القيود التي ترد على سرية المراسلات في مجال الحياة الزوجية :

يمتلك كل من الزوجين مع الآخر حياة مشتركة بحكم علاقة الزوجية، وأن ذلك يسمح لكل منهما بحكم إقامتهما في مكان واحد أن يطلع على مراسلات الأخر التي تصل في هذا المكان. فهذه الحياة المشتركة وعلاقة الزوجية تتضمن الرضاء بهذا الاطلاع(1). وقد ثار البحث عما إذا كان يجوز للزوج الذي يفتح خطاب زوجته أن ينشر ما فيها من أسرار، وأيضا فيما إذا كان الزوج يملك أصلا حق الاطلاع على مراسلات زوجته؟ أن وجود حياة خاصة مشتركة بين الزوجين لا تحول دون وجود الحق في سرية المراسلات كحق من حقوق الإنسان لكل من الزوجين، يسمح له بوجود أسراره التي يحميها القانون، فلا يجوز للزوج أن يفشي أسرار الحياة الخاصة للزوج الآخر إذا لم يحصل عليها بالطريق القانوني حتى بعد إنهاء العلاقة الزوجية بينهما(2). ويترتب على ذلك عدم جواز استيلاء أحد الزوجين على مراسلات الآخر، ولكن متى تسلم الخطاب بواسطة المرسل إليه فإن للزوج الآخر أن يطلع على الخطاب بشرط أن لا يتم ذلك بطريق غير مشروع، مثل كسر الدولاب الخاص بالزوجة أو فتح حقيبة يدها(3). وقد ذهب اتجاه في الفقه الفرنسي إلى تقرير الحق للزوج في الرقابة على خطابات زوجته، فيستطيع فتح الخطابات التي تكتبها أو تتلقاها كما يستطيع حجزها وتمزيقها. أما موقف القضاء في فرنسا فقد ذهب في بادئ الأمر إلى أن للزوج حق مراقبة المراسلات الخاصة بزوجته أما الزوجة فليس لها حق مراقبة مراسلات زوجها(4).

إلا أن موقف القضاء الفرنسي قد تغير بعد أن اصبح الزوجان على قدم المساواة فيما يتعلق بحقوق والتزامات كل منهما بموجب قانون 18 فبراير 1938م، الذي حرم الزوج سيادته المنزلية والسلطة الزوجية التي كان يمتلكها وألغى واجب مطاوعة الزوجة لزوجها، ولم يعد للزوج أي حق في الرقابة على مراسلات زوجته المرسلة للغير. ومن ثم فإنه لا يجوز للزوج الاستناد على خطاب مرسل إلى زوجته وفتحه في أثناء غيابها وأخذ علم بما فيه تأييداً لطلب الطلاق(5). فقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأن الزوج الذي يفتح رسالة خاصة بزوجته يقع تحت طائلة المادة (187) من قانون العقوبات الفرنسي فلا يستطيع الزوج الاحتماء بنص المادة (380) من نفس القانون التي لا تعاقب على السرقات الحاصلة بين الأزواج. كما قضت محكمة جنح السين الفرنسية في 16 مارس سنة 1961م بإدانة زوج أخفى خطاباً مرسلاً إلى زوجته، وقالت المحكمة أن جريمة الإخفاء تختلف تماماً عن جريمة السرقة وبالتالي لا يستفيد الزوج من الإعفاء المنصوص عليه في المادة (380) من قانون العقوبات الفرنسي(6). لأن التعدي على المراسلات بالفتح أو الإخفاء لا يمس الزوج أو الزوجة فقط وإنما يمس الطرف الآخر في المراسلة وهو ليس من أعضاء الأسرة (7). وثار تساؤل حول مدى تأثير إلغاء المشرع الفرنسي للسلطة الزوجية بموجب قانون 18 فبراير 1938م على إمكانية تقديم المراسلات أمام القضاء. هل أنتهي تقييد الحق في سرية المراسلات باعتبارات الحق في الإثبات أم مازال هذا الاستثناء قائماً. لاشك أنه وفقاً للمبدأ القانوني الذي أوجده المشرع الفرنسي بإلغائه للسلطة الزوجية التي كانت ممنوحة للزوج على زوجته فإنه يمتنع على أي من الزوجين أن يقدم أمام المحاكم خطاباً يخص زوجه الآخر كدليل لإثبات دعواه . على أن القضاء الفرنسي لم يُعمل هذا المبدأ على إطلاقه فذهب إلى تغليب الحق في الإثبات على الحق في الحياة الخاصة(8). وسرية المراسلات. فقد استقر قضاء محكمة النقض الفرنسية على أنه يوجد هنالك حق رقابة متبادلة لكل من الزوجين على مراسلات الآخر ومن ثم فإنه يجوز تقديمها للإثبات أمام القضاء خاصة إذا كانت هنالك شكوك قوية حول سلوك الزوجة، وبذلك يكون هنالك مساواة بين حقوق الزوجين ، ويشترط في جميع الأحوال الحصول على المراسلات بطريق مشروع دون تحايل(9). فلا يجوز لأي من الزوجين الاستيلاء على مراسلات الآخر، وفتحها من دون أذنه فهي رقابة متبادلة لا تبدأ إلا في اللحظة التي يتسلم فيها المرسل إليه الخطاب ويفضه. والرقابة لا تعتبر استثناء على مبدأ سرية المراسلات الخاصة فقط ولكنها تعتبر استثناء على مبدأ حرمة المراسلات الذي يعتبر من مبادئ القانون العام. ويجد الحق في الرقابة المتبادلة مبرره في القيود التي توجبها الالتزامات والواجبات الناشئة عن الزواج على الحرية الفردية لكل من الزوجين، ولما كان حق الرقابة المتبادلة يجد أساسه في رابطة الزوجية فإن هذا الحق لا يقوم قبل دعوى الطلاق فقط ، وإنما يظل قائماً أثناء نظر دعوى الطلاق بل أن هذا الحق يظل قائماً بعد الطلاق وذلك فيما يتعلق بكل ما يكون له صلة بالروابط الناشئة عن الزواج مثل المسائل المتعلقة بحضانة الطفل(10).

أما في العراق، فقد نصت المادة (87) من قانون الإثبات العراقي لعام 1979م على أنه (لا يجوز لأحد الزوجين في دعوى الزوج الآخر أن يفشي بغير رضا الآخر ما أبلغه إياه أثناء قيام الزوجية أو بعد انتهائها) وحكمة المنع هنا واضحة وهي المحافظة على نوع من الثقة في علاقات إنسانية متميزة في خصوصيتها(11). كذلك لا يجيز قانون الإثبات المصري في المادة 67 منه لأي من الزوجين أن يفشي بغير رضاء الآخر ما أبلغه إليه إثناء الزوجية ولو بعد انفصالهما، في حالة رفع الدعوى من أحدهما على الآخر(12). ويلاحظ أن كل من المشرع العراقي والمشرع المصري ،قد حظر على أي من الزوجين إفشاء أسرار الآخر ،ومنها المراسلات الخاصة. ونجد أيضا” أن القضاء الجنائي الفرنسي لم يجز الاستناد إلي أدلة غير مشروعة وليدة الاعتداء على الحرية الشخصية في حالة ألا دانه، أما إذا تعلق الأمر ببراءة المتهم فقد أجاز القاضي الجنائي الفرنسي الاستناد إلى خطاب شخصي حتى لو تضمن أسرار شخصية في تأكيد براءة المتهم ومرد ذلك يعود إلى أن الأصل في الإنسان البراءة(13). ويلاحظ مما سبق أن الحق في الخصوصية قد يتنازع مع الحق في الإثبات ويقوم القضاء بتغليب أحد الحقين على الآخر حسب الأحوال والشروط فهو يسعى إلى تحقيق العدالة فيعطي الحل المناسب في كل حالة على حدا (14).

______________________

1- طارق احمد فتحي سرور، الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر، دار النهضة العربية، القاهرة، 1991م، ص55.

2- د. عباس الصراف و د. جورج حزبون، مدخل إلى علم القانون، مرجع سابق، ص236.

3- د. جلال علي العدوي و د. رمضان أبو السعود و د. محمد حسن قاسم، الحقوق وغيرها من المراكز القانونية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1996 م، ص341.

4- د. احمد كامل سلامة، الحماية الجنائية لإسرار المهنة، مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي، القاهرة، 1988م، ص195.

5- د. مبدر الويس، أثر التطور التكنولوجي على الحريات العامة، مرجع سابق، ص195.

6- د. احمد كامل سلامة، الحماية الجنائية لأسرار المهنة، مرجع سابق، ص196.

7- د. أدوار غالي الذهبي، التعدي على سرية المراسلات، مرجع سابق، ص282.

8- د. ممدوح خليل بحر، حماية الحياة الخاصة في القانون الجنائي، مرجع سابق،
ص251.

9- حسام الدين الاهواني، الحق في احترام الحياة الخاصة، مرجع سابق، ص357.

10- د. حسام الدين الاهواني ، المرجع السابق ، ص358 .

11- د. آدم وهيب النداوي، الموجز في قانون الإثبات، جامعة بغداد، بيت الحكمة، 1990م، ص94.

12- سار بنفس الاتجاه قانون الإثبات الأردني لسنة 1952م (م 38) .

13- د. ممدوح خليل بحر، حماية الحياة الخاصة في القانون الجنائي، مرجع سابق، ص252.

14- د. حسام الدين الاهواني، الحق في احترام الحياة الخاصة، مرجع سابق، ص367.

القيود التي ترد على سرية المراسلات في مجال الأهلية :

أولاً: عدم توافر الأهلية المدنية

يعتبر السن من أهم العوامل التي تتأثر بها أهلية الإنسان، والأهلية هي قدرة الشخص على إجراء التصرفات القانونية. ولهذا كان مناط الأهلية هو التمييز والإرادة، ولما كان التمييز يكتمل تدريجياً لدى الإنسان بحسب السن فإن الأهلية تتدرج هي أيضاً تبعاً لذلك(1).ووفقاً للقواعد العامة التي تخول الآباء مباشرة جميع حقوق الأبناء والبنات القصر أو بعضها (2).وذلك بسبب عدم اكتمال أهليتهم لصغر سنهم، أي وصولهم إلى سن الرشد والذي تكتمل أهليتهم به ويصبحون كاملي الإرادة والتمييز، وتختلف النظم القانونية في تحديد سن الرشد .فالقانون المدني الأردني لعام 1976م وفي المادة 43 منه يحدد سن الرشد بثمان عشره سنة شمسية كاملة، وكذلك حدد القانون المدني العراقي لعام 1950م وفي المادة 106 منه سن الرشد بثمان عشره سنة أيضاً من دون أن يصف السنين بأنها شمسية، ولكنه نص في المادة (9) منه على أن تحسب المواعيد بالتقويم الميلادي ما لم ينص القانون على غير ذلك، ومن المعلوم أن التقويم الميلادي يأخذ بالسنة الشمسية وهي أطول من السنة القمرية بأحد عشر يوماً(3). وكذلك حدد قانون العقود والموجبات اللبناني لسنة 1932م في المادة (215) منه سن الرشد بثمان عشره سنة، أما القانون المدني المصري لعام 1948م وفي المادة (44) منه فقد حدد سن الرشد بإحدى وعشرين سنة ميلادية وهو سن مرتفع بالنسبة لمعظم القوانين العربية الأخرى. وكذلك نجد القانون اليمني الصادر في 29 مارس 1992م قد حدد في المادة (51) منه سن الرشد بخمس عشرة سنة ميلادية وهو سن منخفض جداً ولا يوجد له مثيل في معظم القوانين العربية الأخرى. ويمكن لنا الاستنتاج استنادا” للقواعد العامة المقررة لحق الولاية للآباء على أبناءهم القصر، هذا الحق الذي يعطي الإنسان صلاحية على مال غيره، ويخول الأباء بأن يقوموا مقام أبناءهم القصر في إجراء التصرفات القانونية نيابة عنهم وتنفيذ الالتزامات التي تترتب في ذمتهم وهي نيابة قانونية مصدرها النص القانوني(4). ذلك بأن حق الولاية(5). يتسع ليشمل كثيراً من تصرفات القصر ومنها تصرفاتهم في مراسلاتهم. ومن القوانين العربية التي نصت على حق الولاية القانون المدني الأردني لعام 1976م في المادة (123) منه الذي منح هذا الحق للأب وحده دون الأم ثم وصي الأب ثم الجد الصحيح ثم وصي الجد ثم المحكمة ثم وصي المحكمة.وكذلك منح قانون رعاية القاصرين العراقي رقم 78 لعام 1980 في المادة 27 حق الولاية للأب ثم للمحكمة(6). كما ورد النص على حق الولاية في بعض قوانين الأحوال الشخصية العربية، فقد تناول قانون الأحوال الشخصية السوري لعام 1953م في المواد من 21 إلى 25 من الفصل الثالث منه حق الولاية، وذهب في نفس الاتجاه قانون الأحوال الشخصية التونسي لسنة 1956م في الفصل الثامن منه وكذلك مجلة الأحوال الشخصية المغربية لعام 1957م في الفصول من 11 إلى 13.

ثانيا: عدم توافر الأهلية العقلية

تُعد الحالة الصحية للأفراد عاملاً مهماً في تقرير أهليتهم، أي قدرتهم على التمييز والإدراك وبالتالي إجراء التصرفات القانونية بمفردهم. فقد يصاب الإنسان أثناء حياته بعارض صحي يعطل إرادته، أو يؤثر عليها ومن هذه العوارض الجنون والعته والسفه والغفلة. ويتأثر حق الفرد في سرية المراسلات بهذه العوارض، فقد أجازت بعض التشريعات للمسؤولين عن المصابين بالأمراض العقلية أو من له حق الولاية عليهم الاطلاع والرقابة على مراسلات هؤلاء المصابين. ففي فرنسا أجاز المشرع لمدير مستشفى الأمراض العقلية حق الرقابة على الرسائل المرسلة إلى المرضى وذلك على أساس المبادئ القانونية لكونهم عديمي الأهلية، كما أنه من الطبيعي أن يفتح طبيب مستشفى الأمراض العقلية جميع المراسلات التي تصل إلى المجانين الذين يعالجهم ويقرأها، لكن هذا الحق الممنوح لأطباء مستشفى الأمراض العقلية لا يمنحهم حق إخفاء الخطابات المرسلة إلى السلطات القضائية أو السلطات الإدارية من هؤلاء المجانين ولعل حكمة المشرع الفرنسي في ذلك تعود إلى أن هذه الخطابات لا يمكن أن تشكل خطراً على الشخص طالما أنها مرسلة إلى جهات قضائية أو إدارية، ومن جهة أخرى فإنه من العدل السماح للمجانين الاحتفاظ بحقوقهم، وقد قرر القضاء بأنه إذا كان الأمر يتعلق بخطابات لها صفة أخرى فلا يجوز للطبيب أن يحجزها إلا إذا تبين من مضمونها الإضرار بمصلحة المريض أو الغير وذلك في حالة ما إذا كانت تكشف عن الاضطرابات العقلية للمريض . فيجب أن تحترم مصالح المريض والغير والنظام العام(7). وسار بذلك الاتجاه القانون المدني العراقي في المادة (94) منه التي اعتبرت الجنون عارض يفقد الشخص الأهلية فلا يعتد بأقواله وأفعاله. وكذلك أورد المشرع المصري استثناء على حرمة المراسلات متعلق بنزلاء مستشفيات الأمراض العقلية بهدف علاجهم من أمراضهم(8). وقد أخذت بعض التشريعات العربية(9). بقواعد الأهلية وتكاد تكون أحكامها موحدة في هذا الشأن واعتبرت الجنون عارض صحي يعطل إرادة الإنسان وإدراكه بحيث يمتنع عليه التمييز بين الخير والشر وبين الصالح والطالح في كثير من الأحيان(10). ومرجع الولاية في التشريعات العربية هو الشريعة الإسلامية التي تقسم الولاية إلى نوعين ولاية على النفس وولاية على المال. وعمل الولي على النفس بالنسبة للمجنون هو كعمله بالنسبة للصغير، إذ أن كليهما واجه الحياة، بغير سلاح من العقل الذي يدبر الأمور، ويجعل صاحبه قادراً على الدفاع عن نفسه(11).

______________________________

1- د. عبد المنعم فرج الصده، أصول القانون، دار النهضة العربية، بيروت، 1978م، ص449.

2- القاصر : هو من لا يكون أهلاً لمباشرة حقوقه جميعها أو بعضها بسبب صغر سنه، أنظر في ذلك المادة 45/1 قانون مدني مصري.والمادة97 مدني عراقي

3- د. عبد المجيد الحكيم، الكافي في شرح القانون المدني الأردني والقانون المدني العراقي والقانون المدني اليمني في الالتزامات والحقوق الشخصية، الشركة الجديدة للطباعة، عمان، الطبعة الأولى، 1993م، ص287.

4- د. عباس الصراف و د. جورج حزبون، المدخل إلى علم القانون، مطبعة كتابكم، عمان، 1985م، ص160.

5- الولاية لغة: المعونة والمحبة والنصرة، واصطلاحاً: يراد بها حق تنفيذ القول على القاصر ومن في حكمه كالمجنون والمعتوه والسفيه والتصرف والإشراف على شؤونه.أنظر في ذلك: القاضي عباس زياد السعدي والقاضي محمد حسن كشكول، شرح قانون الأحوال الشخصية رقم 188، سنة 1959 وتعديلاته، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، هيئة المعاهد الفنية، معهد الإدارة التقني،1994، ص81.

6-عبد الباقي البكري وزهير البشير ، المدخل لدراسة القانون ، جامعة بغداد ، بيت الحكمة ، ص295

7- د. مبدر الويس، أثر التطور التكنولوجي على الحريات العامة، مرجع سابق، ص302.

8- د. ماجد راغب الحلو، القانون الدستوري، مرجع سابق، ص422.

9- أنظر القانون المدني العراقي لسنة 1950م (م 94) والمدني الأردني لعام 1976م (م 128/2) والقانون المدني الليبي (م113) .

10 د. عباس الصراف و د. جورج حزبون ، مدخل إلى علم القانون ، مرجع سابق ، ص154 .

11- الإمام محمد أبو زهرة، الولاية على النفس، دار الفكر العربي، بدون تاريخ، ص5

المؤلف : محمد قاسم الناصر
الكتاب أو المصدر : الحق في سرية المرسلات في بعض النظم الدستورية

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .