المبررات القانونية للأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات :

لقد اتجه الفقهاء إلى تقسيم وظائف الدولة على ثلاث وظائف أساسية هي: الوظيفة التشريعية والوظيفة التنفيذية والوظيفة القضائية(1). فالوظيفة التشريعية تقوم بمهمة وضع القواعد القانونية التي تنظم كل نشاط من النشاطات التي تجرى داخل الدولة، وتحدد السلوك العام للافراد في الدولة والمجتمع. أما الوظيفة، التنفيذية فمهمتها تنفيذ القواعد القانونية التي تضعها السلطة التشريعية لكي تضمن سير أجهزة الدولة في إطار هذه القواعد في حين تنحصر مهمة الوظيفة القضائية في الفصل في المنازعات والخصومات التي تنشأ بين الأفراد ومعاقبة الخارجين عن القانون بناء على القواعد التي تضعها السلطة التشريعية(2). ويحقق مبدأ الفصل بين السلطات العديد من المزايا، إذ يعد هذا المبدأ خير ضمانة لحماية حقوق وحريات الافراد، ومنع الحكام من الاستبداد واساءة استعمال السلطة، فجمع السلطات بيد شخص واحد أو هيأة واحدة يتيح الفرصة لأساءة استعمال السلطة وانتهاك حقوق وحريات الأفراد من دون وجود رقيب، ومن دون إعطاء فرصة للافراد للدفاع عن حقوقهم وحرياتهم امام جهة اخرى، أما توزيع السلطات بين عدة هيأت عديدة مع الفصل بينها، فانه يفسح المجال لكل هيأة في مراقبة أعمال الهيأتين الاخريين. بما يؤدي إلى منعها من التجاوز أو الاساءة وانتهاك حقوق وحريات الأفراد وقد عبر عن هذه الميزة المفكر الفرنسي (مونتسكي) و (إن مبدأ الفصل بين السلطات قد وجد لكي توقف كل سلطة من السلطات الأخرى عند حدها وانه إذا اجتمعت سلطتان أو اكثر في يد واحدة انعدمت الحرية ولو كانت يد الشعب ذاته)(3). كذلك فان مبدأ الفصل بين السلطات يؤدي إلى ضمان تحقيق مبدأ المشروعية وسيادة القانون(4). فحتى تحترم سلطات الدولة حدودها، واختصاصات كل منها يجب الفصل بينها عضويا وموضوعيا، ويجري ذلك بتخصص عضو أو هيأة لكل وظيفة من وظائف الدولة، وتمارس وظيفتها طبقا للاختصاص المحدد لها بالدستور، بغير اعتداء منها على اختصاص غيرها من الهيأت، وهذا لا يتحقق إلا بتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات ، إذ إن كلا منها ستصد اعتداء الهيأة الأخرى في حالة وقوعه(5).

ويقوم مبدأ الفصل بين السلطات على توزع عبء الوظائف الرئيسة للدولة، فبدلا من إن نقوم بهذه الوظائف جهة واحدة، فتعجز عن القيام بمسؤوليتها بالقدر اللازم من الكفاية والقدرة ، فتقوم بهذه الوظائف ثلاث هيأت ولاسيما بعد إن ازدادت المهام التي تقوم بها الدولة، وزاد تدخلها في مختلف شؤون الحياة. وكذلك فأن هذا المبدأ يتفق مع مبدأ اداري مهم هو مبدأ (التخصص وتقسيم العمل) والذي لا غنى للدولة الحديثة عنه، فبمقتضى هذا المبدأ يقسم العمل إلى اجزاء عديدة حسب نوع التخصص لكل جزء منها. ومن ثم يعهد بكل جزء إلى الخبراء المتخصصين فيه تخصصا دقيقا في نوعية المهام والمسؤوليات التي يتضمنها ذلك الجزء، ليقوموا بأدائها بالكفاية التي تتناسب مع تخصصهم، ومن ثم يجري انجاز العمل بقدر كبير من الكفاءة والقدرة(6). وبعد هذا الاستعراض للمفاهيم المختلفة لمبدأ الفصل بين السلطات نشير إلى إن مفهوم رجال الثورة الفرنسية لمبدأ الفصل بين السلطات والذي ادت للآخذ به ظروف فرنسا الخاصة والمتمثلة في العلاقة السيئة بين القضاء (البرلمانات القضائية) والادارة في العهد الملكي. وعندما فكر رجال الثورة الفرنسية بابعاد القضاء نهائيا عن الإدارة ومنع القضاء من مقاضاة رجال الإدارة أو مساءلتهم عن اعمالهم استندوا إلى تفسيرهم لمبدأ الفصل بين السلطات والذي يعني الفصل المطلق والتام بين السلطات ولاسيما بين الإدارة والقضاء. وقد تضمنت التشريعات التي صدرت في السنوات الاولى للثورة الفرنسية نصوصا تمنع القضاء من التدخل في عمل الإدارة أو مقاضاة الموظفين. وقد قاد هذا المنع إلى انشاء قضاء اداري متخصص للفصل في المنازعات الإدارية كانت أول مرحلة فيه ( مرحلة الإدارة القاضية) إذ انيط بالادارة نفسها مهمة الفصل في الدعاوى التي تقام ضد الإدارة. ثم انشأ نابليون في السنة الثامنة للثورة الفرنسية (مجلس الدولة) إلا إن قضاءه لم يكن باتا وانما كانت احكامه بحاجة إلى تأييد من رئيس الدولة لنفاذها. ثم جاءت الخطوة الاخيرة بالقانون الصادر في مايس 1872 الذي اعطى للقضاء الاداري سلطة البت النهائي في القضايا التي يختص بها وسمي القضاء البات أو المفوض. لقد تركت التطورات المذكورة اثرها على اختصاصات القاضي الاداري وحددت دورة في الحكم في الدعاوى بالالغاء أو التعويض. وان لا يتعدى دوره إلى خارج نطاق النظر في مشروعية القرار المطعون فيه ومن ثم إلغاؤه من عدمه. وهذا ما سنفصله في الفصول الاتية، أما الاثر الذي تركه مبدأ الفصل بين السلطات على دعوى الإلغاء ،فأن جانب كبير الفقه يرى أن الاساس الذي بنيت عليه (نظرية الفصل بين السلطات) هو منع الإدارة من التدخل في اعمال القضاء أو ممارسة اي اختصاص قضائي يدخل ضمن ولاية المحاكم ومنع المحاكم بدورها من التدخل في اعمال الإدارة . وفي حقيقة الأمر أن نظرية الفصل بين السلطات تتألف من مبدأين اساسيين هما:-

الأول : التخصص في اداء الوظائف الدستورية ، وهذا يعني أن الوظائف الإدارية والقضائية والتشريعية تعهد كل منها إلى هيأة معينة .

الثاني : استقلال الهيأت القائمة بتلك الوظائف في مواجهة بعضها البعض. وعلى اساس هذه النظرية كان لمبدأ الفصل بين السلطات اثره في دعوى الالغاء بان جعل حدود سلطة القاضي محكومة بسلطة إلغاء القرار الإداري المعيب فقط ، لكن دعوى الالغاء دخلت مرحلة جديدة اضحى من خلالها قاضي الالغاء يتمتع بسلطة اصدار اوامر للادارة واتخاذ مايراه مناسباً لتنفيذ مايصدره من احكام.

_________________________

1- د. ثروت بدوي: النظم السياسية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1972،ص321.

2- منذر الشاوي: القانون الدستوري (نظرية الدولة) مركز البحوث القانونية، بغداد،1981،ص190-191.

3- سليمان الطماوي، السلطات الثلاث، مصدر سبق ذكره، ص448، و د. محسن خليل، القانون الدستوري والنظم السياسية، مرجع سابق ص 554، د. احمد حافظ عطية نجم، الفصل بين السلطات، مرجع سابق. ص 89.

4- سامي جمال الدين: اللوائح الإدارية وضمانة الرقابة القضائية، مرجع سابق، ص51

5- سليمان الطماوي: السلطات الثلاث، مرجع سابق،ص449

6- احمد حافظ عطية نجم: الفصل بين السلطات وتطور العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الدساتير المصرية، مجلة العلوم الإدارية ،القاهرة ،العدد الأول ،ص90.

المبررات التاريخية للأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات :

تعود نشأة مبدأ الفصل بين السلطات إلى العصور القديمة عندما اشار اليه الفيلسوف اليوناني (افلاطون) في كتابة القوانين، إذ اكد ضرورة توزيع وظائف الدولة على هيأت متعددة وعلى أهمية وجود نوع من التوازن والتعاون بين هذه الهيأت منعا للاستبداد وتحقيقا للمصلحة العامة(1). ثم اكد المبدأ نفسه الفيلسوف اليوناني (ارسطو ) في كتابه( السياسة)، إذ زاد على استاذه فقسم وظائف الدولة إلى ثلاث وظائف أساسية هي: الوظيفة التشريعية والوظيفة التنفيذية والوظيفة القضائية(2).وينبغي الاشارة كذلك إلى إن العديد من المفكرين الذين تناولوا الموضوع مثل (ارسطو، شييشرون، يوليس، ليزون) وغيرهم من الفلاسفة الاغريق والرومان بينوا وظائف الدولة المتعددة، إذ يصبح من الصعوبة لشخص وحده إن يمسك وحدة زمام السلطة.

فلقد قسم ارسطو وظائف الدولة على النحو الاتي (3).

1-المشاورة أو المناقشة.

2-الإدارة

3-القضاء

وتنصب المشاورة في المشاكل العامة مثل اعلان الحرب او اقرار السلم أو عقد المعاهدات أو إصدار القوانين… الخ أي أنها تنصب في المسائل السياسية العامة . أما الكتاب المحدثون(4). فتدل المشاورة عندهم على سلطة جديدة في الدولة تقف من وراء السلطة التشريعية. وهي الرأي العام والصحف وكل ما من شأنه التعبير عن الارادة العامة. وان هذه السلطة تقوم بمهمة المفكر للسلطة التشريعية. أما وظيفة الإدارة التي تحدث عنها ارسطو فتقابلها السلطة التنفيذية في الدول الحديثة. في حين إن الوظيفة الثالثة تقابلها السلطة القضائية . وعلى الرغم من إن تقسيم ارسطو غير واضح إلا انه مع ذلك يمثل ما كان معمولا به فعلا عند الاغريق القدماء أما العصور الوسطى في اوربا فلم تكن تفرق بين سلطات الدول تماما. إذ كان الملك يقبض (يجمع) في يده كل السلطات(5). ثم جاء بعد ذلك (جان بودان) في اوائل العصور الحديثة ونادى برأي يشبه إلى حد ما نظرية (مونتسكيو) في الفصل بين السلطات بعد إن دعا إلى وضع السلطة القضائية في يد مستقلين وهو رأي مستمد من نظام الحكم في فرنسا إذ نقل ملوكها السلطة القضائية إلى محاكم مستقلة محتفظين لأنفسهم بحق التأييد. لقد تأثر (مونتسكيو) أثناء زيارته لبريطانيا بنظامها السياسي، ولهذا فيمكن إن تعد فكرته عن وظائف السلطات انعكاسا لما هو موجود في النظام البرلماني في ذلك الحين وقد استعرض هذا النظام في القسم الرابع من الكتاب السادس من مؤلفه (روح القوانين) سنة 1748م(6). وقد ركزت فكرته على الفصل بين السلطات من زاوية ضمان الحرية السياسية وبصورة ادق على (الامان) للفرد (7). ويضيف انه يوجد في كل دولة ثلاثة انواع من السلطة. السلطة لتشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة الثالثة هي السلطة القضائية إذ تستمد الاولى في تسيير شؤونها من القانون العام والسلطة التنفيذية التي تتناول القضايا المتعلقة بالقانون الدستوري(8). فالسلطة الاولى التشريعية التي تعمل بصورة مؤقتة أو دائمية تصلح أو تلغي ما كان قائما أو معمولا به والثانية تعمل في السلم والحرب وتنظيم الشؤون الخارجية للدول(9).أما السلطة الثالثة فهي تعاقب أو تحكم في المخالفات والجرائم والمنازعات الحاصلة بين افراد المجتمع(10). ثم جاء بعد ذلك بقرون عديدة. كل من الكاتب الإنكليزي ( جون لوك) والكاتب الفرنسي (مونتسكيو)، اللذين لهما الفضل في اظهار هذا المبدأ وتطويره إذ إن ( لوك ومونتسكيو) هما أول من قام بايجاد التعاريف الاولية لسلطات الدولة إذ ميزا في تعاريفهما بين الوظيفة التنفيذية التي تقتصر على تنفيذ القوانين واسنادها إلى الحكومة، والوظيفة التشريعية التي تقتصر على وضع القوانين واسنادها إلى البرلمان والوظيفة القضائية التي تقتصر على فض المنازعات التي تنشأ عند تطبيق القوانين واسنادها إلى القضاة، واكدوا ضرورة استقلال كل سلطة عن السلطة الأخرى(11). ويحذر (مونتسيكو) بعد هذا التقسيم الثلاثي إلى القول بانه إذا اجتمعت السلطة التشريعية مع التنفيذية في يد شخص واحد أو تركزت في هيأة واحدة فستنتهي الحرية. وتسلب ارادة الأفراد. إذ إن الحاكم أو المجلس سيقوم بسن قوانين استبدادية وينفذها بطريقة استبدادية كذلك(12). لذا يعطي (مونتسكيو) تعليلا فلسفيا لهذه النتيجة التي انتهى اليها إذ يعتمد على اسس تاريخية وبشرية في إن واحد. إذ يقول ( إن الحرية السياسية لا يمكن إن تتواجد إلا في ظل الحكومات المتعددة)(13). غير إنها لا توجد دائما إذ إنها لا تتحقق إلا في حالة عدم اساءة استعمال السلطة لكن التجربة الابدية اثبتت إن كل انسان يتمتع بسلطة لا بد إن يسيء استعمالها إلى أن يجد الحدود التي توقفه (السلطة تحد من السلطة)(14). ومن خلال ما تقدم يمكننا إن نوجز أفكار (مونتسكيو) بشأن نظرية الفصل بين السلطات بالنقاط الاتية(15). قسم السلطات العامة في الدولة على ثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية وبين المهام الأساسية التي تضطلع بها كل سلطة وهذا التقسيم يختلف عن تقسيم(لوك). لان (مونتسكيو) جعل من القضاء سلطة مستقلة بينما لم يجعله (لوك) بين السلطات العامة للدولة.

1-اكد إن توزيع السلطات وفصلها بهذه الصورة أمر ضروري لأنها لو اجتمعت في يد هيأة واحدة لأدى ذلك إلى الاستبداد، لان طبيعة النفس البشرية مستبدة إلا إن التجارب اثبتت إن الاستبداد قرين الاستئثار بالسلطة.

2-اكد على قيام كل سلطة بمراقبة السلطات الأخرى لوقفها عند الحدود المقررة لها إذا اقتضى الأمر حتى لا تتجاوزها إلى الاعتداء على اختصاصات سلطة أخرى.

_______________________

1- احمد حافظ عطية نجم: الفصل بين السلطات وتطور العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الدساتير المصرية، مجلة العلوم الادارية، ع1،س23، ص85، و د. محمد كامل ليلة، النظم السياسية (الدولة والحكومة) القاهرة ، 1973، ص549.

2- د. محسن خليل: القانون الدستوري والنظم السياسية، ص 553، و د. عبد الحميد متولي: الوجيز في النظريات والانظمة السياسية، ط1959، ص73، و د. احمد حافظ عطية نجم، الفصل بين السلطات، مرجع سابق ص85.

3- بطرس غالي: مبادئ العلوم السياسية – مكتبة الانكلوا المصرية. ، القاهرة 1963-ص481.

4- طعيمة الجرف: نظرية الدولة والأسس العامة للتنظيم السياسي ، مكتبة القاهرة الحديثة، ، القاهرة 1986، ص84.

5- احمد كشكاش وكريم يوسف: الحريات العامة في الأنظمة السياسية المعاصرة ، منشأة المعارف، الاسكندرية 1987

6- مونتسكيو (روح الشرائع) ترجمة عادل زغير، دار المعارف مصر ، ج1، 1953، ص122.

7- حسان العاني: الأنظمة السياسية الدستورية المقارنة، مصدر سابق، ص30.

8- محسن خليل: النظم الدستورية والقانون الدستوري ، المعارف، الاسكندرية ط2،1971،ص248.

9-( دليامن جاكسن):العلوم السياسية ترجمة مهبه الدسوقي -دار الثقافة. ، بيروت 1956،ص125

10- Andre Hauion.Droit.constitionel etinstitution politiques:1970.p.213.

11- عبد الحق محمد عبد المغربي: العلاقة بين السلطتين ، ص26وما بعدها.

12- عبد الغني بسيوني: مصدر سابق،ص265.

13- د. بطرس غالي: مبادئ العلوم السياسية مرجع سابق،ص487.

14- ابراهيم الصغير ابراهيم: مبدأ الفصل بين السلطات بين النظرية والتطبيق، مجلة إدارة قضايا الحكومة، المعهد الدولي للعلوم . السنة (24). العدد 2 نيسان. 1980.ص8

15- عبد الغني بسيوني: النظم السياسية، مصدر سابق،264، انظر أيضا محمد عبد السلام . دراسات في النظم الاتحادية بين النظرية والتطبيق. القاهرة . مكتبة النهضة المصرية. القاهرة، بلا تاريخ ،ص67.

المؤلف : خلدون ابراهيم نوري سعيد العزاوي
الكتاب أو المصدر : مدى سلطة قاضي الالغاء في اصدار الاوامر للإدارة

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .