حبس الصحافي في الشريعة والقانون

من القضايا المثارة بشدة في عالمنا العربي حاليًا، قضية حرية الإعلام، والصحافة على وجه الخصوص، بعدما رأى المواطن العربي الفارق كبيرًا ومهولاً بين سقف الحرية المنخفض والمتلاشي تقريبًا الذي فرضته عليه الأنظمة العربية من خلال صحافتها وأجهزة إعلامها عقودًا طويلة، وبين ما رآه من حرية ومهنية وكفاءة وخدمة إعلامية متميزة (نموذج قناة الجزيرة ومن سار على نهجها).

وبعد الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي الذي أحدثته القنوات الفضائية الجادة في الشارع العربي، ارتعدت فرائص أنظمتنا السياسية، وأخذت تبحث عن العراقيل والعقبات التي يمكن فرضها على الإعلام والصحافة لعرقلة الإعلام الحر والناجح.

وهكذا، فإن النظم العربية، بشكل عام، متربصة دائمًا بالصحافة والصحافيين وبأقلام أهل الفكر بصورة عامة وليس الصحافيين فقط.

وعلى سبيل المثال ففي عام 1995 أقر مجلس الشعب المصري، في جلسة بليل مظلم وبأقلية حاضرة لا تمثل النسبة المقررة قانونًا لصحة الجلسة، القانون رقم 93 والذي تم فيه تغليظ العقوبة وتنويعها في جرائم النشر أيًا كان فاعلها أيضًا والذي أطلق عليه قانون “اغتيال الصحافة”. وبما أن الصحافيين هم الأغلبية الذين ينشرون ويكشفون الفساد الإداري وفساد الوزراء وتجاوزات أهل الحكم فقد كانوا هم المقصودين، ووقف الصحافيون موقفًا مشرفًا في وجه هذا القانون المشبوه، حتى أسقطوه.

وقد جرت العادة في التشريعات الإعلامية المصرية على أن الأصل في قضايا النشر هو ألا تكون هناك عقوبة أساسًا، فقط تلتزم جهة النشر بنشر رد من تعرضت له (بمقال أو تحقيق أو أي شكل من أشكال النشر) ويتم نشر الرد مهما كان مكذبًا لما كتب، ومهما كان قاسيًا على من كتب؛ لأن الحكم في النهاية يجب أن يكون للرأي العام الذي من حقه أن يعرف الحقائق كاملة بغير مداراة.

وكان الأصل في قضايا النشر قبل تعديلات قانون “93” لسنة 1995 أن العقوبة فيها هي غرامة لا تزيد على 500 جنيه إذا كان النشر قد تضمن قذفًا في حق موظف عام، أو 50 جنيهًاً إذا كان في حق غير الموظف العام، وهذه كانت كافية جدًا؛ لأن القصد من العقوبة أساسًا هو تقرير المسئولية الجنائية التي يترتب عليها مسئولية مدنية، وعندها يحق لمن وقعت في حقه إحدى جرائم النشر أن يحصل علي تعويض يجبر الضرر الأدبي أو المادي الذي لحق به بسبب النشر غير الصحيح أو غير الصادق، وبالتأكيد لم يكن في حبس الصحافي أو رئيس التحرير أو مالك الجريدة أو مصدر المادة الصحفية أي نوع من أنواع التعويض لمن أصابه ضرر من النشر غير الصحيح.

لكن في نفس الوقت، تعددت نصوص مواد قانون العقوبات التي تجرم بعض الأفعال التي تتم عن طريق النشر أو الصحافة منها على سبيل المثال: جريمة نشر الأخبار الكاذبة وجريمة ترويج الإشاعات، وجريمة الترويج لتغيير مبادئ الدستور الأساسية، أو النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية أو لتسويد طبقة اجتماعية على غيرها من الطبقات، أو للقضاء على طبقة اجتماعية، أو لقلب نظم الدولة الأساسية الاجتماعية أو الاقتصادية، أو لهدم أي نظام من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية.

وكذلك جريمة حيازة صور تسيء إلى سمعه البلاد، وجريمة إهانة رئيس الجمهورية، والعيب في حق ملك أو رئيس دولة أجنبية، و العيب في حق ممثلي الدول الأجنبية المعتمدين في مصر، وإهانة مجلس الشعب أو الشورى أو الهيئات النظامية أو الجيش أو المحاكم أو السلطات أو المصالح الحكومية وسب موظف عام بسبب أداء الوظيفة، وكذلك نشر أخبار أو إشاعات كاذبة بسوء قصد من شأنها تكدير السلم العام وإثارة الفزع بين الناس.

وهذه الجرائم هي الجرائم التي نص عليها قانون العقوبات المصري بالإضافة إلى قوانين أخرى تشمل جرائم أخرى، فنجد قيودًا على حرية الصحافة قررها قانون تنظيم الصحافة.

والنقد المباح هو إبداء الرأي في أمر أو عمل دون المساس بشخص صاحب الأمر أو العمل بغية التشهير به أو الحط من كرامته.

وحق النقد يستند أساسًا على نص دستوري هام أرسى هذا النص قاعدة من قواعد الحريات وهي حرية الكلمة والتعبير والقول وهو نص المادة 47 من الدستور والتي تقضى بأن، [حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون، والنقد الذاتي والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني].

حدود استخدام حق النقد

فالنقد حق للأفراد يستعمله من يشاء بدون مسئولية مادام قد عمل في الحدود التي رسمها القانون، والنقد هو تعليق على تصرف وقع فعلاً أو حكم على واقعة مسلمة.

فالنقد المباح ليس إلا إبداء الرأي في أمر أو عمل دون المساس بشخص أو صاحب هذا العمل أو الأمر، بغية التشهير به أو الحط من كرامته.

إلا أن القانون أباح الإسناد العلني لما يعد قذفًا، وذلك في أحوال بذاتها هي تلك التي يقتضيها الطعن في أعمال الموظفين العموميين أو المكلفين بالخدمة العامة أو ذوي الصفة النيابية العامة باعتبار أن هذه الأعمال من الشئون العامة التي لا يجوز أن يكون الاهتمام بالاستقامة في أدائها والالتزام بضوابطها ومتطلباتها وفقُا للقانون مقصورًا على فئة من المواطنين دون أخرى، بما مؤداه أن يكون انتقاد جوانبها السلبية وتعرية نواحي التقصير فيها وبيان أوجه مخالفة القانون في مجال ممارستها، حقًا لكل مواطن وفاء بالمصلحة العامة التي يقتضيها النهوض بالمرافق العامة وأداء المسئولية العامة على الوجه الأكمل.

فإذا كان انتقاد القائم من هؤلاء بالعمل العام منطويًا على إسناد واقعة أو وقائع بذاتها علانية إليه من شأنها ـ لو صحت ـ عقابه أو احتقاره، وكان هذا الإسناد بحسن نية، واقعًا في مجال الوظيفة العامة أو النيابة أو الخدمة العامة ملتزمًا إطارها، اعتبر ذلك قذفا مباحًا قانونًا عملاً بنص الفقرة الثانية من المادة 302 من قانون العقوبات.

وهي في كل حال لا تعدو أن تكون تطبيقًا لقاعدة عامة في مجال استعمال الحق، إذ يعتبر هذا الاستعمال دومًا سببًا للإباحة، كلما كان الغرض منه تحقيق المصلحة الاجتماعية التي شرع الحق من أجلها.

والفرق بين النقد العام والسب واضح، فالنقد تحدثنا عنه، أما السب: فهو خدش شرف شخصي وعده عمدًا – بأي وجه من الوجوه دون أن ينطوي ذلك على إسناد واقعه معينة إليه، وقد جاء تعريف السب وبيان عقوبته في المادة 306 من قانون العقوبات التي تنص على: “كل سب لا يشمل على إسناد واقعة، بل يتضمن بأي وجه من الوجوه خدشًا للشرف والاعتبار، يعاقب عليه في الأحوال المبينة بالمادة 171 بالحبس مده لا تجاوز سنة وبغرامة لا تزيد على مائتي جنية أو بإحدى هاتين العقوبتين”.

موقف الشريعة

وإذا كان هذا هو موقف القانون الوضعي من حق النقد العام، وكذلك موقفه من جريمتي القذف والسب، فإن الشريعة الإسلامية قد حثت على حرية الرأي والتعبير؛ فقد قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[البقرة:104] وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71].

كما أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليبسط الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم)، وقال أيضًا: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).

ومما يروى عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قوله: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم فإن وجدتم فيّ اعوجاجًا فقوموني، فقام رجل فقال: والله يا عمر لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناك بسيوفنا، فقال رضي الله عنه: الحمد لله الذي أوجد في أمة محمد من يقوم اعوجاج عمر بحد السيف، والحمد لله أن في الأمة ثباتاً”.

والشريعة الإسلامية تعتبر النقد البناء مصلحة للمجتمع إذ إن الناقد عندما يتعرض لواقعة معينة معلقا عليها ومفندًا جوانبها بالرأي فيها وتجريحها أن كان هناك مجالاً لهذا بالحق حتى يستطيع الجمهور أن يتفهم حقيقة الواقعة وصحتها ومثالبها وكشف ما قد يعتريها من انحراف أو فساد وهنا تتحقق مصلحة المجتمع التي هي فوق مصلحة الفرد الذي قد يصيبه الضرر من جراء هذا النقد.

والشريعة الإسلامية تتسامح بشكل كبير مع الذين يشتغلون بالتحليلات السياسية وانتقاد الحكام أو المسئولين أو الوزراء في شئون تتعلق بعملهم، فإذا شاب هذا النقد عبارات قد يراها البعض شائنة من باب أن الوزير أو المسئول ضعيف، أو أنه وزير للأغنياء فقط ورجال الأعمال، أو أنه يتعجل بيع الشركات الناجحة، أو أنه مسئول عن أرواح الضحايا أو أن وزارته فاسدة أو يجب إقالته .. هذا كله تعتبره الشريعة نقدًا عامًا مباحًا، وقد تأثر بها في هذا الصدد القانون الوضعي وأخذ منها.

فالشريعة تعتبر أن النقد الذي لحق بالمسئول، إذا كان متعلقًا بأعمال وزارته ولم يلحق بشخصه إلا بالقدر الذي يمس عمله وكان الغرض من النقد حتى ولو كان لاذعًا أو به شطط أو حتى عبارات شائنة، طالما أن الغرض منه إبراز وتوضيح هذه التصرفات للجمهور وبشكل يستطيع أن يفهمها ويدرك أبعادها وحقيقتها فلا عقاب، ويترك الأمر لسلطة القاضي التقديرية من ظروف وملابسات الدعوى.

والشريعة متفقة مع القانون في أنه لإباحة النقد لا بد من توافر شروط أربعه وهي أن يكون النقد مستندًا على واقعة ثابتة ومعلومة، وأن تكون الواقعة ما يهم الجمهور، وأن يكون النقد متعلقًا بالواقعة وحدودها، وتوافر حسن النية.

يبقى أن الشريعة جعلت عقوبة السب، متى ثبتت، هي العقوبة التعزيرية التي يحددها القاضي، حسب ظروف الحالة وملابساتها.

أما عقوبة القذف، وهي ثمانون جلدة، فإنها لا يتم إقرارها إلا بعد التحري الدقيق، والتأكد من إسناد تهمة غير حقيقية لإنسان بريء، مع توافر سوء النية والقصد.