غسيل الأموال.. تبييض للنقود القذرة

في ظل العولمة ونمو فعالية أسواق المال الدولية، أصبح من اليسير انتقال رؤوس الأموال عبر الدول المختلفة، وقد حمل هذا في طيَّاته تنامي حركة الجريمة المنظمة وتزايد حركة تداول أموال المنظمات الإجرامية على المستوى المحلي والدولي بهدف تغيير صفة الأموال التي تم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة مثل تجارة المخدرات؛ لتظهر كما لو كانت قد تولدت من مصدر مشروع، ويطلق على هذه العمليات “غسيل الأموال”.

ولقد احتل غسيل الأموال أهمية كبرى على الساحة الاقتصادية العالمية في الأعوام الأخيرة، حيث أصبحت حركة هذه الأموال تؤثر في الموارد المحلية والدولية، ومن ثَمَّ في الاستقرار الاقتصادي على مستوى العالم.

وعلى الرغم من صعوبة قياس الدخول المتولدة عن هذه الأنشطة غير المشروعة، إلا أنها تقدر بأكثر من 500 مليار دولار سنويًّا أو ما يعادل 2% من الناتج المحلي الإجمالي الدولي، كما يقدر الرصيد الإجمالي للأموال المغسولة أحياناً بأكثر من الناتج المحلي الإجمالي لبعض الدول.

توظيف تمويه دمج

تقول دراسة أعدتها إدارة البحوث بالبنك الأهلي المصري إنه يمكن تقسيم عملية غسيل الأموال إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: “التوظيف”

أي توظيف الأموال غير المشروعة في صورة إيداعات بالبنوك أو المؤسسات المالية أو شراء أسهم أو شراء مؤسسة مالية أو تجارية أو غيرها.

المرحلة الثانية: “التمويه”

بمعنى خلق مجموعة معقدة من العمليات المالية بغرض تضليل أي محاولة للكشف عن المصدر الحقيقي للأموال.

المرحلة الثالثة: “التكامل” أو الدمج

حيث يتم ضخ الأموال مرة أخرى في الاقتصاد كأموال مشروعة معلومة المصدر.

ولتوضيح المراحل الثلاثة السابقة يمكن عرض المثال التالي الذي تستخدم فيه النقود البلاستيكية كبطاقات الصرف من الأجهزة الآلية ATM (Automatic Teller Machine) وبطاقات الائتمان Credit Cards، وإعادة الإقراض كأحد وسائل التمويه عن المصدر الحقيقي للأموال المغسولة.

فمن المعروف على سبيل المثال أن بعض البنوك العالمية تصدر بطاقات للصرف وبطاقات ائتمانية قابلة للاستخدام أو سحب النقود من أي فرع من فروعها أو من أي ماكينة آلية للبنك على مستوى العالم. وتبدأ العملية بقيام حامل البطاقة الائتمانية باستخدامها في شراء بضائع من بلد آخر، فيقوم فرع البنك المحلي – الذي تمت في بلده العملية – بطلب القيمة من فرع البنك في البلد مصدر البطاقة، ويقوم الفرع بالتحويل تلقائيًّا، وتخصم القيمة على حساب العميل لديه، ثم يقوم المشتري ببيع هذه البضائع التي سبق واشتراها بالبطاقة الائتمانية، ويحصل على المبلغ اللازم تلقائيًّا دون مرور بقنوات وقيود التحويلات، وقد يتمكن متسلم المال من إيداعه في أحد البنوك الأخرى، وكذلك الأمر بالنسبة لبطاقات الصرف الآلي، ومن ثَمَّ يصعب تحرِّي مصدر هذه الأموال.

وسائل غسيل الأموال

الإيداعات بالبنوك وتحويلها عبر فروعها المختلفة.

طلب القروض بضمان الأموال التي تم إيداعها بالبنوك واستخدامها في اقتناء بعض الأصول المالية كالأسهم والسندات أو الأصول العينية كالآلات والمعدات الرأسمالية للمشروعات المختلفة.

التحويلات المصرفية.

عمليات الاستيراد والتصدير.

شراء التحف والمجوهرات والسيارات وإعادة بيعها.

شراء وبيع المؤسسات التجارية الخاسرة.

وتؤدي هذه العمليات المختلفة إلى صعوبة رصد وتعقب مصادر الأموال التي تبدو وكأنها متولدة عن أعمال مشروعة.

آثار سلبية لغسيل الأموال

بالرغم من أنه ليس هناك نظريات محددة تدرس الآثار الناجمة عن عملية غسيل الأموال على الاقتصاد الكلي، إلا أن الأبحاث والدراسات المختلفة المتعلقة بما يسمى “الاقتصاد الخفي” تؤكد أن لغسيل الأموال أثر ممتد على الاقتصاد الكلي، حيث لا يهتم غاسلو الأموال بالجدوى الاقتصادية للاستثمار بقدر اهتمامهم بالتوظيف الذي يسمح بإعادة تدوير الأموال، والتجارة بها عدة مرات، وهو ما يخالف كل القواعد الاقتصادية القائمة على نظرية تعظيم الربح، وهو ما يشكل بالتالي خطرًا كبيرًا على مناخ الاستثمار محليًّا ودوليًّا.

فعلى المستوى المحلي تؤدي حركة الأموال المطلوب غسلها – دون مراعاة لاعتبارات الربحية – إلى منافسة غير متكافئة مع المستثمر الجاد المحلي والأجنبي، حيث إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التعامل لا سيما وأن عملية غسيل الأموال يمكن أن تؤثر على أسعار الفائدة وأسعار الصرف.

وعلى المستوى الدولي يمكن أن يؤدي غسيل الأموال إلى انتقال رؤوس الأموال من الدول ذات السياسات الاقتصادية الجيدة ومعدلات العائد المرتفعة إلى الدول ذات السياسات الاقتصادية الفقيرة ومعدلات العائد المنخفضة، مما يضر بمصداقية الأسس الاقتصادية المتعارف عليها والتي يمكن لصانعي السياسة الاستناد إليها، كما تؤثر عملية غسيل الأموال على استقرار أسواق المال الدولية وتهدد بانهيار الأسواق الرسمية التي تُعَدُّ حجر الزاوية في بناء اقتصاديات الدول المختلفة.

تشديد الرقابة أهم أساليب المكافحة

تشير دراسة البنك الأهلي المصري إلى أنه يمكن مكافحة غسيل الأموال من خلال العديد من الإجراءات المحلية والدولية، لعل من أهمها:

فرض الرقابة على أسعار الصرف:

من المعروف أن لتحرير أسعار الصرف أثر إيجابي مشهود في تشجيع الاستثمار الدولي، ومن ثَمَّ تحقيق استخدام أكثر فعالية للمدخرات الدولية، إلا أن لذلك التحرير أثره السلبي أيضاً من خلال تيسير انتقال الأموال المغسولة عبر الدول المختلفة، مما يستدعي اتخاذ إجراءات وقائية – ليس من شأنها المساس بعملية التحرير الاقتصادي – وإنما توفير المعلومات الخاصة بانتقال رؤوس الأموال بالقدر الذي يسمح باكتشاف الأموال المغسولة.

المراقبة الدقيقة:

ويقع العبء الأكبر في هذا الصدد على البنوك والمؤسسات المالية، حيث إن البنوك تُعَدُّ القناة الرئيسية التي يصب فيها غاسلو الأموال أموالهم، ولا سيما في ظل قوانين سرية الحسابات؛ لذا أصدرت لجنة بازل للرقابة والإشراف على البنوك بيانًا في ديسمبر 1988م لمنع استغلال الجهاز المصرفي في غسيل الأموال.

كما أنشئ ما يسمى “بقوة العمليات العمالية” (FATF) The Financial Action Task (الفاتف) – تحت رعاية بنك التسويات الدولية – للتصدي لهذا الأمر، وانتهت الفاتف إلى إصدار أربعين توصية يمكن اعتبارها الميثاق الذي يحكم مكافحة غسيل الأموال في سائر الدول.

ومن ناحية أخرى يساهم صندوق النقد الدولي في مكافحة غسيل الأموال من خلال تعريف الدول التي تتبنى برامج إصلاح اقتصادية محددة من قبل الصندوق بكيفية تفعيل المراقبة على أسواقها المالية.

مكافحة التهرب الضريبي:

ويمثل هذا التهرب صورة من صور الجرائم المنظمة من حيث تعاني بعض الدول من عجز في ميزانياتها، ويُعَدُّ تصحيح هذا العجز أولى الخطوات نحو الاستقرار الاقتصادي.

لذا يسعى صندوق النقد الدولي لمساعدة هذه الدول على بناء نظام ضريبي فعَّال يسمح بزيادة الضرائب المحصلة، كما يسمح أيضاً بالكشف عن الأموال المغسولة وتعقب أصحابها.

التشريعات:

قامت بعض الدول – في الأعوام الأخيرة – بتعديل قوانين النقد الأجنبي والبنوك التجارية والمركزية للتصدي لظاهرة غسيل الأموال، إلا إنه لا يمكن القول بكفاية هذه التشريعات والقوانين للقضاء على تلك الظاهرة.

لذا يتعين على البنوك ملاحظة ومراقبة التحركات الضخمة لرؤوس الأموال، وكل العمليات التي ليس لها غرض أو مردود اقتصادي وقانوني واضح.

أما على المستوى الدولي، ونظرًا لاستغلال بعض الدول للثغرات في الأنظمة والقوانين المختلفة المطبقة في دول أخرى – لا سيما وأن عدد الدول المشتركة في “الفاتف” لا يتجاوز 12 دولة صناعية – فإنه لا بد من إصدار مجموعة من القواعد الدولية الموحدة والملزمة لجميع الدول على النحو الذي يكفل التصدي لتدفقات رؤوس الأموال غير المشروعة. ومن شأن هذه القواعد تخفيف الفروق بين النظم والقوانين الداخلية المختلفة، وفرض عقوبات على الدول التي تخالفها.