مقال قانوني حول الجانب التوثيقي للأحكام

مقال حول: مقال قانوني حول الجانب التوثيقي للأحكام

الجانب التوثيقي للأحكام

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

بقلم ذ أحمد باكو

محامي بهيئة الدار البيضاء
للأحكام حجيتان، إحداهما عامة مطلقة، تأتي من كونها موصوفة بأنها من الأوراق الرسمية، و الثانية خاصة مقيدة، تأتي من كونها مصنفة ضمن القرائن القانونية. و قد اشتهرت هذه الحجية الثانية، حتى حجبت الأولى، فأصبحنا لا نعرف من الأحكام إلا أنها قرينة قانونية لها حجيتها المعروفة بحجية أو قوة الأمر المقضي، و التي يؤدي التمسك بها إلى ثبوت ما قضت به بقوة القانون، و عدم المنازعة فيه، بدعوى جديدة، و الحال أن الحكم باعتباره من الأوراق الرسمية، له أيضا تلك الحجيات العامة، المقررة لهذا النوع من أدلة الإثبات.

الحجية التوثيقية للأحكام:

وقد تقاسمت كتب الفقه المسطري و الموضوعي، بحث الأحكام، كل فيما يخصه، حيث تناول فقه المسطرة بحثها من جانب الإجراءات و الطرق التي تؤدي إلى صدورها صحيحة، من حيث رفع الدعوى و شروطها، و الأوصاف التي تأخذها، من حيث الحضور و الغياب، و المراحل التي تتدرج فيها، من حيث كونها إعدادية أو تمهيدية أو قطعية، ابتدائية أو انتهائية.

و أما كتب الفقه الموضوعي، فتناولها من جانب الشروط التي تجعلها قرينة قانونية، بأن يكون الحكم قضائيا، قطعيا، صادرا بين نفس الأطراف و في نفس الموضوع ونفس السبب[1].

و لكننا لا نكاد نجد في المرجعين معا، بحثا يبرز ذلك الجانب الأول من الأحكام أي الحجية الآتية من كونها أوراق رسمية، لها قوتها الاثباتية المعروفة، و لذلك خفي حتى كاد يضيع هذا الجانب المهم الذي سكتت عنه كتب الفقه المسطري، لأنه ليس داخلا في اختصاصه، و تبعتها كتب الفقه الموضوعي انشغالا منها بالجانب الثاني، المتعلق بحجية الأمر المقضي.

كيف تنشأ هذه الحجية

الملاحظ أن المحاكم، وهي بصدد البت في الخصومات القضائية، تقوم بوظيفتين متلازمتين، هما التوثيق و الفصل في الدعوى، لإنهائها بمنطوق يرفع النزاع. فحين يقوم القاضي بسماع الدعوى من حيث المقال و الجواب و الحضور و الغياب، إلى أن يصل إلى النطق بالحكم، فإنه يقوم في ذات الوقت بوظيفة توثيقية، لابد منها، من حيث إثبات وجود هذه الدعوى بكونها مرفوعة من مدع، على مدعى عليه معينين، و نوع الطلب و سببه، و الحجج المدلى بها و مرافعات الطرفين إلخ، بحيث يعتبر الحكم في الأخير، من حيث تسجيله لهذه الوقائع و الإجراءات، وثيقة رسمية تثبتها، زيادة على المحكوم له أو عليه، و الحيثيات المبررة لذلك.

وإذا تقرر هذا فإنه ليس ضروريا أن تتوفر في الحكم، الشروط المعروفة لانعقاد حجية الأمر المقضي، لكي يكون ورقة رسمية، تثبت الوقائع و الإجراءات، و إنما يكفي أن تتوفر فيه الشروط المقررة لوجود الورقة الرسمية و صحتها، و بهذا كان للجانب التوثيقي للأحكام، كيانه الخاص، الذي يميزه عن حجية الأمر المقضي و قيوده المعروفة.

إلا أنه يجب أن نبرز، أن هذا التمييز أو التصنيف، يكاد يكون صوريا، لأنه إن كانت له فائدة، في تسهيل البحث النظري، فإن النظرة الواقعية تكشف أن الجانب التوثيقي للحكم لا ينفصل عن جانبه المتعلق بحجية الأمر المقضي.

و هذا لأن الحكم، هو دائما ورقة رسمية، يمليها و يحررها موظف رسمي، تتضمن و تثبت زيادة عن المنطوق و حيثياته المرتبطة به، وقائع أخرى،تسجل الأطراف بهوياتهم و أقوالهم و أفعالهم، بل تتجاوز ذلك، إلى ماهو أهم، من كل ما يمكن أن يجري أمام المحاكم، من العوارض و الطوارئ و ترى ضرورة تسجيله، ولو لم يكن له ارتباط بموضوع الدعوى.

و الأحكام في كل ما دونته من هذا لها قوة الورقة الرسمية، و تكون صالحة للاحتجاج بها في الإثبات بوجه عام.

غير أنه إذا كان من الضروري، لكي يصل الحكم إلى درجة القرينة القانونية، من حيث توفر القيود المعروفة لحجية الأمر المقضي، و إذا كانت هذه الحجية حين تتحقق لا تكون إلا لمنطوق الحكم و حيثياته المرتبطة به سببيا، فإنه ليس ضروريا لقيام الجانب التوثيقي العام للحكم، أن تتحقق هذه الشروط و القيود.

الأحكام بجميع أنواعها ورقة رسمية

إذا راعينا هذا فإن كل حكم تصدره المحكمة، يعتبر ورقة رسمية تثبت صحة محتوياته، من الأقوال و الأفعال المدونة به حتى و لو لم يكن نهائيا، وحتى ولو لم يبت في الموضوع، بأن كان إعداديا أو تمهيديا، بل حتى لو قضى بعدم قبول الدعوى، لعيب في الشكل او لوجود مسقط أو لعدم الاختصاص، بل إن الحكم يكتسب هذه القوة الاثباتية، حتى لو كان أجنبيا، صادرا من غير المحاكم الوطنية، باسم سيادة أخرى.

بل يجب أن نزيد أن هذه الحجية التوثيقية، تبقى للحكم حتى لو قضى برفض الطلب موضوعا، وكذا بالأولى، إذا ألغته محكمة النقض لاحقا.

حجية شاملة

وهذه الحجية عامة من حيث الموضوع، بمعنى أنها لا تقتصر على المنطوق و العلل المرتبطة به كما هي الحال في حجية الأمر المقضي، بل تمتد لتشمل الوقائع و الإجراءات، سواء كان لها ارتباط بالموضوع و السبب و المنطوق، أم كانت من الأشياء الزائدة، التي لا تمتد إليها حجية الأمر المقضي.

وهذه الحجية تمتد من حيث الأشخاص، لتعم أطراف الدعوى، الذين أقاموها و الذين أقيمت عليهم، و الذين شهدوا فيها بالإثبات أو النفي، فيما صدر منهم من أقوال و أفعال، بل تعم كذلك، حتى الذين لم يكونوا حاضرين فيها، بمعنى أنه يحق لكل من وجد في حكم ما، ولو كان غير صادر في مواجهته، قولا أو فعلا يفيده، أن يحتج به إذا كانت له مصلحة في ذلك.

مصادرها و خصائصها

و إذا كنا لا نجد هذه الحقائق في كتب الفقه بنوعيه أو لا نكاد، فإنها مدلول عليها بنصوص كثيرة مذكورة في باب الإثبات من قانون الالتزامات و العقود فقد نصت المادة 418 على انه يعتبر من الاوراق الرسمية…

»الأحكام الصادرة من المحاكم المغربية و الأجنبية، بمعنى أن هذه الأحكام، يمكن حتى قبل صيرورتها نهائية واجبة التنفيذ أن تكون حجة على الوقائع التي تثبتها« .

وهنا نرى ذلك التعميم الذي تحدثنا عنه، من حيث أن الحكم، يثبت له هذا الجانب التوثيقي، البالغ درجة الرسمية، حتى لو لم يكن نهائيا، و حتى و لو كان صادرا من سيادة أجنبية، و أن الحجية تشمل كل الوقائع المضمنة به، و ليس المنطوق و الحيثيات فقط.

ونصت المادة 419 من ق.إ.ع على أن الورقة الرسمية، حجة على الغير في والوقائع والاتفاقات، التي يشهد بها الموظف العمومي، الذي حررها، بحصولها في محضره و ذلك إلى أن يطعن فيها بالزور، وهنا نرى ذلك التعميم، ينتشر ليتجاوز الأطراف، إلى كل غير يمكن الاحتجاج عليه بالورقة الرسمية، و منها الأحكام بطبيعة الحال.

ونصت المادة 405 من ق.إ.ع على أن الإقرار الحاصل أمام قاض غير مختص، أو الصادر في دعوى أخرى، يكون له نفس أثر الإقرار القضائي و هنا نرى المشرع، يعطينا مثلا يؤكد به الحجية المطلقة للحكم، في هذا الجانب في أمر مهم، هو الإقرار القضائي، الذي إذا سجله الحكم، كان حجة على من صدر منه كيفما كان نوع الحكم و منطوقه، و كان حجة للمقر له، و لو كان غير طرف في الدعوى.

الآثار القانونية العملية لذلك

و لهذا كله عواقب عملية، تتسلسل من غير حد، لا يمكن استقصاؤها كلها في أصولها و فروعها و أول ما يجب الإشارة إليه من ذلك، كما سلف، أن الحكم كيفما كانت طبيعته و درجته و منطوقه، سواء كان إعداديا أو تمهيديا أو قطعيا، قاضيا بالقبول و المطلوب ، أو بعكس ذلك، تثبت له الحجية، من حيث كونه صادرا ممن نطق به، و قرر فيه و تداول في شأنه، أو وثقة أو شهد فيه.

و الحكم كيفما كانت طبيعته و درجته، حجة على رافع الدعوى، في كونه رفعها فعلا و كونه سمى نفسه ووصفها، حسب الهوية المذكورة بالمقال، و في كونه ادعى ما ادعاه، و كونه أدلى بحجة معينة و استعملها، وهو حجة على المدعى عليه، فيما قبله و سلمه من كلام المدعي، ابتداء من الهوية إلى المدعى فيه، و فيما دفع به و نازع، و فيما أدلى به من الحجج لإثبات العكس إلخ.

فإذا وصف المدعي نفسه مثلا، بأنه طبيب فإن ذلك إقرار منه بكونه نسب نفسه لهذه المهنة، بحيث إذا نوزع فيها، و اتهم بانتحالها، فإنه يكون محجوجا بهذا.

و إذا سجل الحكم وجود محامين رافعوا في النزاع، فهو حجة لهم أو عليهم، فيما يرجع لكونهم قاموا بالدفاع في الدعوى، و في كونهم مارسوا المحاماة فعلا، بحيث إذا نوزعوا من موكليهم في قيامهم بواجب الدفاع، أو نوزعوا في كونهم غير مؤهلين للمرافعة أصلا أو لسبب عارض، كان الحكم حجة لهم و عليهم في كل ذلك.

و إذا سجل الحكم أن شخصا أو أشخاصا معينين، حضروا و شهدوا بأقوال معينة فإنه يكون حجة على وقوع الشهادة بدلالتها اللغوية و القانونية، و على قبولها أو رفضها من المحكمة، بحيث إذا تعلق الأمر مثلا بوقائع تفرعت عنها عدة دعاوى، فإن قيام الشاهد بتغيير شهادته في دعوى أخرى، رفعها شخص آخر ، بالاستناد إلى نفس الوقائع، يجعله متلبسا بالزور، و بحيث إذا رفضت المحكمة شهادته لثبوت تجريحه بقادحٍ مَا، كان ذلك ثابتا، و كان الحكم حجته لمن له أن يستفيد منه.

و إِذا صدر من أطراف النزاع، كلام عارض، يثبت لشخص أجنبي عن النزاع حقا معينا أو واقعة منتجة، كان الحكم حجة له في ذلك، بحيث يستطيع أن يثبت به، إقرارا صدر لفائدته، أو شهادة تزكي ادعاء أو دفعا يتمسك به، أو يثبت تجريحا للشاهد ذاته، فيما إذا تضاربت أقواله أو كذب نفسه في شهادة أخرى.

نماذج عملية مفيدة

و يجب ألا ننسى مثلا نموذجيا مهما، و هو أن الحكم كثيرا ما يكون حجة لخاسر الدعوى نفسه، مدعيا أو مدعى عليه، فقد يرفع شخص الدعوى، و تجري فيها المسطرة شكلا و موضوعا، ثم تنتهي ابتدائيا أو استئنافيا بعدم القبول أو عدم الاختصاص، و رغم ذلك فإن المدعي لا يكون أمام حكم لا يعطيه أي شيء، لأنه إذا أعاد رفع الدعوى يستطيع أن يستفيد من كل ما سجله الحكم لفائدته، ضدا على خصمه، فلا يستطيع هذا، أن يتهرب من إقرار صريح أو ضمني، صدر لفائدته المدعي كليا أو جزئيا، في دعوى انتهت مثلا بعدم الاختصاص أو عدم القبول.

كما أن المدعى عليه نفسه، يستطيع أيضا، فيما إذا تجددت عليه الدعوى، أن يستفيد من كل ما كان لفائدته من أقوال المدعي أو حججه أو ردوده، بحيث إذا طلب المدعي مبلغا، باعتباره جزءا من دين سبق أداء بعضه، فإنه لا يستطيع حين يكرر الدعوى أمام المحكمة المختصة، أن يطالب بالدين كله، متجاهلا إقراره السابق بأداء البعض.

كما أن من هذه النتائج المهمة أن يصدر من أحد الأطراف كلام يتضمن أقرارا لأجنبي عن الدعوى كأن يجيب المدعى عليه، بأنه يجوز المدعى فيه بالكراء من الغير لا من المدعي، فيكون الحكم حجة لهذا الغير في ثبوت الاقرار له بما ذكر.

إن الأمثلة التي يمكن أن تساق، نماذج للحجية التوثيقية للأحكام كثيرة جدا، يصعب استقصاؤها، وهي تدل على أن للحكم حجية أخرى، عامة مطلقة، لا تتقيد بأطراف ولا بموضوع ولا بسبب ولا بأي قيد من القيود، الموضوعة لحجية الأمر المقضي، و إنها بهذا تقوم بوظيفة مهمة في الإثبات، زيادة على وظيفتها المعروفة لحسم النزاع بين المتقاضين، و إقرار الحقوق بين الناس.

الطعن في الحجية التوثيقية للأحكام

ولابد بعد أن عرفنا الجانب التوثيقي للأحكام، و الحجية الناشئة عن ذلك و كيف تنعقد، من أن نعرف كيف تنفك و تزول عند الاقتضاء إذا رغب من له المصلحة.

فإذا كان معلوما أنه يمكن الطعن في الأحكام بالطرق المعروفة، بشروطها المفصلة في القوانين المسطرية، فإن هذا لا يكفي و لا يجوز، للمنازعة في الحجية التوثيقية للأحكام، لأنه خاص بالجانب المتعلق بكونها أحكاما باتة في الخصومة القضائية، أو بكونها قرينة تنتج حجية الأمر المقضي.

و على سبيل المثال فإن المحكوم عليه، الذي يريد أن يدعي على المحكمة، أنها سجلت عليه اعترافا لم يفه به، أو تصرفا لم يقم به، لا يُجديه أن يطعن في الحكم بالاستئناف أو غيره، ولا يكون هذا مقبولا منه وسيلة للطعن، لأنه في هذه الحالة يريد أن يكذب القاضي فيما سجله عليه بالمعاينة أو السماع أو هما معا، وليس فيما قضى به عليه: أي أنه يريد أن يجرّح القاضي في أمانته و ليس في اجتهاده، وأن ينازع في الصفة التوثيقية للحكم، من حيث كونه يتضمن إشهادا موثقا و من حيث كونه ورقة رسمية.

غير أن هذا لا يعني استحالة كل منازعة من هذا النوع، ترمي إلى دحض ما ورد في الحكم بتوثيق رسمي، لأن المشرع حسب مقتضيات المادة 419 من قانون الالتزامات و العقود أجاز هذه المنازعة ووضع لها طعنا من نوع آخر هو الطعن بالزور، بأن يتهم الطاعن من له الصفة الرسمية لتحرير الحكم، بانه سجل عليه فيه، عن عمد و سوء نية، ما لم يفعله أو يقله، مرتكبا بذلك الجريمة الجنائية المنصوص عليها و على عقوبتها في المواد 251 وما بعده من القانون الجنائي.

و بذلك يكون المشرع قد فتح أمام ذي المصلحة، طريقا للمنازعة في الجانب التوثيقي للأحكام، و لكن بطعن آخر يتجلى في دعوى أصلية يثيرها و يبلغ عنها حسب القواعد المسطرية المعمول بها. وبتمكنه من إثباتها، يصل إلى مراده و يحصل على حكم داحض لما أنكره، بحجية الأمر المقضي أو القرينة القانونية.

و بالنظر إلى أن الحجية التوثيقية للحكم لا تقتصر على طرفيه بل تتعداهما إلى الغير كما سلف شرحه، فإن هذا الطعن مفتوح أمام كل متضرر من حجية الحكم في جانبه التوثيقي، ولو لم يكن طرفا فيه.

فكما يجوز لاحد أطراف الدعوى، إذا أراد إنكار المسجل عليه في الحكم من حضور أو غياب أو اعتراف، أن يستعمل دعوى الزور، يحق كذلك للشاهد، الذي يريد أن يدعي أن المحكمة سجلت عليه فعلا لم يأته أو قولا لم يفه به، أن يسلك نفس المسطرة و هو ما يجوز كذلك لغير الشاهد، ممن يكون محجوجا بمحتويات الحكم على النحو الذي سلف.

فالأحكام من حيث كونها باتّة في الخصومة القضائية، تكتسب حجية الأمر المقضي، التي لا يمكن الطعن فيها، إلا من أطرافها بالطرق المعروفة[2] ، ومن حيث كونها ورقة توثيقية لها حجية رسمية، لا يمكن الطعن فيها إلا بدعوى الزور، التي يمكن أن يثيرها كل متضرر، و لو لم يكن طرفا في الخصومة القضائية.

[1] حسب مقتضيات الفصلين 450 و 451 من قانون الالتزامات و العقود.

[2] مع مراعاة الاستثناء المتعلق بالطعن باعتراض الغير الخارج عن الخصومة حسب مقتضيات المادة 303 و ما بعدها من قانون المسطرة المدنية.

بقلم ذ أحمد باكو
محامي بهيئة الدار البيضاء

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.