التوسع في القيم يخنق سوق المحاماة !
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني
أعتقد “غير جازم” أن التعاطي مع مهنة المحاماة يتوسع في قيم النبل وشرف العدالة والإنسانية وحب الخير للغير وبذل اليد وسخاء الجيب وطيب الكلام ولين الجانب.. إلخ، حتى يصطبغ طرحنا بهذه الاعتبارات القيَمية التي لم تعد تكفي وحدها لمواكبة سوق المحاماة بالقدر المطلوب لنمو القطاع واستدامته وخلق فرص العمل وتحويل الخدمات والاستشارات القانونية إلى منتَج يعزز اقتصاد المعرفة ويسهم في نمو الناتج المحلي ودفعِ عجلة التنمية وجذبِ الاستثمارات، والرعايةِ القانونية لرؤوس الأموال والشركات الناشئة في أسواقنا وبث الطمأنينة النظامية في نفوس المستثمرين بجودة واحترافية ومهنية.

رأيي الذي أرجو أن يتسق في إطاره المنطقي والمعقول -دون إجحافٍ بأهمية القيم العدلية والإنسانية ودورها في تعزيز أخلاقيات المهنة والرقي بمستواها الحضاري والسمو بأهدافها- أن التوسع في القيم والمنطلقات الإنسانية رغم أهميتها لا يجب أن يكون على حساب الأسس والممارسات المهنية، فشأن المحاماة شأن المهن الأخرى مع تفاوت نسبي فيما بينها بطبيعة الحال، ولو توسعنا في القيم والمعاني الإنسانية لكل مهنة لخنقنا سوقها وأثقلنا كاهلها بالتعاليم والوصايات والقيود والاشتراطات التي نغلّب فيها شرف المهنة فحسب، وربما أسهمت تلك الاشتراطات في تعطيل نموها وتقييد سوقها ومباعدة المسافة بين ممارساتنا المبتدئة والتجارب والتطبيقات الدولية الرائدة.

يا سادة: لو توسعنا في قيم العطاء والتطوع عند الطبيب وشرف السهر على صحة المرضى والقيمة الأزلية لعلاج مريض يرى في طبيبه بصيص الأمل؛ لطالبنا الأطباء بعلاج نصف مرضاهم مجاناً، ولنظرنا باشمئزاز إلى الصيدلي الذي يبيع الأقراص بباهض الأثمان لمتهالكٍ يتوكأ على عصاه، ولهاجمنا كل طبيب يتقاضى دخلاً عالياً نظير مهنته لمجرد كونها مهنة إنسانية تنقذ الأرواح وتضمد الجراح، دون النظر لسنين دراسته وغربته وجهوده ومهاراته وتنقلاته في الآفاق وزمالته الطبية وسجله الابتكاري، وحينها ستهاجرنا قوافل الأطباء المتميزين وسنخسر الكفاءات وستغلق المستشفيات المتخصصة أبوابها.
لو توسعنا في قيم الحضارة العمرانية وسمو الأهداف النبيلة في إسهام المهندسين بنهضة البلد وتنمية المدن وعمرانها لبخسناهم حقهم؛ كونهم يمارسون عملاً إنسانياً لا يلائم إقحامه في مبدأ العرض والطلب والمنافسة الحرة، حتى تهاجرنا قوافل المهندسين وتغلق المكاتب الهندسية الفذة أبوابها ونوافذها !

لو توسعنا في حاجة الناس إلى الموارد الطبيعية وإلى الماء والغذاء والسلع الأساسية ودورها في حياة بني آدم لاختنق التجار والموزعون والوكلاء الذين لن يعيشوا طويلاً تحت وطأة الموانع والاشتراطات التي ستكتبها أقلام القيَميين المبالغين في أنسنة المهن والأسواق أكثر من اللازم.

لا أشك لوهلة أن مهنة المحاماة من أهم مكونات المجتمع الإنساني وأعظم سمات حضارته وأنها جسر العدالة وطريقها النبيل وطريقتها الجليلة، إلا أن ذلك لا يحب أن يبقي المهنة رهينة القيم والمعاني والمعنويات على حساب الثقافة المؤسسية والريادة المهنية، وعلاوةً على ذلك وفي السنوات الأخيرة تحديداً لاحظ كثيرون نوعاً بارزاً في الطرح العاطفي الذي أسهم في تعزيزه وتكريسه الإعلام الاجتماعي وبعض أساتذة وطلابِ القانون الذين صنعوا صورةً رائعة وأوصلوا صوتاً جميلاً بلا شك، لكنهم دون أن يشعروا جعلوا من المهنة مهمة إنسانية فحسب؛ وانعكاساً لتلك الصورة تتعالى يوماً بعد يوم أصوات الاستنكار على العوائد التي يتقاضاها المحامون المتميزون رغم ندرتهم، وتتزايد عبارات الشجب للمحامي الذي لا يجد في تدريب الخريجين جدوى اقتصادية في مكتبه ومشروع عمره الذي أنفق وخسر لأجله الكثير، ويُسلَّط الضوء بشكل حاد على أخطاء المحامين -التي لا يجب أن تتجاوز أعيان المخطئين إن وُجدت-، وتتسرب في الأوساط الاجتماعية لهجةٌ مشككة بإنسانية المحامي الذي يصوغ عقداً بمقابل عالٍ دون النظر إلى جهده واحترافيته، فلا ينظرون سوى بعين واحدة إلى قيَم المحامي دون قيمته !
إن خطورة ذلك الطرح إضافةً إلى كونه يحرف سوق المحاماة عن مبدأ العرض والطلب؛ فإنه أيضاً يسهم في ابتذال المحامي بنظر عملائه لمجرد أنه خلع معطفه الملائكي جانباً قبل أن يتفاوض مع العميل كما يتفاوض الطبيب والمهندس والتاجر وأي إنسان آخر يمارس مهنته بشرف ونزاهة وموضوعية دون توسع ومبالغة في الإرث الحضاري والجذور التاريخية وقصص التضحية والعطاء التي يمكن أن نُلبسها أي مهنة أخرى فتختنق سوقُها ويتوقف نموها وتتعطل استدامتها، لسبب بسيط وهو أن الضمانة الوحيدة لاستمرار ونماء أي مهنة هي خضوعها لمبدأ العرض والطلب الذي يعزز التنافس ويرفع مستوى الجودة ويحفز التنوع والإبداع.

هل يراد من المحامي نظير عدالته وقيَمه النبيلة أن يعالج تكدس مخرجات الجامعات؟ وهل يراد من المحامي نظير عدالته وقيَمه النبيلة أن يدفع من جيبه لتدريب أفواج الطلاب والطالبات الذين تزج بهم الجامعات كل عام ونصف العام دون تخطيط وتنسيق بين الوزارات والمؤسسات؟ وهل يراد من المحامي نظير عدالته وقيَمه النبيلة أن يتقوقع في مكتبه الكائن في حي منزوٍ أو مدينة متوسطة السكان ويمتنع عن التعريف بنفسه وتسويق خبراته وقدراته أمام مجتمع الأعمال في حين أصبحت مهارات الاتصال والتسويق سمةً مشتركة لكل القطاعات والأسواق الرائدة في العالم؟ لماذا يتضاءل دور المحامين رغم حيويتهم عن الإسهام في فعاليات التنمية ومستجدات الأسواق والمحافل الاقتصادية لمجرد أن مهنة المحاماة تفرض على صاحبها ترفعاً عن الإعلان عن نفسه حمايةً لقيم المهنة؟

عزيزي المحامي:
لا تكن ملائكياً أكثر من ملائكة السماء، بل كن كما أنت.. وكما يتّجر التاجر ويخطط المهندس ويجسّ الطبيب نبض مريضه، ليس عليك أن تكون حاتم زمانك في تقديم خدماتك بالمجان وتدريب المحامين دون عائد إنتاجي يفيء بالنفع على مشروعك، المهم ألا تتخذ مهنتك طريقاً لمظلمة مخلوق أو بطر حق.

وبين ألا تكون شيطاناً ولا ملاكاً؛ تكمن شخصيتك المعتدلة في هويتك المهنية كإنسان طبيعي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويطمح لتعظيم أرباحه وتطوير مشروعه ويفاوض عملاءه القادمين بإرادتهم الحرة إلى مكتبه الذي ربما حال معطفه الملائكي دون تسويقه والتعريف به !

إعادة نشر بواسطة محاماة نت