شروحات حول الفلسفة القانونية للعقوبات

فلسفة العقوبة الإدارية والعقوبة الجنائية
أ/ محمد سليمان الخوالدة

إن أي مجتمع من المجتمعات البشرية أو السياسية له طائفة من المصالح الجماعية تربط بين أفراده ، يتعين حمايتها عن طريق وضع قواعد قانونية تُلزم أعضاءه باحترام هذه المصالح المشتركة وتجنب أي إخلال بها ، وتُنشي تلك القواعد في المجتمعات السياسية ما يُعرف بالقانون الجنائي ، وفي الطوائف الأخرى ما يُعرف بالقانون التأديبي ، وحيث أن الدولة المعاصرة تعتمد إلى حد كبير على مؤسساتها ومرافقها العامة ، لتلبية حاجات أفرادها ولا شك أن الموظف يمثل أداة الدولة الرئيسية في تحقيق أهدافها المختلفة ، لذلك حرص المشرع في كل دولة على تنظيم أحكام الوظيفة العامة متضمناً النظام التأديبي للموظف الذي يُخل بواجبه لضمان انتظام العمل وتسيير المرافق العامة و تختلف فلسفة العقوبة في القانون الجنائي عن القانون التأديبي وذلك على التفصيل الآتي :-

أولاً :- الهدف المقصود

الهدف المقصود من التأديب الإداري أو غاية التأديب المباشرة ، هي تحقيق التوازن بين فاعلية الإدارة من جانب ، وتحقيق الضمان للمخالف الموقع عليه الجزاء من جانب آخر ، بهدف تحقيق حسن الأداء ، وانتظام المرفق العام لمتطلبات المصالح العامة ، وترتكز فلسفة النظام التأديبي على فكرة التأديب وحدها ، دون فكرة الردع ، فالغرض من التأديب غرض شخصي مقصود به شخص المذنب ، ويهدف الجزاء التأديبي ، تقويم المذنب وإصلاحه ، حتى لا يعود للخطأ مرة أخرى ، ولا بد أن يهدف التأديب إلى بحث الأسباب الدافعة لارتكاب المخالفة ، لمنع وقوعها أو تكرارها .الهدف المقصود من العقوبة الجنائية ، هو تحقيق الردع الخاص والردع العام ، بمعنى أن إيقاع العقوبة على مرتكب الجريمة يُقصد به إيلام المجرم ، حتى يصل إلى قناعة تامة بأن ارتكابه لأي جريمة يُعرضه للعقوبة ما يترتب عليه إقلاعه عن ارتكاب الجرم ، وكذلك الحال بالنسبة للمجتمع بشكل عام فإنه حينما يرى ما يلحق بمرتكب الجريمة من عقوبة زاجرة ، يتحقق فيه الردع العام بعدم إقبال أي شخص آخر على ارتكاب الجريمة .

ثانياً :- حجم العقوبة :-

إن حجم العقوبة التأديبية ، ينال من المركز والمزايا الوظيفية للموظف فقط سواء أكان هذا النيل بالكلية كالفصل ، والاستغناء عن الخدمة ، والإحالة إلى الاستيداع ، أو كان هذا النيل جزئياً كالخصم من الراتب ، إنهاء الانتداب ، والترك في الرتبة ، وتنزيل الرتبة وما إلى غير ذلك ، وإذا ما تقرر حبس الموظف العسكري كعقوبة تأديبية فإنها تكون محدودة جداً لا تتجاوز أشهر . أما حجم العقوبة الجنائية فإنه ينال من شخص المُعاقب وملكه ، فقد تصل العقوبة الجنائية إلى حد الإعدام ، أو الغرامة ، أو الحجز على أملاكه أو الحبس المؤبد أو المؤقت .

ثالثاً :- تحقق الضرر من الخطأ . إن العقوبة التأديبية توقع على الموظف حتى ولو لم يترتب على مخالفته ضرراً يلحق بالإدارة العامة ، وذلك لأن الضرر مفترض من مجرد حدوث مخالفة للنظام الوظيفي .إن العقوبة الجنائية لا توقع إلا إذا أسفر فعل الجاني على ضرر في حق الغير سواء تعلق هذا الضرر بالجانب البشري أم في الجانب المادي .

رابعاً :- الركن الشرعي إن العقوبة التأديبية لم تحدد حصراً في القوانين وإنما وردت في القوانين بشكل فضفاض وواسع ، كأن يقول مخالفة نظام الضبط والربط العسكري ، والإخلال بمقتضيات الوظيفة العسكرية . أما العقوبة الجنائية فقد وردت على السبيل الحصر في قوانين العقوبات ، ولا يجوز إيقاع عقوبة جنائية على شخص دون وجود نص يجرم الفعل ويرتب عليه عقوبة عملاً بالمبدأ الثابت ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)

خامساً :- الركن المعنوي المخالفة التأديبية لا يشترط فيها توفر الركن المعنوي ، وهو نية ارتكاب الفعل ، وتوافر العلم والإرادة ، فقد تكون المخالفة ناتجة عن إهمال أو قلة احتراز . الجريمة الجنائية يجب أن يتوفر فيها الركن المعنوي وإلا فقدت أحد أركانها والذي قد يترتب عليه براءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه .

سادساً :- جهة إيقاع العقوبة العقوبة التأديبية يتم إيقاعها من الجهات الإدارية فهي مظهر للسلطة الرئاسية على الموظف العقوبة الجنائية لا يتم إيقاعها إلا من جهة قضائية ، تكفل له كافة حقوقه في الدفاع عن نفسه . الخلاصة :-لقد بحث مؤتمر مدريد الذي عقد عام 1967إمكانية التمييز بين مجال التجريم العسكري والتأديب العسكري ، لكنه لاحظ أن التشريع العقابي العسكري مازال متأثراً على نطاق يضيق ويتسع بأنه قانون تأديبي وأن الخطأ الواحد قد يكون جريمة إذا كان جسيماً ، وقد يكون مخالفة تأديبية إذا كان بسيطاً أو اقترن بظروف مخففة ، ولكن ما يتوجب علينا هو معرفة ما إذا كانت شدة العقوبة وصرامتها هي التي تحقق دائماً أفضل الأساليب ضبطاً وربطاً في المجال العسكري ، أم أن هناك ثمة معايير أخرى يجب إعمالها بهذا الشأن لتحقيق تلك الغاية ، فمثلاً لو أن ضابطاً أمضى دهراً طويلاً من حياته في خدمة المؤسسة الأمنية وفي الدفاع عن مصالح شعبه وأمته ، ثم ارتكب مخالفة ما فهل يُعقل أن يؤخذ هذا الضابط بالشدة ما يترتب عليه شعور باقي زملائه بالخطر الذي يحدق بهم ، ويُفقدهم الإبداع والإقدام خشية الوقوع في خطأ يودي بحياتهم الوظيفية ، هذا ما أردنا أن نصل إلى معرفته من خلال التفريق بين فلسفة العقوبة التأديبية عنها في العقوبة الجنائية ، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل .