المحكمة الإدارية العليا والرقابة القضائية
عبد العزيز أحمد المزيني
كنت في حوار مع أستاذ القانون الدستوري في جامعة جورج تاون في واشنطن دي سي عن المحكمة العليا الأمريكية، وكيف أنها اكتسبت قوتها ورقابتها القضائية علي التشريعات والقوانين من خلال مبدأ السوابق القضائية لا من خلال نص في القانون الدستوري الأمريكي؛ ما أغنى عن وجود محكمة دستورية مستقلة، طلبت منه أن يوضح أكثر، فقال خذ مثالا ولاية أريزونا أصدرت قانونا تفرض فيه غرامة مالية على كل تاجر يوظف مهاجرا غير شرعي إلى الولايات المتحدة، هذا القانون غير دستوري؛ لأنه مخالف لقانون الحكومة الفيدرالية، الذي لا يسمح للولايات إلا بعقوبة واحدة وهي سحب الرخص، ومع ذلك القانون ساري العمل حتى رفع أحد التجار قضية على ولاية أريزونا يطالب بإلغاء الغرامة المالية؛

نظرا لأن قانون الولاية مخالف للقانون الفيدرالي، وصلت القضية للمحكمة الفيدرالية العليا وحكمت بإلغاء الغرامة المالية، وبناءً على مبدأ السوابق القضية الملزم للمحاكم كلها أن تحكم بمثل هذا الحكم، على المحاكم أن تلغي الغرامة المالية إذا طالب المدعي بذلك، حينها ليس أمام السلطة التشريعية إلا أن تسحب القانون أو تقوم بتعديله، وبالتالي هذه الرقابة القضائية أغنت عن وجود محكمة دستورية مستقلة عن المحكمة الفدرالية العليا. قلت له بناءً على ما تقول أستطيع القول إن المحكمة الإدارية العليا في المملكة قد تقوم مقام المحكمة الدستورية فيما يخص الجانب الإداري؛ لأن أحكامها عبارة عن سوابق قضائية ملزمة ومن حقها الرقابة على التشريعات والأنظمة، وهذه الصلاحيات ممنوحة له بموجب نص قانوني، نظر إليّ مندهشا قائلا مبدأ الرقابة والسوابق القضائية في المملكة مستحيل، أرني هذا النص القانوني من فضلك، أجلسني على طاولته في مكتبه وأخرجت له من شبكة الإنترنت الترجمة الرسمية لنظام ديوان المظالم الجديد، وقرأ المادة التالية: (المادة الحادية عشرة: تختص المحكمة الإدارية العليا بالنظر في الاعتراضات على الأحكام التي تصدرها محاكم الاستئناف الإدارية، إذا كان محل الاعتراض على الحكم ما يأتي:

أ – مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية، أو الأنظمة التي لا تتعارض معها أو الخطأ في تطبيقها أو تأويلها، بما في ذلك مخالفة مبدأ قضائي تقرر في حكم صادر من المحكمة الإدارية العليا).

تأملها مرارا ثم قال لي فعلا نص صريح في الرقابة وفي حجية وإلزام السوابق القضائية، إذن لماذا المطالبة بمحكمة دستورية مستقلة في المملكة، قلت له هذا النظام جديد وأعضاء المحكمة العليا لم يمارسوا عملهم حتى الآن، قال: لا يمكن المراهنة على مدى تفعيل مبدأ الرقابة علي التشريعات والأنظمة من أعضاء لم يمارسوها سابقا، قلت له من الصعب الزعم أنهم لم يطبقوا الرقابة علي اللوائح والأنظمة إطلاقا، لكن أعطني فرصة آتيك بالعلم اليقين من زملائي القضاة في ديوان المظالم، فرح كثيرا وقال لي غدا في مثل هذا الوقت آتني بالجواب.

رجعت إلى المنزل وبدأت بقراءة مجموعة الأحكام والمبادئ الإدارية التي طبعتها ديوان المظالم باحثا عن حكم يبطل فيه قرار جهة إدارية رغم أنه مبني على لائحة تنفيذية لكن اللائحة مخالفة للنظام؛ لأن ذلك يعتبر رقابة ضمنية على اللائحة، وفعلا وجدت حكما بتاريخ 1427 يبطل فيه قرار صادر من لجنة النظر في المؤسسات الطبية الخاصة تفرض فيه غرامة على أحد المختبرات، وكان نص التسبيب: ”إن اللجنة عاقبت المدعي لمخالفته أحكام اللائحة في حين أن النظام، في مادته التاسعة والعشرين نص على أن العقوبة المنصوص عليها فيه تفرض على كل من يخالف أحكام النظام ولم ينص على مخالفة أحكام اللائحة وليس في النظام ما يشير إلى تلك المخالفة)؛ فاللجنة فرضت الغرامة علي المختبر بناءً على نص في اللائحة التنفيذية للنظام يخولها بإيقاع العقوبة على من يخالف اللائحة، لكن النظام سمح لها بإيقاع العقوبة على من يخالف النظام فقط، ولهذا حكمت المحكمة الإدارية بإبطال العقوبة؛ لأن النظام لم يصرح لها بذلك، وهذا معناه إبطال ضمني لنص اللائحة، وهذا هو فحوى الرقابة القضائية الذي تطبقه المحكمة العليا الأمريكية.

لم أكتف بذلك، بل أرسلت لصديق عزيز قاض في ديوان المظالم أسأله عن هذه المسألة بعينها، عن حكم من ديوان المظالم يبطل فيه قرار جهة إدارية رغم أنه مبني على لائحة لكن اللائحة مخالفة للنظام، فأخبرني بحكم في عام 1428 موافق للحكم نفسه الذي وجدته، فيه إبطال قرار صادر من لجنة النظر في المؤسسات الطبية الخاصة تفرض فيه غرامة على أحد المستشفيات الأهلية، وبالتسبيب نفسه وهو أن مستند العقوبة اللائحة وليس النظام ولهذا ألغي القرار.

فرحت كثيرا بهذا الحكم؛ لأنه أكد مبدأ الرقابة القضائية من الناحية العملية، ومكثت تلك الليلة أنتظر موعد الأستاذ بفارغ الصبر. ذهبت في الصباح الباكر إلى مكتب الأستاذ في مبنى كلية القانون في جامعة جورج تاون الواقع بالقرب من المحكمة الفيدرالية العليا الأمريكية، وقدمت له الحكمين مترجمين باللغة الإنجليزية، وبعد أن قرأهما وتناقشنا حولهما قال لي فعلا ها هو مبدأ الرقابة القضائية نظريا وتطبيقا، إذن ما الذي تعانونه بالفعل من النظام القضائي السعودي؟ قلت له لا أستطيع أن أجيبك تفصيلا؛ فالموضوع يستحق الكثير، لكن دعني أذكر لك عاملين مهمين يساعدان على فهم الحالة القضائية السعودية، استفدتهما من محاضراتك لنا في القانون الدستوري الأمريكي، قال لي تفضل، قلت أولا عامل الزمن، إن المحكمة العليا الأمريكية أنشئت بموجب الدستور الأمريكي عام 1787م وبدأت عملها عام 1789، أي عمرها الآن يزيد على 200 سنة، قاطعني قائلا: نعم ولم تستقر مبادئ الدستور الأمريكي من خلال أحكام المحكمة العليا الأمريكية إلا بعد 100 سنة، قلت له بينما المحكمة الإدارية العليا في المملكة لم تنشأ إلا في عام 2007، أي عمرها لم يتجاوز أربع سنوات ولم يمارس أعضاؤها العمل حتى الآن، بل إن ديوان المظالم عموما كجهاز قضائي مستقل لم ينشأ إلا في عام 1981، أي عمره لا يتجاوز 30 سنة، فوجئ الأستاذ كثيرا بهذه المعلومة. ثم قلت العامل الآخر أن الجهاز القضائي جهاز محايد لا يحل النزاع بين الناس ما لم يتخاصموا إليه، ولن يراقب الأنظمة واللوائح من تلقاء نفسه ما لم تدعِ إحدى الجهات مخالفتها للدستور بناءً على نزاع معين؛

ولهذا فهو انعكاس لمدى وعي الشعب ومستوى حياتهم ومعاملاتهم؛ ولذلك فإن وعي المحامين والمستشارين ومؤسسات المجتمع المدني عموما بمدى كيفية الاستفادة من الجهاز القضائي في تفعيل وتطوير البيئة التشريعية والقانونية في البلد من أهم العوامل في تطوير القضاء، وهذا ما ينقصنا في بلادنا، ركزنا كثيرا على القضاء وتطوير القضاء، وهو مهم بلا شك، لكن أغفلنا الجوانب الأخرى ومن أهمها مهنة المحاماة والاستشارات القانونية، عموما هذه البعثات لدراسة القانون في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها عامل مهم في تطوير مهنة المحاماة والاستشارات القانونية التي تعود في النهاية على تطوير القضاء في المملكة خلال السنوات المقبلة، ولا سيما مع وجود بيئة قانونية تؤسس مبدأ السوابق والرقابة القضائية. ختم الأستاذ حواره مبتهجا قائلا لي: هل تسمحون لي ببعثة دراسية لدراسة القانون في المملكة؟

إعادة نشر بواسطة محاماة نت