القبول هو تعبير من وجه اليه الايجاب عن رضاه بالتعاقد على اساس الشروط التي عرضها الموجب فهو تعبير عن الارادة يدل على الرضا بالتعاقد مع الموجب(1). اذن هو التعبير البات عن ارادة الطرف الذي وجه اليه الايجاب، فمتى ما تمخضت المفاوضات عن ايجاب كامل أي مشروع لعقد يتضمن سائر العناصر اللازمة لانعقاده فلا مشكلة في الامر اذا صادف هذا الايجاب قبولاً مطابقاً لمضمونه من اطراف المرحلة السابقة على التعاقد حيث ينشأ العقد ويصير ملزماً لهم(2). وبمجرد وصول هذا القبول الى علم من وجه اليه واقترانه به تنتهي المرحلة السابقة على التعاقد ونكون امام عقد . ولا صعوبة ايضاً اذا لقى هذا الايجاب رفضاً صريحاً قاطعاً من احد الاطراف، اذ يحول ذلك دون تمام العقد، وتبوء هذه المرحلة السابقة على التعاقد بالفشل(3). ولكن المشكلة تظهر، عندما يجد احد اطراف المرحلة السابقة على التعاقد لديه شغفاً واهتماماً بمشروع العقد المطروح عليه يدفعه الى التريث قبل قبوله برمته او رفضه كلياً، مواصلاً التفاوض. فيتقدم بعرض من جانبه يتضمن استبعاد او اضافة او تعديل شرط او اكثر بما يختلف عما ورد في هذا المشروع، فيكون بذلك قد ابدى اقتراحاً مقابلاً او مضاداً له، كأن يطلب خفض الثمن او زيادة المبيع او اجل للوفاء(4). وعلى ذلك يشمل مفهوم الاقتراح المقابل او المضاد كل رد يبديه الطرف الاخر من اطراف المرحلة السابقة على المتعاقد التي تروم التعاقد تجاه ايجاب كامل موجه اليه لا يشكل قبولاً خالصاً او رفضاً قاطعاً له، ويأتي في مرحلة وسطى بينهما(5). ولكن السؤال الذي يثار هنا هل يعتبر هذا الاقتراح قبولاً وبالتالي يكفي بذاته لابرام العقد بمجرد اقترانه بالايجاب لتنتهي بذلك المرحلة السابقة على التعاقد بمرحلة ابرام العقد وللاجابة على هذا السؤال نقول: ان المشرع في القانون المدني العراقي في المادة (85) قد نصت على “اذا وجب احد المتعاقدين يلزم الانعقاد للعقد قبول العاقد الاخر على الوجه المطابق للايجاب“.

وهذا يعني انه اذا تضمن القبول أي تعديل للايجاب في مسألة جوهرية او ثانوية فان العقد لا ينعقد. ومتى ينعقد العقد يجب ان يكون الاتفاق تاماً بين المتعاقدين على ماهية العقد المراد ابرامه وعلى اركانه وشروطه وكافة ما يتعلق به من الامور الجوهرية والثانوية، اذ ان القبول يطابق الايجاب اذا اتفق الطرفان على كل المسائل الجوهرية التي ناقشناها في المرحلة السابقة على التعاقد. اما الاتفاق على بعض هذه المسائل فلا يكفي لالتزام الطرفين حتى لو ثُبتَّ هذا الاتفاق كتابة. واذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد ولم يشترطا ان العقد يكون غير منعقد عند عدم الاتفاق على هذه المسائل فيعتبر العقد قد تم واذا قام خلاف على المسائل التي يتم الاتفاق عليها، فان المحكمة تقضي فيها طبقاً لطبيعة الموضوع والاحكام القانونية والعرف والعدالة (6). وعليه فأن الاقتراح المقابل يعتبر رفضاً للايجاب غير انه يشكل في الوقت ذاته ايجاباً جديداً يصبح مرفوضاً بدوره اذا صادف اقتراحاً اخر مضاداً له، ويتبع سقوط الايجاب الاول، حتى لو لم تنقض المدة التي يكون فيها ملزماً(7). اما في فرنسا، فالرأي مستقر في الفقه والقضاء على اعتبار الرفض الصريح القاطع للايجاب سبباً لسقوطه. اما بالنسبة للاقتراح المضاد او القبول المعدل للايجاب، فقد اتسمت عبارات الفقه واحكام القضاء، في هذا الصدد، بشيء من التردد والحذر، جعل البعض يتفادى الافصاح صراحة من ترتيب ذات الاثر أي السقوط اكتفاءاً بالقول بأن “هذا الايجاب الجديد يتضمن رفضاً للايجاب الاصلي بحيث يتحرر الموجب منه” رغم ان هذا الامر لا يحتاج الى بيان، اذ الاصل في الايجاب انه غير ملزم(8). ويسري الحكم ذاته بصفة اساسية عندما يملي من وجه اليه الايجاب قبولاً له شروط مختلفة او مقترناً بتحفظات “فعندئذ نكون بصدد ايجاب جديد متضمناً رفضاً للايجاب الاصلي على نحو يحرر الموجب منه على انه قد يتضح من الطرف ان الموجب قصد البقاء على ايجابية“(9). وكذلك القضاء اذ تبدي محكمة النقض الفرنسية قدراً كبيراً من الحذر والريبة تجاه هذه المسألة يمكن ملاحظته من خلال أحكام عرضت لها وما يحوطها من غموض وتردد في هذا الشأن.

ويبدو ان المحكمة قد قصدت بذلك القول ان الايجاب لم يعد قائماً، في هذه الحالة ليس لسقوطه، وانما لسحبه او العدول عنه من جانب الموجب كأثر لهذا القبول غير المطابق بحيث ان أي قبول لاحق لن يعد صالحاً لابرام العقد. ومع ذلك فهذا النظر ليس كافياً اذ يبقى التساؤل ذاته مطروحاً في حالة عدم العدول عن الايجاب على اثر الاقتراح المعتاد. فعندئذ هل يظل هذا الايجاب قائماً، بحيث يمكن ان يقترن به قبول محض مطابق له؟

وفي حكم حديث نسبياً اصدرته الدائرة المدنية لمحكمة النقض في 9/12/1997 قرر انه “متى تبين من عبارات الاقتراح المعتاد ان صاحبه قد عبر بصورة قاطعة وواضحة لا غموض فيها عن رفضه ابرام البيع بالثمن المعروض ، الامر الذي يتتبع سقوط الايجاب، فان محكمة الاستئناف ، اذ لم تعد في حاجة للتحقق من العدول عن هذا الايجاب تكون قد دعمت حكمها باسباب تسوغه قانوناً. على ان مثل هذا التحديد يلقى بظلال من الشك عندما لا يتضمن الاقتراح المضاد رفضاً بالدرجة ذاتها من القطع والوضوح التي يعنيها الحكم. هذا فضلاً عما يعيب هذا الحكم من خلط واضح بين الرفض القاطع للايجاب من جهة، ومفهوم الاقتراح المضاد له من جهة اخرى(10).

_______________

1- ينظر: د. عبد الناصر توفيق العطار، نظرية الالتزام في الشريعة الاسلامية والتشريعات العربية، الكتاب الاول، مصادر الالتزام (العقود والعهود)، اسيوط، 1990، ص49.

2- محمد حسين عبد العال، التنظيم الاتفاقي للمفاوضات العقدية، القاهرة، دار النهضة العربية، 1998، ص48.

3- ينظر: د. فتحي عبد الرحيم عبد الله، العناصر المكونة للعقد كمصدر للالتزام في القانونين المصري والانكليزي المقارن، القاهرة، بدون اسم مطبعة، 1979، ص105.

– وقد عرف القبول ايضاً بانه “التعبير البات عن الارادة يصدره من وجه اليه الايجاب، ويترتب عليه اذا تطابق مع الايجاب ان ينعقد العقد وبعبارة اخرى القبول هو التعبير الثاني عن الارادة الذي يتكون العقد من اقترانه بالتعبير الاول وهو الايجاب. ينظر د. .توفيق حسن فرج، اثر حسن النية على رجوع المشتري بالضمان، بحث منشور في مجلة الحقوق للبحوث القانونية والاقتصادية، كلية القانون، جامعة الاسكندرية، العدد الاول، 1970، ص70؛ د. احمد سلامة، مذكرات في نظرية الالتزام، الكتاب الاول، مصادر الالتزام، الاسكندرية، منشأة المعارف، 1997، ص103؛ .

– وقد اكدت انتهاء المرحلة السابقة للتعاقد المادة 73 من القانون المدني العراقي في تعريفها للعقد والتي نصت على “العقد هو ارتباط الايجاب الصادر من احد العاقدين بقبول الاخر على وجه يثبت اثره في المعقود عليه”.

4- ويستوي في ذلك ان يكون الشرط جوهرياً ام ثانوياً طالما ورد ذكره بالايجاب. ينظر: د. محمود جمال الدين زكي، الوجيز في النظرية العامة للالتزامات في القانون المدني المصري، الطبعة الثالثة، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1978، ص98.

5- ينظر: د. عبد الفتاح عبد الباقي، موسوعة القانون المدني المصري، نظرية العقد والارادة المنفردة، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1984، ص104.

6- ينظر: م 86 مدني عراقي، م95 مصري؛ د. نظرية الالتزام في الشريعة الاسلامية والتشريعات العربية، الكتاب الاول، مصادر الالتزام (العقود والعهود)، اسيوط، 1990، ص57 ومابعدها.

7- ينظر: د. عبد الرزاق احمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، الجزء الاول، مصادر الالتزام، المجلد الاول، القاهرة، دار النهضة العربية، ، ص72؛ د.توفيق حسن فرج، مصدر سابق، ص75؛ د. عبد المجيد الحكيم، الوسيط في نظرية العقد مع المقارنة والموازنة بين نظريات الفقه الغربي وما يقابلها في الفقه الاسلامي والقانون المدني العراقي، الجزء الاول، مصادر العقد (اركان العقد)، بغداد، شركة الطبع والنشر الاهلي، 1967، ص146.

8- ينظر د. جلال العدوي، اصول المعاملات، الاسكندرية، بلا اسم مطبعة، 1967، ص1181؛ د. جميل الشرقاوي، نظرية بطلان التصرف القانوني في القانون المدني المصري، رسالة دكتوراه، حقوق القاهرة، دار النهضة العربية، 1993، ص303-305؛ د. محمود جمال الدين زكي، الوجيز في النظرية العامة للالتزامات في القانون المدني المصري، الطبعة الثالثة، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1978، ص79.

9- ففي حكم قديم أصدرته الدائرة المدنية لمحكمة النقض في 17 يونيه 1873 تقرر المحكمة “انه من الثابت بما لا يمكن جحده ان المدعي قد عرض بخطابه المؤرخ في 16/8/1870 ان يبيع المدعى عليه كمية معينة من الخمور بسعر 28 فرنك لكل مائة لتر وان الثابت بالحكم المطعون فيه ان المدعى عليهم قد اجابوا بالبداية، ان هذه الخمور لا يمكن بيعها الا بسعر 25 فرنك لكل مائة لتر، ثم اعلنوا في 10 اكتوبر اللاحق قبولهم، للاستلام بالسعر المطلوب. وان العرض السابق توجيهه اليهم لم يتم سحبه ويحق لهم اعتباره بالنظر الى الظروف لايزال قائماً… ثم خلص الحكم الى ان البيع قد نشأ مكملاً بين اطرافه لاتفاقهم بشأن الشيء المبيع وثمنه. وفي حكم لاحق اصدرته الدائرة المدنية في 3/2/1919 اوضحت فيه ان القبول الذي لا يتضمن تعديلاً او تقيداً للايجاب بشأنه لا ينشأ به العقد ثم اضاف ان “الايجاب وباعتباره غير كاف لالزام من وجهة يكون قد تم سحبه او العدول عنه طالما لم يتم قبوله على الوجه الصحيح. ينظر د.محمود جمال الدين زكي، الوجيز في النظرية العامة للالتزامات، مصدر سابق، ص82؛ د. عبد المنعم فرج الصدة، عقود الاذعان في القانون المصري، رسالة دكتوراه مقدمة الى كلية القانون، جامعة القاهرة، 1946، ص105-106.

10- ينظر د. فتحي عبد الرحيم عبد الله، العناصر المكونة للعقد كمصدر للالتزام في القانونين المصري والانكليزي المقارن، القاهرة، بدون اسم مطبعة، 1979، ص101-102؛ د، عبد الفتاح عبد الباقي، موسوعة القانون المدني المصري، نظرية العقد والارادة المنفردة، القاهرة، بلا اسم مطبعة، 1984، ص134.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .