بدايات التحقيق الجنائى

كان أحد رجال الشرطة في الأرجنتين واسمه خوان فوكيتيش أول شخص يطبق نظام غالتون الخاص ببصمات الأصابع. ولقد نجح فوكيتيش للمرة الأولى في هذا التطبيق في يونيو سنة 1892 في قضية أم قتلت طفلتها الصغيرين. ومع مجىء سنة 1894 أصبح سلك الشرطة في الأرجنتين أول سلك شرطة في العالم يبنى بصمات الأصابع كوسيلة رئيسية في تحديد هوية المجرمين. ولقد وصف فوكيتيش الوسائل التي استعملها في هذا الإطار المؤتمر العلمي الثاني في أميركا الجنوبية الذي انعقد في سنة 1901. وفي غضون عدة سنوات كل الدول في أميركا الجنوبية الذي طبقه فوكيتيش.

لكن استعمال بصمات الأصابع في أوروبا والولايات المتحدة اتخذ اتجاها مختلفاً قليلاً. لقد كان إدوارد هنري مفتش عاماً في شركة البنغال عندما قرأ كتاب غالتون في سنة 1893 بحيث تبنى وبالتعاون مع اثنين من ضباط الشرطة اللذين كانا بإمرته نظام لبصمات الأصابع يختلف عن نظام غالتون وفوكيتيش. ولقد وصف هنري خمسة أنواع مختلفة بوضوح لنمط خطوط رؤوس الأصابع: الأقواس،الأقواس الخيمية، الحلقات نصف القطرية – أي الحلقات المنحرفة باتجاه عظمة نصف القطر في اليد، حلقات عظم الزند التي تتجه في اتجاه العظمة الداخلية للزند، البصمات الحلزونية وبعد تثبيت انتماء كل بصمة إصبع لأي من التصانيف الأساسية التي وضعها هنري حقق هنري أيضاً المزيد من التصنيف الجزئي لبصمات الأصابع بواسطة “دلتا”. وكتب هنري يقول ” يمكن أن تتكون المثلثات نتيجة لحالتين: (أ) تشعب خط ضلعي واحد. أو (ب) انفراج مفاجىء لضلعين كانا قبل ذلك يقعان جبناً إلى جنب”. وقام هنري بعد ذلك بتثبيت حدود المثلث دلتا – من خلال ما سماه بخط النهاية الداخلي وخط النهاية الخارجي – وعدد عدد الأضلاع التي تتقاطع مع خط تاذي يصل بين نقطة النهاية الداخلية ونقطة النهاية الخارجية.

وفي سنة 1896 كتب هنري رسالة موجهة إلى حكومة البنغال ذكر فيها مدى سهولة الحصول على بصمات الأصابع:
” إن الأدوات اللازمة للحصول على بصمات الأصابع مثل قطعة من التنك أو علبة من التنك وقليل من حبر الطباعة غير مكلفة أو غير غالية الثمن ومتوافرة في كل مكان. وتعتبر طبعة بصمة الأصابع نوعاً من التوقيع وهي خالية من أي أخطاء محتملة من حيث المشاهدة والنسخ. ويمكن لأي شخص يتمتع بذكاء عادي أن يتعلم كيفية الحصول على بصمة الأصابع مع قليل من الممارسة والتمرين وذلك في غضون عدة دقائق من التعليمات التي يحصل عليها من شخص يعرف تماماً كيفية الحصول على تلك البصمات…. وتعتبر خصائص بصمات الأصابع دائمة كما هي مدى الحياة بحيث يمكن استعمال بصمات أصابع أي طفل لتحديد هوية هذا الطفل عد وصوله إلى منتصف عمره وحتى عند تقدمه في السن…. وأخيراً تكون القيمة الاثباتية للهوية التي يتم الحصول عليها أو الوصول إليها بواسطة التدقيق في بصمات إصبعين أو ثلاثة أصابع يد الشخص المطلوب عظيمة إلى حد أنه لا يمكن لأي أحد يعرف قيمة هذه البصمات أن يعتبر أنه من الضروري السعي لتأكيد هوية الشخص بأي وسيلة أخرى”.
وفي سنة 1897 أصبح الكتب الذي أسسته حكومة البنغال في كلكوتا استناداً إلى هذه الرسالة أو التقرير أول مكتب وطني رسمي لبصمات الأصابع يستخدم النظام الذي وضعه هنري المذكور في العالم كله. ويبقى هذا النظام أساساً لتحديد الهوية بواسطة بصمات الأصابع مستعملاً حتى اليوم.

في سنة 1898 عثر على مدير لإحدى مزارع الشاي في شمالي الهند مذبوحاً وخزنة الأموال عنده منهوبة. ومن بين الأوراق التي تركت في الخزنة تم العثور على روزنامة عليها لطختان بنية اللون إحداهما ناتجة حتماً عن بصمة إصبع في اليد اليمنى. وكان هنري الذي تم ذكره سابقاً قد صنع ملفاً لبصمات أصابع كل الأشخاص الذين سبق واتهموا بارتكاب جنح وجنايات منذ إعداده لنظام بصمات الأصابع. وسرعان ما تم التعرف على بصمة السارق الذي قتل مدير مزرعة الشاي وحددت بأنها بصمة الباهم الأيمن لشخص اسمه كانغالي شاران والذي كان خادماً سابقاً لمدير المزرعة المذكورة. ورغم أن شاران كان قد انتقل للسكن في مكان يبعد مئات الأميال عن مكان الحاث تم تعقبه حيث أخذت نسخة ثانية من بصمة باهمه الأيمن التي طابقت البصمة التي كانت موجودة في مكان حصول الجريمة.

ولقد تم استدعاء هنري إلى انجلتر في سنة 1901 حيث عين مفوضاً مساعداً في سلك شرطة لندن وكلف بمهمة إنشاء فرع سكةتلانديارد الخاص ببصمات الأصابع. وكان أحد الأوائل الذين عملوا تحت إشراف هنري في ذلك الفرع التحري الرقيب تشارلز كولنز الذي اهتم بعمله جدياً بحيث درس علم التصوير الفوتوغرافي لذلك الغرض وسرعان ما حقق أول نجاح له.
وفي 27 يونيو سنة 1902 اقتحم أحد اللصوص منزلاً في حي دولويتش جنوبي لندن ولاحظ ضابط التحقيق في السرقة وجود بعض علامات أصابع قذرة على عتبة نافذة ذلك المنزل. ولقد التقط كولنز صورة فوتوغرافية لعلامة الباهم على عتبة النافذة ثم شرع بالتعاون مع زملائه على مقارنة تلك العلامة أو البصمة ببصمات مجرمين تمت إدانتهم سابقاً. وبعد البحث مدة طويلة توصل كولنز إلى نتيجة إيجابية عندما طابقت البصمة الموجودة في مكان الحادث مع بصمة شخص اسمه هاري جاكسون الذي تم اعتقاله بعد عدة أيام.

ولكن بقى على الشرطة حل مشكلة إقناع المحكمة بقبول تطابق بصمة الباهم كأدلة جنائية. وقد قررت المحكمة وفي إطار الادعاء العام ومقاضاة مجرم في قضية ثانوية الاستعانة بمستشار قانوني لديه الكثير من الخبرة واسمه ريتشارد موير. ولقد أمضى هذا الأخير ساعات مع كولنز في دراسة النظام الجديد لبصمات الأصابع بحيث تمكن في إطار هذه القضية القانونية من شرح مدى النجاح الذي حققه هذا الأسلوب الجنائي في الهند لهيئة المحلفين في المحكمة. ثم أظهر كولنز في المحاكمة كيف تم تحديد بصمات الأصابع وعرض الصور الفوتوغرافية التي تم التقاطها في هذا الإطار. ولقد اهتمت هيئة المحلفين بهذا النوع من الأدلة واعتبرت السجين المتهم مذنباً في هذه القضية حتى أن محامي الدفاع نفسه لم يتمكن من الاعتراض على هذا الدليل. وهكذا تم تثبيت قبول بصمات الأصابع كأدلة جنائية في المحاكم الإنجليزية.

في سنة 1903 تم تعيين هنري مفوضاً في الشرطة وقد قرر هنري في ضوء كنصبه الجديد إجراء اختبار ماسح لبصمات الأصابع في إطار تحديد هوية المجرمين ومرتكبي الجنح والجنايات. ولقد اعتقلت الشرطة في الاجتماع الخاص بسباق الخيل في أبسوم دربيفي مايو تلك السنة 60 شخصاً بتهم مختلفة وثبت أن 27 شخصاً من بين هؤلاء قد تمت إدانتهم سابقاً بتهم وجنح وجنايات سابقة بحيث توفرت سجلاتهم للمحكمة في صباح اليوم التالي:
“لقد أعطى السجين الأول السجين الأول في هذه المناسبة اسمه Green of Gloucester وأكد للقاضي بأنه لم يرتكب أي عمل ضد القانون قبل هذه المناسبة… وهنا نهض رئيس المفتشين في الشرطة وتوسل إلى المحكمة ضرورة النظر في السجلات والأوراق والصور الفوتوغرافية التي كانت بحوزة الشرطة والتي كانت تثبت أن الاسم الحقيقي لهذا الشخص هو Brown of Birmingham والذي أدين سابقاً عشر مرات”.

وكانت أول جريمة قتل تم فيها قبول بصمات الأصابع كأدلة جنائية قد حصلت في إنجلترا في مارس سنة 1905. فلقد تم العثور على توماس فارو الذي كان يلك متجراً لبيع الدهان في منطقة دبتفورد جنوبي لندن وقد ضرب بعنف ووحشية حتى الموت وكانت زوجته قد أصيبت إصابات شديدة بحيث توفيت بعد ثلاثة أيام من وفاة زوجها. وكان قد نهب خزنة الأموال التي كانت مخبأة تحت سرير الزوجة لكن الشرطة عثرت على بصمة باهم أيمن عليها. ثم أدت التحقيقات التي قامت بها الشرطة في هذه القضية إلى حصر الاتهام في مجرمين متوحشين هما ألفرد وألبرت ستراتون: وكانت البصمة التي وجدت على خزنة تعود إلى ألفرد. ولقد قام بدور المدعي العام في مقاضاة الشقيقين المجرمين ريتشارد موير السالف الذكر ورغم أن القاضي لم يقتنع تماماً بمرافعة المدعي العام لكن هيئة المحلفين اعتبرت أن الشقيقين مذبنان في القضية.