أدى انقسام العالم إلى دول، تتأسس على شعب وإقليم وسلطة سياسية، ضرورة إيجاد وسيلة لتحديد كل ركن من أركانها، فكانت الحدود الطبيعية والصناعية وخطوط الطول والعرض هي وسيلة تحديد ركن الإقليم، وكان الاعتراف بالدولة مبعث الحياة فيها، وكانت الجنسية وسيلة تحديد ركن الشعب وتوزيع الأفراد بين الدول. وقد اتسمت فكرة الجنسية بذاتية خاصة، تجردها من الأفكار ذات الصبغة العنصرية أو القومية الاستعمارية. وهذه الذاتية هي التي ميزت الجنسية عن الجنس، والجنسية عن القومية، والجنسية عن التابعية أو الرعوية.

الجنسية والجنس أو السلالة :

أدت وحدة الاشتقاق في اللغة العربية، بين كلمتي الجنسية والجنس، إلى لبس لدى البعض ظنوا معه وحدة المعنى للكلمتين، أو أن الجنسية تعتمد في أساسها على الجنس أو وحدة الأصل العائلي، أو السلالة، بيد أن هذا اللبس سرعان ما يتبدد في اللغات الأوروبية، حيث يطلق على الجنسية Nationalite بينما تترجم كلمة الجنس أو السلالة البشرية إلى Race وعلى ذلك، فلا محل للخلط بين المعنى الذي تحمله كل كلمة، ولا محل للقول بأن شرط منح الجنسية هو وحدة الأصل أو السلالة. ويظل الواقع لا يطابق هذا المعنى اللغوي الذي التبس لدى البعض، فكثيراً ما يكون شعب الدولة مكوناً من أجناس متباينة، حيث يجري في عروق السويسريين والإيطاليين والأسبان الدماء الجرمانية واللاتينية والعربية. وكثيراً ما يكون الجنس موزعاً بين عدة دول )روسيا وبولندا ويوغسلافيا الذين يجمعهم الجنس الصقلي( ، ومن هنا نشأ للجنسية معنى اصطلاحي يغاير معناها اللغوي. ومع ذلك، لاقت نظرية وحدة الجنس قبولاً واسعاً في ألمانيا، واتخذها أنصارها أساس لدعوى ألمانيا لبسط سيادتها على الشعوب المنحدرة من أصل ألماني، باعتبار هؤلاء الأفراد يكونون وحدة متجانسة فكرياً وجسمانياً، ويمكن انتظامهم في دولة واحدة تتوافق فيها صفاتهم وتحفظ لهم جنسيتها. وكان لنظرية وحدة الجنس أو نقاء الأصل أو الجنس النقي، أثر بعيد في أحداث ألمانيا الداخلية الناجمة عن الدعوى إلى تنقية الجنس أو الدم الألماني من الدم اليهودي، وفي الأحداث العالمية المترتبة على نظرة ألمانيا للعالم على ضوء فكرة المجال الحيوي، وما نجم عن ذلك من حرب عالمية مدمرة ونتائج دولية خلصت إلى اعتبار إبادة الجنس جريمة دولية. ومهما كان الاعتداد بوحدة الجنس ودوره في تكوين الجماعات السياسية التي اتخذت شكل قبائل في عهود البشرية الأولى، ومهما بلغ ترويج الألمان له.

إلا أن هذا الدور أخذ يتضاءل حتى انعدم أثره في المجتمع الحديث، وقد أسهم في ذلك هجرات الشعوب وتداخلها، والزواج وامتزاج الدماء واختلاط الأنساب، والحروب. ومن ثم، فلا غرو أن يجمع علماء السلالات البشرية )الأنثروبولوجي( والدراسات الاجتماعية، بأنه لا يمكن الجزم بوجود سلالة بشرية نقية الدم، وبالتالي لا توجد دولة ينحدر شعبها كله من سلالة بشرية واحدة. كذلك، إذا كان لشعب الدولة أن يشترك في وحدة الشعور الوطني، فلا تلازم بين وحدة الشعور الوطني ووحدة السلالة البشرية، ذلك أ هذا الشعور يتولد من الاشتراك في اللغة والثقافة والدين والتاريخ والأماني والرغبة في العيش المشترك، وتتوافر هذه العناصر – أو بعضها – نتيجة للولادة في عائلة تعيش مع هذه الجماعة، أو الإقامة الدائمة معهم. وأيضاً، ليس هناك ثمة ارتباط بين الوجهة الحضارية لدولة، وبين الصفات الجسمانية التي تميز شعبها لانحداره عن سلالة بشرية معينة، فلا تنسب حضارة إلى سلالة بعينها، فلا توجد حضارة للرجل الأبيض وأخرى للأسود وثالثة للأصفر، ولم يقل بذلك إلا دعاة التفرقة العنصرية. وهكذا، فإن استبعاد نظرية الجنس، يؤكد ذاتية فكرة الجنسية، حيث تظل الجنسية تفيد انتساب الشخص إلى دولة معينة، بينما يفيد الجنس انتساب الشخص إلى سلالة بشرية بذاتها.

الجنسية والقومية:

تبني الفكر السياسي على يد أحد كبار مفكريه وهو العلامة الإيطالي مانشيني مبدأ فلسفياً عرف بمبدأ القوميات أو مبدأ الجنسيات، حيث ارتأى وجود عناصر معينة إذا توافرت نشأت عنها الوحدة الاجتماعية التي هي الأمة، وخلص إلى أن هذه العناصر تكمن في اللغة والعادات والجنس والتاريخ والدين والإقليم والشعور بالوحدة الروحية. فإذا ما برزت هذه الوحدة الاجتماعية مرتكزة على هذه الدعائم. أضحى لا مناص من التسليم لها بحقها في التحول إلى وحدة سياسية أي دولة، ومن ثم، فإن مضمون هذا المبدأ أن كل أمة دولة وكل دولة أمة. وقد . أسهم في إنماء الروح القومية المبادئ التي أعلنتها الثورة الفرنسية سنة ١٧٨٩ وظلت رابطة الجنسية تختلط برابطة القومية زمناً، ولم تنفصل عنها إلا في منتف القرن التاسع عشر، بعد أن انفصل مدلول الدولة عن مدلول الأمة، حيث اكتسبت رابطة الجنس مدلولاً خاصاً يفيد انتساب الفرد – قانونياً وسياسياً – لدولة معينة – بينما يفيد مدلول القومية انتماء الفرد إلى أمة معينة. وتختلف رابطة الجنسية اختلافاً بيناً عن رابطة القومية، ويرجع ذلك إلى اختلاف العناصر المكونة للدولة عن تلك المكونة للأمة. فقيام الدولة يتطلب توافر أركان ثلاثة هي الشعب والإقليم والسلطة السياسية، بينما يكفي لوجود الأمة أن يكون هناك شعب وإقليم ولا يلزم وجود ركن السلطة. ويقدم لنا الواقع العملي أمثلة لتداخل وتباعد الأمة عن الدولة. فنجد مثلاً الأمة البولندية ظلت موجودة رغم عدم قيام الدولة فيها حتى الحرب العالمية الأولى، كذلك هناك بعض الأمم تظل محتفظة بكيانها الذاتي رغم خضوعها جميعاً لسيادة وسلطة واحدة، مثال ذلك الأمم التي كان يتكون منها الاتحاد السوفيتي سابقاً، وسويسرا، وكما كان الحال في الدولة العثمانية. وأخيراً فإن هناك أمم تظل واحدة رغم تفرق أبنائها في عدة دول، ومثال ذلك الأمة العربية والأمة الألمانية في فترة تقسيمها إلى دولتين وقبل وحدتها الأخيرة. ويختلف ركن الشعب – من حيث عناصر تكوينه وجوانبه المعنوية – في الأمة عنه في الدولة، فبينما يجمع شعب الأمة وحدة الشعور القومي الناجم عن اتحادهم في عنصر اللغة والثقافة والدين والتاريخ والمصير المشترك، فإنه يكفي الدولة توافر الشعور الوطني أي وحدة الولاء السياسي للدولة بغض النظر عن اتحادهم في اللغة أوالدين أو التاريخ، حيث تسود الهند عدة لغات ويدين أبناؤها بعدة لغات، وكذلك الحال في سويسرا والاتحاد السوفيتي التي يتحدث أبنائهما عدة لغات، ومن ثم، وصفت الأمة بأنها ظاهرة طبيعية اجتماعية وحضارية، بينما وصفت الدولة بأنها ظاهرة صناعية سياسية وقانونية. وإذا كانت الدولة المثلى هي التي يتطابق فيها الدولة مع الأمة بحيث تتكون من أمة واحدة وهو ما عرف بمبدأ القوميات، بيد أن هذا المبدأ صادفه عقبات سياسية أدت إلى التداخل أو التباعد بين الدولة والأمة، وبذلك استخدمت الجنسية للإشارة إلى انتساب الشخص لدولة معينة، بينما ظل استعمال كلمة القومية للدلالة على الانتماء لأمة معينة، وهكذا تتأكد مرة أخرى ذاتية فكرة الجنسية، ويتبلور معالمها، ويتجلى أفكارها، وتنتظم أسسها في نظرية ثابتة وواضحة.

ضبط بعض المصطلحات :

كثيراً ما يحمل الفرد في رابطة الجنسية أوصاف تبدو مترادفة أو تحمل خلط، فهذا يطلق عليه وطني، وذاك مواطن، وآخر رعية، ورابع تابع. ودرءاً للبس، ومنعاً للخلط وتجنباً للخطأ، يتعين علينا تحديد المدلول الدقيق لكل من هذه الألفاظ أو المصطلحات.

الوطني :

الوطني هو من يتمتع بجنسية دولة معينة، بغض النظر عما يكون بين بعضهم والبعض، من تفاوت في الحياة القانونية الداخلية وخاصة من جهة الحقوق السياسية، ويقابله الأجنبي الذي لا يتمتع بهذه الجنسية، وللتفرقة بين الوطني والأجنبي أهمية بالغة، إذ للوطني حقوق أكثر وعليه التزامات أبلغ نم الأجنبي، فله التمتع بالحقوق السياسية والإقامة بدولته ولا يجوز إبعاده، كما يحظى بحماية ممثلي دولته في الخارج، وعليه أداء ضريبة الدم التي تتخذ مظهر الخدمة العسكرية. وليس كل وطني مواطن – رغم حملهم جنسية واحدة – وذلك على النحو الذي سوف نعرض له.

المواطن :

يقصد بالمواطن ذلك الفرد الذي يتمتع – إلى جانب جنسية الدولة – بكافة حقوقه السياسية والمدنية، فقد تنتقص الدولة من بعض الأفراد حقوقاً سياسية فيطلق على هؤلاء وطنيون، أما إذا كانت حقوقهم كاملة فهم مواطنون، وعلى ذلك فالمواطنون هم وطنيون، ولكن ليس كل الوطنيين مواطنين، وهذه التفرقة بين الوطني والمواطن، لا تهم سوى الحياة القانونية الداخلية دون الحياة القانونية الدولية.

الرعية:

الرعية هو الوطني الذي انتقصت حقوقه، وعادة ما يطلق لفظ الرعية على أهل المستعمرات المملوكة للدولة المانحة للجنسية للدلالة على إنقاص حقوقه، بالمقارنة بحقوق أبناء الدولة المستعمرة الذين يطلق عليهم لفظ المواطنين، ومن ثم فإذا قامت بعض الدول بالتمييز بين أفرادها لأسباب عنصرية أو حضارية أو دينية أو غيرها، فإن هذا التمييز يجري بتقسيمهم إلى طائفتين المواطنون والرعايا، رغم أن كل من هاتين الطائفتين تحمل ذات الجنسية. فكلاهما من الوطنيين بالمقارنة بالأجانب، ولا يمتد أثر هذا الوصف إلى المحيط الدولي، إنما يظل أثره قاصراً على المحيط الداخلي، باعتباره معياراً لتحديد مدى ما يتمتع به كلا الفريقين من حقوق وما يتحمله من التزامات. وقد يستخدم اصطلاح رعية محلية، للتعبير عن انتساب الفرد – في دولة مركبة – إلى إحدى الولايات أو المقاطعات أو الإمارات في هذه الدولة، كما هو الحال في دولة الإمارات العربية، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي سابقاً، إذ يحمل التابعون لكل إمارة أو ولاية أو مقاطعة صفة الرعوية المحلية، بينما يحملون جميعاً الجنسية الاتحادية. كذلك، استخدم اصطلاح )الرعية المحلية( في الدولة العثمانية، حيث منحت بعض أقاليمها قدراً من الاستقلال الذاتي رغم غياب الشخصية الدولية لهذه الأقاليم. وليس للرعوية المحلية أثر في الجنسية، ولا أهمية لها من وجهة القانون الدولي. إنما يقتصر أثر هذه الصفة على القانون الداخلي، حيث تطلق على بعض الوطنيون بما ينعكس ذلك على تحديد الحقوق والواجبات الخاصة بتلك الرعية المحلية في الإقليم الذي ينتسب إليه. فإذا ما جرى استعمال لفظ )رعية( للدلالة على الجنسية، فإنه يتعين حملها على معناها الواسع وليس على معناها الاصطلاحي.

التابعون :

شاع استخدام مصطلح التابعين في عهود الاستعمار، وكثر استعماله في المعاهدات الدولية. وهو يشير إلى الأشخاص الخاضعين سياسياً لدولة معينة وإن كانوا من الأجانب – باعتبارهم يخضعون لسيادة واحدة. وينصرف استخدام هذه اللفظ للتعبير عن صور شتى للتبعية، فقد يطلق على الوطنيين سواء أكانوا مواطنين أو رعايا. وإن كان الشراح لا يتصوبون ذلك. كما يطلق أيضاً على الأجانب من أبناء الدول ناقصة السيادة التي خضعت لنظام الحماية أو نظام الانتداب، الذي أصبح يسمى في عهد هيئة الأمم المتحدة بنظام الوصاية الدولية، حيث خضعت تونس ومراكش والجزائر وسوريا ولبنان للحماية أو الانتداب الفرنسي، وقد انتقص هذا الخضوع نم سيادة تلك الدول، وإن كان لم يقض على كيانها الدولي. ويحدد السند الدولي الذي تخضع بمقتضاه هذه الدول لسلطة أجنبية الوضع الدولي لأبناء الدول الخاضعة للحماية أو الانتداب، فكثيراً ما يسمح هذا السند لتلك الدول بكيان دولي وجنسية لأبنائها مستقلة عن جنسية الدول الحامية. ومع ذلك يتبعون الدول الحامية. وهي تبعية يترتب عليها منحهم معاملة خاصة في هذه الدول تميزهم عن سائر الأجانب. ولا يغير إطلاق وصف التابعين عليهم من وضعهم الدولي بالنسبة للجنسية، فيظل أبناء الدول المحمية وطنيين في دولهم رغم كونها ناقصة السيادة، كما يعتبرون أجانب بالنسبة للدولة التي تمارس عليهم الحماية أو الانتداب أو الوصاية. كما أطلق اصطلاح التابع أيضاً في ظل نظم الامتيازات الأجنبية على الشخص المتمتع بحماية دولة تتمتع بالامتيازات في بلد خاضع للامتيازات، أي أنه يفيد ارتباط بعض الوطنيين أو رعايا دول لم يكن لها الحق في التمتع بالامتيازات، بدولة من أصحاب الامتيازات بغية الاستفادة من المزايا التي يخولها نظام الامتيازات الأجنبية. وقد يكون هؤلاء المتمتعون بالامتيازات من أبناء الدولة الخاضعة لنظام الامتيازات، كما قد يكونوا من رعايا دولة أجنبية لا تتمتع بهذه الامتيازات. ومن ثم فإن اصطلاح التابع واسع المدلول القانوني إذ يطلق على الوطنيين والأجانب على السواء، وهو مصطلح يشوبه اللبس والغموض وعدم الانضباط، مما دعا الشرح إلى نبذ استعماله

المؤلف : احمد عبد الحميد عشوش
الكتاب أو المصدر : القانون الدولي الخاص
الجزء والصفحة : ص16-24

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .