فخّ الملاحقة القضائية في إعلانات المشاهير!
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني
على عكس الكثير من الممارسات والأنشطة التجارية التي تبدأ فردية وعشوائية ثم تتحول إلى أعمال مؤسسية فشركاتٍ متوسطةٍ ثم منشآت عملاقة، اتجه الإعلان التجاري بفعل السوشال ميديا من الممارسات المؤسسية للشركات ووكالات الدعاية والإعلان إلى أنشطة فردية لا تحتاج لرأس مال ولا مقر لمزاولة الأعمال، كل ما في الأمر تطبيقات مجانية على جهاز ذكي بيد شاب متجول أو فتاة متنقلة بين المطاعم والمتاجر والفنادق.

شخصياً لا زلت أؤمن بأن هذه الممارسة يمكن أن تحمل الكثير من الإيجابيات وأن تعزز مفهوم العمل الحر في المجتمع لو وُظِّفت بطريقة تدعم قطاع الأعمال والباحثين عن العمل على حد سواء، إلا أن المشكلة النظامية والاجتماعية والصحية والقيَمية تكمن في اتجاه “الإعلان التجاري” من فن مستقل بذاته ومهنة عريقة في الدول المتقدمة تزاولها كبرى الشركات المتخصصة التي تستعين عادةً بجيوش من المستشارين القانونين والمحامين والخبراء لفحص ومراجعة الإعلان والسياسات التسويقية قبل أن تخرج للعلن –ولا تسلم مع ذلك من الملاحقات القضائية-، إلى هواية لتحقيق رغبات الذات ولفت الانتباه بأيدي أفراد قد لا يدرك بعضهم الأبعاد القانونية والمجتمعية الخطيرة المترتبة على تلك الممارسات خاصة أولئك المشاهير الذين تخطوا حاجز الشهرة في أيام قليلة، فأصبحوا يتعاطون مع شرائح عريضة من المجتمع بتلقائية -حقيقية أو مصطنعة- دون الشعور غالباً بما تحمله تلك الإعلانات أو التمثيليات الدعائية من مسؤوليات عامة وخاصة.

ودعونا هنا نأخذ لمحة سريعة ومبسطة عن أهم المصائد التي قد يقع فيها المعلِنون عبر حساباتهم الاجتماعية؛ وتتفرع عنها سلسلة من المساءلات والملاحقات القضائية خاصة تلك التي تنتهي بعقوبات الحبس أو الغرامة أو التعزير الذي تقدره المحكمة حمايةً للحق العام وتحركه في معظم الحالات النيابة العامة أمام المحكمة الجزائية، ومن أبرز الصور والحالات ما يلي:

1- قد تقع المخالفة الجنائية في محتوى الإعلان، كالإعلان الذي يتضمن الاعتداء على سمعة الغير رغبةً من المعلِن في جذب الأنظار أو التأثير على سمعة منافس المعلّن لصالحه، ويتنوع هذا النوع من الجرائم إلى أنواع كثيرة من أهمها التشهير، وكذلك الاتهام الذي يمكن أن يكيّف كواقعة “تشهير” فقد يقع الاتهام على سمعة الآخرين خاصة الشخصيات ذات الجماهيرية الواسعة لتحقيق رواجٍ أكبر للإعلان،أو كوجهٍ من وجوه المنافَسة غير الشريفة عندما يوجه المعلِن في محتواه الإعلاني إلى شخصيات محددة طبيعية أو معنوية اتهاماً بغير دليل من شأنه لو صح لأوجب عقاب المتهم، أو يُصدر ما من شأنه إلحاق الضرر بمنتِج السلعة المنافسة أو وكيلها أو مسوِّقها، وأهم عناصر التشهير والاتهام (الإسناد) أي: نسبة أمر إلى شخص معين، سواء نَسَب المعلِنُ الواقعة إلى المجني عليه بصفتها من معلوماته الخاصة أو كرواية ينقلها عن الغير على سبيل التشكيك وإلحاق الضرر، وسواءً حدد المجنيَّ عليه باسمه الصريح أو بألقابه وأوصافه التي لا يُختلف غالباً على نسبتها إليه، وقد جاء تجريم التشهير في المادة الثالثة من نظام مكافحة جرائم المعلوماتية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/17 وتاريخ 8/3/1428هـ التي نصت على مايلي: (يعاقب بالسجن مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة لا تزيد على خمسمائة ألف ريال،أو بإحدى هاتين العقوبتين: كلُّ شخص يرتكب أياً من الجرائم المعلوماتية الآتية..) ثم نصت في الفقرة الخامسة على: (التشهير بالآخرين، وإلحاق الضرر بهم، عبر وسائل تقنيات المعلومات المختلفة).

2- ومن أهم الصور التي قد تتكرر في مواقع التواصل الاجتماعي وحسابات المشاهير “جريمة الخداع” والتضليل في ترويج السلع والمنتجات، وتكمن خطورة هذا النوع من المخالفات في سهولة وقوعه واتساع دائرة الوصف الذي تنطبق عليه وقائع الخداع الممنوعة فقد اتجه عدد من الشرّاح وفقهاء القانون إلى تعريف الخداع بأنه “إلباس أمر من الأمور مظهراً يخالف حقيقته حتى يكون من شأنه إيقاع المستهلك في الغلط” بل توسع بعضهم فاعتبر مجرد السكوت عن أوصاف المنتج لإيقاع الجمهور في الغلط فيما إذا انصرفت أذهانهم إلى معلومات أخرى كانت مرتبطة بها مسبقاً، وقد تناول المنظم الأوصاف التي تقع عليها جريمة الخداع في الفقرة الأولى من المادة الثانية من نظام مكافحة الغش التجاري الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/19 وتاريخ 23/4/1429هـ حيث نصت على ما يلي: “يُعدّ مُخالفاً لأحكام هذا النظام كل من:

1- خدع أو شرع في الخداع بأي طريقة من الطرق في أحد الأمور الآتية:
أ) ذاتية المنتج، أو طبيعته، أو جنسه، أو نوعه، أو عناصره، أو صفاته الجوهرية.
ب) مصدر المنتج.
ج) قدر المنتج، سواء في الوزن، أو الكيل، أو المقاس، أو العدد، أو الطاقة، أو العيار.”

وقد تنتهي ملاحقة مرتكب الخداع –وفقاً للمادة 16 من هذا النظام- إلى غرامة لا تزيد على خمسمائة ألف ريال، أو السجن مدة لا تزيد على سنتين، أو بهما معًا، بل قد تكون العقوبة أشد من ذلك في ظروف مشددة بينتها المادة 18 من ذات النظام.

إلا أنه من المهم الإيضاح بأن القانون يسمح بهامش من المبالغة المعروفة لغالب الناس في مدح أوصاف السلعة أو التركيز على مزاياها، فمعيار الإعلان المخادع الذي يوقع صاحبه تحت طائلة المساءلة هو ما من شأنه إيقاع الشخص العادي في الغلط دون مؤثرات أخرى.

3- ومن أهم المصائد التي قد توقع المعلِن في فخّ الملاحقة القضائية ما يسميه بعض فقهاء القانون بجريمة الإهمال، ويعرّفها بعضهم بكونها “اتخاذ الفاعل سلوكاً منطوياً على خطر وقوع أمر يحظره القانون مع خمول إرادته في منع هذا الخطر” وتختلف العقوبة فيها بتقدير القاضي الجزائي أو بنوع النص النظامي المجرّم للواقعة، ويكفي في هذا النوع أن يتكون لدى المعلِن مجرد علم باحتمال حدوث نتائج سيئة دون أخذ الاحتياطات والاحترازات اللازمة التي ينبغي أن يتخذها مثله في مثل ذلك الموقف، وما أكثر ما تتكرر حالات الخطأ الجسيم في إعلانات المشاهير الذين يتساهلون في كون مشاهدات دعاياتهم المليونية أو متابعاتهم من قبل شرائح معينة كصغار أو كبار السن الذين لا تتوفر لديهم مصادر التحقق من صحة ما يعلنه الأفراد، ويمكن أن تخلق صوراً معقّدة من الإعلان المنشئ لـ”جرائم الإهمال” ما لم تُتخذ الاحتياطات التوعوية والاحترازات اللازمة، كما في حال الإعلان عن مستحضرٍ طبي يستخدم لعلاج البالغين طبقاً لتركيبته المركزة فيقوم المعلِن بترويج فاعليته للأطفال دون مراعاة لآثار ذلك الإعلان الذي من شأنه أن يوقع المتابعين في الخطأ تبعاً لما يرتبط بأذهانهم مما يتسبب بمخاطر قد تصل لدرجة وفاة الطفل المتعاطي لهذا المنتج في واقع الأمر، وهنا يساءل المعلِن جنائياً عن هذا الترويج غير المنضبط بالضوابط والاشتراطات الصحية، وما أكثر ما تنشأ جرائم الإهمال ونتائجها المدمرة على الصحة والوعي الغذائي في حالات الإعلان عن المنتجات الشعبية والأعشاب الدوائية التي يتم تحضيرها منزلياً وترويجها دون استناد لرأي علمي وتوصيات من الجهات الطبية المعتمدة، وبطبيعة الحال تختلف كل حالة على حدة باختلاف ظروفها وملابساتها ومدى إهمال المعلِن وإيقاعه متابعيه في الخطأ والعلاقة السببية والارتباط المباشر بين الإهمال والأثر.

4- ومن الصور غير المشروعة أيضاً أن تتمثل المخالفة الجنائية في المعلَن عنه. ويختلف هذا النوع عن سابقه في أن الإعلان بحد ذاته قد يكون صحيحاً من الناحية القانونية ولكن المسؤولية تنشأ بسبب كون السلعة المستهدفة تعد في نظر القانون محظورةً بذاتها أو يحظر الترويج لها، بينما في النوع السابق يكون الإعلان بحد ذاته منشئاً للمسؤولية الجنائية باعتباره وعاءً لأمر محظور في الوقت الذي قد تكون السلعة المعلَن عنها مشروعة، ويتمثل ذلك في صورٍ عديدة كالترويج للمخدرات والمؤثرات العقلية، وسائر المحظورات.

بقي أن نعي أن واجبنا كأفراد وكمؤسسات هو تصحيح وتقويم ممارسات الدعاية والإعلان ومأسَستُها لا تجريمها وإغلاق بابها فحسب، لتسهم في دعم الناتج المحلي وخلق فرص العمل وتوطينها، وإثراء المعرفة المتخصصة وتأهيل هُواتها واستقطاب أمثل الوسائل والأساليب والتجارب الحديثة الكفيلة بتنمية قطاع الدعاية والإعلان ودمج المعلنين الأفراد بمجتمع الأعمال لتأسيس أعمالهم واستدامتها فالمستقبل متحيّز إلى إعلانات التواصل الاجتماعي تحيزاً مذهلاً على حساب الإعلان التقليدي والدعايات الصحفية التي تتراجع -رغم قوة مركزها عالمياً- تحت وطأة النمو السريع لإعلانات السوشال ميديا لتنكسر لأول مرة في تاريخها أمام حجم إنفاق المعلنين عبر الشبكات الاجتماعية خلال العام 2020م بحسب تقديراتٍ نشرتها وكالة Zenith Optimedia التجارية في ديسمبر 2016م.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت