الوصف القانوني لعمليات الاحتيال والتسويق الوهمي

على نحو متسارعٍ تتقاطر عروض التسويق الوهمي في صفحات المواقع والشبكات الاجتماعية للإيهام بقفزات الحلم التي تنفض عن الكادح غبار الأقساط وأعباء المصاريف وأثقال الحياة وترسم بين يدي الضحية لوحةً خادعة من أخيلة الثراء السريع والترف المخملي وبساط الريح الذي سينقلكبلمح البصر من واقع العناء إلى مستقبل الثراء، لكنها إعلانات كاذبة وأوهام مزيفة ما إن يقع فأسها برأس الضحية إلا وتتبخر رياحين الحلم الوردي، وفي نظر القانون يعد هذا السلوك “جريمة احتيال” تستوجب إيقاع العقوبات المغلظة.

وبحسب تقريرٍ لمؤسسة النقد حول “مكافحة الاختلاس والاحتيال المالي وإرشادات الرقابة” فإن أصعب تحديات مكافحة الاحتيال: إسهام مستجدات التقنية في عمليات تزويرٍ عالية الدقة للوثائق والمستندات بل وللأوراق المالية والتجارية مسبغةً على الاحتيال لوناً من المراوغة يصعب اكتشافه بالطرق والوسائل المتوفرة للأشخاص العاديين.

ولكن ماذا عن الوصف القانوني لهذا النوع من العمليات التي تتكرر كل دقيقة ولا تكف إعلاناتها المزعجة عن محاصرة معظم مستخدمي الانترنت حول العالم، وعبر الاتصالات ورسائل الجوال؟

سأوجز لك هنا ستة مسائل قررتها القواعد القانونية واستقر عليها معظم فقهاء القانون وشروحات القوانين العربية في وصف هذا النوع من الجرائم:

أولاً: تدور جريمة الاحتيال حول “الاستيلاء على مال الغير بطريق الحيلة بنية تملكه” ولا فرق بين مفردتي (الاحتيال) و(النصب) وبتفصيل أدق يمكن القول بأن الاحتيال هو الشريان الحيوي لجريمة النصب والوصفُ المؤثر فيها، واستخدمت بعض القوانين العربية مفردة (الاحتيال)، واستخدت قوانين أخرى مفردة (النصب)، وسبق أن استخدم المنظم السعودي المفردتين كما سيأتي رغم أنه لم يتناول جريمة النصب بنظام مستقل.

ثانياً: هناك فروق جوهرية بين الاعتداءات التي تقع على المال، إذ تختلف الآثار القانونية المترتبة على كل اعتداء، ومن هنا تكمن أهمية التمييز بين الاحتيال، والسرقة، وخيانة الأمانة وغيرها من الجرائم والاعتداءات على المال، ويتفق الاحتيال مع السرقة في كونه يشكل استيلاءً بغير حق على مال الغير بنية تملكه ولكنهما يختلفان في الطريقة التي يتم بها الاستيلاء، فالاحتيال يتم بمراوغة إرادة الضحية حتى يتم استلام المال عن قناعة المجني عليه لحظة الاحتيال.

فاستلاب المال تحت تهديد الضحية لا يعتبر في نظر القانون “جريمة احتيال”، بخلاف السرقة التي قد تتعطل فيها إرادة الضحية أو تغفل عن المال المسروق لحظة السرقة، وعلاوةً على ذلك قد تنشأ عن الحالة الواحدة عدة جرائم كالاحتيال والتزوير وانتحال صفة كاذبة، بل عادةً ما يتكون الاحتيال من مجموعة جرائم ولذلك عدَّه كثير من فقهاء القانون من جرائم السلوك المتعدد أو الحدث المتعدد.

ثالثاً: يتصف الاحتيال بعدة خصائص تساعدك -إذا تمعنتها- على تمييز واقعة الاحتيال عن غيرها، فمن تلك الخصائص أنها تستهدف المال دائماً بشكل مباشر أو غير مباشر ولا بد هنا أن يكون مملوكاً للغير -فلا يُعد مرتكباً لـ”جريمة احتيال” من يحتال على الغير لاسترداد ماله ذاته- ، أو أن يكون الاعتداء واقعاً على ما يؤول إلى صفة المالكالسندات والبطاقات الائتمانية وأرقام الحسابات البنكية وعقود بيع العقارات أو رهنها.

ومن خصائص “الاحتيال” أيضاً أنه ينصبّ على حرية الإرادة إذ يصيب إرادة المجني عليه للاستيلاء على ماله دون أن يدري حقيقة الخدعة لحظة العملية، وأنها جريمة عمدية فلا تقوم بغير توافر القصد الجنائي إذ لا بد من توافر نية الاحتيال لدى الجاني.

رابعاً: أنه يستوي أن يتم تسليم المال من المجني عليه المخدوع أو أن يقوم بذلك شخص آخر غيره بناء على طلبه، ويستوي أن يكون المال موضوع التسليم مملوكاً للمجني عليه المخدوع أو أن يكون في حيازته المؤقتة، ويستوي كذلك أن يكون تسليم المال إلى الجاني نفسه أو إلى شخص آخر عيَّنه الجاني، كما لا عبرة بطريقة التسليم فقد تكون بالمناولة وقد تكون بالسماح للجاني بأخذ الشيء طالما أن إرادة الضحية قد اتجهت إلى نقل حيازته إلى الجاني.

خامساً: هل يمكن للشخصية المعنوية كالمؤسسات والشركات أن تكون مصدراً لجرائم الاحتيال؟ أم أن الاحتيال لا يقع إلا من الأفراد؟ وهل يمكن معاقبة الكيان على جرائم الاحتيال؟ وجواباً عن ذلك: استقر الرأي حول مسؤولية المؤسسات والشركات عن أفعالها الجنائية شريطة أن تكون الجريمة قد ارتكبت بواسطة أحد الأعضاء أو الممثلين وأن يتم ارتكاب الجريمة لحساب تلك الشخصية المعنوية.

سادساً: فيما يتعلق بالإطار النظامي فإن المنظم السعودي لم يتناول جريمة الاحتيال بنظام مستقل، وإنما ترك الأمر لسلطة القاضي في تعزير الجاني بما يتناسب مع حجم الاحتيال وآثاره دون إخلال بحق المتضررين من الرجوع على المحتال لاستيفاء حقوقهم وفقاً للنصوص والقواعد الشرعية، وعند التتبع والاستقراء ستجد “الاحتيال” مجرَّماً في بعض النصوص النظامية المتناثرة في أبواب متفرقة والتي أوردها المنظم على سبيل الحماية الجنائية لجوانب محددة ومحدودة؛ من ذلك ما جاء في الفقرة الأولى من المادة الرابعة من نظام مكافحة جرائم المعلوماتية والتي نصت على ما يلي:

(يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة لا تزيد على مليوني ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين كل شخص يرتكب أيًا من الجرائم المعلوماتية الآتية: (1) الاستيلاء لنفسه أو لغيره على مال منقول أو على سند، أو توقيع هذا السند، وذلك عن طريق الاحتيال، أو اتخاذ اسم كاذب، أو انتحال صفة غير صحيحة).

وبالرغم من أن النطاق النظامي لهذا النص محدود في دائرة الجرائم المعلوماتية فإن أكثر صور الاحتيال مؤخراً تستخدم التقنية لتحقيق غاياتها الجُرمية في الاستيلاء على أموال الغير بالنصب والاحتيال.

وأما نظام مكافحة غسل الأموال؛ فقد تناول جرائم الاحتيال سواءً بوصفها جرائم احتيال أو بوصفها جزءاً من عمليات غير مشروعة لإخفاء أو تمويه طبيعة الأموال أو نقلها أو حيازتها مع العلم بذلك، وحسناً فعلتْ اللائحة التنفيذية لنظام مكافحة غسل الأموال “القديم الصادر في العام 1433هـ” حين أوردت مفردتي (النصب والاحتيال) إذ جاء في الفقرة الثانية للمادة الثانية:

(من أمثلة النشاط الإجرامي أو المصدر غير المشروع أو غير النظامي التي يعتبر الاشتغال بالأموال الناتجة عنها من عمليات غسل الأموال ما يلي:…) ونصت في الفقرة (ص) على: (النصب والاحتيال). وهو ما نأمل أن يكون منصوصاً عليه أيضاً في اللائحة التنفيذية للنظام الجديد المُقرّ في الرابع من شهر صفر من العام الجاري.

وإذا اقترن الاحتيال بجريمة غسل أموال أو كان جزءاً منها بحسب نظام مكافحة غسل الأموال (الجديد) عوقب الجاني بـ(السجن مدة لا تقل عن سنتين ولا تتجاوز عشر سنوات، أو بغرامة لا تزيد على خمسة ملايين ريال أو بكلتا العقوبتين) وأخذ المنظم بعين الاعتبار الظروف المشددة في تغليظ العقوبة في سبع حالات حددتها المادة 27، منها (ارتكابها من خلال جماعة إجرامية منظمة)، و(استغلال قاصر ومن في حكمه).

من هنا نجد أن من واجب المتخصصين والقانونيين التوعية بمخاطر الاحتيال بكافة صوره وأشكاله وما ينشأ عنه مما لا ينتهي بحره إلى ساحل من التسويق الوهمي الذي كثيراً ما يوقع المستثمرين والأثرياء فضلاً عن غيرهم في حبالها، ولا أدل على ذلك من كثرتها وتنوع صورها وألوانها وتعدد طرقها وتجدد أساليبها وتقنياتها التي لا تمل ولا تكل عن ملاحقة المتصفحين والسياح والمستهلكين بل والشركات والمستثمرين، سواءً أطلت على المتصفحين باسم العملات الرقمية أو الشيكات السياحية أو عروض الدراسة أو الإقراض والتمويل أو التسويق الشبكي أو انتحال صفة موظف البنك أو غير ذلك من آماد الصور اللامتناهية.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني
Alobid100 @