نائية الجهل و العلم في القانون الجنائي

كتبها الأستاذ عبد الحكيم الحكماوي
باحث قانوني
أستاذ زائر بكلية الحقوق سلا

إن مما يستدعي الاهتمام بهذا الموضوع هو أن فكرة الجهل بالقانون الجنائي لا تزال تثير مجموعة من الإشكالات في أذهان العامة [1] و الذين يصعب عليهم الإيمان بفكرة مفادها إمكانية محاكمة شخص على فعل ارتكبه من غير أن يكون هو على علم بأن القانون يجرم ذلك الفعل ؛ و هو الأمر الذي يثير مجموعة من التساؤلات لدى مثل هؤلاء الأفراد . و نظرا لضبابية هذه الفكرة ارتأينا المساهمة في توضيحها ، و الغرض عندنا ليس المشتغلين بالقانون القائمين و العرفين بأساس هذه القاعدة ، و إنما الهدف عندنا هو من ليس له إلمام بالقانون أو غريب عن هذا الميدان .

و لعل الدافع للخوض في الحديث عن هذه القاعدة هو معرفة أسسها و العلة التي قررت من أجله ، و كيف أخذت بها التشريعات و ما هي تجلياتها في التشريعات الجنائية و التي ركزنا فيها على التشريع المغربي محاولين لم جوانب الفكرة سواء من حيث التطرق لدواعي الأخذ بهذه الفكرة أو من حيث تجلياتها.

و على ذلك و حتى يكون الموضوع واضحا و بينا ن فإننا ارتأينا تقسيمه إلى مبحثين:

سنتطرق في الأول إلى إبراز دواعي اعتماد قاعدة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل بالقانون الجنائي ” مع الوقوف على بعض امتداداتها الواردة بالقانون الجنائي ( المبحث الأول ) ، بينما سنتطرق في المبحث الثاني لبعض الصور التي أخذ فيها المشرع بفكرة العلم كأساس لتطبيق مقتضيات القانون الجنائي .

المبحث الأول : دواعي اعتماد قاعدة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل في القانون الجنائي ” و بعض امتداداتها في التشريع الجنائي المغربي .

إن مبدأ قاعدة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل في القانون الجنائي ” يؤخذ بها في كل التشريعات الجنائية الوطنية، بل إن الناظر في القوانين الجنائية ذات الامتداد الدولي يجد لهذه القاعدة مجموعة من الصور و التطبيقات. فكان بذلك اعتماد تكريس هذه القاعدة في التشريعات الجنائية الوطنية قائما على دواعي معينة سنقف عندها ( المطلب الأول ) لنقف عند مدى الأخذ بهذه الفكرة في القانون الجنائي المغربي و بعض امتداداتها ( المطلب الثاني ) .

المطلب الأول : دواعي اعتماد قاعدة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل بالقانون الجنائي “

من المعلوم أن الدول على اختلاف أشكالها و في مختلف الأزمنة إنما تحاول ضبط المجتمعات التي تؤطرها و التي تخضع لنفوذ السلطة التي تمارسها ، و من أجل القيام بمهمتها الرئيسية المتمثلة في الحفاظ على أمنها و استقرارها و بالتالي ضمان استمرارها فإنها تعمل على ضرورة استتباب الأمن و الطمأنينة في المجتمع .

و على ذلك فكل دولة تسعى في أداء مهمتها إلى حماية الأفراد المكونين للمجتمع سواء تجلت تلك الحماية على مستوى الأشخاص أو الأموال ، كما أنها تفرد أحكاما تخص حماية الدولة و نظام الحكم و ما إلى ذلك من الأمور اللازمة للاستقرار و الأمن ، و من أجل ذلك فإن كل دولة تقوم بسن تشريعات – الهدف منها هو تحقيق الحماية المذكورة – تضمنها في قانون واحد يصطلح عليه التشريع الجنائي أو في تشريعات متفرقة تسن بحسب الحاجة إليها [2]، و بحسب ما تستلزمه تلك المستجدات من حماية .

و هكذا فقد نجد أن المجتمع لما يتواضع على اعتبار أن فعلا معينا يعتبر خرقا لأمنه و استقراره ، يرتقي بذلك الفعل من دائرة الأفعال المخلة بذلك الاستقرار إلى درجة الاتصاف بالجريمة [3]، و بالتالي تترجم فكرة الجماعة حول الفعل المعني تشريعا بموجبه يتم زجر كل من سولت له نفسه اقتراف ذلك الفعل أو الجريمة .

و هذا التفكير الجمعي في نوع و طبيعة الأفعال التي من شأنها أن تمس استقرار و أمن المجتمع لا تشمل فقط ما يمكن أن يمس الأشخاص و الأموال ، و إنما كل ما يمكن أن يهدد المجتمع كوحدة كاملة متكاملة ، و بالتالي نظام الحكم و شكل الدولة التي تحكم مجتمع معين في إقليم محدد ، و ذلك على اعتبار أن كل فرد من الأفراد في سعيه إلى الاستقرار في حياته فهو يحتاج إلى سلطة تحمي وجوده و استقرار ذلك الوجود و توفر له الأمن الذي من دونه ستذهب أحلامه ببناء مستقبل كما يتصوره أدراج الرياح .

و على ذلك فالأفعال التي يتواضع المجتمع على أنها تهدد كيانه و استقرار و أمن ذلك الكيان ، تشمل بالإضافة إلى الأفعال التي تمس الأموال و الأشخاص ، كل ما من شأنه أن يمس نظام الدولة و أركانها و رموزها ، و هو ما يبرر وجود مجموعة من القواعد التي تشرع لتجريم أفعال تمس رموز الدولة و سلامة الأشخاص أو الأموال و كذا القيم المحمية و المرعية .

و إذا نظرنا إلى مختلف التشريعات الجنائية التي تسن في دولة ما كما هو الأمر في المملكة المغربية، فإننا نرى أن سياسة التجريم لا تخرج عما ذكر ، و بالتالي فمن أهم دواعي اعتبار قاعدة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل بالقانون الجنائي ” أن المجتمع هو نفسه الذي يقوم بسن تلك القواعد و التي يكون التواضع بشأنها معروفا بالضرورة و محتاج إليه ؛ مما يكون معه المشرع مضطرا في نهاية المطاف إلى ترجمة ما يجول في فكر المجتمع في شكل قانون ، كما يضطر إلى التدخل كلما ظهرت الحاجة إلى ذلك .

و من المفيد في هذا السياق أن نذكر أن العوامل المؤطرة للجماعة و للأفراد وسط تلك الجماعة تلعب دورا كبيرا في تمييز الأفعال و بالتالي تقسيمها إلى أفعال منبوذة وجب زجرها و أخرى يمكن التسامح معها ، وعلى أساس هذه العوامل المؤطرة يمكن التمييز بين مختلف التوجهات التشريعية الجنائية .

فقد يكون الدين عاملا مركزيا في تشكيل الوعي الجماعي بطبيعة الأفعال و على أساسه تقسم الأفعال و تعطى لها الصفة اللازمة كما هو الحال بالنسبة للعلاقات غير الشرعية القائمة بين الذكور و الإناث ، فهذه العلاقات نجدها محرمة في المجتمعات التي تتأثر بعامل الدين و قد نجد نفس السلوكيات مسموح بها في المجتمعات التي تحكمها إيديولوجيات فلسفية قائمة على احترام الآخر و تقديس الحرية .[4] فجريمة الفساد مثلا لا نجد لها ذكر في التشريعات الأوروبية التي تعتبر أن وجود ذكر و أنثى في علاقة غير شرعية هو أمر يخصهما ما دام أنه من صميم الممارسة الاعتيادية لقيمة الحرية ؛ بينما في الدول المتأثرة بالدين لا نجد الأمر كذلك و هو حال المغرب الذي يجرم جنحة الفساد بمقتضى الفصل 490 من القانون الجنائي و يفرد له عقوبة خاصة به .

كما قد تكون التوجهات الاجتماعية أو الاقتصادية المعتمدة من قبل الدول و المجتمعات أثر في تحديد ما يجب زجره من الأفعال و ما يبقى في دائرة الإباحة ، و هكذا فقد نجد أن الدول التي تنتمي للمنظومة الاشتراكية قد لا تجرم أفعال الاعتداء على الملكية الفردية على أن اعتباره وسائل الإنتاج هي في ملك الشعب و بالتالي لا يمكن تصور أن مالك الشيء سيعتدي على ممتلكاته ، بينما نجد الأمر مخالفا لذلك تماما في الدول المعتمدة للنظام الليبرالي كنظام اقتصادي قائم على الحرية الشخصية و الملكية الخاصة و التي قد يتم التنصيص عليها في الدستور نفسه .

و من العوامل المؤثرة في تمييز الأفعال بين ما يمكن اعتبار إتيانه جريمة و ما لا يمكن اعتباره كذلك ؛ العامل الثقافي و الإثني ، فقد نجد في المجتمعات التي لا تزال تحكمها الأعراف و التقاليد أن هناك أفعالا مجرمة و أخرى ليست كذلك ، و مثال ذلك ظاهرة ختان الإناث في بعض المجتمعات حيث تعتبر هذه الظاهرة مألوفة و هي نفس الظاهرة التي قد نجد تشريعات أخرى تجرمها .

و عموما فإن هناك عوامل عديدة تتداخل فيما بينها أو يكون إحداها أقوى تأثيرا من الآخر في تحديد المنظومة القيمية التي تسود مجتمعا ما و التي تكون أساسا لتحديد المعايير المعتمدة لتصنيف الأفعال إلى ما هو مجرم و ما هو غير ذلك . إلا أنه بالرغم من وجود هذه المعايير فلابد من مبادئ عامة تحكم المنظومة الجنائية لكل دولة على حدة.

و بالنظر في المنظومة التشريعية الجنائية المغربية نجدها أنها شأنها شأن باقي التشريعات المماثلة تنقسم إلى جزأين :

جزء يحتوى على مجموعة من القواعد الجنائية العامة ، و هو ما يمكن أن يصطلح عليه بالشريعة الجنائية العامة ، و يسمى كذلك بالقانون الجنائي الذي يضم شقين من القواعد ؛ الشق الأول يتعلق بالنصوص المنظمة للنظرية العامة للقانون الجنائي سواء ما تعلق بالجريمة أو العقاب أو المجرم ، و أما الشق الثاني فيتعلق بتحديد الجزاء الخاص بكل جريمة من الجرائم على حدة تطبيقا ل” مبدأ الشرعية ” .

و جزء ثاني من التشريع الجنائي المغربي يتمثل في التشريعات الجنائية الخاصة ؛ و هي تشريعات تهم ميادين محددة بعينها ، دعت الضرورة إلى سنها كما هو الأمر بالنسبة للقانون المرتبط بميدان الصرف لسنة 1939 أو القانون الزاجر للاتجار و الحيازة و الاستهلاك للمخدرات الذي تم سنه سنة 1974 أو القانون المنظم لزجر الغش في البضائع و المواد الغذائية لسنة 1984 ، أو القانون المتعلق بالجمارك لسنة 2002 أو القانون المنظم للهجرة و إقامة الأجانب بالمملكة المغربية سنة 2003 ، إلى غير ذلك من النصوص الجنائية التي تدور مواضيعها على اختلافها حول حماية الأشخاص أو الأموال .

و على كل فإن تشريع و سن تلك القوانين يكون بعد وعي المجتمع بضرورة تلك المقتضيات من أجل حماية المصالح العامة من غير إهمال للمصالح الخاصة التي تحمى بصورة تبعية و مطردة ؛ فكيف يمكن أن نتصور جهل الأفراد بتلك القواعد و المفترض أن كل واحد منا باعتباره جزء من هذا المجتمع له من الوعي ما يكفي لاعتبار أن ما يمكن أن يرتكب بأنه ماس بالحماية التي يتعين أن توفر للأشخاص و الأموال . فالمعرفة المسبقة بطبيعة الأفعال المشكلة للجرائم معرفة مفترضة بحسب المنطق القانوني الذي يذهب إلى أن تلك القواعد المنظمة لتلك الجرائم ما هي إلا انعكاس لاعتقاد المجتمع بأنها تشكل خطورة بالغة تعين إقران ذكر ارتكابها بجزاء معين و بغض النظر عن نوع و طبيعة ذلك الجزاء ، وبالتالي فلا يمكن لأي أحد أن يحتج بجهله لها.

هذا من جهة و من جهة أخرى ؛ فإذا كان قد استقر عندنا التسليم بالمعرفة المسبقة للأفعال المكونة للجرائم ، فإن التشريعات الجنائية لا تفترض فقط تلك المعرفة المسبقة و إنما تحمي قاعدة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل بالقانون الجنائي ” حتى من الناحية البعدية ، إذ لا يمكن القول بجهل الشخص للقانون الجنائي و هو بصدد اقترافه لفعل جرمي معين ، ذلك أن عزمه و إصراره على ارتكاب ذلك الفعل و الطريقة التي ينفذ بها ذلك العزم يدلان على أنه يعلم جيدا أنه مقدم على شيء من شأنه المس باستقرار المجتمع و أمن و سلامة الأشخاص أو الأموال بحسب قصده و الغرض من الفعل الذي سيرتكبه ؛ و هذه الفكرة صحيحة إلى أبعد الحدود ؛ فالشخص المصمم على قتل غيره يعرف أنه سيأتي فعلا غير سوي و أن من شأن ذلك الفعل أن يحدث اضطرابا في المجتمع، كما أن الشاب الذي يربط علاقة غير شرعية بفتاة يسعى إلى أن تبقى تلك العلاقة طي الكتمان لاعتقاده الجازم بأن ما يقوم به هو مخالف للقواعد المرعية اجتماعيا و ذلك بغض النظر عن طبيعة العقاب المقرر لمثل تلك الأفعال أو مدى ذلك العقاب و هو نفس الأمر بالنسبة للذي يقوم باختطاف طائرة مثلا أو سفينة فهو على علم بأن ما سيقدم عليه فيه تهديد للأشخاص و الأموال و إرباك لنظام الدولة التي تمتلك تلك الوسائل ، و بالتالي كيف يمكن له أن يعتد بجهله للقانون الجنائي أو أنه يجهل بكون ما أقدم عليه مجرم ومعاقب عليه .

و الهدف من هذه الفكرة هو قطع الطريق على كل من تسول له نفسه الاعتداء على الغير ؛ بأي نوع من أنواع الاعتداء ؛ من أن يحتج بالجهل بالقاعدة القانونية الزجرية . و إن من شأن تطبيق هذه الفكرة أن تؤدي الدولة و الأجهزة التابعة لها الدور المنوط بها كما يجب في حماية ذاتها و حماية الأشخاص و الأموال و حتى القيم السائدة [5].

و خلاصة القول أن فكرة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل بالقانون الجنائي ” مؤسسة على أسس فلسفية و اجتماعية و سيكولوجية ، لها تجلياتها سواء على مستوى الضمير الجمعي للمجتمع و من خلاله الأفراد الذين يؤسسون ابتداء لتلك القواعد على اعتبار أن كل قاعدة قانونية هي في الأصل قاعدة اجتماعية ، أو على مستوى المؤسسات و الجهات التشريعية التي تتأثر بما يجول في المجتمع و تترجمه إلى تشريعات و قوانين من أجل ضبط سلوك الأفراد داخل الجماعة ، وكذا على مستوى أداء الدولة و الأجهزة التابعة لها و هي بصدد القيام بدور الحماية للمصالح العامة و ما ينتج عن ذلك من حماية لمصالح الأفراد و حقوقهم و صيانة كرامتهم.

و لكل ما ذكرنا امتداد في القوانين الجاري بها العمل و لذلك كان من الأفضل أن نضع القارئ الكريم أمام بعض الامتدادات المتعلقة بقاعدة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل بالقانون الجنائي” في التشريع الجنائي المغربي؛ و هو ما سنتطرق إليه في المطلب الثاني.

المطلب الثاني:بعض امتدادات قاعدة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل بالقانون الجنائي” في التشريع الجنائي المغربي

إن التجليات الواضحة لهذه الفكرة أو القاعدة في التشريع الجنائي المغربي تتجسد في مجموعة من النصوص القانونية الواردة بالشق العام للقانون الجنائي ؛ ذلك أن العلة في إيراد تلك التجليات في هذا الشق هو تفادي ما يسمى بالتضخم التشريعي ، و بالتالي تفادي إيراد تلك القواعد في كل تشريع جنائي جديد على حدة .

و باستقراء تلك المقتضيات نجدها تنقسم إلى ثلاثة مستويات :
المستوى الأول و يتجسد في إقرار تلك القاعدة على مستوى العلم بالقاعدة القانونية الجنائية.
المستوى الثاني و يتمثل في الجهل بالظروف المحيطة بارتكاب الجريمة .
أما المستوى الثالث فإن صورته تكمن في الجهل بظروف التخفيف أو التشديد أو الإعفاء المقررة للعقوبة على الفعل المقترف.

ويمكن إعادة صياغة تلك المستويات في مستويين :

مستوى الجهل بالقانون و مستوى الجهل بالواقع.

و هكذا فعلى مستوى الجهل بالقانون ، فإن المشرع أورد القاعدة العامة في الفصل الثاني من التشريع الجنائي المغربي و الذي ينص على أنه ” لا يسوغ لأحد أن يعتذر بجهل التشريع الجنائي ” ؛ فبالنظر لهذه القاعدة نجدها أنها جاءت على صيغة الإطلاق و بالتالي عدم جواز الاعتداد بعكس ما جاء فيها بأي وجه من الوجوه ، و عندما نقول أنها جاءت مطلقة فمعنى ذلك أن عبارة ” التشريع الجنائي ” التي وردت بالفصل المذكور لا تشمل فقط القواعد الواردة بمجموعة القانون الجنائي و إنما تسري على مجموع المقتضيات الجنائية سواء التي وردت في مجموعة القانون الجنائي أو تلك التي أوردها المشرع في قوانين بعينها ؛كما أنها تشمل المقتضيات التي تنظم الإجراءات الجنائية سواء أجاء بها المشرع المغربي بقانون المسطرة الجنائية أو بنصوص خاصة كالقانون المتعلق بالجمارك أو زجر المخدرات و غيرها متى ارتبطت تلك القواعد بقاعدة موضـوعية .

و مفاد تلك القاعدة أن الشخص مهما يكن مستواه أو ظروفه إذا ما ارتكب أي فعل جنائي فلا يمكن أن يعتذر بكونه جاهلا للقاعدة الزجرية شكلية كانت أو موضوعية ؛ و لو كان أميا أو لا علم له بكون القانون الجنائي يزجر ذلك الفعل أو تلك التصرفات ؛ و على ذلك فدلالة الجهل في هذا الفصل تعني الجهل بالقاعدة القانونية الجنائية و ليس لها أي ارتباط بالمستوى العلمي أو التعليمي للشخص .

لكن هناك تقاطع بين القاعدة الواردة في الفصل الثاني من مجموعة القانون الجنائي المغربي و تلك الواردة بالقاعدة القائلة بجواز دخول القانون الجنائي حيز التنفيذ بأثر رجعي ، ومثاله المقتضى القانوني الذي تم بموجبه الحكم في قضية الزيوت المسمومة ، و مضمن هذه الفكرة أن الشخص الذي يأتي فعلا معينا خلال فترة لا وجود فيها لمقتضى جنائي يجرم ذلك الفعل قد يفاجأ في وقت لاحق بصدور مقتضى جنائي جديد يخرج ذلك الفعل من دائرة الإباحة و يدخله في دائرة التجريم عن طريق تنصيص المشرع على أن آثار القانون الجديد تسري بأثر رجعي ، فهلا يمكن اعتبار ذلك مما يحد من نطاق تطبيق القاعدة موضوع الدراسة ؟ أو لنقل بأنه صورة من صور الجهل بالقانون الجنائي ؟

إن النظر في مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي من حيث الزمان يجب ألا يؤخذ على إطلاقه ، و لذلك فالمصلحة قد تقتضي التجريم اللاحق لما قد يشكله الفعل المقترف من خطورة بالغة ليس على الفرد فقط و لكن على المجتمع ككل و بالتالي كيان الدولة ، و على ذلك الأساس فإعمال النظر في قاعدة رجعية القانون الجنائي في علاقتها بأساس فكرة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل بالقانون الجنائي ” يجعلنا أمام نتيجة واحدة ألا و هي أن كلا القاعدتين تكمل إحداهما الأخرى على اعتبار أن أساس القاعدة موضوع الدراسة أساس فلسفي عقدي اجتماعي و معلوم بالضرورة لدى كافة أفراد المجتمع ، و منه لا يمكن تصور قيام فعل ضار بالغ من الخطورة حد تهديد حياة الفرد أو صحته أو أمنه و يبقى ذلك الفعل بدون عقاب ، فمسألة عدم تجريم ذلك الفعل يمكن حملها على التراخي فقط ، و هو ما يبرر إمكانية صدور مقتضى جنائي لاحق يجرم ذلك الفعل و يحدد له العقوبة المناسبة .

و لكن الاستثناء الذي أوردناه من حيث علاقة القاعدة موضوع الدراسة برجعية القانون الجنائي ، غير مؤثر كقاعدة عامة ، ذلك أن القانون الجنائي مليء بالأمثلة التي تؤكد فحوى و مضمون قاعدة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل بالقانون الجنائي ” و هو ما قد نمثل له من خلال الأمثلة التالية :

فمثلا إذا ما قام فرد من الأفراد بالاحتفاظ بكنز كان قد عثر عليه في قطعة أرضية فلاحية تعود ملكيتها له من غير أن يخبر بذلك السلطات العامة أو القضائية ، فإن ذلك الشخص لا يجوز له الاحتجاج بأنه يملك ما عثر عليه على اعتبار أنه وجده في ملكه و بالتالي فهو المالك له و ليس للدولة أو السلطة القائمة أن تحاسبه على الاحتفاظ به ، مادام أن هناك نص يجرم فعل الاحتفاظ بذلك الكنز من غير اتخاذ الإجراءات المأمور بها في النص الجنائي النافذ و الذي هو الفصل 528 من القانون الجنائي الذي ينص على أنه ” من عثر على كنز، ولو في ملك له، ولم يخطر به السلطة العامة، في ظرف خمسة عشر يوما من يوم اكتشافه، يعاقب بغرامة من مائتين 225 إلى مائتين وخمسين درهما. أما من عثر على كنز وتملكه، كله أو بعضه، دون أن يصدر له إذن بذلك من الجهة القضائية المختصة، حتى ولو كان قد أخطر به السلطة العامة، فإنه يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من مائتين 226إلى مائتين وخمسين درهما. “

كما أنه ليس من المقبول للشخص الذي يبحر في الشبكة العنكبوتية أن يستغل دخوله الخطأ لمنظومة معطيات بطريق الخطأ و البقاء في تلك المنظومة من غير أن يؤذن له بذلك . ذلك أن المشرع قد جرم فعل البقاء في تلك المنظومة من غير إذن و لكن لم يجرم فعل الدخول الخطأ وفق ما ينص عليه الفصل 607-3 الذي جاء فيه أنه : ” يعاقب بالحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر وبالغرامة من 2.000 إلى 10.000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل من دخل إلى مجموع أو بعض نظام للمعالجة الآلية للمعطيات عن طريق الاحتيال. ويعاقب بنفس العقوبة من بقي في نظام للمعالجة الآلية للمعطيات أو في جزء منه، كان قد دخله عن طريق الخطأ وهو غير مخول له حق دخوله.” و بالتالي فإنه من الواضح أن المشرع ميز بين أمرين الدخول لقاعدة معطيات بطرق احتيالية و هنا نجد أن عنصر العمد و القصد متوفر و بالتالي فمنطقا لا يقبل من الفاعل أن يعتد بجهل تجريم ما قام به ، أما إذا كان غير متعمد للدخول لذلك النظام فإن التجريم ينصب على البقاء و لا يمكن للفرد أن يعتد بالجهل بتجريم ذلك البقاء و هو غير مرخص له به ، وبالتالي فإن المسألة تبدو منطقية ما دامت تفيد أن ما ليس بحق فهو محمي بقاعدة قانونية و عليه يتعين اعتبار تلك القاعدة و احترامها و الابتعاد عن خرقها .

و خلاصة القول في هذا الباب أن المشرع بموجب القاعدة الواردة بالفصل الثاني قد قطع أي احتمال للاعتذار بالجهل بالقانون الجنائي و قواعده ، سواء تلك الواردة بالتشريع العام كما سبق و قلنا أو القوانين الخاصة .

و من صور الجهل بالقانون كذلك ما أورده المشرع بالفصل 130 من القانون الجنائي الذي ينص على أن: ” المشارك في جناية أو جنحة يعاقب بالعقوبة المقررة لهذه الجناية أو الجنحة. ولا تؤثر الظروف الشخصية التي ينتج عنها تشديد أو تخفيف أو إعفاء من العقوبة إلا بالنسبة لمن تتوفر فيه. أما الظروف العينية المتعلقة بالجريمة، والتي تغلظ العقوبة أو تخفضها، فإنها تنتج مفعولها بالنسبة لجميع المساهمين أو المشاركين في الجريمة ولو كانوا يجهلونها. “

و بالنظر في هذه المقتضيات نجدها تحدد نوعين من الظروف ، ظروف شخصية لا تتأثر إلا بمن توفرت فيه ، أما الظروف العينية المتعلقة بالجريمة فتطبق على الجميع بدون استثناء لارتباطها بالجريمة لا المجرم .

فهذا الفصل القانوني يحدد بالضبط ماهية الآثار التي ترتبط بالظروف الشخصية لمقترف الجريمة و التي يمكن الاعتداد بها من أجل التشديد أو التخفيف أو الإعفاء من العقوبة ؛ تتمثل تلك الظروف في الظروف الشخصية للشخص الذي اقترف الفعل الجرمي ، ذلك أنه عندما يقدم على اقتراف فعل جرمي معين فإن العقوبة المقررة لذلك الفعل إما تتأثر سلبا أو إيجابا بظروف الفاعل الشخصية أي ما ارتبط بشخصه هو و ليس العينية بمعنى ما ارتبط بالجريمة ، و هكذا فإن تلك الظروف قد تشدد العقوبة المقررة أو تخفف منها أو تعفي منها بالمرة . و ما ينطبق على الظرف ينطبق على الصفات و خاصة الصفات الشخصية .

و من أمثلة الصفة الشخصية التي قد تشدد من العقوبة ؛ ما نص عليه الفصل404 الذي جاءت مقتضياته تنص على أنه : ” يعاقب كل من ارتكب عمدا ضربا أو جرحا أو أي نوع آخر من العنف أو الإيذاء ضد أحد أصوله أو ضد كافله أو ضد زوجه كما يلي :
– 1 في الحالات المنصوص عليها في الفصلين 400 و 401 ، ضعف العقوبة المقررة لكل حالة، حسب التفصيلات المشار إليها فيهما.
– 2 في الحالة المنصوص عليا في الفقرة الأولى من الفصل 402 السجن من عشر إلى عشرين سنة. أما في الحالة المنصوص عليها في الفقرة الثانية، فهي السجن من عشرين إلى ثلاثين سنة.
– 3 في الحالة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من الفصل 403 السجن من عشرين إلى ثلاثين سنة. أما في الحالة المنصوص عليها في الفقرة الثانية، فهي السجن المؤبد. “

و هكذا فإنه بمقتضى هذا الفصل فإن حمل صفة الفرع أو المكفول أو الزوج يشكل سببا من شأنه تشديد العقوبة المقررة للفعل الذي يأتيه الفاعل ، و هو ما يلاحظ من مضاعفة للعقوبة على ما هو منصوص عليه بالفصول المشار إليها بصلب الفصل المذكور و يفهم ذلك فيما إذا كان الفاعل أجنبيا عن الضحية الذي تعرض للضرب أو الجرح و نتج عن ذلك عجز لم يتجاوز 20 يوما فإن العقوبة المقررة قانونا هي ” .. الحبس من شهر واحد إلى سنة وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط. ” أما إذا كان الفاعل فرعا للضحية أو مكفولا من قبله أو زوجا له فإن تلك العقوبة تضاعف بالنسبة لنفس الفعل مع اعتبار الصفة الشخصية و تصبح العقوبة المقررة قانونا هي ” الحبس من شهرين إلى سنتين و غرامة مضاعفة كذلك أو إحداهما فقط ” و بالتالي يظهر أن صفة الفاعل الذي يأتي الجريمة تلعب دورا في تشديد العقوبة و لو جهل الفاعل ذلك فإن العقوبة تطبق بالرغم من إرادته .

أما من أمثلة الظروف الشخصية المخفضة للعقوبة و التي يستفيد منها الجاني و لو جهلها فما جاء بالفصل 418الذي ينص على أنه : ” يتوفر عذر مخفض للعقوبة في جرائم القتل أو الجرح أو الضرب، إذا ارتكبها أحد الزوجين ضد الزوج الآخر وشريكه عند مفاجأتهما متلبسين بجريمة الخيانة الزوجية ” و هكذا فكل زوج ضبط زوجه و هو متلبس بجريمة الخيانة الزوجية و قام بقتله أو ضربه أو جرحه في تلك الظروف فإن تمتعه بصفة الزوج يجعله متمتعا بظروف التخفيف و لا تطبق عليه العقوبة المقررة أصلا في جريمة القتل أو الضرب و الجرح بل يستفيد من عقوبة أقل . و هو نفس الأمر بالنسبة لرب الأسر الذي يضبط أشخاصا يمارسون الجنس بشكل غير مشروع بمنزله وفق ما جاء بالفصل 420 الذي ينص على أنه : ” يتوفر عذر مخفض للعقوبة في جرائم الجرح والضرب دون نية القتل، حتى ولو نتج عنها موت، إذا ارتكبها رب أسرة على أشخاص فاجأهم بمنزله وهم في حالة اتصال جنسي غير مشروع. ” و هذا العذر المخفف للعقوبة لا يستفيد منه الابن أو البنت الذين يضبطا الغير و هم يمارسون الجنس داخل المنزل بصورة غير مشروعة ذلك أن مفهوم رب الأسرة لا يشمل الأبناء و إن كان هذا المفهوم قد أصبح واسعا بفعل أثر مفاهيم مدونة الأسرة على بعض المفاهيم القانونية في مختلف الحقول القانونية .

أما بالنسبة للظروف المعفية من العقاب و التي يستفيد منها الجاني و لو لم يعلم بها فيمكن سرد أمثلة لذلك منها ما جاء بالفصل 534 الذي ينص على أنه : ” يعفى من العقاب، مع التزامه بالتعويضات المدنية، السارق في الأحوال الآتية: – 1 إذا كان المال المسروق مملوكا لزوجه. – 2 إذا كان المال المسروق مملوكا لأحد فروعه. ” و بالتالي فكل سارق قام بسرقة مال مملوك لزوجه أو أحد فروعه فإنه لا يعاقب بقوة القانون و لو ثبت في حقه الفعل المتابع من أجله ، و لو طالب الضحية بإيقاع العقاب فإن مطالبته تلك تبقى من غير جدوى لأن القانون أعفى الجاني من العقوبة و لكن في الشق الزجري فقط مع بقائه مسؤولا مدنيا عما قام به من فعل مخالف للقانون بتملكه عنوة لمال ليس مملوكا له و حرمان مالكه من الاستفادة منه و التصرف فيه و لو لفترة من الزمن .

و من المعلوم أن استفادة الأفراد من ظروف التخفيف أو التشديد أو الإعفاء من العقوبة هي استفادة فردية و شخصية تتوفر لشخص بعينه دون غيره و لو اشترك في إتيان الفعل الجرمي رفقة ذلك الغير ، و هي كذلك مسألة قانون تخضع لرقابة المجلس الأعلى ؛ و في هذا الإطار فقد جاء في قرار للمجلس الأعلى أنه ” حيث لئن كان القرار المطعون فيه قد أورد ضمن تنصيصاته أن المحكمة المصدرة له قد تداولت بشأن تمتيع المتهمين أو عدم تمتيعهم بظروف التخفيف قبل أن تقرر فإن هذا التنصيص الجامع للمتهمين لا تقوم معه الحجة على أنه قد وقع الاقتراع بشأن ظروف التخفيف فيما يخص كل واحد منهم على حدة نظرا لاختلاف ظروف كل واحد منهم عن الآخر الشيء الذي لم يسمح للمجلس الأعلى بمراقبة مدى احترام المحكمة لمقتضيات الفصل المشار إليه ( الفصل 486 من قانون المسطرة الجنائية القديمة )[6] أعلاه مما يعرض قرارها للنقض ” [7]

هذا على مستوى الظروف الشخصية التي تتأثر سلبا و إيجابا بظروف الأشخاص و صفاتهم، أما إن تعلق الأمر بالظروف العينية فإنها تطبق قانونا و جبرا على كل مجرم أتى واقعة توفرت فيها شروط تطبيقها كما هو الأمر بالنسبة لمقترف جريمة السرقة المقترنة بظرف أو ظروف للتشديد ، حيث يتغير الإطار القانوني المنظم لذلك الفعل من الفصل 505 من القانون الجنائي إلى الفصل 509 أو 510 من نفس القانون بحسب الأحوال ؛ فمتى توفرت ظروف التشديد أو التخفيف عند اقتراف جرائم معينة فإن مقترفي تلك الجرائم تطبق عليهم تلك الظروف و تلزم المحكمة بتطبيقها و هو ما تقتضيه عبارة ” أما الظروف العينية المتعلقة بالجريمة، والتي تغلظ العقوبة أو تخفضها، فإنها تنتج مفعولها بالنسبة لجميع المساهمين أو المشاركين في الجريمة ولو كانوا يجهلونها.” و صفة العينية المنصوص عليها في هذه المقتضيات لا ترتبط بالفاعل الأصلي فقط و إنما تسري على المساهمين و المشاركين في الجريمة على حد سواء و هو تأكيد لمفهوم العينينة المستقل عن الظروف الشخصية لمقترفي الجرائم.

تلك إذا بعض الأمثلة المرتبطة بمستوى الجهل بالقانون و عدم إمكانية الاعتداد بذلك الجهل . فما ذا عن الجهل بالواقع و أثره في تطبيق القانون الجنائي؟

إن المشرع المغربي لم يعتبر الجهل بالواقع مانعا من موانع إيقاع العقوبة على كل من اقترف فعلا مجرما؛ سواء أكان ذلك المقترف هو الفاعل الأصلي أم المشارك أم المساهم ؛ و هكذا فقد جاء بالفصل 117أنه : ” يعاقب على المحاولة حتى في الأحوال التي يكون الغرض فيها من الجريمة غير ممكن بسبب ظروف واقعية يجهلها الفاعل.” و بقراءة مقتضيات هذا الفصل نجد أن المشرع المغربي شأنه شأن باقي التشريعات الجنائية الأخرى قد عاقب على مجرد المحاولة بأية صورة كانت حتى و لو كانت النتيجة المرجوة من الفعل الجرمي غير ممكنة التحقق لظروف واقعية خارج إرادة أو علم الجاني المفترض ، و هذا الأخير ليس بإمكانه التذرع بكونه و إن حاول ارتكاب الفعل الجرمي فإن هناك ظروفا حالت دون تحقق النتيجة الإجرامية و بالتالي لم يحدث فعله ذلك أي أثر في استقرار المنظومة الاجتماعية و أمنها ، و هو ما يجعله خارجا عن نطاق تطبيق القانون الجنائي .

إن مثل هذا النوع من التبريرات لا يمكن سماعها ممن تجرأ على محاولة اقتراف جريمة معينة و لم يتراجع بمحض إرادته و إنما حالت ظروفا خارجة عن تلك الإرادة دون تحقق النتيجة الإجرامية .

و كمثال على ما ذكر فلو صمم شخص ما قتل شخص آخر و اتخذ العدة و قام بما يجب القيام به من أجل إزهاق روح الضحية المفترض ، كما لو دخل الجاني على الضحية ليلا و هو نائم من أجل استغلال فرصة النوم للإجهاز على الضحية المفترض و قان بطعنه بعدة طعنات في مقتل ظانا أنه بالفعل قد أزهق روحه ، و لكن التحقيقات أثبتت أن الوفاة كانت طبيعية و أن الطعنات لم يكن لها أي تأثير في تحقيق نتيجة القتل ، فإنه في مثل هذه الحالة يكون الجاني جاهلا لوفاة الضحية و هو أمر خارج عن إرادته و لا يمكن له أن يتذرع بكون الضحية كان ميتا أصلا و بالتالي ففعله ذلك لم يكن له أي تأثير و بالتالي لم يحدث أي اضطراب في استقرار المجتمع وأمه و ليس على المحكمة أن تعاقبه بالعقوبة المقررة لجناية القتل ، إذ أن أي تذرع منه بشأن ما ذكر لا يكون مسموعا سواء منه أو من المساهم أو المشارك فكلهم سواء في العقاب بعد تحقق مسؤولية كل واحد عن القيام بالأفعال المنوطة به من غير أن تحقق النتيجة المرجوة لظروف واقعية خارج إرادتهم أجمعين .

تلك إذن بعض ملامح الأخذ بقاعدة ” عدم جواز الاعتداد بالجهل بالقانون الجنائي” ولكن هل التشريع الجنائي لم يعتبر عنصر العلم بالمرة ؟ هذا ما سنتطرق له في المبحث الثاني .

[1] و يقصد بالعامة في مفهوم هذا الموضوع الأفراد الذين لا ثقافة قانونية لهم و لا اطلاع لهم على المقتضيات القانونية ، وبالتالي فمفهوم العامة في هذا المفهوم يشمل الأميين و المثقفين من غير القانونيين المهتمين .

[2] و المقصود بالحاجة هنا ينصرف إلى طرح التساؤل حول ما المقصود بها هل حاجة الدولة ذاتها في سن تشريع معين لحماية مصالحها أم حاجة الأفراد لتلك القواعد القانونية

[3] نقصد هنا الجريمة بمفهومها الاجتماعي و ليس القانوني الذي يتعين بالاقتران بالعقاب .

[4] لا نقول هنا بأن الدين لا يحترم الأخر و لا يقدس الحرية و لكن نعني الإيديولوجيات التي تجد سندها في المدارس الفلسفية الوضعية كما هو الأمر بالنسبة للفكرة العلمانية القائمة على اعتبار الفصل المقدس بين ما هو ديني و ما هو إلهي ، و بالتالي تعتبر أن الفرد حر ليس في ماله فقط و إنما في شخصه أيضا و بالتالي فهو القيم على تحديد ما يلزمه حمايته مما يمكن أن يظل خارج تلك الحماية، و من ذلك اعتبار العلاقة غير الشرعية أمرا داخلا في نطاق الحرية الشخصية التي لا يمكن التساهل عند انتهاكها .

[5] كما هو الأمر بالنسبة لجريمة زعزعة عقيدة المسلم المنصوص عليها في الفصل 220 : ” من استعمل العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبادة ما أو على حضورها، أو لمنعهم من ذلك، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين 51 إلى خمسمائة درهم. ويعاقب بنفس العقوبة كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو المياتم، ويجوز في حالة الحكم بالمؤاخذة أن يحكم بإغلاق المؤسسة التي استغلت لهذا الغرض، وذلك إما بصفة نهائية أو لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات “.

[6] و هذا الفصل يقابله الفصل 430 من قانون المسطرة الجنائية الجديدة الذي ينص على أنه : ” يتداول أعضاء غرفة الجنايات في شأن إدانة المتهم وفي العقوبة، معتبرين على الأخص الظروف المشددة وحالات الأعذار القانونية إن وجدت. يجب على الرئيس أن يدعو الهيئة كلما قررت إدانة المتهم، أن تبت في وجود ظروف مخففة أو عدم وجودها. تنظر غرفة الجنايات، عند الاقتضاء، في منح المحكوم عليه إيقاف تنفيذ العقوبة وفي تطبيق العقوبات الإضافية أو اتخاذ تدابير وقائية.يتخذ القرار في جميع الأحوال بالأغلبية، ويقع التصويت على التوالي بخصوص كل نقطة على حدة.”

[7] قرار المجلس الأعلى عدد 722/2 الصادر بتاريخ 05-06-2002 في الملف الجنحي رقم 13361/2001 و المنشور بمجلة الملف عدد 1 يونيو 2003 ص 154 و ما يليها .

المبحث الثاني : بعض صور الأخذ بفكرة العلم في التشريع الجنائي المغربي كأساس للعقاب

إن الحديث عن فكرة العلم كأساس لتطبيق القانون الجنائي يمكن أن يكون من خلال نقطتين ؛ الأولى و تتعلق بالأساس الذي تستند عليه فكرة الأخذ بالعلم ( المطلب الأول ) لنعرض لبعض أمثلة تلك التطبيقات في القانون الجنائي المغربي ( المطلب الثاني ) .

المطلب الأول : أساس الأخذ بفكرة العلم كمناط لتطبيق الجزاء الجنائي

باستقراء مجموع الجرائم التي افترض فيها المشرع فكرة تحقق العلم كأساس لإيقاع الجزاء الجنائي في التشريع الجنائي المغربي نجدها تستند على فكرة ضمنية مفادها جعل العالمين بكل المشاريع الإجرامية للغير أن يتحولوا لحماة للمصالح العامة و الخاصة للدولة و الأفراد ؛ كيف ذلك ؟

يتصور _ حسب تصورنا _ المشرع المغربي و هو يأخذ بفكرة العلم كأساس لتطبيق القانون الجنائي أن كل من علم بصورة مسبقة أن الغير مقدم على ارتكاب جريمة معينة سوا ء من شأن تلك الجريمة المسبقة أن تمس الدولة و النظام القائم أو الأشخاص و الأموال ، أن يقوم بالتبليغ للسلطات القضائية أو الإدارية أو العسكرية و كل السلطات المعنية بتلك الأفعال التي يتم التحضير لها ،حتى إذا ما بلغ عن ذلك يكون قد نأى بنفسه عن تطبيق العقوبات المقررة في القانون الجنائي و يعتبر في نظر القانون الجنائي كشاهد على ارتكاب الفعل الجرمي أو محاولة ارتكابه .

و العلة في ذلك هو حماية المصلحة العامة بمنع وجود أية أعمال من شأنها التشويش على الأمن و الاستقرار اللذين يعتبران من أهم ما تتحمل به الدولة من واجبات ، و من خلال الحفاظ على المصلحة العامة يتأتى الحفاظ على المصلحة الخاصة ؛ و لعل ذلك ما يدفع المشرع لجعل العلم المسبق بارتكاب جريمة أو محاولة ارتكابها من قبل غير أساسا لإيقاع العقاب على العالم بذلك مادام أن هذا العالم التزم الحياد السلبي و امتنع عن التبليغ بتلك الجريمة ، و هنا يظهر أن السلوك الذي ينبغي للفرد سلوكه في مثل هذه الحالات هو القيام بواجب المواطنة التي تفرض عليه الدفاع عن المصالح العامة للمجتمع من خلال المساهمة في حمايته و استقراره و إبعاده عن كل ما يجعل أمنه و كيانه مضطربا .

ففكرة العلم بهذه النظرة في القانون الجنائي لا تأثير لها إلا بعد تحققها و العلم بالتغاضي عنها و عدم القيام بالواجب المفروض ؛ و المتمثل في ضرورة الإبلاغ أو العدول الإرادي عن فكرة اقتراف الجريمة بأية صورة من الصور المتوقعة كالمساهمة أو المشاركة.

و العلم المأخوذ به يتحقق بمجموعة من الصور سواء بالعلم اللفظي كالإخبار بالجريمة مسبقا و بالرغم من ذلك يتغاضى الفرد عن ذلك الإخبار و تأثيره على باقي الأفعال ، أو بالقيام بعمل من الأعمال السابقة للفعل الجرمي بالرغم من العلم بأن ما تم القيام به هو بدافع ارتكاب فعل جرمي معين ، أو في الحالة التي يتحقق فيها العلم بأن جريمة وقعت و لميتم التبليغ عنه السلطات المعنية ؛ ففي كل هذه الحالات عاقب المشرع المغربي شأنه شأن باقي التشريعات الجنائية عن التزام السلوك السلبي بعد العلم ، أما إذا ما تم التزام سلوك سلبي معين من غير علم فلا يشكل ذلك جرما معاقبا عليه لأن موجبات الالتزام كما أشرنا لها أعلاه لم تتحقق.

و من المعلوم إن فكرة العلم هي فكرة مضمرة وداخلية يصعب إثباتها ،و لذلك فهي شأنها شأن باقي محددات الإثبات في التشريعات الجنائية يمكن إن يلتجأ من أجل إثباتها إلى كل وسائل الإثبات ،و يقع عبء ذلك الإثبات على الجهة التي تثير مسألة العلم في مواجهة المتهم إذ يكفي هذا الأخير الإنكار للبقاء مستصحبا لبراءته إلى حين إثبات العكس ؛ هذا العكس الذي تبقى للمحكمة المعروض عليها النزاع الحرية في استخلاص وسائل إثباته منكل ما يروج أمامها من مناقشات و يعرض من وثائق و حجج .

و خلاصة القول أن مناط الأخذ بفكرة العلم هو جعل الفرد أساسا فاعلا في تحقيق غايات التشريع الجنائي المتمثل في حماية المصلحتين العامة و الخاصة ، وبالتي الحفاظ على استقرار المجتمع وضمان استمراره و استمرار مؤسساته .

و تجدر الإشارة إلى القول بأن فكرة العلم المقصودة بحديثنا هذا ليست مكونا من مكونات الركن المعنوي للجرائم ،و الذي يتحقق بتحقق القصدين الجنائيين العام و الخاص ، ذلك أن الفرق بين النوعين من العلمين يكمن في كون العلم كعنصر من عناصر الركن المعنوي يفترض وفي كل أنواع الجرائم المادية ما لم يكن الأمر متعلقا بجريمة شكلية ، و هو عنصر إن لم يتحقق ينهار معه الركن المعنوي للجريمة و بالتالي تنهار الجريمة بأكملها ، أما فكرة العلم التي نتحدث عنها فإنها مستقلة بذاتها عن العلم الذي مكون من مكونات الركن المعنوي ، فالعلم بهذا المعنى يعتبر في حد ذاته فعلا ماديا من الأفعال المادية للجريمة و عنصرا من عناصرها يتعين إثباته و إثبات القصد الجنائي معه ؛كما هو الحال بالنسبة لجريمة إخفاء أشياء متحصلة من جناية أو جنحة ؛ فهذه الجريمة تثبت بأمرين بإثبات العلم المسبق بكون الشيء المحوز متحصلا من جناية أو جنحة ،و من فعل الحيازة بالرغم من العلم ، و لو ثبت أحدهما دون الآخر لانتفت الجريمة ، بالتالي لو ثبت الحيازة و لم يثبت العلم المسبق بالإطار القانوني للشيء المحوز لم تثبت الجريمة .

فهل أخذ المشرع المغربي بفكرة العلم كأساس لإيقاع العقاب على مقترفي بعض الجرائم ؟

المطلب الثاني : بعض تطبيقات فكرة العلم كمناط للعقاب في التشريع الجنائي المغربي

لقد جعل المشرع المغربي مجموعة من الجرائم قائمة على أساس العلم المسبق بها ،وكل من ثبت أنه كان على علم بالفعل الجرمي الذي اقترفه و كان واعيا بما يفعل أو سيفعل فإنه يكون عرضة لإيقاع العقاب عليه .

و على ذلك فالمشرع جعل عنصر العلم كأساس للعقاب في كل مراحل اقتراف الجريمة سواء خلال مرحلة التحضير للجريمة أو أثناء اقترافها أو فيما بعد الاقتراف.

و هكذا فمن الصور التي يمكن أن نسردها كمثال عن اعتبار عنصر العلم للعقاب خلال مرحلة التحضير للجريمة ما نص عليها الفصل 129 الذي ينص على أنه : ” يعتبر مشاركا في الجناية أو الجنحة من لم يساهم مباشرة في تنفيذها ولكنه أتى أحد الأفعال الآتية: – 1 أمر بارتكاب الفعل أو حرض على ارتكابه، وذلك بهبة أو وعد أو تهديد أو إساءة استغلال سلطة أو ولاية أو تحايل أو تدليس إجرامي. – 2 قدم أسلحة أو أدوات أو أية وسيلة أخرى استعملت في ارتكاب الفعل، مع علمه بأنها ستستعمل لذلك. – 3- ساعد أو أعان الفاعل أو الفاعلين للجريمة في الأعمال التحضيرية أو الأعمال المسهلة لارتكابها، مع علمه بذلك. – 4 تعود على تقديم مسكن أو ملجأ أو مكان للاجتماع، لواحد أو أكثر من الأشرار الذين يمارسون اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو الأمن العام أو ضد الأشخاص أو الأموال مع علمه بسلوكهم الإجرامي. أما المشاركة في المخالفات فلا عقاب عليها مطلقا.” فمن خلال استقراء مقتضيات هذه المادة نجدها أنها تجعل كل من قام بأحد الأعمال الواردة بالبنود 2 و 3 و 4 واقعا تحت طائلة العقاب شريطة تحقق علمه المسبق بأن ما قام به من أفعال له ارتباط بأفعال إجرامية إما يتم التحضير لها أو أنها قد اقترفت ، و بالرغم من ذلك فهو أقدم على القيام بإحدى تلك الأعمال ، فمثل هذا الشخص جعله المشرع المغربي متساويا في العقاب مع الفاعل الأصلي و كأنه اعتبره فاعلا أصليا للأعمال المكونة للجرائم التيتم اقترافها.وقد عرضت على المجلس الأعلى مجموعة من النوازل التي أبرز فيها ضرورة إبراز عنصر العلم للإدانة من أجل المشاركة في الجريمة ،و في هذا الصدد جاء في قرار للمجلس الأعلى على أنه : ” و حيث إن القرار المطعون فيه بعدم إبرازه لعنصر العلم الذي هو ركن أساسي في قيام جريمة المشاركة يعتبر ناقضا في التعليل الموازي لانعدامه و خارقا لمقتضيات الفصل المشار إليه أعلاه ” [1]

و هكذا فقد افترض المشرع العلم المسبق في الجاني حتى يقع تحت طائلة العقاب ، و هذه القاعدة وإن جسدت في هذا الفصل المذكور على أساس أنها قاعدة عامة تطبق في أي نوع من أنواع الجرائم سواء أكان العلم فيها مفترض أو عنصرا وجب إثباته فإن تلك القاعدة وجدت لها تطبيقات أخرى في بعض فصول القانون الجنائي كما هو الأمر بالنسبة للفصل 209الذي ينص على أنه : ” يؤاخذ بجريمة عدم التبليغ عن المس بسلامة الدولة، ويعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات وغرامة من ألف إلى عشرة آلاف درهم، كل شخص كان على علم بخطط أو أفعال تهدف إلى ارتكاب أعمال معاقب عليها بعقوبة جناية بمقتضى نصوص هذا الباب، ورغم ذلك لم يبلغ عنها فورا السلطات القضائية أو الإدارية أو العسكرية بمجرد علمه بها.” ففي هذا النوع من الجرائم نجد أن المشرع جعل من عنصر العلم عنصرا جوهريا في قيام الفعل الجرمي الذي ” هو عدم التبليغ عن خطط أو أفعال تهدف إلى ارتكاب أعمال معاقب عليها بعقوبة جنائية رغم العلم بذلك ” وأنه إن قام المعني بالأمر بالتبليغ في الوقت المناسب و بمجرد علمه بما بلغ إليه فإن جزاء ذلك هو أن يبقى في منأى عن العقاب و لا يكون مخاطبا بمقتضيات هذا الفصل ، وما قيل عن هذا الفصل هو يقال فيما جاء بالفصل 378 لذي ينص على أنه : ” من كان يعلم دليلا على براءة متهم محبوس احتياطيا، أو مقدم للمحاكمة من أجل جناية أو جنحة، وسكت عمدا عن الإدلاء بشهادته عنه فورا إلى السلطات القضائية أو الشرطة، يعاقب بما يلي: – الحبس من سنتين إلى خمس سنوات والغرامة من مائتين وخمسين إلى ألف درهم، إذا كان الأمر متعلقا بجناية. – الحبس من شهر واحد إلى سنتين والغرامة من مائتين إلى خمسة آلاف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط، إذا كان الأمر متعلقا بجنحة تأديبية أو ضبطية. ” حيث يلاحظ في هذا الفصل أن المشرع المغربي اشترط لقيام الجريمة المعنية بمقتضياته أن يكون المعني بالأمر عالما علما مسبقا و هو ما يستفاد من عبارة ” من كان يعلم دليلا على براءة متهم … ” و التي تدل على كون ذلك العلم يكون محققا في زمن الماضي ،و بالرغم من ذلك امتنع عن الإدلاء بشهادته في القضية المتابع بها المتهم ؛ أي أن المشرع لم يشترط فقط عدم الإدلاء بالشهادة لفائدة المتهم حتى تثبت براءته و إنما أضاف عنصر العلم المسبق كأساس للتجريم و العقاب في مثل هذا النوع من الجرائم. وأمثلة هذه الصور من تطبيق فكرة العلم كأساس للعقاب كثيرة بالقانون الجنائي اكتفينا بإيراد ما ذكر للإفادة فقط .

أما إن تعلق الأمر بنوع الجرائم التي تقوم على أساس العلم بوقوع مخالفات للقانون الجنائي أثناء ارتكابها فنجد ما نص عليه الفصل 299 حين قرر أنه : ” في غير الحالة المنصوص عليها في الفصل 209 ، يعاقب بالحبس من شهر إلى سنتين وغرامة من مائتين إلى ألف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين وحدها، من علم بوقوع جناية أو شروع فيها ولم يشعر بها السلطات فورا. ” فعبارة ” أو شروع فيها .. ” تدل على أن الفرد الذي يعلم بحدوث ذلك الشروع عليه أن يبلغ فورا السلطات المعنية بالأمر و من التطبيقات العملية لهذا الواجب نجد ما نصت عليه المادة 76 من قانون المسطرة الجنائية و التي جاء فيها أنه : ” يحق في حالة التلبس بجناية أو جنحة يعاقب عليها بالحبس لكل شخص ضبط الفاعل و تقديمه إلى أقرب ضابط للشرطة القضائية ” والعلة في ذلك أن العلم بوقوع أو الشروع في وقوع تلك الجريمة تحقق بمعاينة الشخص الذي قام بضبط الجاني و هذه الجريمة المنصوص عليها في الفصل 299 من القانون الجنائي تتداخل مع الجريمة التي وردت بالفصل431 الذي نص على أنه : ” من أمسك عمدا عن تقديم مساعدة لشخص في خطر، رغم أنه كان يستطيع أن يقدم تلك المساعدة إما بتدخله الشخصي وإما بطلب الإغاثة، دون تعريض نفسه أو غيره لأي خطر، يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين 147 إلى ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط. ” إذ أن مساعدة الشخص الذي هو في خطر قد تكون بضبط الجاني مباشرة في حالة عدم الخوف على النفس أو الغير من أي خطر كما يمكن أن تكون هذه المساعدة بالتبليغ عن وقوع أو الشروع في تلك الجريمة التي تهدد الشخص في حياته أو ماله في الحالة التي يتحقق فيها الخوف على النفس أو الغير من أي خطر محتمل أو تتحقق هذه الجريمة بمجرد العلم بكون أن هناك شخص من الغير يوجد في وضعية خطيرة من شأنها تهديد سلامته النفسية أو الجسدية أو ما إلى ذلك مما يجعله في خطر ؛ و في مثل هذه الحالة فإن على المحكمة التي تنظر في هذا النوع من الجرائم أنتبرز العناصر التكوينية لجريمة عدم تقديم المساعدة لشخص في خطر ، و في هذا الصدد فقد جاء في قرار لمحكمة الاستيناف بمكناس أنه : ” و حيث يستنتج مما سلف بيانه بأن الضحية ج . ه وقت إحضاره للسجن لم يكن في حالة خطيرة تستدعي تقديم المساعدة له و أنه أحضر أمام الظنين في حالة عادية و ليست بخطيرة تستدعي تدخلهما لتقديم المساعدة للضحية بدليل أن الضحية أجاب عن كل الأسئلة التي الموجهة إليه من طرف المتهمين حيث صرح لهما بأنه أجريت له عملية لاستئصال ورم في رأسه . و حيث إنه استنادا إلى ما ذكر أعلاه تبين للمحكمة من خلال مناقشتها للقضية و إطلاعها على ظروفها و ملابساتها و القرائن المحيطة بها بأن جنحة الإمساك عمدا عن تقديم المساعدة لشخص في خطر غير ثابتة في نازلة الحال لعدم توفر عناصرها التكوينية التي هي وجود شخص في خطر محقق والإمساك عمدا عن تقديم المساعدة له مما يتعين و الحالة هذه التصريح ببراءة المتهمين من المنسوب إليهما و تبعا لذلك إلغاء الحكم المستأنف ” [2].

و بالنسبة لصور تطبيقات فكرة العلم كذلك في القانون الجنائي نجد ما نص عليه الفصل 264 الذي ينص على أنه : ” يعتبر إهانة، ويعاقب بهذه الصفة، قيام أحد الأشخاص بتبليغ السلطات العامة عن وقوع جريمة يعلم بعدم حدوثها أو بتقديم أدلة زائفة متعلقة بجريمة خيالية أو التصريح لدى السلطة القضائية بارتكابه جريمة لم يرتكبها ولم يساهم في ارتكابها. ” و كذا الفصل 533الذي جاء فيه ما يلي: “من ركب سيارة أجرة، وهو يعلم أنه يستحيل عليه مطلقا أن يدفع أجر مقعده، يعاقب بالحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر وغرامة من مائتين 228 إلى خمسمائة درهم. ” أو ما تم التنصيص عليه في الفصل 571 من القانون الجنائي الذي جاء فيه : ” من أخفى عن علم كل أو بعض الأشياء المختلسة، أو المبددة، أو المتحصل عليها من جناية أو جنحة، يعاقب بالحبس من سنة واحدة إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين إلى آلفي درهم، ما لم يكون الفعل مشاركة معاقبا عليها بعقوبة جناية طبقا للفصل 129. ” و يتعين على المحكمة أن تبرز في حكمها عنصر العلم باعتباره عنصرا من العناصر التكوينية لجريمة إخفاء الأشياء المختلسة أو المبددة و ليس باعتباره ركنا من أركانها ،و بمعنى آخر فالمحكمة في مثل هذا النوع من الجرائم مدعوة لإبراز الأدلة التي استمدت منها قناعتها للإدانة و التي استشفت منها عنصر العلم كشرط يتعين توفره للقول بالإدانة في هذا النوع من الجرائم ، و يستخلص عنصر العلم في مثل هذه الجرائم بما يحقق قناعة المحكمة من قرائن و شواهد معروضة عليها ، حتى إذا لم يثبت لها أي شاهد أو قرينة فتحكم بالبراءة لعدم تحقق العلم ، و في هذا الصدد جاء في قرار للمجلس الأعلى أنه : ” و حيث .. و بالتالي فإن القرار المطعون فيه لم يعلل بما فيه الكفاية توفر عنصر العلم عند العارض و القانون المعاقب على هذه الجريمة يوجب إبراز عنصر العلم عند كل من يدان بإخفاء أشياء متحصلة من جناية أو جنحة ، الأمر الذي كان معه القرار ناقص التعليل الموازي لانعدامه ” [3] كما جاء بقرار آخر للمجلس الأعلى أنه : ” إذا أبرزت المحكمة بكل وضوح عناصر جريمة إخفاء المسروق بما في ذلك عنصر العلم الذي يستنتج من الوقائع المعروضة على المحكمة في نطاق سلطتها التقديرية يكون القرار المطعون فيه سالم من كل عيب طالما أن الأحداث التي صرحت المحكمة بثبوتها ينطق عليها الوصف القانوني و تبررها العقوبة المحكوم بها “. [4]

و في مقابل ما ذكر فإنه ليس من الممكن مؤاخذة الأفراد من أجل العلم بنوع من أنواع الجرائم لم يلزم المشرع ضرورة التبليغ عنها و اعتبار عدم التبليغ بالرغم من توفر عنصر العلم جريمة يؤاخذ من أجلها الأفراد ، و من صور هذه الفكرة عدم جواز مؤاخذة شخص ما على عدم تبليغه عن جريمة سرقة أو نصب لكون المشرع لم يشترط التبليغ عن هذا النوع من الجرائم ، و نفس الأمر يتعلق بجرائم المخدرات التي لا يمكن متابعة و مؤاخذة أي شخص من أجل عدم التبليغ عن المتاجرين فيها ،و في هذا الصدد جاء في قرار للمجلس الأعلى على أنه : ” و حيث من جهة رابعة فإن ما أورده القرار المطعون فيه من باقي القرائن التي استخلصت منها المحكمة قناعتها بكون العارضة كانت على علم بنشاط زوجها في ميدان المخدرات .. فإن مجرد علم الزوجة بالوقائع الجرمية التي يقوم بها زوجها لا يعتبر منها فعلا من أفعال المشاركة الواردة بالفصل 129 من القانون الجنائي و 4 من ظهير 21-05-1974 فضلا عن أن عدم التبليغ عنه من طرف زوجته لا يقع تحت طائلة العقاب طبقا للفصل 299 من القانون الجنائي .. ” [5]

و خلاصة القول ففكرتي الجهل و العلم مهما دار حولهما من نقاش فإن الهدف من إقرارهما هو حماية المصالح العامة و الخاصة مع العلم بأن للتطبيقات القضائية في هذا الميدان ما يوضح كل غامض و يزيل كل لبس سنعود إليه في فرصة قادمة بإذن الله تعالى .

تم بحمد الله و توفيقه

[1] قرار المجلس الأعلى عدد 1192 الصادر بتاريخ 08 فبراير 1990 ملف جنحي عدد 11853/87 منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى العدد 27 يوليوز 1995 ص 181 و ما يليها.

[2] قرار صادر عن محكمة الاستيناف بمكناس تحت عدد 6071 بتاريخ 24-06-2004 في الملف الجنحي رقم 4229/82 منشور بمجلة الملف العدد 7 أكتوبر 2005 ص 293 و ما يليها .

[3] قرار المجلس الأعلى عدد 869 / 2001 الصادر بتاريخ 12-07-2001 في الملف الجنائي رقم 13719/3/1/98 و المنشور في مجلة الملف عدد 1 يونيو 2003 ص 157 و ما يليها .

[4] قرار صادر في الملف الجنائي عدد 11867/96 بتاريخ 25-02-1997 منشور بالنشرة الإخبارية للمجلس الأعلى عدد 4 لسنة 1999 ص 14.

[5] قرار المجلس الأعلى عدد 474 / 8 الصادر بتاريخ 25-01-2001 في الملف الجنائي عدد 7908/0 و المنشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى العدد المزدوج 57-58 يوليوز 2001 ص 417 و ما يليها .