اللغة العربية والقضاء
القاضي عبدالستار بيرقدار
لقد كان للغةِ العربية شأنُها الكبير في مسيرة الحضارات بما لها من خصائصِ العراقة في تكوينها، وسلامة أصولها، وغزارة مفرداتها، وانفتاحها على التطور، وهي خصائص جعلتها تتشرف بنزول القرآن الكريم معجزةً خالدةً من الهداية والبلاغة، وقيم الحق والخير، حتى أن تواصـلَ تطورهـا يفصـح عن نهضـة الأمة.

وتزداد أهميتها سواء كان في التعويل عليها في التربية والتعليم، أو في الإعلام، أو الفقه، أو التشريع والقضاء.. إلخ. فاللغة إذن هي الجسرُ الذي نعبر بواسطته إلى حضارة الأمم، وتراثها المعرفي، والثقافي، والتشريعي.

ولما كانت الأحكام القضائية عنواناً للحقيقة؛ ولأن اللغة هي وسيلة الإيصال والاتصال، فإن العناية باللغة في الأحكام القضائية تغدو مهمة أهمية الحقيقة نفسها، لأن الحقيقة في الأحكام يُعبَّر عنها باللغة، إذ تأتي الأحكام القضائية مفسرة للنصوص القانونية بمناسبة تطبيقها على الوقائع، بل إن المنطق يشكل في معظم الأحيان وسيلة إقناع واقتناع في مضمون الحكم القضائي، هذا المنطق إذا لم تكن وسيلته اللغة سليمة فإنه لن يؤدي مهمته.

إن إعمال قواعد الإقناع والاقتناع هو الذي يضفي المصداقية الحقيقية إلى الأحكــام القضائيــة، وهـذه تقــوم بشكــل أسـاسي على توظيف الأسلـم والأصح في صياغة الأحكام، هذه الصياغة التي تمثل الصورة التي تظهر فيهـا ما توصلت إليـه المحكمـة من قناعـة، وهذه القناعـة تختلف باختلاف الصياغة، فالصياغة إذن هي المعبرة عما توصلت إليه المحكمة من قناعة، وكثيراً ما تظهر حالاتٍ تكتنفها أخطاء قضائيةٌ وإجرائية لا ينبغي أن تكون جراء فقدان هذه المعرفة، ولا يعني ذلك صدوداً من القاضي أو المشرع عن إتقان لغةٍ ثانية بالإضافة إلى لغته الأصلية، بل العكس، هو أمرٌ مستحب ومستحسن في تأهيله، لأن من شأن ذلك اطلاعه على تجارب الآخرين واستفادتهُ من ثقافتهم، فضلاً عن أنه يوسع الإدراك، ويقوي ملكة التحليل والمقارنة، من هنا كان إتقانُ اللغة العربية أهم المهارات الأساسية المطلوبَ توفرُها في من يمارس القضاء والتشريع، ولعل لغتنا العربية من أقوى اللغــات في التعبيــر، والإقنـاع ولمـا كـانـت عمليـة تسبيب الأحكام القضائية وتعليلِها تهدف وبحد كبير إلى الإقناع، فإن تحقيق هذا الهدف لا يكون إلا باستعمال مستوى اللغة وقوتها.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت