بقلم ذ.عبد العتاق فكير
رئيس غرفة بمحكمة النقض

 

إذا كانت دعوى الإلغاء بسبب تجاوز السلطة هي دعوى تهدف إلى إلغاء القرارات الإدارية غير المشروعة، فإنها بذلك تكون من أهم وسيلة لبسط رقابة القضاء الإداري على قرارات الإدارة، فيكون مبنى الطعن فيها هو مخالفة القرار الإداري للقانون بمفهومه الواسع، غير أن قاضي الإلغاء يبقي مقيدا فيها بمبدأ كونه يلغي ولا يدير، وبالتالي فهو يقف في حدود إلغاء القرار الإداري غير المشروع دون أن يتعدى ذلك إلى استبداله بقرار آخر يعتبر كونه المشروع، أو بصفة عامة دون أن يحل محل الإدارة فيما يمكنها اتخاذه.

وإذا كان المجلس الأعلى سابقا – محكمة النقض حاليا – قد استلهم في تطبيقاته القضائية العديد من النظريات التي ابتدعها القضاء الإداري الفرنسي ممثلا في مجلس الدولة الفرنسي، وإن بأشكال متفاوتة زمنيا وتعاملا بالنظر لاختلاف الظروف التاريخية والاجتماعية،

فإن الملاحظ هو كون القضاء الإداري المغربي، ممثلا في الغرفة الإدارية بمحكمة النقض وكذلك محاكم الاستئناف والمحاكم الإدارية، قد راكم اجتهادات قضائية متطورة حاول من خلالها مراعاة القواعد الإجرائية الراسخة لكن مع إخضاعها وتكييفها مع طبيعة المنازعات الإدارية والدور الإيجابي للقاضي الإداري.

واستهلالا نعرض بعجالة لشروط دعوى الالغاء قبل عرض التطبيقات القضائية في موضوع عرضنا هذا، وهو شرط المصلحة في دعوى الإلغاء.

فهذه الدعوى تستلزم، كباقي الدعاوى، شروطا شكلية وأخرى موضوعية. وأول شرط فيها هو أن يكون القرار المطعون فيه صادرا عن سلطة إدارية، وفق ما ينص عليه الفصل 20 من القانون رقم 90-41 المحدث للمحاكم الإدارية والفصل 353 من قانون المسطرة المدنية، أما الشرط الثاني فهو أن يكون القرار المذكور نهائيا، مما يفيد عدم إمكانية الطعن في الأعمال التحضيرية أو التمهيدية التي تسبق القرار أو في الأعمال التنفيذية التي تلحقه ولا تضيف جديدا إليه، كما يشترط إحداث القرار النهائي المطعون فيه لآثار قانونية، بمعنى أن يؤثر بذاته في المركز القانوني للطاعن.

أما شروط الطاعن فهي نفس الشروط المتطلبة في رافع أية دعوى أخرى، ومنصوص عليها في الفصل 1 من قانون المسطرة المدنية المحال عليه بنص المادة 7 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية، وهي: (الصفة – الأهلية – المصلحة إذ لا دعوى بدون مصلحة «pas d’intérêt pas d’action»)، وهي شروط من النظام العام يثيرها القاضي تلقائيا وفي أية مرحلة من الدعوى، وشرط المصلحة ينسجم مع الغرض من دعوى الإلغاء الهادف إلى إزالة آثار القرارات الإدارية غير المشروعة، وتقويم عمل الإدارة.

وقد توسع القضاء الإداري في فهم شرط المصلحة، وتمثل ذلك في إسباغه الحماية بمقتضي دعوى الإلغاء على مصالح لا يعتبرها قانون المسطرة كافية لقبول الدعوى العادية، فقضاء الإلغاء قضاء موضوعي لا يتطلب في كل من يلجا إليه أن يكون صاحب حق، بل يكفي أن يكون الطاعن صاحب مصلحة شخصية مباشرة في إلغاء القرار.

لأنه قضاء عيني يهدف إلى حماية المشروعية، ولا يهدف إلى حماية الحقوق الشخصية والمراكز الفردية المعتدى عليها، وبالتالي لا يشترط المصلحة الشخصية في الدعوى، ومسايرة لهذا التوجه العام فإن بعض الفقه نادى بقبول دعوى الطعن بالإلغاء المقدمة من طرف أي مواطن دون مواجهته بشرط المصلحة، إلا أن هذا التوسع أو المرونة المسطرية،

جعل بعض الفقه الآخر يحذر من كون التخلي عن شرط المصلحة من شأنه أن يؤدي إلى اختفاء شخصية المدعي، ويجعل القاضي وكأنه يتعرض للنزاع من تلقاء نفسه، وهو ما يتعارض مع المبادئ المقررة أصلا لوظيفة القاضي، فضلا عن كون شرط المصلحة هو في حد ذاته شرط كابح للدعاوى الكيدية، وللحد من المغالاة في مقاضاة الإدارة.

ومهما كانت الخلافات الفقهية حول شرط المصلحة، فإن الرأي الراجح هو أنه يلزم لقبول دعوى إلغاء توافر شرط المصلحة الذي يتحدد في وجود مركز أو حالة قانونية خاصة، وفي الاعتداء على هذا المركز، ثم في وجود الصفة التي تنسب الدعوى إيجابا لصاحب المركز القانوني المعتدى عليه وسلبا إلى المعتدي، والأصل أنه بمجرد إثبات المركز القانوني واإثبات حدوث الاعتداء عليه تثبت الصفة[1].

وقد استقر قضاء محكمة النقض على أن: “الصفة والمصلحة في دعوى الإلغاء هما شرطان متلازمان، فإذا قامت مصلحة الطاعن في دعوى الإلغاء يكون ذي صفة في الطعن في القرار الإداري، وأن المصلحة هنا تفسر بمفهومها الواسع بالنظر لطبيعة دعوى الإلغاء وخصائصها على اعتبار أنها دعوى عينية” (القرار عدد 70/1 المؤرخ في 15/01/2015 الصادر في الملف الإداري رقم 3323/4/1/2013).

وفي قرار آخر اعتبرت محكمة النقض بأنه: “لما كان شرط الصفة مندمج في شرط المصلحة، فإن هذه الصفة تكون متوفرة كلما كانت هنالك مصلحة مادية أو معنوية أو محتملة لرافع الطعن، وأن يكون في حالة قانونية أثر فيها القرار المطلوب إلغاؤه تأثيرا مباشرا، مما يكون معه الطاعن صاحب صفة ومصلحة في الدعوى المرفوعة ما دامت أحكام المادة 21 من مرسوم 19 فبراير 1997 في شأن النظام الخاص بهيئة الأساتذة الباحثين بالتعليم العالي وقرار وزير التعليم العالي بتحديد إجراءات تنظيم المباراة الخاصة بتوظيف أساتذة التعليم العالي قد صيغت بعبارات عامة تهم جميع المرشحين المتوفرين على المؤهل العلمي المطلوب دون تخصيص، وخلصت بذلك محكمة النقض إلى كون الدفع بانعدام الصفة بغير أساس” (القرار عدد 11209/1 بتاريخ 30/10/2014 الصادر في الملف الإداري رقم 190/4/1/2013).

وفي قرار آخر وكجواب علي دفع الإدارة بانعدام المصلحة المشروعة للطاعن ما دام قد أنجز البناء خرقا للضوابط القانونية، ولم يحترم فيه حرمة الملك العام البحري، أكدت محكمة النقض، بأن: “المصلحة في التقاضي لئن كانت من النظام العام ويثار انعدامها في سائر المراحل، إلا أنه عندما تتداخل هذه المصلحة مع جوهر الدعوى الذي هو التعويض عن اعتداء مادي طال بناء المطلوبين، فإنها تصبح من المسائل التي يختلط فيها الواقع والقانون وبالتالي لا يجوز إثارة الدفع بانعدامها لأول مرة أمام محكمة النقض مما تكون معه هذه الوسيلة غير مقبولة” (القرار عدد 462/2 المؤرخ في 15/05/2014 في الملف الإداري رقم 2462/4/2/2012).

وفي قرار آخر وكجواب على دفع الوكيل القضائي للمملكة بانعدام السند المشترك بين الطاعنين الذين تقدموا بدعوى واحدة تجمعهم، أوضحت محكمة النقض بأنه: “لكن، من جهة فإن الطعن يرمي إلى الحكم بإلغاء مقتضيات المواد 8، 9، 19، 20، 21، 23 و24 من المرسوم المطعون فيه، وأن الطاعنين يجمعهم سند مشترك هو ذات المرسوم، علما بأن دعوى الإلغاء هي دعوى عينية لا مانع من أن ترفع من جميع من له مصلحة في إلغاء القرار،

ومن جهة أخرى فإن مصلحة الطاعنين تتمثل فيإلغاء المقتضيات المتضمنة بالمرسوم المطعون فيه والتي نتج عنها نسخ المقتضيات القانونية التي كانت تخول لهم الحق في الإدماج بعد الحصول على دبلوم مدرسة علوم الإعلام في الإطار الذي يخوله لهم هذا الدبلوم مباشرة، ودون إجراء أي مباراة بهذا الخصوص، وهي مصلحة قائمة وواضحة، ومن ثمة فإن الطلب مقدم من ذوي صفة ومصلحة وداخل أجل الطعن القانوني ووفق الشكل المطلوب قانونا وبذلك فهو مقبول شكلا” (القرار عدد 2/1 المؤرخ في 09/01/2014 الصادر في الملف الإداري رقم 126/4/1/2011).

وفي قرار آخر أكدت الغرفة الإدارية أنه: “ورغم كون نطاق المصلحة أمام القضاء الإداري أوسع وأعم بما في ذلك المصلحة الاحتمالية، فإن المصلحة المعتبرة هي المصلحة التي يثيرها المدعي، ولا يمكن للقاضي أن يحل محله في البحث عن مصالح أخرى يكون المدعي قد أغفلها أو لم يبادر إلى التمسك بها خلال سريان الدعوى بعد زوال مصلحته الأولى” (القرار عدد 262 المؤرخ في 17/05/2012 الصادر في الملف الإداري رقم 471/4/1/2008).

كما استقرت: “على عدم قبول طلبات النقض لانعدام المصلحة متى تبت كون الطالب لم يستأنف الحكم الابتدائي المؤيد بمقتضى القرار الاستئنافي المطعون فيه بالنقض” (من ذلك القرار عدد 204 المؤرخ في 12/04/2012 الصادر في الملف الإداري عدد 447/4/1/2011) وقبلت “طعون الجمعيات متى كانت المصلحة الجماعية للأعضاء المنضوين ضمنها متحققة” (قرار الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى – سابقا – الصادر بتاريخ 25/05/1978 تحت عدد 380 في قضية جمعية مهندسي الطيران المدني).

أما في المنازعات الانتخابية فقد اختلفت توجهات المحاكم الإدارية بخصوص المصلحة، وهكذا اعتبرت المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بأن: “المصلحة في المنازعة الانتخابية تقتضي أن يكون للطاعن مرشحا للانتخابات الجماعية أو لانتخاب أعضاء المكتب الجماعي، وبالتالي اعتبرت شرط المصلحة غير متوفر بالنسبة للعضو الجماعي الطاعن في انتخاب الرئيس دون أن يكون من بين المرشحين” (الحكم عدد 1509 بتاريخ 13/10/2003).

في حين خالفت المحكمة الإدارية بوجدة هذا التوجه مقررة بأنه: “لا ينبغي حصر مصلحة الأعضاء في الطعن في أية عملية انتخابية بمدى توفرهم على مصلحة شخصية ذاتية، مادام الأعضاء المذكورون لا يمثلون أنفسهم بالمجلس، وإنما يمثلون ناخبيهم، ومن مصلحة هؤلاء أن يكون مجلسهم الجماعي مشكلا طبقا لما يقتضيه القانون” (الحكم عدد 775 بتاريخ 07/11/2003 في الملف رقم 788/2003).

في حين اعتبرت الغرفة الإدارية: “كون الصفة مواكبة للمصلحة في المادة الانتخابية، وأنه لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى، مستخلصة من ذلك كون عدم تقديم الترشيح لمنصب الرئيس أو لمنصب احد مساعديه يجعل الصفة والمصلحة غير قائمة” (القرار عدد 15 بتاريخ 08/01/2004 في الملف الإداري عدد 3443/4/2/2003)

لكن موقف الغرفة الإدارية بمحكمة النقض تغير وكذا أصبحت تعتبر: “كون مفهوم المصلحة أوسع وأشمل لجميع الأعضاء المنتخبين بنفس المجلس، أي أنها غلبت المصلحة العامة على المصلحة الشخصية الذاتية، مما يؤكد التخلي عن معيار الترشيح لصالح معيار العضوية” (القرار عدد 159 الصادر بتاريخ 25/02/2004 في الملف الإداري 16/4/2/2005)[2].

وهكذا نستخلص بأنه بالنسبة للشخص الطبيعي فإثبات المصلحة يقتضي إثبات مصلحته المادية المباشرة أو حتى المعنوية أو المحتملة وراء إلغاء القرار الإداري المطعون فيه، في حين أنه بالنسبة للأشخاص المعنوية فيجب أن تثبت هذه الأشخاص المصالح الجماعية، وهي عادة ما تكون الأهداف التي من أجلها أنشات تلك الأشخاص المعنوية – جمعية – شركة – نقابة -، وكذلك يعتبر شرط المصلحة متوافرا بالنسبة للمنتفعين من خدمات المرافق العامة، في الدعاوى التي يرفعونها ضد القرارات التي تزيد من أعبائهم المادية، أو التي تؤدي إلى منعهم من الاستفادة من خدمات المرفق رغم كونهم مستوفين للشروط المقررة قانونا لتلك الاستفادة.

[1]- وهذا التحديد يساير ما اصطلح عليه بالمصلحة المعتبرة، أي المصلحة التي يقرها القانون حسب هذا الاتجاه، فالدعوى لا تقبل من كل من له مصلحة في صدور قضاء معين، ولو تعلق بمركز قانوني ليس له، بل تقبل فقط ممن تقرر لمصلحته ذلك المركز القانوني المعتدى عليه.

[2]- وللمزيد من التفصيل في هذا الجانب المتعلق بالمنازعات الانتخابية المرجو الرجوع إلى كتاب: “المسلسل الانتخابي بين الممارسة والرقابة القضائية للاستاذ ادريس بلمحجوب”.