدته أسبانيا مع الكرسى البابوى حول التدريس والمسائل الثقافية، تلتزم فيه أسبانيا بتدريس العقيدة الدينية . وقد قضت هذه المحكمة فى سنة 2007 (رقم 37 ورقم 80) بإجماع الآراء بدستورية هذا الاتفاق . وبمقتضى هذا الاتفاق تكفل الدولة التدريس الدينى بقدر الإمكان بواسطة مدرسين متطوعين يتقاضون مرتباتهم من الكنيسة مباشرة من خلال أموال تحول إلى الدولة . وقد كيفت المحكمة العليا العلاقة بين المدرسين والكنيسة بأنها علاقة تعاقدية للعمل بمقتضاها تمثل السلطة العامة صاحب العمل ، وتنبثق هذه العلاقة من عقد عمل سنوى يجوز تجديده بغير حد أقصى . وبناء على هذا القضاء رفضت المحكمة الدستورية الأسبانية دعوى دستورية مباشرة (Amparo) لأحد مدرسى الدين استنادا إلى إهدار حريته فى التعبير عندما قررت الحكومة عدم تجديد عقد العمل الخاص به ، واستندت المحكمة إلى أن عدم تجديد العقد بناء على طلب السلطة الكنسية بسبب تسببه فى فضيحة عامة عندما سمح بنشر أسرار تتعلق بزواجه المدنى . وقد لوحظ أن العلمانية الراديكالية للمجتمع الأسبانى على مدى أكثر من ثلاثين عاما لم تغير من الوضع القانونى لهذا الاتفاق .

وفى ايطاليا رغم أن الدستور الايطالى أكد مبدأ علمانية الدولة (المواد : 2 و 3 و 7 و 8 و 19 و 20) ، إلا أن هذا المبدأ لا ينطوى على عدم ضمان الدولة للحرية الدينية . فقد جرى تطبيق العلمانية فى ايطاليا بطريقة مختلفة عما جرى فى فرنسا . ولهذا لم يعرف النظام القانونى الايطالى قانونا مثل قانون الحجاب الصادر فى فرنسا . وقد أكدت المحكمة الدستورية الايطالية أن مبدأ علمانية الدولة المقرر فى الدستور هو مبدأ أعلى ولكنه لا يعنى عدم مبالاة الدولة تجاه الأديان ، وأكدت المحكمة سنة 1993 (القرار رقم 195) التزام الدولة بضمان حماية الحرية الدينية، والمساواة فى التعامل مع جميع الأديان ، وحياد التشريع تجاه جميع الأديان ” انظر حكمها الصادر سنة 1997 (رقم 329) ، وحكمها الصادر سنة 2000 (رقم 508) و سنة 2002 (رقم 327)” . وأقرت المحكمة سنة 1996 (رقم 334) الاختلاف بين المسائل المدنية والخبرات الدينية ، مما يلزم الدولة بعدم فرض الدين والالتزامات الأدبية كوسائل لتحقيق أهداف الدولة . وقضت سنة 2000 (رقم 508) بأن مبدأ التعددية الذى يعتنقه النظام الدستورى الايطالى يستتبع قانونا يضمن تعايش جميع العقائد الدينية فى إطار من الحرية والمساواة . وعلى أساس هذا القضاء قضت المحكمة فى سنة 1995 (القرار رقم 440) وسنة 1997 (القرار رقم 329) ، وسنة 2000 (القرار رقم 508) ، وسنة 2005 (القرار رقم 168) بعدم دستورية عدد من النصوص التشريعية التى نصت على جريمة المساس بالشعور الدينى ، على أساس أنه يمثل معاملة مختلفة للكاثوليكيين بالنظر إلى غيرهم من معتنقى الأديان الأخرى . ويجدر الإشارة إلى أن المحكمة الدستورية الايطالية قضت سنة 1995 (القرار رقم 440) بدستورية النص الذى يعاقب على إهانة يهين الذات الإلهية أيا كان مدلولها ، رغم قضائها بعدم دستورية فرض عقوبات ضد من يسب رجال الدين أو الرموز الدينية (على سبيل المثال فيما يتعلق بالعقيدة الكاثوليكية، وإهانة العذراء) . وفيما يتعلق بوضع صورة صلب المسيح فى الفصول المدرسية بالمدارس العامة قضت المحكمة الإدارية فى فينسيا بعدم مشروعية إصدار قرارات بوضع هذه الصلبان اعتمادا على مبدأ علمانية الدولة . ولما عرض الأمر على المحكمة الدستورية العليا قضت بوجوب الحكم بعدم القبول على أساس أن النصوص الواردة فى اللوائح ليست ملزمة . وعلى أثر ذلك قضت المحكمة الإدارية بأن اللوائح التى تنص على وضع صورة صلب المسيح فى الفصول المدرسية تعتبر غير مشروعة لعدم وجود أساس تشريعى لها. ومع ذلك قضى مجلس الدولة الايطالى فى 13 فبراير سنة 2006 فى قضيةlautir أن الالتزام بوضع صـورة صلب المسيح يستند إلى أساس شرعى ، تأسيسا على أنه فـى المكان غير الدينى (مثل المدرسة) يمثل صلب المسيح قيمة استوحى منها النظام الدستورى أساس المجتمع المدنـى ، وأن صلب المسيح لـه معنى رمزى وتربوى . وقد علق البعض على هذا الحكم (luciani et Micbela Manetti أستاذا القانون العام فى ايطاليا) بأن هذا الحكم لا يسرى على الأشخاص الذين يمارسون عقائد دينية أخرى أو بالنسبة إلى العلمانيين الذين يعتنقون مبدأ الفصل بين الدولة والدين وخاصة الدولة والكنيسة الكاثوليكية.

وفى اليونان ثارت مشكلة التنازع بين الحريتين بالنسبة إلى البيانات الواجب إدراجها فى بطاقة تحقيق الشخصية . فقد كان القانون اليونانى الصادر سنة 1945 وحتى 2000 يلزم بإثبات ديانة الشخص فى هذه البطاقة، وظل الإلزام بإثبات هذا البيان ما يزيد على نصف قرن بدون جدل حوله فيما يتعلق بمدى مطابقته للدستور الذى كفل حرية التعبير وحرية العقيدة ، ثم تقرر رفع هذا البيان بمقتضى قرار مشترك من وزيرى المالية والنظام العام فى 17 يولية سنة 2000 . وقد أثار رفع هذا البيان من بطاقة تحقيق الشخصية رد فعل جسيم من جانب الكنيسة التى اعتبرت هذا الرفع مخالفاً لحق الشخص فى إثبات انتمائه إلى ديانة معينة . بينما طالب البعض باعتبار هذا البيان اختياريا للشخص لأن منع إثباته بصفة مطلقة يخالف حرية التعبير الدينى الذى كفله كل من الدستور والاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان . وقد رفض مجلس الدولة اليونانى هذا الاعتراض فى عدة أحكام صدرت سنة 2001 (من رقم 2279 حتى رقم 2286) . كما رفضته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فى 12 ديسمبر سنة 2002 التى أسست قضاءها على أن أوراق تحقيق الشخصية ليست مخصصة لممارسة الدين أو إظهاره . ومع ذلك ، فإن مجلس الدولة اليونانى اعتبر فى سنة 2001 نشر المعتقدات الدينية فى الطريق العام عن طريق لصق الإعلانات نوعا من ممارسة حرية التعبير ، وبالتالى لا يتطلب ترخيصا مسبقا من جهة الإدارة ، طالما كان ذلك بصفة مؤقتة ولم يكن ذلك أمرا معروفا من قبل . وفى إطار التوازن بين حرية التعبير والحرية الدينية حَّرم الدستور اليونانى منذ سنة 1975 التبشير الدينى ضد الديانة السائدة. وعلى العكس من ذلك أجاز التبشير الدينى لصالح الكنيسة الشرقية للمسيح . وقد أكد ذلك جانب من الفقه على أساس أن اليونان ليست دولة علمانية . ووفقا لهذا الفقه فإن الاعتراف الدستورى بالديانة السائدة يمكن أن يبرر مجموعة من القيود على حرية التعبير عن ديانات وعقائد أخرى . وقد أسس جانب من الفقه المنع الدستورى للتبشير بديانات أخرى بأن الدستور وضع نوعا من التعبير خارج الحماية الدستورية واعتبره تعسفا فى حرية التعبير ، بمعنى أن منع التبشير بأديان أخرى ممنوع بمقتضى المادة 25/3 من الدستور اليونانى التى تنص على عدم السماح بالتعسف فى استعمال الحق ، وهو ما يعنى أن مجرد نشر المعتقدات الدينية الأخرى للفرد ليس ممنوعا. وقد جرم القانون اليونانى سنة 1938 التبشير بنص فى قانون العقوبات قبل النص عليه فى الدستور سنة 1975 . وقد لقى هذا التجريم اعتراض الفقه ، إلا أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فى 25 مايو سنة 1993 لم تعتبره مخالفا للمادة التاسعة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التى كفلت حرية العقيدة الدينية (انظر قضيةKokdinakis).

وفيما يتعلق بحرية الطوائف الدينية التى تعتبر شكلا من أشكال التعبير الإيجابى عن المعتقدات الدينية ، فقد سمح الدستور اليونانى لكل دين ” معروف” بأن تكون له طائفة تعبر عنه بشرط ألا تمس هذه الطائفة بالنظام العام والآداب العامة (المادة 13/2). وقد آثار هذا النص بحثا حول المقصود بالدين المعروف ، واعتبر الدين معروفا منذ أن يظهر المعتقدون به ولا تصبح مبادؤه وأفكاره أسرارا وتظهر طائفته الدينية علنا .

وقد قيد الدستور اليونانى حق الأفراد فى عدم إظهار معتقداتهم الدينية مما يدخل فى نطاق حرية العقيدة الدينية ، عندما فرض قسما دينيا إجباريا فى المادة 33/2 يؤديه رئيس الجمهورية أمام مجلس النواب قبل ممارسة وظيفته . ومع ذلك ، فإن القسم الذى يؤديه النواب لا يلزمهم بمبادئ دين معين (المادة 59/2 و3) وقد استقر الأمر على أن القسم الدينى ليس إلزاميا ، ويمكن للنواب أن يؤدوا قسما مدنيا بشرفهم وضميرهم . ومع ذلك فإن القانون الصادر سنة 1985 نص على قسم إلزامى يؤديه أعضاء الحكومة وفقا لانتمائهم الدينى دون أن يتضمن القسم أى مضمون دينى . وعلى الرغم من أن المادة 192 من القانون الصادر سنة 1932 فرضت قسما دينيا إجباريا على الطلاب من أجل الحصول على دبلوماتهم الجامعية ، فإن مجلس الدولة قام بتحييد المادة 192 المذكورة بالسماح للطلاب بأن يؤدوا قسما غير دينى . وقد فرضت بعض التشريعات قسما دينيا قبل ممارسة مهن معينة ، مثل قانون المحاماة . وقد أدانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان هذا النص فى حكم لها فى 21 فبراير سنة 2008 (قضيةAlexandridis) لأنه يتعارض مع حرية العقيدة الدينية التى تتطلب فى بعدها السلبى حرية عدم إظهار عقيدته الدينية .

وفى بولندا استقرت المحكمة الدستوريةعلى أنه فى حالة التنازع بين حرية التعبير والحرية الدينية ، فإنه من المستحيل مقدما إعطاء أى الحريتين أولوية على الأخرى . وتلتزم السلطات القضائية بتحليل كل حالة على حدة . فالحرية الدينية ليست إلا إحدى أشكال حرية التعبير ويجب تحليلها بالرجوع إلى المبادئ العامة التى تحكم حرية التعبير بالمعنى الواسع . ويحل التنازع بين الحرية الدينية وحرية التعبير بمراعاة مبدأ التناسب . وتتوقف حماية الحرية الدينية على المبادئ العامة بوصفها إحدى القيم الأساسية للدولة . وقد نص قانون العقوبات سنة 1997 على جرائم ضد حرية الضمير والعقيدة الدينية (المادتان 195 و 196 عقوبات) وتقع الجريمة استقلالا عن الدين أو عن الاعتقاد وإنما تقع على الأحاسيس الدينية ، ولهذا فلا عقاب على أحد أو جماعة بسبب معتقداته الدينية (المادة 257 عقوبات بولندية) . وقد برأت محكمة بولندية سنة 2001 المتهم بعرض فيلمDogme الذى اعتقد الآلاف أنه يمس أحاسيسهم الدينية، وذلك على أساس أن الفيلم فكاهى بحت لا يشير إلى طائفة دينية معينة . وقد حدث أن شركة إعلانات وضعت إعلانات عن أحد الأفلام التى نسب إليها المساس بالمشاعر الدينية ، فأصدر النائب العام أمرا بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية ، لعدم توافر أركان الجريمة المنصوص عليها فى المادة 196 عقوبات بولندى . إلا أنه فى عامى 2001 و 2002 أقام أحد الأشخاص معرضا تحت اسم (العاطفة) وكان من بين الأشياء المعروضة فى المعرض صورة عضو ذكرى وضع فوق الصليب ، فأقيمت الدعوى الجنائية ضده طبقا للمادة 196 عقوبات . وفى سنة 2006 نشرت صورة على غلاف إحدى المجلات للعذراء مع صورة المغنية (مادونا) على ركبتى فتاة . وقد انتقدت الكنيسة هذه الصورة وكذلك انتقدها عدد كبير من المنظمات غير الحكومية العاملة فى مجال التربية والثقافة . وقرر مجلس أخلاقيات وسائل الإعلام أن هذه الصورة خالفت مبادئ الميثاق الأخلاقى لوسائل الإعلام بشأن الاحترام والتسامح.

وفى الولايات المتحدة الأمريكية يبدو الوضع مختلفا ، فقد ساد التحيز لحرية التعبير . حيث قضت المحكمة العليا الأمريكية بأنه ليس للدولة مصلحة مشروعة فى حماية عقيدة دينية معينة أو حماية كل الأديان ، وأنه ليس من وظيفة الحكومات معاقبة من يهاجم عقيدة دينية معينة بالنشر كتابة أو من خلال فيلم معين (Joseph Burstyn inc V.wilson,1952).

ورفضت المحكمة العليا طلب السلطة الإدارية فى نيويورك منع فيلم معين يهاجم العقيدة الكاثوليكية . ولوحظ أن المحكمة العليا الأمريكية لم تتدخل إلا فـى حالات نادرة بصدد حرية التعبير فى مواجهة المعتقدات الدينيـة ، اعتمادا على مبدأ الحياد الدينى للدولة . وقضت هذه المحكمة بمنع السلطات العامة من وضع علامات تحمل رموزا دينيـة فـى المدارس العامة (Stone V. Graham, 449.1980)، وأن التعديل الأول يمنع إلقاء خطاب رسمى يعلى من شأن عقيدة دينية معينة. (انظرThe status and prospects of tests , under the religion clause ,1995).

وبالنسبة إلى قضاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان:

فقد عنيت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سنة 1994 بأن تؤكد على زيادة مساحة تقدير الدول لتقييد حرية التعبير بقصد ممارسة الشعائر الدينية . إلا أن هذا المبدأ أثار عددا من المشكلات القانونية التى تتمثل فى التأكيد على الاحترام الضرورى للمعتقدات الدينية ، وفى التساؤل عن أساس حماية هذه المعتقدات، وهل هو النظام العام أم حماية حقوق الآخرين ، أم الإشارة المباشرة إلى الحرية الدينية.

وقد قضت هذه المحكمة فى 15 فبراير سنة 2001 فى قضية (Dahlab C Suisse) برفض دعوى أقامتها إحدى المدرسات بمدرسة ابتدائية عامة بسبب عدم تمكينها من ارتداء الحجاب ، ووضعت المحكمة فى اعتبارها صغر سن الأطفال فى المدرسة ، وصعوبة تبرير فرض الحجاب على النساء ، بالنظر إلى مبدأ المساواة بين الجنسين . وقضت هذه المحكمة فى 3 مايو سنة 1993 فى قضية (Karadumen C twrquie) بصحة اشتراط وضع صورة المرأة فى بطاقة تحقيق الشخصية أو جواز السفر على نحو يكون وجهها ورأسها عاريين ، مما يعنى بطريقة ضمنية منع ارتداء الحجاب . وأسست المحكمة قضاءها على أن هذا الشرط جاء للحماية من أخطار تزوير الصورة وسوء استخدام بطاقة تحقيق الشخصية أو جواز السفر ، وغلبت المحكمة بذلك فكرة النظام العام.

وقد قضت هذه المحكمة فـى أول يوليـو سنـة 1997 (قضيةKilac C. Turquie) بعدم توافر انتهاك لحقوق الإنسان (بشأن حرية العقيدة التى كفلتها المادة التاسعة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان) وقع على قاض عسكرى أحيل إلى التقاعد بواسطة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بناء على أن سلوكه ومواقفه توضح اعتناقه لآراء غير مشروعة . واستندت المحكمة فى قضائها إلى أن النظام العسكرى الذى انضم إليه الطاعن باختياره يتضمن بحسب طبيعته إمكان فرض قيود على بعض حقوق وحريات أعضاء القوات المسلحة مما لا تفرض على المدنيين . وبناء على ذلك يجوز وضع لوائح تأديبية للعسكريين تفرض أنواعا معينة من السلوك فى مواجهة النظام الذى يتفق مع ضرورات الخدمة العسكرية . ولم يكن الطاعن ينازع – فى حدود القيود التى تفرضها الخدمة العسكرية- أنه كان يؤدى ويمارس واجباته الدينية بوصفه مسلما وخاصة إمكان تأدية الصلاة خمس مرات فى اليوم وممارسة سائر واجباته الدينية وخاصة الصوم فى رمضان والصلاة فى المسجد يوم الجمعة.

(ثانيا) :إشكالية مدى اللجوء إلى التجريم لحل التنازع الظاهرى بين الحريتين أو مواجهة الحض على الكراهية الدينية:

أشار معظم الخبراء فى ندوة الخبراء التى نظمها مجلس حقوق الإنسان (التابع للأمم المتحدة) حول العلاقة بين المادتين 19 و 20 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية ، المنعقدة فى جنيف فى 2 و 3 أكتوبر سنة 2008 (تقرير المفوض السامى للأمم المتحدة عن حقوق الإنسان ومتابعة المؤتمر العالمى لحقوق الإنسان) إلى أنه من عدم الدقة الإشارة إلى نزاع بين الحق فى التعبير والحق فـى الحرية الدينية ، لأن جميع حقوق الإنسان تتمتع بالعالمية وعدم قابليتها للتجزئـة . وقـد أشارت بعض الدول فى هذه الندوة إلى الحاجة إلى الحماية ضد التشجيع على الكراهية الدينية وأظهرت أن خطاب الكراهية قد استهدف مجتمعات معينة وخاصة المجتمعات الإسلامية . واقترح البعض عقد بروتوكول اختيارى للاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصرى لعام 1965 ، من أجل حماية الكرامة الإنسانية ضد خطاب الكراهية . وعبرت دول أخرى بأن القضاء على الكراهية الدينية وعدم التسامح يتطلب اتجاها عاما يؤكد على أهمية الحوار الثقافى الدولى والتربية وإعلاء التسامح مع التعدد .

وواقع الأمر، أن كلا من حرية التعبير وحرية العقيدة ترتبط على درجة التسامح والاحترام المتبادل للتنوع الذى يكمن داخل المجتمع الإنسانى . وأن حرية التعبير ترتبط باحترام التنوع فى المعتقدات والآراء المختلفة.

وقد كان إعلاء حرية التعبير من خلال الحوار بين الثقافات والأديان وسيلة لفض النزاع بين حرية التعبير والحرية الدينية . وقد أكد إعلان ” برشلونة” فى نوفمبر سنة 1995 الذى كان أساسا للشراكة الأوروبية المتوسطة أن الحوار والاحترام بين الثقافات والأديان شرطان ضروريان للتقارب بين الشعوب . وتوالى اهتمام القيم الأوروبية المتوسطية المتعاقبة بتشجيع هذا الحوار . وهو ما يتطلب احترام كل من طرفى الحوار للآخر وعدم اعتباره نقيضا له، والاعتراف بالمساواة بينهما فى الكرامة الإنسانية . لقد نشأت الأمم المتحدة على أساس أن الحوار يمكن أن يتغلب على الاختلاف . وهو ما يوجب تجنب سوء استخدام حرية التعبير كأداة للصراع الدينى لأسباب اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية ، أو أداة للسيطرة السياسية للفكر الدينى.

ولهذا طالب البعض فى ندوة الخبراء التى نظمها مجلس حقوق الإنسان فى 2 و 3 أكتوبر سنة 2008 بالتزام الدولة بتجريم الدعوة إلى كراهية الدين سواء عن طريق التمييز أو العداء أو العنف . ولوحظ أن تقييد حرية التعبير لمحاربة الدعوة إلى الكراهية الدينية لا يجوز اعتباره شرا لابد منه ، لأن هذا التقييد جاء لحماية حقوق الإنسان .

ونستخلص فى ضوء المناقشات والآراء المختلفة التى دارت حول تجريم الدعوة إلى كراهية الدين مجموعة من المبادئ أهمها:

(1) التأكيد على العلاقة بين حرية التعبير والحرية الدينية وأن الحرية الدينية تعتمد على حرية التعبير عن العقيدة الدينية، وأن عناصر (التعبير) تتجسد فى إظهار الدين . وأن أية محاولة لتحليل العلاقة بين التعبير والدين يجب أن تضع فى الاعتبار من يكتب التاريخ ولمن يكتبه ، وأنه لا يجوز عند التأريخ الاعتماد على مصادر معينة دون غيرها.

(2) تعتمد كل من الحريتين على درجة من التسامح والاحترام المتبادل والتنوع الذى يكمن فى الوجود الإنسانى الذى يتضمن من لا يؤمنون بالأديان .

(3) أن المناقشة حول الكراهية الدينية دلت على أن التعبير الذى استخدم للتدليل عليه ينصرف إلى عدم احترام المقدسات (blasphemy) وأنه يجب قراءة نصوص حقوق الإنسان معا، واضعين فى الاعتبار مبدأ المساواة وعدم التمييز. ويجب أن تظل القيود الواردة على ممارسة الدين أو التعبير على سبيل الاستثناء وليست على سبيل القاعدة

(4) إن فكرة الحض على الكراهة تقترب من فكرة (التحريض العام) ، وأن اصطلاح (الكراهية) لا يعنى عدم القبول ، بل يعنى درجة كبيرة من الازدراء (opprobrium) . وبالمقارنة بأفكار عدم التمييز والعنف والعداوة ، فإن الكراهية تفتح الباب إلى أكثر من تفسير وتحمل فكرة العداء.

(5) ان تجريم فعل الدعوة إلى كراهية الدين المشار إليه فى المادة 20/2 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية لا يجوز أن يتم فى غيبة عن توافر عنصر النية لدى مرتكب الجريمة.

(6) التأكيد على وجوب احترام النقد البناء ، واعتبار التنوع الدينى جزءا من التراث المشترك للإنسانية.

(7) إذا كانت الحرية الدينية لم تكفل حماية الأديان فى ذاتها ، فإنه لا يمكن حماية الرموز الدينية من السب أو الإساءة فى نطاق حماية الحرية الدينية . وإنما يجب اعتبار النقد أو التعليق المبنى على التمييز أو الإهانة أو السخرية من الدين ، تجاوزا للحق فى الحرية الدينية طالما أدت هذه الأعمال إلى التأثير بطريقة سلبية فى مختلف مظاهر الحرية الدينية للمؤمنين بالأديان.

وقد أقر مؤتمر دربان (2) للأمم المتحدة المنعقد فى جنيف فى 21 أبريل سنة 2009 فى وثيقته النهائية بأن خطر الحض على الكراهية على أساس الدين طبقا للمادة 20 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية يحتاج إلى توضيح وتقوية ، وأنه لذلك تقرر إجراء سلسلة من ورش العمل للخبراء من مختلف الثقافات القانونية فى العالم لإجراء دراسة مقارنة حول ثلاثة عناصر هى التعريف التشريعى للحض على الكراهية الدينية ، والسوابق القضائية ، وكذلك السياسات العامة لمكافحة هذه الظاهرة.

ونلاحظ أنه رغم الاتجاه إلى اعتبار الحض على الكراهية على أساس دينى شكلا من أشكال العنصرية التى نصت عليها اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصرى ، مما يندرج تحت الالتزام بتجريم هذا الفعل ، إلا أن هذا التجريم ينبنى أساسا على الحض على إنكار حقوق الإنسان والدعوة إلى انتهاكها مما يندرج تحت الدعوة إلى الإخلال بالنظام العام الذى يجب أن يعتبر احترام حقوق الإنسان أحد مبادئه الأساسية وفقا للنظام الديمقراطى . وهى ضرورة اجتماعية تلح عليها المصلحة العامة بعد ما انتشر التمييز العنصرى والدينى ، وخاصة ضد العرب والمسلمين منذ عدة سنوات.

وقد لوحظ أنه مع إضفاء الطابع العلمانى على بعض المجتمعات تقلص عدد العقوبات المقررة ضد الدعوة إلى الكراهية الدينية ، وخاصة العقوبة الجنائية التى كانت مقررة ضد الإلحاد . فقد بدأت تتلاشى . فألغيت فى فرنسا عام 1791 . كما أن المحكمة العليا الأمريكية سنة 1897 بعد أن اعتبرت التعديل الأول الذى قرر حرية التعبير لا يحمى أعمال الإلحاد فى مواجهة أى دين ، مقررة دستورية الجزاء الجنائى ضد الإلحاد، فإنها بعد ذلك تطور قضاؤها وقضت بعدم دستورية توقيع عقوبة جنائية عن أعمال الإلحاد . وفى ايطاليا واليونان قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية تجريم اتهام إنسان ينتمى لمذهب دينى معين (اهانة أحد القديسين أو العذراء) ، مع اعتبار تجريم الكفر بالذات الإلهية عملا دستوريا . وقد راعى قانون العقوبات الألمانى الربط بين تجريم الإساءة إلى الدين، والأمن العام أو السلام العام، فنصت المادة 166 عقوبات ألمانى على أن سب العقيدة الدينية أو الفلسفية لا يقع تحت طائل العقاب إلا إذا كان يؤدى إلى زعزعة السلام العام . وهـو ما نصت عليه كذلك المادة 251 من قانون العقوبات البرتغالى . وقضت محكمة النقض البلجيكية فى 16 فبراير سنة 2007 فى قضية (Juives de France c/x) بأن سب اليهودية واتهامها بالنصب لا ينطوى على الحق فى النقد الحر بقصد المصلحة العامة ولكنه يكون جريمة سب لجماعة من الأشخاص بسبب الأصل.

وقد نص قانون العقوبات البولندى فى المادة 196 عقوبات على جريمة المساس بالمشاعر الدينية . هذا وقد سمح القانون البولندى بوضع قيود على ممارسة العقيدة الدينية إذا ما كان فعل الممارسة يمثل خطرا على النظام العام ، أو الأمن أو الآداب ، أو الصحة العامة ، أو البيئة ، أو حقوق وحريات الغير . وقد حدد القانون هذه القيود.

كما نص قانون العقوبات البرتغالى (المادتين 251 و252) على معاقبة كل شخص يؤذى علنا شعور شخص آخر أو يوجه إليه ألفاظا جارحة بسبب اعتقاده أو وظيفته الدينية ، وذلك على نحو يعرض للخطر السلم العام ، وكذلك كل شخص يدنس مكانا أو شيئا يخص طائفة دينية أو يقوم بالإخلال بوقارها ، وكل شخص يقوم بواسطة العنف أو التهديد بإلحاق الأذى ، بما يعوق طائفة دينية من ممارسة دينها ، وكذلك كل شخص يزدرى علنا عملا من أعمال طائفة دينية أو دينها أو يهين شخصه.

وقد استند قانون العقوبات المصرى فى تجريم الإساءة إلى الأديان إلى الإضرار بأمن الدولة من جهة الداخل عندما عاقب فى المادة 98 (و) بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ، ولا تجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين فى الترويج بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف الدينية المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية . وواضح من هذا التجريم أن ارتباطه بالإساءة إلى الأديان يأتى من استغلال الدين فى الترويج لأفكار متطرفة بقصد ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف الدينية المنتمية إليها . كل ذلك بالإضافة إلى اتساع التجريم للإضرار بالوحدة الوطنية . كما اعتمد التجريم على الإضرار بالمصلحة العمومية فى الجرائم المنصوص عليها فى المادتين 160 و 161 عقوبات . ويبدو علاقة هذا التجريم بالحرية الدينية فى المادة 160 عقوبات لتأسيسه على التشويش على إقامة الشعائر الدينية أو الاحتفالات الدينية الخاصة بها أو تعطيلها بالعنف أو التهديد، وكذلك تخريب أو تكسير أو إتلاف أو تدنيس مبان معدة لإقامة شعائر دين أو رموز أو أشياء أخرى لها حرمة عند أبناء ملة أو فريق من الناس . ونلاحظ ضعف العقوبة المالية الاختيارية المنصوص عليها فى هذه المادة ، إذ تمثلت فى غرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد على خمسمائة كعقوبة اختيارية مع الحبس ، مما لا يعتبر متناسبا مع هذه العقوبة . وتبدو الحماية الجنائية للحرية الدينية فى المادة 161 عقوبات التى عاقبت على كل تعد يقع بإحدى الطرق المبينة بالمادة 171 من هذا القانون (والخاص بوسائل العلانية) على أحد الأديان التى تؤدى شعائرها علنا. وتعتبر من الجرائم الماسة بالمصلحة العامة ويقع تحت أحكام هذه المادة : (أولا) طبع أو نشر كتاب مقدس فى نظر أهل دين من الأديان التى تؤدى شعائرها علنا إذا حرف عمدا نص هذا الكتاب تحريفا يغير من معناه . (ثانيا) تقليد احتفال دينى فى مكان عمومى أو مجتمع عمومى بقصد السخرية به أو ليتفرج عليه الحضور . ونظرا لأن المادة 161 عقوبات أحالت على العقوبات المنصوص عليها فى المادة 160 عقوبات ، فترد عليه الملاحظة التى أبديناها بشأن هذه العقوبات والتى تتجلى فى عدم تناسب العقوبة المالية الاختيارية مع عقوبة الحبس.

(ثالثا) :الأثر القانونى للانتماء الدينى للدولة على التوازن بين حرية التعبير والحرية الدينية:

ترسى بعض الدساتير فى الدول الديمقراطية انتماء دينيا للدولة . ومن قبيل ذلك الدستور اليونانى فقد نص فـى المادة 3/1 على أن الديانة السائدة فى اليونان هى ديانة الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية للمسيح ، والدستور النرويجـى فقـد نص فـى مادتـه الثانية علـى أن الديانـة الإنجيلية اللوثرية “évangélique –luthérienne ” هى الديانة الرسمية للدولة . كما نص الدستور البولندى فى المادة 24/4 و 5 على أن العلاقات بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية محددة فى الاتفاقية الدولية الموقعة مع الكرسى البابوى وفى القانون، وأنه على العكس من ذلك،فإن العلاقات بين الدولة والأديان والعقائد الأخرى محددة فقط فى القانون . ونص الدستور المصرى فى المادة (2) منه على أن الإسلام دين الدولة. وأخذت بذلك بعض الدساتير العربية (دستور الامارات العربية المتحدة فى المادة 7 ، ودستور البحرين فى المادة 2 ، ودستور الصومال فى المادة 1/3 ، والدستور الكويتى فى المادة 2 ، والدستور العمانى فى المادة الأولى ، والدستور القطرى فى المادة الأولـى ، والدستور العراقى فى المادة 2 (أولا) .

فما مدى تأثير الانتماء الدينى للدولة على التوازن بين حرية التعبير وحرية العقيدة الدينية ؟.

لقد ذهب الفقه فى اليونان إلى أن الانتماء الدينى المنصوص عليه فى الدستور هو مجرد إعلان عن الديانة السائدة دون أية آثار قانونية تبرر وضع قيود على حرية التعبير من أجل إعطاء تفوق للديانة السائدة ، وذلك لأن الدستور اليونانى قد كفل بوضوح لكل فرد الحرية الدينية بالمعنى الواسع أى حرية الاعتقاد الدينى (المادة 13/1 من الدستور) وحرية إعطاء الطائفة الدينية فى ممارسة شعائرها دون عائق (المادة 13/1 من الدستور). كما ذهب الفقه فى النرويج إلى أن النص على الديانة الرسمية فى الدستور لا يرتب أثرا قانونيا من الناحية العملية. وأكدت المحكمة العليا فى النرويج سنة 1983 أن النص على ديانة رسمية للنرويج يخلو من قيمة قانونية تؤثر فى حرية العقيدة الدينية . إلا أن الأثر المترتب على النص الدستورى ينحصر فى التعليم فى المدارس العامة ، دون إخلال بحق المدارس الأخرى فى الحرية الدينية تطبيقا لمبدأ المساواة . وقد أدى ذلك إلى القول بأن النظام الدستورى النرويجى لا يضع عائقا أمام حقوق الأقليات التى لا تدين بالدين الرسمى للدولة .

وفى بولندا ، فإن الاتفاق المبرم بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية ممثلة فى الكرسى البابوى ، لم يفسر على أساس انتماء الدولة لدين معين ، بل على أساس أن هذا الشكل فى العلاقات الدولية يرجع إلى أن الكرسى البابوى وحده دون الكنائس الأخرى يتمتع بشخصية قانونية فى القانون الدولى ، وأنه من المسموح له بناء على ذلك بعقد اتفاقيات دولية.

وبالنسبة إلى الدستور المصرى ، فإن النص على الديانة الرسمية للدولة فى المادة (2) منه يكمله نص المادة 46 التى نصت على حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية . وقد أكدت المحكمة العليا أن المشرع قد التزم فى جميع الدساتير المصرية مبدأ حرية العقيدة ، وحرية إقامة الشعائر الدينية باعتبارهما من الأصول الدستورية الثابتة المستقرة فى كل بلد متحضر ، فلكل إنسان أن يؤمن بما يشاء من الأديان والعقائد التى يطمئن إليها ضميره ، وتسكن إليها نفسه ، ولا سبيل لأى سلطة عليه فيما يدين به فى قرارة نفسه وأعماق وجدانه . وأكدت المحكمة الدستورية العليا انعدام الأثر القانونى للنص على ديانة رسمية للدولة فيما قالته من أنه لا يجوز فى مفهوم الحق لحرية العقيدة ، أن تيسر الدولة – سرا أو علانية – الانضمام إلى عقيدة ترعاها ، إرهاقا لآخرين من الدخول فى سواها ، ولا أن يكون تدخلها بالجزاء عقابا لمن يلوذون بعقيدة لا تصطفيها ، وليس لها بوجه خاص إذكاء صراع بين الأديان تمييزا لبعضها على البعض (دستورية عليا فى 18/5/1996 ، القضية رقم 8 لسنة 17 قضائية “دستورية” ، ج 7 “دستورية” ص 656).

وعلى أية حال ، فإن النص الدستورى على ديانة رسمية للدولة لا يبدو مؤثرا فى حرية التعبير إلا فى المدارس العامة المملوكة للدولة حيث تكفل الدولة بحسب الأصل تدريس ديانتها الرسمية، دون إخلال بحرية من يعتقدون بديانات أخرى فى تلقى تعاليم ديانتهم والتزام الدولة بتمكينهم من ذلك وفقا لمبدأ حرية العقيدة ومبدأ اعتبار التربية الدينية مادة أساسية فى مناهج التعليم العام (المادة 9 من الدستور) ، وطبقا لمبدأ المواطنة الذى تقوم عليه الدولة طبقا للمادة الأولى للدستور ، ومبدأ المساواة الذى كفلته المادة (40) من الدستور . وطبقا لمبدأ حرية العقيدة الذى كفلته المادة 46 من الدستور، فإنه لا تأثير للديانة الرسمية للدولة على التمتع بسائر الحقوق والحريات التى نص عليها الدستور. هذا دون إخلال بحق الدولة فى إقامة الاحتفالات الرسمية الدينية المتعلقة بالإسلام واعتبار الأعياد الدينية عطلة رسمية.ومع ذلك فقد راعت الحكومة اعتبار عيد الأقباط فى يناير من كل عام عطلة رسمية مراعاة للشعور الدينى لطائفة الأقباط . كما عنى المسئولون الرسميون فى الحكومة بمشاركة الأقباط فى الاحتفال بعيدهم.

ولا يجوز فى الوقت ذاته الخلط بين معتقدات أهل كل دين والقيم الأخلاقية والمثل العليا والفضائل التى تصنع نسيج الثقافة التى يتحلى بها من يؤمنون بدين معين فهذه القيم – وليست مجرد المعتقدات الدينية فى ذاتها – لابد أن يهتدى بها الناس فى سلوكهم دون أن يمثل ذلك أية سيطرة سياسية لدين معين ، ونظرا إلى أن الأديان كلها تشترك فى قيم معينة يقوم بها مبدأ التسامح الذى أخذت به الأديان السماوية . وتقديرا لذلك نص الدستور المصرى فى المادة (9) منه على أن الأسرة قوامها الدين والأخلاق والوطنية.

وتجدر الإشارة فى هذا المقام إلى مغزى نص المادة 2 من الدستور المصرى على أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع . وفى هذا المعنى نص دستور الامارات العربية المتحدة على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع فى الاتحاد (المادة 7) ، ونص الدستور البحرينى على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع (المادة 2) ، ونص الدستور السودانى على أن تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدرا للتشريعات التى تسن على المستوى القومى وتطبق على ولايات شمال السودان (المادة 5/1) ، ونص الدستور السورى على أن الفقه الإسلامى مصدر رئيسى للتشريع (المادة 3/1) ، ونص الدستور العمانى على أن الشريعة الإسلامية هى أساس التشريع (المادة الأولى) ، ونص الدستور القطرى على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى لتشريعاتها (المادة الأولى) ، ونص الدستور العراقى على أنه لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام (المادة 2 أولا).

على أنه إذا كانت الشريعة الإسلامية لها طابع دينى لاشك فيه ، باعتبارها جوهر الدين الإسلامى ، إلا أنها تستقل عن الطابع العقائدى الدينى الأصيل فى أنها نظام تشريعى . ولهذا كان من المتصور أن تطبق الشريعة الإسلامية فى مجتمع غير إسلامى، أو فى المجتمع الإسلامى على غير المسلمين من أفراده، وعلى الأجانب الذين يوجدون على أرضه ، بالنظر إلى طابعها الحضارى وسندها المنطقى وقيمها الاجتماعية دون إخلال بمبدأ حرية العقيدة الدينية. وتأكيدا للطابع التشريعى للشريعة الإسلامية عنيت المحكمة الدستورية العليا بتحديد المقصود بمبادئ الشريعة الإسلامية ، بأنها الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها ، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى يكون الاجتهاد فيها ممتنعا ، ومن غير المتصور أن يتغير مفهومها بتغير الزمان والمكان (دستورية عليا فى 19/12/2004 القضية رقم 119 لسنة 21 قضائية “دستورية” ، ج 11/1 “دستورية” ص 1143) . أما الاجتهاد فتنحصر دائرته فى الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معاً (دستورية عليا فى 3 مايو سنة 1995 القضية رقم 18 لسنة 14 قضائية “دستورية” ، ج 8 “دستورية” ص 611).

ولما كانت مبادئ الشريعة الإسلامية نظاما تشريعيا رغم طابعها الدينى ، فإن تناولها بالتفسير يدخل فى نطاق حرية التعبير بوجه عام وليس فى نطاق حرية التعبير الدينى ، أو حرية العقيدة الدينية . وغنى عن البيان أن اعتبار الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع لا يخل بواجب الدولة فى كفالة حرية العقيدة الدينية بالنسبة إلى العقائد الدينية الأخرى.